حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل - ج ١

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل - ج ١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٢

جانب النبي (ص) يحمي دعوته ، ويصد عنه اعتداء الغادرين والمعتدين وأطاح برءوس الكافرين والملحدين منهم ، وقد أعرب عن مدى استيائه منهم بقوله :

« ما لي ولقريش لقد قتلتهم كافرين ، ولأقتلنهم مفتونين .. والله لأبقرن الباطل حتى يظهر الحق من خاصرته .. فقل لقريش فلتضج ضجيجها. »

لقد وجدت قريش على الامام وحالت بينه وبين حقه منذ وفاة النبي (ص) فصرفت عنه الخلافة تارة إلى تيم وأخرى إلى عدي ، وثالثة إلى أمية ، وهي جادة على أن تخلق الشغب والتمرد حتى تجهز على حكومته ، وقد ظهر ذلك منها في موقعة الجمل وصفين.

القعاد :

وتخلف جماعة عن البيعة لأمير المؤمنين سماهم المسعودي ( بالقعاد ) (١) وسماهم أبو الفداء « بالمعتزلة » (٢) وسئل الامام عنهم فقال : « أولئك قوم قعدوا عن الحق ولم يقوموا مع الباطل » (٣) وهم سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، وحسان بن ثابت وكعب بن مالك ومسلمة بن مخلد ، وأبو سعيد الخدري ، ومحمد بن مسلمة ، والنعمان بن بشير ، وزيد بن ثابت ورافع بن خديج ، وفضالة بن عبيد ، وكعب بن عجرة ، وعبد الله بن سلام وصهيب بن سنان ، وسلامة بن سلامة ، وأسامة بن زيد ، وقدامة بن مظعون

__________________

(١) مروج الذهب المطبوع على هامش ابن الأثير ٦ / ٧٨ ـ ٧٩.

(٢) تاريخ ابي الفداء ١ / ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٣) الاستيعاب ٣ / ٥٥.

٣٤١

والمغيرة بن شعبة (١) وهؤلاء قد انحرفوا عن الحق وضلوا عن الطريق فان بيعة الامام قد قام عليها الاجماع وليس لهم أي عذر في التأخر عن مبايعته فتخلفهم كان خرقا للاجماع ، وخروجا على ارادة الأمة ، وقد فتحوا بذلك باب البغي والتمرد على حكومة الامام ، وأشعلوا نار الفتنة في البلاد ، وقد اعتذر سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرة في الجنة ـ كما يقولون ـ عن سبب اعتزاله عن الامام وعن بني أمية أيام الفتنة الكبرى فقال : إني لا أقاتل حتى يأتوني بسيف مبصر عاقل ناطق ينبئني أن هذا مسلم وهذا كافر ، وهو اعتذار مهلهل لا يدعمه منطق ولا برهان فان بيعة الامام كانت شرعية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة فقد اصحر بها الامام وبايعه جمهور المسلمين ولم تكن بيعته فلتة كبيعة أبي بكر ، ولا بادلاء شخص معين كبيعة عمر ، ولم تستند إلى جماعة معينة كبيعة عثمان فالفئة التي خرجت عليه كانت باغية يجب قتالها كما أمر الله بذلك قال تعالى : « فقاتلوا التي تبغي حتى تفىء إلى أمر الله » ولكن سعدا كان يحمل حقدا على الامام وهو الذي وهب صوته إلى عبد الرحمن بن عوف لاضعاف كفة الامام كما بينا ذلك في حديث الشورى ، وأخيرا ندم على ما فرط في أمره وود أن يكون مع الامام ، كما ندم عبد الله بن عمر فقال عند موته : إني لم أخرج من الدنيا وليس في قلبي حسرة إلا تخلفي عن علي ، وقد انتقم الله منه فأراه الذل والهوان فى أواخر أيامه فقد عاش إلى زمن عبد الملك فجاء الحجاج ليأخذ البيعة له فجاء عبد الله في آخر الناس لئلا يراه أحد فعرف الحجاج ذلك فاحتقره واستهان به وقال له :

« لم لم تبايع أبا تراب وجئت تبايع آخر الناس لعبد الملك أنت أحقر

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ٣ / ٧٤.

٣٤٢

من أن أمد لك يدي دونك رجلي فبايع .. »

ومد إليه رجله وفيها نعله فبايعها ، ان هؤلاء القعاد يعلمون ـ من دون شك ـ ان الحق مع علي وانه أولى بالأمر من غيره لسابقته في الاسلام ولعلمه وفقهه وتحرجه في الدين ولكن الأهواء ودواعي الغرور هي التي باعدت بينهم وبين دينهم فناصبوا عترة نبيهم وأبعدوهم عن مراتبهم التي رتبهم الله فيها فإنا لله وإنا إليه راجعون.

مصادرة الاموال المنهوبة :

وكانت فاتحة الأعمال التي قام بها الامام أمير المؤمنين أن أصدر قراره الحاسم برد القطائع التي أقطعها عثمان ، وباسترجاع الأموال التي استأثر بها والأموال التي منحها لذوي قرباه لأنها أخذت بغير وجه مشروع ، وقد صودرت أموال عثمان حتى سيفه ودرعه ، وفي ذلك يقول الوليد بن عقبة يخاطب بني هاشم :

بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم

ولا تنهبوه لا تحل مناهبه

بني هاشم كيف الهوادة بيننا

وعند علي درعه ونجائبه

بني هاشم : كيف التودد منكم

وبزّ ابن أروى فيكم وحرائبه

بني هاشم : ألا تردوا فاننا

سواء علينا قاتلاه وسالبه

بني هاشم إنا وما كان منكم

كصدع الصفا لا يشعب الصدع شاعبه

قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه

كما غدرت يوما بكسرى مرازبه

فرد عليه عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بأبيات منها :

فلا تسألونا سيفكم إن سيفكم

أضيع وألقاه لدى الروع صاحبه

وشبهته كسرى وقد كان مثله

شبيها بكسرى هديه وضرائبه

٣٤٣

وقد أثارت هذه الاجراءات العادلة سخط الذين استباحوا نهب أموال المسلمين وتمرغوا بالدنيا فقد كتب عمرو بن العاص إلى معاوية رسالة جاء فيها « ما كنت صانعا فاصنع إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه ، كما تقشر عن العصا لحاها » (١)

وأوجس خيفة كل من طلحة والزبير ومن شابهما ممن أقطعهم عثمان ووهبهم الأموال الطائلة والثراء فخافوا على ما في أيديهم من أن يصدر الحكم بمصادرته فأظهروا بوادر الشقاق والبغي وأعلنوا التمرد على الامام.

عزل الولاة :

ومضى أمير المؤمنين يؤسس معالم العدل في البلاد فأصدر أوامره بعزل ولاة عثمان واحدا بعد واحد لأنهم أظهروا الجور والفساد في الأرض. وقد أبى الامام أن يبقيهم في جهاز الحكم لحظة واحدة لأن في ابقائهم اقرارا للظلم والطغيان ، وقد عزل بالفور معاوية بن أبي سفيان ، وقد نصحه جماعة من المخلصين له أن يبقيه على عمله حتى تستقر الحال فأبى وامتنع من المداهنة في دينه ، وقد دخل عليه زياد بن حنظلة ليعرف رأيه فى معاوية فقال له الامام :

ـ تيسر يا زياد

ـ لأي شيء يا أمير المؤمنين؟

ـ لغزو الشام

ـ الرفق والأناة أمثل

فأجابه الامام :

متى تجمع القلب الذكي وصارما

وأنفا حميا تجتنبك المظالم

__________________

(١) الغدير ٨ / ٢٨٨.

٣٤٤

وعبأ جيوشه لغزو الشام والقضاء على الحكم الأموي الجاثم عليها الا انه فوجئ بتمرد طلحة والزبير وعائشة فانشغل بهم وانصرف إلى القضاء على تمردهم كما سنبينه بالتفصيل في البحوث الآتية ،

اعلان المساواة :

وانطلق رائد العدالة الاجتماعية الكبرى في الارض فاعلن المساواة العادلة بين جميع المسلمين سواء فى العطاء أو في غيره ، وقد عوتب على خطته فاجاب :

« أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه ، والله ما أطور به ما سمر سمير ، وما أم نجم في السماء نجما ، لو كان المال لي لسويت بينهم فكيف وإنما المال مال الله! الا وإن اعطاء المال في غير حقه تبذير واسراف ، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ويكرمه في الناس ويهينه عند الله .. » (١).

إن المساواة التي اعلنها الإمام كانت تهدف إلى ايجاد مجتمع لا تطغى فيه العنصريات والقوميات ، ولا يوجد فيه بائس ومحروم وعاطل ، وينعدم فيه الظلم والطغيان والاستبداد والاستغلال.

ان المساواة التي طبقها الامام في دور حكمه كانت ترتكز على المفاهيم الإسلامية البناءة التي تهدف إلى تطبيق العدل السياسي والعدل الاجتماعي في الأرض ، والى القضاء على جميع افانين الظلم وضروب الجور والاستبداد وقد هبت القوى النفعية الى معارضتها كما ناجزت الرسول في بدء دعوته ، وناهضت مبادئه وأهدافه ،

__________________

(١) نهج البلاغة محمد عبده ٢ / ١٠.

٣٤٥

وصاياه لولده الحسن :

وللامام أمير المؤمنين وصايا تربوية لولده الحسن حافلة بالقيم العليا والمثل الانسانية الكريمة ، وأهمها وصيته الخالدة التي كتبها بحاضرين (١) حال انصرافه من صفين ، وقد حفلت بالدروس القيمة ، والآداب الاجتماعية ، وحقا أن ترسم على صفحات القلوب ، وأن يجعلها المسلمون دستورا لهم في سلوكهم الفردي والاجتماعي ، ونسوق الى القراء بعضا من فصولها :

« من الوالد الفان المقر للزمان (٢) المدبر العمر ، المستسلم للدهر ، الذام للدنيا ، الساكن مساكن الموتى ، والظاعن عنها غدا ، إلى المولود المؤمل ما لا يدرك (٣) السالك سبيل من قد هلك غرض الاسقام ، ورهينة الايام ، ورمية المصائب (٤) وعبد الدنيا ، وتاجر الغرور ، وغريم المنايا. وأسير الموت ، وحليف الهموم ، وقرين الأحزان ونصب الآفات (٥) وصريع الشهوات ، وخليفة الاموات ... ».

لقد اعرب عليه‌السلام بهذه الكلمات الذهبية عن استسلامه للدهر وإدباره عن الدنيا فقد كان عمره الشريف حين كتابته لهذه الوصية ينيف

__________________

(١) حاضرين : احدى نواحي صفين.

(٢) المقر للزمان ـ اي ـ المعترف له بالشدائد والمصاعب.

(٣) المؤمل ما لا يدرك : يؤمل البقاء والخلود فى الدنيا وذلك لا يدركه أحد.

(٤) رمية : هدف المصائب.

(٥) النصب : ـ بالضم ـ الذي لا تفارقه الآفات.

٣٤٦

على ستين عاما ، وهو سن من يفارق الحياة ، ويقبل على الآخرة ، وقد وصف كل من يولد في الدنيا بأنه يؤمل ما لا يدركه ، في الوقت الذي يسلك فيه سبيل الهالكين ، وانه غرض للاسقام وحليف للهموم والاحزان وقد ذكر «ع» بعد هذا الاسباب الوثيقة التي دعته لرسم هذه الوصية فيقول :

« .. أما بعد ، فان فيما تبينت من إدبار الدنيا عنى ، وجموح الدهر علىّ (١) ، وإقبال الآخرة إلىّ ، ما يرغبني عن ذكر من سواى والاهتمام بما ورائى (٢) غير أنى حيث تفرد بي ـ دون همموم الناس ـ هم نفسى ، فصدقنى رأيى وصرفني عن هوائي ، وصرح لى محض أمرى ، فأفضى بي إلى جد لا يكون فيه لعب ، وصدق لا يشوبه كذب ، ووجدتك بعضي بل وجدتك كلى حتى كأن شيئا لو أصابك اصابني. وكأن الموت لو أتاك أتاني فعنانى من أمرك ما يعنيني من امر نفسى ، فكتب إليك ( كتابى ) مستظهرا به (٣) إن أنا بقيت لك أو فنيت .. »

وبعد ما ذكر العوامل التي دعته لأن يرسم هذه الوصية شرع في بيان المثل الكاملة التي ينبغي لولده أن يتمسك بها ويسير عليها فقال :

« .. فانى أوصيك بتقوى الله ولزوم أمره ، وعمارة قلبك بذكره والاعتصام بحبله ، وأى سبب أوثق من سبب بينك وبين الله إن أنت أخذت به؟

أحى قلبك بالموعظة ، وأمته بالزهادة ، وقوه باليقين ، ونوره

__________________

(١) الجموح : التغلب والاستعصاء

(٢) يريد به امر الآخرة.

(٣) مستظهرا اى مستعينا.

٣٤٧

بالحكمة ، وذلّله بذكر الموت ، وقرره بالفناء (١) ، وبصره فجائع الدنيا وحذره صولة الدهر ، وفحش تقلب الليالى والأيام ، وأعرض عليه أخبار الماضين وذكره بما اصاب من كان قبلك من الأولين ، وسر في ديارهم وآثارهم ، فانظر فيما فعلوا ، وعما انتقلوا ، وأين حلوا ونزلوا ، فانك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبة وحلوا ديار الغربة ، وكأنك عن قليل قد صرت كأحدهم ، فاصلح مثواك. ولا تبع آخرتك بدنياك ، ودع القول فيما لا تعرف ، والخطاب فيما لم تكلف وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته ، فان الكف عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال ، وأمر بالمعروف تكن من أهله وأنكر المنكر بيدك ولسانك ، وباين من فعله بجهدك ، وجاهد في الله حق جهاده ، ولا تأخذك في الله لومة لائم ، وخض الغمرات (٢) للحق حيث كان ، وتفقه في الدين ، وعود نفسك التصبر على المكروه ، ونعم الخلق التصبر ( فى الحق ) وألجئ نفسك فى الأمور كلها إلى إلهك فانك تلجئها إلى كهف حريز (٣) ، ومانع عزيز وأخلص في المسألة لربك فان بيده العطاء والحرمان ، واكثر الاستخارة (٤) ، وتفهم وصيتي ، ولا تذهبن عنها صفحا (٥) فان خير القول ما نفع ، وأعلم أنه لا خير في علم لا ينفع ، ولا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه (٦).

__________________

(١) قرره : اى اطلب منه الاقرار بالفناء.

(٢) الغمرات : الشدائد.

(٣) الكهف : الملجأ ، الحريز ، الحافظ.

(٤) الاستخارة اجالة الراي في الأمر قبل فعله لاختيار احسن وجوهه.

(٥) صفحا : اى جانبا ، والمراد انك لا تعرض عنها.

(٦) لا يحق ـ بكسر الحاء وضمها ـ اى : لا يكون من الحق تعلمه ومعرفته وذلك كالسحر والشعبذة ونحوهما من العلوم التي لا تنفع.

٣٤٨

إن هذه الحكم التي تضمنها كلامه الشريف هى برامج السعادة وخلاصة الحكمة والآداب والتهذيب ، ويعرب «ع» في كلماته الآتية عن بلوغه سن الشيخوخة وهو يخاف أن يهجم عليه الموت دون أن يدلى بهذه الحكم إلى ولده فيقول :

« .. أى بنى ، إنى لما رأيتنى قد بلغت سنا (١) ورأيتنى أزداد وهنا بادرت بوصيتي إليك ، وأوردت خصالا منها قبل أن يعجل بي أجلى دون أن أفضى (٢) إليك بما في نفسى ، وأن انقص (٣) في رأيي كما نقصت في جسمى ، أو يسبقنى إليك بعض غلبات الهوى ، أو فتن الدنيا (٤) ، فتكون كالعصب النفور (٥) ، وإنما قلب الحدث كالارض الخالية ، ما القى فيها من شيء قبلته. فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك. لتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته (٦) وتجربته ، فتكون قد كفيت مؤونة الطلب وعوفيت من علاج التجربة ، فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه ، واستبان لك ما ربما اظلم علينا منه .. »

انه عليه‌السلام لما طعن في السن أراد أن يضع في نفس ولده ما استقر في نفسه الشريفة من الآداب والكمال ، ويغذيه بأطرف الحكم ويلمسه

__________________

(١) اي وصلت النهاية من جهة السن.

(٢) افضى : القى إليك.

(٣) ( وان انقص ) معطوف على ( ان يعجل ).

(٤) اي يسبقني بالاستيلاء على قلبك غلبات الأهواء فلا تتمكن نصيحتى من النفوذ إلى فؤادك.

(٥) الصعب الفرس غير المذلل ، والنفور ضد الأنس.

(٦) البغية : بالكسر والضم : الطلبة والحاجة.

٣٤٩

أهم العبر التي حدثت في عالم الوجود والتي أخذ خلاصتها الحكماء وأهل التجارب ، يضع كل ذلك أمام ولده ليستبين له كل شيء ، ويعرف خلاصة الأمور واهمها ، ثم يسترسل الامام الحكيم في وصيته فيقول.

« .. أى بنى ، إنى ـ وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلى ـ فقد نظرت في أعمالهم ، وفكرت في اخبارهم ، وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم بل كأني بما انتهى إلى من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم فعرفت صفو ذلك من كدره ، ونفعه من ضرره ، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله (١) وتوخيت لك جميله ، وصرفت عنك مجهوله ورأيت ـ حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق وأجمعت (٢) عليه من أدبك ـ أن يكون (٣) ذلك وأنت مقبل العمر ، ومقتبل الدهر ، ذو نية سليمة ونفس صافية ، وأن ابتدئك بتعليم كتاب الله وتأويله وشرائع الاسلام واحكامه ، وحلاله وحرامه ، ( و) لا اجاوز لك إلى غيره (٤) ثم اشفقت (٥) أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من اهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم ، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحب إلى من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك به الهلكة (٦) ورجوت

__________________

(١) النخيل : المختار المصفى.

(٢) اجمعت : عزمت.

(٣) ان يكون : مفعول ( رأيت ).

(٤) لا اتعدى بك كتاب الله إلى غيره ، بل اقف بك عنده.

(٥) ( اشفقت ) اي خشيت.

(٦) اى : إنك وإن كنت تكره ان ينبهك احد لما ذكرت لك فاني اعد إتقان التنبيه على كراهتك له احب إلى من القائك إلى امر تخشى عليك به الهلكة

٣٥٠

أن يوفقك الله لرشدك ، وأن يهديك لقصدك ، فعهدت إليك بوصيتى هذه .. »

سيدي أيها الخبير بأحوال الناس العارف بصفو الأمور وكدرها المحيط بجوهر الاشياء ، حدثنا عن أحب الامور إليك وأهمها عندك فيقول

« .. واعلم يا بنى ، أن أحب ما أنت آخذ به إلىّ من وصيتي ، تقوى الله والاقتصار على ما فرضه الله عليك ، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك والصالحون من أهل بيتك فانهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر. وفكروا كما أنت مفكر ، ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا والامساك عما لم يكلفوا فان أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم ، لا بتورط الشبهات وعلو الخصوصيات ، وأبدأ ـ قبل نظرك في ذلك ـ بالاستعانة بالهك ، والرغبة إليه في توفيقك ، وترك كل شائبة أولجتك في شبهة (١) ، أو اسلمتك إلى ضلالة ، فاذا أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع ، وتم رأيك فاجتمع ، وكان همك فى ذلك هما واحدا ، فانظر فيما فسرت لك ، وإن أنت لم يجتمع لك ما تحب من نفسك وفراغ نظرك وفكرك ، فاعلم أنك إنما تخبط العشواء (٢) وتتورط الظلماء ، وليس طالب الدين من خبط أو خلط! والامساك عن ذلك امثل ..

فتفهم يا بني وصيتي ، واعلم أن مالك الموت هو مالك الحياة ، وأن الخالق هو المميت ، وأن المفنى هو المعيد » وأن المبتلى هو المعافي ، وأن

__________________

(١) الشائبة : ما يشوب الفكر من شك وحيرة ، واولجتك : ادخلتك.

(٢) العشواء : الضعيفة البصر : اى تخبط الناقة العشواء لا تأمن ان تسقط فيما لا خلاص منه.

٣٥١

الدنيا لم تكن لتستقر إلا على ما جعلها الله عليه من النعماء (١) والابتلاء والجزاء في المعاد ، أو ما شاء مما لا نعلم فان أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك به فانك أول ما خلقت جاهلا ثم علمت ، وما اكثر ما تجهل من الأمر » ويتحير فيه رأيك ويضل فيه بصرك ثم تبصره بعد ذلك فاعتصم بالذى خلقك ورزقك وسواك ، وليكن له تعبدك ، وإليه رغبتك ، ومنه شفقتك (٢).

وبعد هذا شرع (ع) في توحيد الله وإقامة الادلة عليه وبعد فراغه من ذلك أخذ في بيان الآداب الاجتماعية فقال :

يا بنى ، اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك ، فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك ، واكره له ما تكره لها ، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم واحسن كما تحب أن يحسن إليك ، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك ، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك (٣) ولا تقل ما لا تعلم وإن قل ما تعلم ، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك.

واعلم أن الاعجاب ضد الصواب ، وآفة الألباب (٤) فاسع في كدحك (٥)

__________________

(١) اي : لا تثبت الدنيا على حال لما اودع الله فيها من التلون بالنعيم تارة وبالبلاء اخرى.

(٢) « شفقتك » اي : خوفك.

(٣) اي إذا عاملوك بمثل ما تعاملهم فارض بذلك ، ولا تطلب منهم ازيد مما تقدم لهم.

(٤) الاعجاب : استحسان ما يصدر منه وهو من رذائل الأخلاق.

(٥) الكدح : اشد السعي.

٣٥٢

ولا تكن خازنا لغيرك (١) وإذا كنت هديت لقصدك فكن اخشع ما تكون لربك.

إن هذه الحكم القيمة لو سار عليها الانسان لكان اسمى مثل للتهذيب والسمو والكمال ، فقد احتوت على اصول العدل واسس الفضيلة والكمال ومن جملة هذه الحكم الخالدة قوله :

وأعلم يقينا أنك لن تبلغ أملك ، ولن تعدو أجلك ، وأنك في سبيل من كان قبلك فخفض في الطلب (٢) وأجمل في المكتسب ، فإنه رب طلب قد جر إلى حرب (٣) فليس كل طالب بمرزوق ، ولا كل مجمل بمحروم ، وأكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب فانك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا (٤) ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا ، وما خير خير لا ينال إلا بشر (٥) ويسر لا ينال إلا بعسر؟! (٦) ،

__________________

(١) اي لا تحرص على جمع المال فان الوارثين ياخذونه بعدك فيكون الاثم عليك وغيرك يتنعم.

(٢) خفض : امر من ( خفض ) بالتشديد اي : ارفق.

(٣) الحرب ـ بالتحريك ـ : سلب المال.

(٤) إن رغائب المال إنما تطلب لصون النفس عن الابتذال فلو بذل الانسان نفسه لتحصيل المال فقد ضيع ما هو المقصود من المال فكان جمع المال عبثا عوضا لما ضيع.

(٥) يريد «ع» ان الخير الذي لا يناله الإنسان إلا بالشر كيف يكون خيرا.

(٦) المراد ان العسر الذي يخاف منه الانسان هو الذي يضطره إلى الوقوع ـ

٣٥٣

وإياك أن توجف بك مطايا الطمع (١) فتوردك مناهل الهلكة وإن استطعت أن لا يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل ، فانك مدرك قسمك ، وآخذ سهمك! وإن اليسير من الله ـ سبحانه ـ اعظم وأكرم من الكثير من خلقه وإن كان كل منه.

وتلا فيك (٢) ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك ، وحفظ ما في الوعاء بشد الوكاء ، وحفظ ما في يديك أحب إلي من طلب ما في يد غيرك (٣) ومرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس والحرفة مع العفة خير من الغنى مع الفجور ، والمرء احفظ لسره (٤) ورب ساع فيما يضره (٥) من اكثر أهجر (٦) ومن تفكر أبصر!

قارن أهل الخير تكن منهم ، وباين أهل الشر تبن عنهم! بئس الطعام الحرام ، وظلم الضعيف افحش الظلم. إذا كان الرفق خرقا كان الخرق رفقا (٧) ربما كان الدواء داء والداء دواء ، وربما نصح غير

__________________

ـ فى الرذائل فاذا جعلها الانسان وسيلة وطريقا لجمع المال فقد وقع فيما هرب منه ، وحينئذ فما الفائدة من جمع المال وهو لا يحميه من النقص.

(١) توجف : تسرع ، والمناهل ما ترده الابل ونحوها للشرب.

(٢) التلافى : التدارك لاصلاح ما فسد.

(٣) إرشاد للاقتصاد فى المال.

(٤) إرشاد إلى عدم إفشاء سر الانسان إلى غيره.

(٥) قد يسعى الانسان بقصد فائدته فينقلب سعيه بالضرر عليه لجهله او سوء قصده.

(٦) الهجر : الهذيان في الكلام.

(٧) الخرق ـ بالضم ـ العنف والمراد ان المقام إذا الزمه العنف كان إبداله ـ

٣٥٤

الناصح وغش المستنصح (١) وإياك واتكالك على المنى فانها بضائع الموتى والعقل حفظ التجارب. وخير ما جربت ما وعظك. بادر الفرصة قبل أن تكون غصة. ليس كل طالب يصيب ، ولا كل غالب يؤوب ، ومن الفساد اضاعة الزاد ، ومفسدة المعاد ، ولكل أمر عاقبة ، سوف يأتيك ما قدر لك ، التاجر مخاطر!! ورب يسير أنمى من كثير ، ولا خير في معين مهين ولا في صديق ظنين ، ساهل الدهر ما ذلّ لك قعوده (٢) ولا تخاطر بشيء رجأ اكثر منه وإياك أن تجمح بك مطية اللجاج!! احل نفسك من أخيك ـ عند صرمه ـ على الصلة (٣) وعند صدوده على اللطف والمقاربة وعند جموده (٤) على البذل وعند تباعده على الدنو ، وعند شدته على اللين ، وعند جرمه على العذر ، حتى كأنك له عبد ، وكأنه ذو نعمة عليك ، وإياك أن تضع ذلك في غير موضعه ، أو أن تفعله بغير أهله ، لا تتخذن عدو صديقك عدوا فتعادي صديقك ، وامحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة ، وتجرع الغيظ فاني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة ولا ألذ مغبة (٥) ولن لمن غالظك فانه يوشك أن يلين لك وخذ على عدوك بالفضل فانه أحلى الظفرين ، وان أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية يرجع إليها إن بدا له ذلك

__________________

ـ بالرفق عنفا ، ويكون العنف من الرفق وذلك كمقام التأديب.

(١) المستنصح ـ على زنة اسم المفعول ـ المطلوب منه النصح ، فيلزمه التفكر والتروي في جميع الاحوال لئلا يروج غش او تنبذ نصيحة.

(٢) المراد ساهل الدهر ما دام منقادا لك ، وخذ حظك منه.

(٣) الصرم : القطيعة.

(٤) الجمود : البخل.

(٥) المغبة : ـ بفتحتين ثم باء مشددة ـ بمعنى العاقبة وكظم الغيظ.

٣٥٥

يوما ما ومن ظن بك خيرا فصدق ظنه ، ولا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك وبينه فانه ليس لك بأخ من أضعت حقه ، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك ، ولا ترغبن فيمن زهد عنك ، ولا يكونن أخوك على مقاطعتك أقوى منك على صلته ، ولا يكونن على الاساءة أقوى منك على الاحسان ، ولا يكبرن عليك ظلم من ظلمك فانه يسعى في مضرته ونفعك وليس جزاء من سرك أن تسؤه. »

وهكذا يسترسل الامام «ع» فى كلامه فيضع جواهر الحكم القيمة واسمى الدروس النافعة واثمن الآراء الصائبة في وصيته ، ونكتفي بهذا المقدار منها وبها ينتهى بنا المطاف لنلتقي مع الامام فى البصرة.

٣٥٦

فى البصرة

٣٥٧
٣٥٨

تمت البيعة للامام من جميع الحواظر الاسلامية سوى الشام ، وآمن المسلمون بالأهداف الاصيلة التي ينشدها الحكم الجديد ، وايقنوا أن الامام سيعيد لهم رحمة الاسلام وعدله ، وان حكمه امتداد لحكم النبي وسيرته ، وقد قام الامام في اليوم الاول من خلافته بتطبيق العدالة الاسلامية الكبرى ، وتحقيق المساواة الشاملة بين المسلمين سواء فى العطاء أو فى غيره من المجالات العامة ، وحطم الفوارق والامتيازات التي اوجدها عثمان على مسرح الحياة الاسلامية ، وقام بمصادرة الأموال المنهوبة التي منحها عثمان لأسرته وأقاربه وقد قضى بذلك على الغبن الاجتماعي ، والظلم الاجتماعي ، كما قام بحماية المسلمين من الاستغلال والاستبداد ، وصيانتهم من التدهور والانحطاط ، وقد أثارت هذه المبادئ والأهداف سخط النفعيين والمنحرفين فلم تمض أيام قليلة حتى اظهروا بوادر البغي والشقاق ، واعلنوا التمرد والعصيان وقاموا بعد وانهم المسلح لاجل الاطاحة بالحكم القائم واعادة سياسة النهب والتجويع ، وأبطال هذه المؤامرة عائشة وطلحة والزبير فقد أثاروها حربا شعواء من اجل مطامعهم الرخيصة ، فكانت موقعة البصرة التي صدعت شمل المسلمين ، وأشاعت الحزن والحداد فى ربوعهم ، وعلينا أن ننظر إلى فصول هذه المأساة الكبرى التي نشرت الفتن والكوارث في أجواء العالم الاسلامي لنتبين بواعثها ودوافعها.

تمرد طلحة والزبير

وتعرض كثير من المسلمين لأسباب الفتن ودواعي الغرور وطرأت عليهم من الأحداث ما باعدت بينهم وبين دينهم وبين عهدهم الأول ، والسبب فى ذلك انهم امتحنوا بالسلطة وبالثراء الواسع العريض ، ومن

٣٥٩

هؤلاء طلحة والزبير فقد انطلقا إلى الامام أمير المؤمنين فقالا له :

« هل تدرى على م بايعناك يا أمير المؤمنين؟؟ »

فرمقهما الامام بطرفه وقال لهما :

ـ نعم على السمع والطاعة ، وعلى ما بايعتم عليه أبا بكر وعمر وعثمان ـ لا ـ ولكن بايعناك على أنا شريكاك فى الأمر

ـ لا ـ ولكنكما شريكان فى القول والاستقامة والعون على العجز والأود إن بيعتهما للامام فى قرارة أنفسهما كانت مدفوعة بالدوافع المادية البحتة ، فهما يريدان الحكم ، والمساومة على السلطة ، وهمها فى نظر الامام شريكان له فى الاستقامة وفى تحقيق العدالة بين المسلمين ، ولما استبان لهما أنه لا يوليهما شيئا اظهرا الشكاة واعلنا التمرد فقال الزبير فى ملأ من قريش :

« هذا جزاؤنا من علي ، قمنا له فى أمر عثمان حتى أثبتنا عليه الذنب وسببنا له القتل ، وهو جالس فى بيته وكفى الأمر فلما نال بنا ما أراد جعل دوننا غيرنا .. »

وقال طلحة :

« ما اللوم الا انا كنا ثلاثة من أهل الشورى كرهه أحدنا (١) ، وبايعناه ، واعطيناه ما فى أيدينا ، ومنعنا ما فى يده فأصبحنا قد اخطأنا ما رجونا .. »

وانتهى حديثهما إلى الامام أمير المؤمنين فاستدعى عبد الله بن عباس فقال له :

__________________

(١) يريد به سعد بن ابى وقاص فانه امتنع عن بيعة الامام وهو من اهل الشورى والذي حمله على ذلك حقده على الامام وكراهيته له على حد تعبير طلحة.

٣٦٠