حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل - ج ١

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل - ج ١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٢

هامدة (١) لم يواروه ، ولم يسمحوا لأحد بمواراته ، وتكلم بعض خواصه مع الامام أمير المؤمنين في ذلك فتوسط في شأنه فأذنوا لهم في ذلك ولكنهم لم يسمحوا لهم بدفنه في البقيع فدفنوه في حش كوكب (٢)

لقد امتحن المسلمون امتحانا عسيرا في امر عثمان ، وقد أورثهم قتله عناء أي عناء ، وقد تولدت في ايام حكومته وبعد مقتله أحزاب نفعية لا يهمها إلا الوصول الى الحكم لتتخذ منه وسيلة الى الثراء ، وأخذت تلك الاحزاب تعيث فسادا في الارض ، وتتآمر على مصالح المسلمين فأبادت وحدتهم ، وفرقت كلمتهم ، وخلقت في المجتمع أهم المصاعب والمشاكل حتى أصبح من المتعذر على الامام أمير المؤمنين في دور حكومته أن يصلح الاوضاع الراهنة ، ويعيد سيرة الرسول وسنته بين الناس ، واتسعت تلك المشاكل حتى بلغت الذروة فى دور الامام الحسن ، فرأى أن لا خطة له أفضل ولا أحسن من الاستسلام كما سنوضحه بالتفصيل في البحوث الآتية.

وبهذا ينتهى بنا المطاف عن عهد عثمان ، وقد اسهبنا القول في امره واطلنا الحديث فى تصوير سياسته التي أشعلت نار الفتنة الكبرى فى البلاد وفتحت باب الخلاف والنزاع بين المسلمين ، ومهدت الطريق للامويين ان يتدخلوا في شئون المسلمين ، ويختلسوا السلطة من أيديهم ، ويمعنوا في قتل الاخيار ومطاردة المصلحين ، وإبادة جميع الاسس التي جاء هذا الدين ليقيمها وبسطنا القول في ذكر بعض المؤاخذات التي تواجه بحوث الدكتور

__________________

(١) قتل عثمان يوم الجمعة لثمان عشر ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين من الهجرة ، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوما وعمره اثنان وثمانون سنة.

(٢) اسم بستان في المدينة كانت اليهود تدفن موتاهم فيها

٢٨١

طه حسين فى عثمان ، وتبرير سياسته ، ولم نكن ـ يعلم الله ـ مدفوعين في ذلك كله بدافع العصبية أو الحقد على عثمان ، وإنما رائدنا الاخلاص للحق وحده ، وخدمة القضية الاسلامية ، فان الكثير من كتاب العصر قد حاول تصحيح تلكم الاحداث بوجوه بعيدة لا يسندها منطق ، ولا يدعمها برهان ، ونحن في أمس الحاجة الى دراسة التأريخ الاسلامي على واقعه ، والامعان في الحوادث التي جرت في العصور الاسلامية الاولى ، لنقف على الذوات الخيرة التي خدمت الاسلام ورفعت مناره ونتميز الذين خدعتهم السلطة ، وغرهم الثراء فتنكروا لدينهم وأمتهم في سبيل مصالحهم الضيقة ، وعسى ان تكون هذه البحوث التي رسمناها بدقة وامانة قد صورت لنا الواقع الذي جرى في تلكم العصور.

٢٨٢

المثل العليا

٢٨٣
٢٨٤

وتوفرت فى الامام أبي محمد الصفات الرفيعة والمثل الكريمة ، وتجسدت فيه طاقات الاسلام وعناصره ومقوماته ، فهو بحكم قابلياته ونزعاته فذ من أفذاذ العقل الانساني ، ومثل من امثلة التكامل البشري ، وعظيم من عظماء الاسلام.

لقد بلغ الامام الذروة في فضائله ، ومآثره ، واصالة رأيه ، وسمو تفكيره ، وشدة ورعه ، وسعة حلمه ، ودماثة اخلاقه الى غير ذلك من ملكاته التي كان بها موضع اعتزاز المسلمين وفخرهم ، ونشير الى بعضها

امامته

ومن أبرز الصفات الماثلة فيه هي الامامة وذلك لما تستدعيه من المثل والقابليات التي لا تتوفر إلا عند من اصطفاه الله واختاره من بين عباده ، وقد حباه تعالى بها ، وأعلن ذلك الرسول الكريم بقوله فيه وفي أخيه : « الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا. »

ولا بد لنا من وقفة قصيرة لنتبين فيها معنى الامامة ، وبعض الشؤون التي تتعلق بها فانها تكشف عن سمو مكانة الامام وعظيم شأنه والى القراء ذلك :

أ ـ معنى الامامة

وحددها علماء الكلام فقالوا : « الامامة رئاسة عامة في امور الدين والدنيا لشخص انساني. » فالامام ـ حسب هذا التحديد ـ هو الزعيم العام والرئيس المتبع وله السلطة الشاملة على الناس في جميع شئونهم الدينية والدنيوية

ب ـ الحاجة الى الامامة

والامامة ضرورة من ضروريات الحياة لا يمكن الاستغناء عنها بحال

٢٨٥

من الاحوال فبها يقام ما أعوج من نظام الدنيا والدين ، وبها تتحقق العدالة الكبرى التي ينشدها الله في ارضه ، ويتحقق الامن العام والسلام بين الناس ، ويدفع عنهم الهرج والمرج ، ويمنع القوي من أن يتحكم في الضعيف ، ومن اهم الامور الداعية الى وجود الامام ايصال الناس الى عبادة الله ، ونشر احكامه وتعاليمه ، وتغذية المجتمع بروح الايمان والتقوى ليبتعد الانسان بذلك عن الشر ويتجه الى الخير ، ويجب على الامة كافة الانقياد إليه ، والامتثال لأوامره ليقيم أودها ، ويلم شعثها ويهديها الى سواء السبيل.

ج ـ واجبات الامام

إن على امام المسلمين وولي أمرهم ان يقوم بما يلي :

١ ـ حفظ الدين ، وحراسة الاسلام ، وصيانته من المستهترين بالقيم والاخلاق.

٢ ـ تنفيذ الاحكام ، والقضاء على الخصومات ، وانصاف المظلوم من ظالمه.

٣ ـ حماية البلاد الاسلامية من الغزو الخارجي سواء أكان الغزو عسكريا أم فكريا كما في هذه العصور التي غزت بلادنا بعض المبادئ الهدامة التي تدعو الى تحطيم الاسس التي أقامها الاسلام.

٤ ـ اقامة الحدود ، والقضاء على كافة الجرائم التي توجب شقاء الانسان.

٥ ـ تحصين الثغور

٦ ـ الجهاد

٧ ـ جباية الاموال كالزكاة والخراج وغيرها من الامور التي نص

٢٨٦

عليها التشريع الاسلامي.

٨ ـ استخدام الامناء في جهاز الحكم ، وعدم استعمال الموظف محاباة او اثرة.

٩ ـ النظارة على امور الرعية بالذات ، ولا يجوز له أن يعول على الغير لينظر فيها لأن ذلك من حقوق الرعية (١)

١٠ ـ القضاء على البطالة ، ونشر الرفاهية الشاملة في ربوع الامة ، وانقاذها من الفقر والحرمان.

هذه بعض الامور التي يجب على الامام أن يطبقها على مسرح الحياة العامة ، وقد استوفينا البحث فى هذه الجهات في كتابنا « النظام الاداري فى الاسلام ».

د ـ اوصافه

ولا بد في الامام ان تتوفر فيه الشروط الآتية وهي :

١ ـ العدالة على شروطها الجامعة وهي الامتناع من ارتكاب كبائر الذنوب والاصرار على صغائرها

٢ ـ العلم بما تحتاج إليه الامة في جميع مجالاتها ، ومعرفة النوازل والاحكام

٣ ـ سلامة الحواس ، كالسمع ، والبصر ، واللسان ، ليصح معها مباشرة ما يدرك كما يشترط سلامة الاعضاء الاخرى من أي نقص.

٤ ـ الرأي المفضي الى سياسة الرعية وتدبير المصالح العامة.

٥ ـ الشجاعة والنجدة ، والقدرة على حماية بيضة الاسلام وجهاد العدو

٦ ـ النسب وهو ان يكون الامام من قريش

__________________

(١) السياسة الشرعية : ص ٧

٢٨٧

وقد ذكر هذه الشروط والاوصاف كل من الماوردي وابن خلدون (١)

٧ ـ العصمة ، وعرفها المتكلمون : بأنها لطف من الله يفيضها على اكمل عباده وبها يمتنع من ارتكاب الجرائم والموبقات عمدا وسهوا ، وقد أجمعت الشيعة على اعتبارها في الامام ، ويدل عليها حديث الثقلين ، فقد قرن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين الكتاب والعترة وكما ان الكتاب معصوم من الخطأ والزلل فكذلك العترة الطاهرة وإلا لما صحت المقارنة والمساواة بينهما وقد تقدم الكلام في بيان ذلك.

وهذه الاوصاف لم تتوفر إلا في أئمة أهل البيت حضنة الاسلام وحماته ، والادلاء على مرضاة الله وطاعته ، وقد وصفهم الكميت شاعر العقيدة الاسلامية بقوله :

القريبين من ندى والبعيدين

من الجور في عرى الاحكام

والمصيبين ما أخطأ النا

س ومرسي قواعد الاسلام

والحماة الكفاة في الحرب إن لف

ضرام وقوده بضرام

والغيوث الذين ان أمحل النا

س فمأوى حواضن الايتام

راجحي الوزن كاملي العدل في ال

سيرة طبين بالامور الجسام

ساسة لا كمن يرى رعية النا

س سواء ورعية الاغنام (٢)

إن أئمة أهل البيت سلام الله عليهم قد دللوا بسيرتهم وهديهم على عصمتهم من الخطأ والزيغ ، وقد برهنت الحوادث والوقائع على ذلك ، ودلت على أنهم نسخة لا مثيل لها فى تأريخ الانسانية وذلك لما لهم من عظيم الفضل والتقوى والحراجة في الدين.

__________________

(١) الاحكام السلطانية صفحة ٤ المقدمة ص ١٣٥

(٢) الهاشميات

٢٨٨

ه ـ تعيينه

وذهبت الشيعة الى أن تعيين الامام ليس بيد الامة ، ولا بيد أهل الحل والعقد منها ، والانتخاب فى الامامة باطل والاختيار فيها مستحيل ، فحالها كحال النبوة فكما أنها لا تكون بايجاد الانسان وتكوينه كذلك الامامة لأن العصمة ـ التي هي شرط في الامامة ـ لا يعرفها الله المطلع على خفايا النفوس ، وقد اوضح ذلك واستدل عليه حجة آل محمد ومهدي هذه الأمة القائم المنتظر عليه‌السلام في حديثه مع سعد بن عبد الله فقد سأل الامام عن العلة التي تمنع الناس من اختيار امام لأنفسهم فقال عليه‌السلام له :

ـ يختارون مصلحا او مفسدا؟

ـ بل مصلحا

ـ فهل يجوز ان تقع خيرتهم على المفسد بعد ان لا يعلم أحد بما يخطر ببال غيره من صلاح او فساد

ـ بلى

ـ فهي العلة أوردها لك ببرهان يثق به عقلك ، اخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله ، وانزل الكتب عليهم ، وأيدهم بالوحي والعصمة ، إذ هم أعلام الامم ، وأهدى الى الاختيار ، منهم مثل موسى وعيسى ، هل يجوز مع وفور عقلهما ، وكمال علمهما إذا همّا بالاختيار أن تقع خيرتهما على المنافق وهما يظنان أنه مؤمن

ـ لا

ـ هذا موسى كليم الله مع وفور عقله ، وكمال علمه ونزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلا ممن

٢٨٩

لا يشك في ايمانهم واخلاصهم ، فوقعت خيرته على المنافقين ، قال الله عز وجل : ( وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا ) الى قوله ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ) بظلمهم. » فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله للنبوة واقعا على الافسد دون الاصلح وهو يظن أنه الاصلح علمنا ان الاختيار ليس إلا لمن يعلم ما تخفى الصدور ، وتكن الضمائر .. » (١)

إن الطاقات البشرية قاصرة عن ادراك الاصلح الذي تسعد به الامة فليس اختياره بيد الانسان وإنما هو بيد الله العالم بخفايا الامور ، هذه صورة مجملة عن الامامة وتفصيل الكلام يجده المتتبع مستوفى في كتب الكلام.

اخلاقه الرفيعة

قال بعض علماء الاجتماع : إنما تتفاضل الامم في حال البداوة بالقوة البدنية فاذا ارتقت تفاضلت بالعلم ، ثم اذا بلغت من الارتقاء غايته تفاضلت بالاخلاق. فالاخلاق هي غاية ما يصل إليه الانسان في سموه وكماله وتهذيبه

إن الخلق الكامل اذا انطبع في النفس لا يمكن ان تنحرف عن الطريق القويم ، أو تحل الانانية محل الايثار ، او تستولي عليها المغريات والنقائص من اجل ذلك كانت الاخلاق من أهم العناصر التي تبتني عليها الحياة الاجتماعية والفردية ، كما انها من اوثق الاسباب في بقاء الامم وفى دوام حضارتها واصالتها.

إن من أقوى العلل في ظهور الشرائع السماوية ، وبقاء سلطانها الروحي عنايتها بالخلاق واهتمامها بتهذيب النفوس وتربيتها بالنزعات الخيرة ، وقد

__________________

(١) البحار ١٣ / ١٢٧

٢٩٠

اهتم النبي بها اهتماما بالغا واعتبرها من ابرز الاسباب التي بعث من اجلها يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق » وقد استطاع بمكارم اخلاقه أن يوقظ البشر من سباته ، ويؤسس معالم الحضارة فى العالم ويغير مجرى التأريخ فقد الف ما بين القلوب ، ووحّد المشاعر والعواطف وجمع الناس على صعيد المحبة والاخاء.

كان النبي فى عظيم أخلاقه مثالا للرحمة الإلهية التي تملأ القلوب البائسة الحزينة رجاء ورحمة ، كان يزور ضعفاء المسلمين ، ويعود مرضاهم ، ويشهد جنائزهم ، ويجيب دعوة من دعاه ، ولا يرد دعوة مملوك ولا فقير (١) ومن جالسه صابره حتى يكون جليسه هو المنصرف ، وما أخذ أحد بيده فجذبها منه حتى يكون الآخذ هو الذي يرسلها ، وكان حريصا على تطييب النفوس واجتناب الإساءة لأي انسان.

وهذه الاخلاق الرفيعة قد تمثلت فى الامام الحسن بحكم ميراثه من جده العظيم ، وقد ذكر التأريخ بوادر كثيرة من مكارم اخلاقه نسوق بعضها وهي :

١ ـ انه اجتاز على جماعة من الفقراء قد وضعوا على وجه الارض كسيرات من الخبز كانوا قد التقطوها من الطريق ، وهم يأكلون منها فدعوه الى مشاركتهم فأجابهم الى ذلك وهو يقول : « إن الله لا يحب المتكبرين » ولما فرغ من تناول الطعام دعاهم الى ضيافته فاطعمهم وكساهم (٢) واغدق عليهم بنعمه واحسانه.

إن التواضع دليل على كمال النفس وسموها وشرفها ، وفي الحديث

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٢ / ٤٦٦

(٢) اعيان الشيعة ٤ / ٢٤

٢٩١

« إن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرحمكم الله » (١)

٢ ـ ومن آيات أخلاقه أنه مرّ على صبيان يتناولون الطعام فدعوه لمشاركتهم فاجابهم الى ذلك ثم حملهم الى منزله فمنحهم ببره ومعروفه وقال : « اليد لهم لأنهم لم يجدوا غير ما اطعموني ونحن نجد مما اعطيناهم » (٢)

٣ ـ ومن مكارم اخلاقه أنه كان يغضي عمن اساء إليه ، ويقابله بالاحسان ، فقد كانت عنده شاة فوجدها يوما قد كسرت رجلها فقال عليه‌السلام لغلامه :

ـ من فعل هذا بها؟

ـ أنا

ـ لم ذلك؟!

ـ لأجلب لك الهم والغم

فتبسم عليه‌السلام ، وقال له : لأسرك ، فاعتقه وأجزل له في العطاء (٣)

٤ ـ ومن عظيم أخلاقه أنه كان جالسا في مكان فأراد الانصراف منه فجاءه فقير فرحب به ولاطفه وقال له :

ـ إنك جلست على حين قيام منا أفتأذن لي بالانصراف؟؟

ـ نعم يا ابن رسول الله (٤)

__________________

(١) نهاية الارب في فنون الادب ٣ / ٤٤٣

(٢) الصبان المطبوع على هامش نور الابصار : ص ١٧٦

(٣) مقتل الحسين للخوارزمي ١ / ١٤٧

(٤) تأريخ الخلفاء للسيوطي ص ٧٣

٢٩٢

إن مراعاة حق الجليس من الآداب الاجتماعية التي توجب المحبة والإلفة ، وتوجد التعاون والترابط بين الناس فلذا أمر الإسلام بها وحث عليها.

٥ ـ واجتاز على الامام شخص من أهل الشام ممن غذاهم معاوية بالكراهية والحقد على آل البيت فجعل يكيل للامام السب والشتم ، والامام ساكت لم يرد عليه شيئا من مقالته ، وبعد فراغه التفت الامام فخاطبه بناعم القول وقابله ببسمات فياضة بالبشر قائلا :

« أيها الشيخ : أظنك غريبا؟ لو سألتنا أعطيناك ، ولو استرشدتنا أرشدناك ، ولو استحملتنا حملناك ، وإن كنت جائعا أطعمناك ، وإن كنت محتاجا أغنيناك ، وإن كنت طريدا أويناك .. » وما زال (ع) يلاطف الشامي بهذا ومثله ليقلع روح العداء والشر من نفسه حتى ذهل ولم يطق رد الكلام وبقي حائرا خجلا كيف يعتذر للامام ، وكيف يمحو الذنب عنه؟ وطفق يقول :

( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) فيمن يشاء. » (١)

وهكذا كان عليه‌السلام مثالا للانسانية الكريمة ، ورمزا للخلق العظيم لا يثيره الغضب ، ولا يزعجه المكروه قد وضع نصب عينيه قوله تعالى : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. ) وقد قابل جميع ما لاقاه من سوء وأذى ومكروه من الحاقدين عليه بالصبر والصفح الجميل ، حتى اعترف الد خصومه مروان بن الحكم بسمو حلمه ، وعظيم خلقه ، وذلك حينما انتقل الامام إلى الرفيق الاعلى

__________________

(١) مناقب ابن شهر اشوب ٢ / ١٤٩ ، الكامل للمبرد ١ / ١٩٠ وجاء فيه ان الأعرابى انصرف وهو يقول والله ما على وجه الأرض أحد أحب الي منه.

٢٩٣

فبادر مروان إلى حمل جثمانه فقال له سيد الشهداء :

ـ تحمل اليوم سريره ، وقد كنت بالأمس تجرعه الغيظ؟!!

ـ إني كنت افعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال (١)

لقد كان الامام كجده الرسول في سعة حلمه ، وعظيم أخلاقه ، وصفحه عمن أساء إليه ، وقد روى التأريخ بوادر كثيرة من أخلاقه دلت على أنه في طليعة الأخلاقيين والمساهمين فى بناء الأخلاق والآداب في دنيا العرب والمسلمين.

كرمه وسخاؤه :

من كان ندى الكف مبسوط اليدين بالعطاء متمسكا بأهداب السخاء بعيدا عن البخل وضروبه فاعظم به من خير عميم ، كبير الثقة بالله ، عظيم النفس ، شريف الذات ، وقد تحدث رسول الله (ص) عن شرف هذه الظاهرة فقال : « خلقان يحبهما الله وهما : حسن الخلق والسخاء » وقال : « السخاء من الايمان ».

إن السخاء ينم عن طيب القلب ، ويكشف عن الفضائل النفسية ، ويحكى عن رحمة الانسان ورأفته ، ومن الطبيعي انه انما يكون كذلك فيما اذا كان بذله بداعي الخير والمعروف لا بداعي السمعة والمديح والثناء وغير ذلك من الدواعي التي لا تمت إلى الاحسان بصلة ، وقد حدث التأريخ عن أناس كانوا يهبون الألوف للوافدين ، ويبذلون القرى للاضياف ، ولكن سرعان ما انكشف أنه تصنع لا اتصال له بحقيقة الكرم والمعروف ، وذلك كعطاء معاوية بن أبي سفيان وهباته للوافدين عليه فان ذلك لم يكن

__________________

(١) شرح النهج ٤ / ٥.

٢٩٤

بداعي الاحسان وإنما كان لشراء الضمائر لأجل التمسك بزمام الحكم.

إن السخاء الحقيقي هو بذل الخير بداعي الخير ، وبذل الاحسان بداعي الاحسان ، وقد تجلت هذه الصفة الرفيعة بأجلى مظاهرها ، واسمى معانيها في الامام أبي محمد (ع) حتى لقب بكريم أهل البيت.

تلقى هذه المكرمة من سلفه الطاهر الذي عرف بالسخاء والمعروف ونجدة الضعيف والاحسان إلى كل منقطع ومحروم وفى جده الاعلى يقول القائل :

عمرو العلى هشم الثريد لقومه

ورجال مكة مسنتون عجاف

وزاد الحسن على سلفه الطاهر فى ذلك فقد كان لا يعرف للمال قيمة ، ولا يرى له أهمية سوى ما يرد به جوع جائع ، أو يكسو به عاريا ، أو يغيث به ملهوفا ، أو يفي به دين غارم.

ان السخاء عنصر من عناصر ذاته ، ومقوم من مقومات مزاجه ، وقد أثر عنه أنه ما قال لسائل لا قط (١) وقيل له لأي شيء لا نراك ترد سائلا؟ فأجاب :

« إني لله سائل ، وفيه راغب ، وأنا استحي أن أكون سائلا ، وأرد سائلا ، وان الله عودني عادة أن يفيض نعمه علي ، وعودته أن أفيض نعمه على الناس فأخشى ان قطعت العادة أن يمنعني العادة وأنشأ يقول :

إذا ما أتاني سائل قلت مرحبا

بمن فضله فرض علي معجل

ومن فضله فضل على كل فاضل

وأفضل أيام الفتى حين يسأل (٢)

__________________

(١) الطبقات الكبرى للشعرانى ١ / ٢٣ ، جوهرة الكلام للقراغولي ص ١١٢

(٢) نور الابصار ص ١١١.

٢٩٥

ونسبت له أبيات نظمها في الجود والسخاء منها قوله :

إن السخاء على العباد فريضة

لله يقرأ في كتاب محكم

وعد العباد الأسخياء جنانه

وأعد للبخلاء نار جهنم

من كان لا تندى يداه بنائل

للراغبين فليس ذاك بمسلم

وله أيضا :

خلقت الخلائق من قدرة

فمنهم سخي ومنهم بخيل

فأما السخي ففي راحة

وأما البخيل فحزن طويل (١)

وكانت الوفود من المرتزقة والمحتاجين تزدحم عليه فيغدق عليهم ببره واحسانه ، ويجزل لهم المزيد من العطاء ، وقد ذكر التأريخ بوادر كثيرة من كرمه وجوده نسوق إلى القراء بعضها.

١ ـ جاءه اعرابي سائلا فقال (ع) : اعطوه ما في الخزانة ، وكان فيها عشرة آلاف درهم فقال له الاعرابي : يا سيدي هلا تركتني أبوح بحاجتي ، وأنشر مدحتي؟ فاجابه الامام :

نحن أناس نوالنا خضل

يرتع فيه الرجاء والأمل

تجود قبل السؤال أنفسنا

خوفا على ماء وجه من يسل

لو علم البحر فضل نائلنا

لغاض من بعد فيضه خجل (٢)

٢ ـ واجتاز عليه‌السلام على غلام أسود بين يديه رغيف يأكل منه لقمة ويدفع لكلب كان عنده لقمة اخرى.

فقال له الامام :

ـ ما حملك على ذلك؟

__________________

(١) المناقب ٢ / ١٥٦.

(٢) اعيان الشيعة ٤ / ٨٩ ـ ٩٠.

٢٩٦

ـ إني لأستحيي أن أكل ولا أطعمه.

رأى الامام فيه خصلة من أحب الخصال عنده ، فاحب أن يجازيه على صنعه ، ويقابل إحسانه بإحسان فقال له :

لا تبرح من مكانك ، ثم انطلق فاشتراه من مولاه واشترى الحائط (١) الذي هو فيه فاعتقه ، وملكه إياه (٢).

٣ ـ وأجتاز يوما فى بعض أزقة المدينة فسمع رجلا يسأل الله أن يرزقه عشرة آلاف درهم ، فانطلق إلى بيته ، وأرسلها إليه بالوقت (٣).

٤ ـ وجاءه شخص يظهر الاعواز والحاجة فقال له (ع) ما هذا حق سؤالك ، يعظم لدى معرفتي بما يجب لك ، ويكبر على ويديّ تعجز عن نيلك بما أنت اهله ، والكثير في ذات الله قليل ، وما في ملكى وفاء لشكرك ، فان قبلت منا الميسور ، ورفعت عنا مئونة الاحتفال والاهتمام فعلت ، فأجابه الرجل : يا بن رسول الله (ص) أقبل القليل واشكر العطية ، واعذر على المنع ، فاحضر (ع) وكيله وحاسبه وقال له : هات الفاضل ، وكان الفاضل خمسين الف درهم فدفعها إليه ولم يكتف (ع) بذلك بل قال لوكيله ما فعلت بالخمس مائة دينار التي عندك؟ فقال له : هي عندي ، فأمره باحضارها ثم دفعها إلى الرجل وهو يعتذر منه (٤)

__________________

(١) الحائط : البستان.

(٢) البداية والنهاية ٨ / ٣٨.

(٣) الطبقات الكبرى للشعراني ١ / ٢٣ ، الصبان ص ١٧٧.

(٤) دائرة المعارف للبستانى ج ٧ ص ٣٩ ، إحياء العلوم للغزالي ج ٣ ص ١٧١ وزاد فيه انه «ع» قال للرجل هات من يحمل هذه الاموال فاتاه بحمالين فدفع عليه‌السلام رداءه لكراء الحمالين ، فقال له مواليه يا بن رسول الله والله ما عندنا درهم ، فقال «ع» لهم : ارجو ان يكون لي عند الله اجر عظيم.

٢٩٧

إن قوله (ع) ( الكثير في ذات الله قليل ) ينم عن أن هذا العطاء إنما هو في سبيل الله تعالى لا يبتغي من احد جزاء أو شكورا.

٥ ـ ومن مكارمه (ع) انه خرج هو وأخوه الحسين (ع) وابن عمهما عبد الله بن جعفر (١) وافدين إلى بيت الله الحرام ، وفى أثناء الطريق أصابهم جوع وعطش وقد سبقتهم اثقالهم ، فانعطفوا على بيت قد ضرب أطنابه في وسط تلك البيداء القاحلة ، فلما وصلوا إلى البيت لم يروا فيه إلا عجوزا فطلبوا منها شرابا وطعاما ، فأجابت بما طبعت عليه نفس الكريم قائلة :

نعم.

__________________

(١) عبد الله بن جعفر بن ابي طالب الهاشمي ، وأمه اسماء بنت عميس الخثعمية ولد بأرض الحبشة لما هاجر إليها ابوه ، ولما قتل جعفر مسح النبي على راس عبد الله وقال : اللهم اخلف جعفرا فى ولده ، وقال فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبد الله يشبه خلقى وخلقى ، واطلع (ص) عليه يوما وهو يبيع مع الصبيان فقال اللهم بارك له فى بيعه او صفقته ، وهو احد الاجواد المشهورين ، ونقلت عن جوده وسخائه اخبار كثيرة وفيه يقول عبد الله بن قيس الرقيات

وما كنت إلا كالأغر ابن جعفر

راى المال لا يبقى فأبقى له ذكرا

ويقول فيه الشماخ بن ضرار :

إنك يا ابن جعفر نعم الفتى

ونعم مأوى طارق إذا اتى

ورب ضيف طرق الحى سرى

صادف زادا وحديثا ما اشتهى

توفي سنة ثمانين من الهجرة ، وقد عرف ذلك العام الذي توفي فيه بعام الجحاف لحدوث سيل كان ببطن مكة اجحف الحاج وذهب بالابل وعليها الحمولة جاء ذلك فى الاصابة ج ٢ ص ٢٨٩ ـ ٢٩٠.

٢٩٨

إنها النفس إذا جبلت على الخير وطبعت فيها الأريحية قدمت في سبيل العز والمجد كل ما تملك ، لم يك عند العجوز سوى شاة هى كل ما تملك مما أظلته الخضراء وأقلته الغبراء ، فتقدمت وبيدها الشاة قائلة لهم :

دونكم هذه الشاة فاحلبوها واشربوا لبنها ، فلما فعلوا ذلك تقدمت إليهم مرة أخرى قائلة :

أقسم عليكم إلا ما ذبحها أحدكم حتى أهيّئ لكم الحطب لشيها ، ففعلوا ذلك وهيأت العجوز الحطب ، وبعد الفراغ من تناول الطعام عزموا على الرحيل فتقدموا إليها وعرفوها بشخصياتهم ليجازوها على صنعها خيرا إن رجعوا إلى وطنهم ، قائلين :

« يا أمة الله إنا نفر من قريش نريد حج بيت الله الحرام ، فاذا رجعنا سالمين فهلمي إلينا لنكافئك على هذا الصنع الجميل ».

ثم انصرفوا لشأنهم ، ولما عنّ غياب القرص عن السماء أقبل رب البيت على عادته فأخبرته العجوز بالقصة ، فاستولى عليه الغضب ، ذلك لأن الشاة هي مصدر القوت وإدرار الرزق عليهم ، فقال لها : ويحك أتذبحين الشاة لأناس لا تعرفينهم؟ ثم تقولين إنهم نفر من قريش.

وطوى الدهر عجلته فمضت سنة وأقبلت أخرى فاعترت البادية أزمة شديدة لأن السماء قد منعتها قطرها حتى قلت موارد العيش وانعدمت أسباب القوت ، فرحلا عن البادية ونزلا المدينة ، ولم يجدا عملا يحيطان به خبرا سوى التقاط البعر من الطرقات والشوارع ، فاتخذا ذلك مهنة لهما ، وفي يوم من الأيام وهما على عملهما ارادت السعادة أن تحنو عليهما فلمح الحسن (ع) العجوز فعرفها ، وقد حل وفاء الدين ، والمعروف في ذمة الأحرار دين فأمر (ع) غلامه أن يأتي بها إليه ، فلما مثلت بين يديه

٢٩٩

قال (ع) لها :

أتعرفيني يا أمة الله؟

ـ لا ..

ـ أنا أحد ضيوفك يوم كذا سنة كذا.

ـ لست أعرفك.

ـ إن لم تعرفيني فانا أعرفك ، ثم أمر (ع) غلامه فاشترى لها من غنم الصدقة الف شاة وأعطاها الف دينار ، ثم أمر (ع) غلامه أن يذهب بها إلى أخيه الحسين (ع) ويعرفه بها ، فأخذها الغلام فلما دخلت عرفها الحسين (ع) ، فقال للغلام : كم اعطاها أخي؟ فأخبره الغلام بعطائه ، فأوصلها (ع) بمثل ذلك ، ثم بعث الحسين بها إلى عبد الله بن جعفر ، فلما دخلت عليه عرفها ، فأمر لها بألفي شاة والفي دينار فأخذت ذلك جميعا وانصرفت (١) وفد تغير حالها من فقر مدقع إلى غناء وثروة حسدها عليه كل من عرفها كل ذلك من بر الحسن وفضله ،.

٦ ـ ومن آيات مكارمه (ع) أنه اشترى حائطا من الأنصار بأربعمائة الف فبلغه أنهم قد احتاجوا إلى ما في أيدي الناس فرده إليهم (٢) إن إنقاذ هؤلاء من ذل السؤال ورد شرفهم إليهم من أفضل أنواع السخاء ومن أسمى مراتب الجود.

٧ ـ ومن مكارمه (ع) أن جارية حيته بطاقة من ريحان ، فقال عليه‌السلام لها : أنت حرة لوجه الله ، فلامه أنس على ذلك ، فأجابه عليه‌السلام : أدبنا الله فقال تعالى : ( إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها )

__________________

(١) إحياء العلوم للغزالي ٣ / ١٧٣ ، دائرة المعارف للبستاني ٧ / ٣٩.

(٢) الصبان ص ١٧٦.

٣٠٠