حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل - ج ١

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل - ج ١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٢

منعوك ، وستعلم من الرابح غدا ، والاكثر حسدا؟ ولو ان السموات والارض كانتا على عبد رتقا ، ثم اتقى الله لجعل الله منهما مخرجا ، لا يؤنسنك إلا الحق ، ولا يوحشنك إلا الباطل فلو قبلت دنياهم لأحبوك ، ولو قرضت منها لآمنوك .. »

وحدد الامام ـ بهذه الكلمات الرائعة ـ الموقف الرهيب الذي وقفه أبو ذر من عثمان فانه لم يكن من اجل المادة ، ولا من اجل سائر الاعتبارات الاخرى التي يئول امرها الى التراب ، وانما كان من أجل المبادئ الاصيلة والقيم العليا التي جاء بها الاسلام وهي تهيب بالحاكمين والمسئولين أن لا يستأثروا بأموال المسلمين ، وقد جافى عثمان ذلك ، وانتهج سياسة خاصة بنيت على الاستغلال والإثرة ، فلهذا ثار أبو ذر في وجهه وناجزه ، وقد خافه عثمان على ملكه وسلطانه ، وخافه أبو ذر على دينه وعقيدته ، وقد امره الامام ان يترك ما بأيديهم ، ويهرب بدينه ليكون بمنجاة من شرور القوم وآثامهم.

وبيّن عليه‌السلام ـ فى كلماته ـ اتجاه ابي ذر وميوله ، فانه لا يؤنسه إلا الحق ، ولا يوحشه إلا المنكر والباطل ولو انه غيّر اتجاهه فسالم القوم ووادعهم لأحبوه واخلصوا له ، وأجزلوا له العطاء ، ومنحوه الثراء.

وبادر إليه الامام الحسن فصافحه وودعه ، وألقى عليه كلمات تنم عن قلب موجع لهذا الفراق قائلا :

« يا عماه. لو لا انه ينبغي للمودع أن يسكت ، وللمشيع ان ينصرف لقصر الكلام وإن طال الاسف ، وقد اتى القوم إليك ما ترى ، فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها ، وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها ، واصبر حتى تلقى نبيك ، وهو عنك راض .. »

٢٦١

لقد امره الامام الحسن عليه‌السلام بالصبر على ما انتابه من الكوارث والخطوب التي صبها عليه القوم ليلقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو عنه راض.

والقى ابو ذر على أهل البيت نظرة مقرونة بالتفجع والاسى والحسرات وتكلم بكلمات يلمس فيها ذوب قلبه على هذا الفراق المرير قال :

« رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة ، اذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لي بالمدينة سكن ولا شجن (١) غيركم إني ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على معاوية بالشام ، وكره أن اجاور أخاه وابن خاله بالمصرين (٢) فأفسد الناس عليهما فسيرنى الى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلا الله ، والله ما أريد إلا الله صاحبا ، وما اخشى مع الله وحشة .. »

وانصرف أبو ذر طريدا في فلوات الارض شريدا عن حرم الله وحرم رسوله قد باعدته السياسة العمياء ، وفرقت بينه وبين اهل البيت الذين يكن لهم أعمق الود وخالص الحب من أجل حبيبه وصاحبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

لقد مضى أبو ذر الى الربذة ليموت فيها جوعا ، وفي يد عثمان ذهب الارض يصرفه على بني أمية ، وعلى آل ابي معيط ، ويحرمه على شبيه المسيح عيسى بن مريم في هديه وسمته.

ورجع الامام امير المؤمنين مع اولاده من توديع ابي ذر ، وقد علاه الاسى والحزن فاستقبلته جماعة من الناس فاخبروه بغضب عثمان واستيائه منه

__________________

(١) السكن : الاهل والشجن : من يهواه ويحبه

(٢) المصرين : البصرة ، ومصر وكان والي البصرة عبد الله بن عامر ابن خال عثمان ، ووالي مصر عبد الله بن سعد بن ابي سرح وهو اخو عثمان.

٢٦٢

لأنه خالف أمره وخرج لتوديع خصمه فقال عليه‌السلام :

« غضب الخيل على اللجم. » (١)

وبادر عثمان الى الامام فقال له :

ـ ما حملك على رد رسولي؟

ـ اما مروان فانه استقبلني يردني فرددته عن ردي ، وأما امرك فلم ارده

ـ او لم يبلغك أني قد نهيت الناس عن تشييع ابي ذر؟

ـ أو كل ما أمرتنا به من شيء يرى طاعة الله والحق في خلافه أتبعنا فيه أمرك؟!!

ـ أقد مروان

ـ وما أقيده؟

ـ ضربت بين اذني راحلته

ـ أما راحلتي فهي تلك ، فإن اراد ان يضربها كما ضربت راحلته فليفعل ، وأما أنا فو الله لئن شتمني لأشتمنك أنت بمثلها بما لا اكذب فيه ولا أقول إلا حقا.

ـ ولم لا يشتمك إذ شتمته ، فو الله ما أنت عندي بأفضل منه.

وغضب الامام من عثمان لأنه ساوى بينه وهو من النبي بمنزلة هارون من موسى ، وبين الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم الذي لعنه رسول الله وهو في صلب أبيه ، فقال عليه‌السلام له :

ـ إلي تقول هذا القول؟ وبمروان تعدلني؟!! فانا والله افضل منك وأبي افضل من أبيك ، وأمي أفضل من أمك ، وهذه نبلي قد نثلتها .. »

__________________

(١) يضرب مثلا لمن يغضب غضبا لا ينتفع به

٢٦٣

فسكت عثمان ، وانصرف الامام وهو ملتاع حزين منه لأنه لم يرع مقامه ، ولم يلحظ جانبه وقرن بينه وبين مروان.

٣ ـ عمار بن ياسر

وعمار بن ياسر فذ من أفذاذ الاسلام ، وعلم من أعلامه ، وقطب من أقطابه ، وصاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخليله لقي في سبيل الاسلام أعظم الجهد ، وأمر البلاء ، وعذب مع أبويه اعنف التعذيب وأقساه ، فقد استضعفتهم جبابرة قريش فصبت عليهم وابلا من العذاب الأليم فألهبت ابدانهم بمكاوى النار ، وضربتهم ضربا موجعا ، ووضعت على صدورهم الاحجار الثقيلة ، وصبت عليهم قربا من الماء ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجتاز عليهم فيرى ما هم فيه من المحنة والعذاب فتذوب نفسه اسى وحزنا ، ويقول :

« اصبروا آل ياسر : موعدكم الجنة. » (١)

ويقول وقد اضناه الحزن « اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت .. » (٢)

وبقيت هذه الاسرة التي وهبت حياتها لله تحت التعذيب والارهاق لم تحتفل بما تعانيه من ألم التعذيب وشدته وأصرت على ايمانها بدعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي تسخر بأوثان قريش واصنامها فورم من ذلك أنف أبي جهل ، وانتفخ سحره ، وجعلت عيناه تقدحان شررا وغيظا فعمد الى سمية فطعنها في قلبها فماتت وهي اول شهيدة في الاسلام ، وعمد الاثيم بعد ذلك الى ياسر فقتله.

وظل عمار تحت التعذيب حتى اعياه ، وأرهقه فعرضت عليه قريش

__________________

(١) كنز العمال ٦ / ٨٥ ، مجمع الزوائد ٩ / ٢٩٣

(٢) مسند احمد ١ / ٦٢

٢٦٤

سب النبي والعدول عن دينه فاجابهم على كره فعفوا عنه ، فانطلق الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبكي فجعل رسول الله يمسح عينيه ، وقال : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت ، وانزل الله تعالى فيه :

( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ. ) (١)

وملئت نفس عمار بالايمان بالله فكان الدين قطعة من طبعه ، وعنصرا مقوما لمزاجه ، وانزل الله فيه غير آية من القرآن كلها ثناء عليه وتمجيد له ، واشادة به ، وقد عناه تعالى بقوله : ( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ ) (٢) ونزلت فيه الآية الكريمة : ( أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) (٣) كما نزلت فى الثناء عليه وفى ذم الوليد الآية المباركة وهي قوله تعالى : ( أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ. ) (٤)

واهتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شأن عمار اهتماما بالغا فكان يرفع من شأنه ، ويشيد بذكره ، ويقدمه على غيره فقد رأى خالدا يغلظ له

__________________

(١) سورة النحل : آية ١٠٦ ذكر نزولها في عمار ابن سعد في طبقاته ٣ / ١٧٨ الواحدي في اسباب النزول صفحة ٢١٢ الطبري في تفسيره ١٤ / ١٢٢ وغيرهم

(٢) سورة الزمر : آية ٩ ذكر نزولها في عمار القرطبي في تفسيره ١ / ٢٣٩ وابن سعد في طبقاته ٣ / ١٧٨

(٣) سورة الانعام : آية ١٢٢ نص على نزولها في عمار السيوطى في تفسيره ٣ / ٤٣ ، وابن كثير في تفسيره ٢ / ١٧٢.

(٤) سورة القصص : آية ٦١ نص على نزولها في عمار والوليد الزمخشري في تفسيره ٢ / ٣٨٦ ، الواحدي في اسباب النزول صفحة ٢٥٥

٢٦٥

في القول فالتاع من ذلك وانبرى يقول : « من عادى عمارا عاداه الله ، ومن أبغض عمارا ابغضه الله. » (١) وجرت بينه وبين شخص مشادة فقال لعمار : سأعرض هذه العصا لأنفك ، فلما سمع ذلك رسول الله (ص) غضب واندفع يقول : « ما لهم ولعمار يدعوهم الى الجنة ، ويدعونه الى النار ، إن عمارا جلدة ما بين عيني وأنفى فاذا بلغ ذلك من الرجل فاجتنبوه » (٢) ويقول فيه : « ما خير عمار بين امرين الا اختار ارشدهما » (٣)

وظل عمار موضع عناية النبي وتبجيله وتقديره لما يرى فيه من الاخلاص والزهد فى الدنيا ، والحب للحق وقد شهد مع النبي بدرا وأحدا والمشاهد كلها ، وشارك فى بناء المسجد النبوي فكان المسلمون يحمل كل واحد منهم لبنة لبنة ، وهو يحمل لبنتين لبنتين ، وهو يقول : « نحن المسلمين نبتنى المساجد » وكان النبي يرجع عليه بعض قوله فيقول « المساجد » وشارك كذلك في حفر الخندق وكان يمسح التراب عنه ، وهكذا كان عمار فى طليعة أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ايمانه واخلاصه وعظيم بلائه وعنائه في سبيل الاسلام ، ولما انتقل النبي الى حضيرة القدس لازم أمير المؤمنين وكان متفانيا في حبه ، ولا يرى أحدا خليقا بالخلافة غيره ومن أجل ذلك تخلف عن بيعة أبي بكر واحتج عليه ، وقد تقدم بيان ذلك ولما آل الامر الى عثمان ، وسلك غير الجادة نقم منه عمار واشتد فى معارضته والانكار عليه ، وقد نكل به عثمان ، واعتدى عليه ، وقابله بافحش القول وأمره ، وكان ذلك في مواضع عدة وهي :

__________________

(١) مسند احمد ٤ / ٨٩

(٢) سيرة ابن هشام ٢ / ١١٤

(٣) سنن ابن ماجة ١ / ٦٦ مصابيح السنة ٢ / ٢٨٨

٢٦٦

١ ـ انه لما استأثر بالسفط ، وحلى به بعض نسائه انكر عليه أمير المؤمنين ، وايد عمار معارضته ، كما تقدم بيانه قال له عثمان : أعليّ يا بن المتكاء (١) تجترئ؟ واوعز الى شرطته بأخذه فأخذوه وأدخلوه عليه فضربه حتى غشي عليه ، وهو شيخ قد علاه الضعف وحمل الى منزل السيدة أم سلمة زوج النبي ، ولم يفق من شدة الضرب حتى فاتته صلاة الظهرين والمغرب ، فلما افاق توضأ وصلى العشاء ، وقال : الحمد لله ليس هذا اول يوم أوذينا فيه فى الله ، وغضبت من اجل ذلك السيدة عائشة فاخرجت شعرا من شعر رسول الله وثوبا من ثيابه ، ونعلا من نعاله ، ثم قالت ما اسرع ما تركتم سنة نبيكم ، وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد وغضب عثمان حتى لا يدري ما يقول ، ولا يعرف كيف يعتذر عن عمله؟ (٢)

٢ ـ ان أعلام الصحابة رفعوا مذكرة لعثمان ذكروا فيها احداثه ، ومخالفة سياسته للسنة ، وانهم يناجزونه إن لم يثب الى الرشاد ، ولم يغير خطته ، وقد دفع إليه المذكرة عمار ، فأخذها عثمان وقرأ صدرا منها فثار واندفع وهو مغيظ محنق فقال له :

ـ أعلي تقدم من بينهم؟؟!

ـ إني انصحهم لك

ـ كذبت يا ابن سمية

ـ أنا والله ابن سمية وابن ياسر

وأمر عثمان غلمانه فمدوا بيديه ورجليه ، ثم ضربه عثمان برجليه ، وهي

__________________

(١) المتكاء : العظيمة البطن ، والتي لا تمسك البول

(٢) الانساب ٥ / ٤٨

٢٦٧

في الخفين على مذاكيره فاصابه الفتق ، وكان ضعيفا فأغمي عليه (١)

٣ ـ ولما نفى عثمان أبا ذر صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى الربذة ، وتوفى فيها غريبا ، وجاء نعيه الى يثرب قال عثمان أمام جماعة من الصحابة :

« رحمه‌الله »

فاندفع عمار قائلا :

« نعم رحمه‌الله من كل أنفسنا .. »

فانتفخت اوداج عثمان ، وقال لعمار بافحش القول ، وأقساه :

« يا عاض أير أبيه ، أتراني ندمت على تسييره؟ »

وأمر غلمانه فدفعوا عمارا ، وأرهقوه ، كما أمر بنفيه الى الربذة ، فلما تهيأ للخروج أقبلت بنو مخزوم الى امير المؤمنين فسألوه ان يذاكر عثمان في شأنه ، فانطلق الامام إليه ، وقال له :

ـ اتق الله ، فانك سيرت رجلا صالحا من المسلمين فهلك في تسييرك ثم أنت الآن تريد ان تنفي نظيره؟ فثار عثمان وقال للامام :

ـ أنت احق بالنفي منه

ـ رم إن شئت ذلك

واجتمع المهاجرون فعذلوه ، ولاموه على ذلك فاستجاب لقولهم ، وعفا عن عمار (٢).

لقد بالغ عثمان في اضطهاد عمار وارهاقه ، فضربه اعنف الضرب وأقساه ، واغلظ له فى القول ، ولم يرع بلاءه فى الاسلام ، ونصرته للنبي

__________________

(١) الانساب ٥ / ٤٩ ، العقد الفريد ٢ / ٢٧٢

(٢) الانساب ٥ / ٥٤ ، اليعقوبي ٢ / ١٥٠

٢٦٨

في جميع المواقف والمشاهد ، واهتمام النبي بشأنه ، وتقديمه على غيره ، وانه جلدة ما بين عينيه ـ على حد تعبيره ـ كل ذلك لم يلحظه فاعتدى عليه ، ونقم منه لأنه أمره بالعدل ، ودعاه الى الحق الواضح ، والى الاعتدال في سياسته.

الى هنا ينتهي بنا الحديث عن تنكيله باعلام الصحابة من الذين سبقوا الى الاسلام ، وجاهدوا اعظم الجهاد في سبيله ، وهم ـ من دون شك ـ لم يكونوا مدفوعين بدافع الرغبة في الحكم أو الامرة على بعض الامصار والاقاليم الاسلامية ، او الظفر بالمال ، كل ذلك لم يدفعهم الى الصيحة عليه ، وإنما رأوا أنه احدث من الاعمال ما ليست في كتاب الله ، ولا في سنة نبيه ، رأوا حقا يطفأ ، وباطلا يحيى ، وصادقا يكذب ، وأثرة بغير تقى ـ كما يقول أبو ذر ـ من اجل ذلك اعلنوا نقمتهم وانكارهم عليه ، وطالبوه بأن يسلك الجادة الواضحة ، ويسير على الطريق القويم ، ويتبع هدي النبي ويقتفى اثره.

الافتراء على الامام الحسن

وافترى بعض المؤرخين على الامام الحسن فزعم أنه كان عثماني الهوى وانه يكن له في دخائل نفسه أعمق الحب ومزيد الولاء والاخلاص ، وقد حزن عليه بعد مقتله حزنا بالغا ، وقد ذهب الى ذلك الدكتور طه حسين قال ما نصه :

« ولم يفارق الحسن حزنه على عثمان ، فكان عثمانيا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ، إلا انه لم يسل سيفا للثأر بعثمان لأنه لم ير ذلك حقا له ، وربما غلا في عثمانيته حتى قال لأبيه ذات يوم ما لا يحب

٢٦٩

فقد روى الرواة أن عليا مر بابنه الحسن وهو يتوضأ فقال له : اسبغ الوضوء فاجابه الحسن بهذه الكلمة المرة : « لقد قتلتم بالأمس رجلا كان يسبغ الوضوء » فلم يزد علي على ان قال : لقد اطال الله حزنك على عثمان. » (١)

إن السياسة التي انتهجها عثمان ، والاحداث الجسام التي صدرت منه لم تترك له أي حميم أو صديق في البلاد فقد سخط عليه عموم المسلمين ، وخافوه على دينهم ، فكانت عائشة تخرج ثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتقول للداخلين إليها : هذا ثوب رسول الله لم يبل ، وعثمان قد أبلى سنته ، ونقم عليه حتى طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف ، وغيرهم ممن اغدق عليهم بالنعم والاموال ، ولم يعد له أي صديق أو مدافع عنه سوى بني أمية وآل ابي معيط ، وبعد هذه الكراهية الشاملة فى نفوس المسلمين لعثمان كيف يكون الامام الحسن ـ الذي يحمل هدي جده الرسول ـ عثمانيا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ـ كما يقول طه حسين ـ لقد كان الحسن من جملة الناقمين على عثمان والناكرين عليه لأنه رأى ما لاقاه أصحاب أبيه كأبي ذر وعمار ، وابن مسعود من الاضطهاد والارهاق ، وشاهد ما لاقاه أبوه بالذات من الاستهانة بحقه ، والاعتداء عليه حينما خرج لتوديع ابي ذر وبعد هذا كيف يكون الحسن عثمانيا ، او مغاليا في حبه له؟!!

وأي مظهر من مظاهر الكآبة والحزن بدت من الامام الحسن على عثمان بعد مقتله ، أفي قيامه بالدور البطولي في بعث الجماهير ، واخراجها الى ساحة الحرب في موقعة الجمل التي اثيرت للطلب بدم عثمان ، وقد كان معه في كثير من تلك المواقف عمار بن ياسر ، وكان ينال من عثمان

__________________

(١) الفتنة الكبرى ٢ / ١٩٣ ـ ١٩٤

٢٧٠

ويتهمه في دينه ، ويقول فيه : قتلنا عثمان يوم قتلناه وهو كافر (١) وكان الحسن يسنده ، ويدعم أقواله ، أو أنه ظهر منه الاسى على عثمان في حرب صفين الذي ثأر فيه معاوية للطلب بدم عثمان ، ففى أي موقف أظهر الامام حزنه وأساه على عثمان؟؟

وأما الرواية التي استند إليها الدكتور طه حسين لتدعيم قوله ، فقد رواها البلاذري عن المدائني (٢) الذي عرف بالنصب والعداء لأهل البيت وافتعال الروايات الحسنة في بني أميّة (٣) والغرض من وضع هذه الرواية أن يضفي على عثمان ثوب القداسة ، ويجعل له رصيدا من الحب في نفوس صلحاء المسلمين ، ومضافا لضعف سندها فيرد عليها بعض المؤاخذات وهي

١ ـ إن الامام امير المؤمنين قد تلطف في خطابه مع ولده الحسن ، وبين له الحكم الشرعي ، ولم يواجهه بلاذع القول فما الذي دعا الحسن ان يقابله بتلك الكلمات المرة ، وهو وارث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشبيهه في سمو أخلاقه وكريم طباعه.

٢ ـ إن الامام الحسن كان من جملة المدافعين عن عثمان ـ كما يقولون ـ وكان ذلك بأمر من أبيه فكيف يتهمه بقتل عثمان؟

٣ ـ إن الامام لم يكن له أي دخل في قتل عثمان ، ولا في التآمر عليه ، وإنما قتلته أعماله ، وأجهزت عليه الاحداث التي ارتكبها ، فكيف يتهم الحسن أباه بقتله؟

وبعد الاحاطة بما ذكرنا لا تبقى للرواية اي قيمة في سندها ولا في

__________________

(١) التمهيد للباقلانى صفحة ٢٢٠

(٢) الانساب ٥ / ٨١

(٣) الطبري ٤ / ٢٤٠

٢٧١

دلالتها ، والغريب من الدكتور أن يعتمد عليها ، ولا يمعن النظر فيها وفى امثالها من الروايات التي تعمد وضعها ذوو النزعات الاموية وأجراء السلطة

الثورة

وأخذ المسلمون يتحدثون في أنديتهم عن مظالم عثمان ، وعن احداثه واستبداده بشئونهم ، وتبديده لثرواتهم ، وتنكيله بأخيار الصحابة وأعلام الدين ، وتلاعب مروان وبني أميّة بشئون الدولة ، وغير ذلك من الاحداث الجسام ، وقد انتشر التذمر ، وعم السخط والاستياء جميع انحاء البلاد ، فاجتمع أهل الحل والعقد ، وذوو السابقة في الاسلام فكاتبوا الامصار يستنجدون بهم ، ويطلبون منهم العون ، وارسال القوات المسلحة للقيام بقلب الحكم القائم وهذا نص مذكرتهم لأهل مصر :

« من المهاجرين الاولين وبقية الشورى ، الى من بمصر من الصحابة والتابعين ، أما بعد : ان تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول الله قبل أن يسلبها أهلها ، فان كتاب الله قد بدل ، وسنة رسوله قد غيرت ، واحكام الخليفتين قد بدلت ، فننشد الله من قرأ كتابنا من بقية اصحاب رسول الله والتابعين باحسان إلا أقبل إلينا ، وأخذ الحق لنا ، وأعطاناه ، فأقبلوا إلينا ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، وأقيموا الحق على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيكم ، وفارقكم عليه الخلفاء ، غلبنا على حقنا ، واستولى على فيئنا ، وحيل بيننا وبين أمرنا ، وكانت الخلافة بعد نبينا خلافة نبوة ورحمة ، وهي اليوم ملك عضوض ، من غلب على شيء أكله .. » (١)

وحفلت هذه الرسالة بذكر الاحداث الخطيرة التي ابتلي بها العالم

__________________

(١) الامامة والسياسة ١ / ٣٥

٢٧٢

الاسلامي من جراء الحكم القائم وهي :

١ ـ تبديل كتاب الله ، والغاء أحكامه العادلة

٢ ـ تغيير سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واهمال ما اثر عنه في عالم الحكم والسياسة

٣ ـ الاعراض عن سيرة الشيخين

٤ ـ استئثار السلطة بالفيء وصرفه على مصالحها الخاصة

٥ ـ صرف الخلافة الاسلامية عن مفاهيمها البناءة ، وطاقاتها الثرة الى ملك عضوض لا يعتني باهداف الامة ، ولا يرع مصالحها

وقد اوجبت هذه الاحداث زعزعة الكيان الاسلامي ، وتهديد الحياة الاسلامية بالدمار ، وقد واصل الناقمون على عثمان جهادهم فبعثوا برسالة أخرى الى المرابطين في الثغور من اصحاب النبي يطلبون منهم القدوم الى يثرب لإقامة الخلافة ، وهذا نص رسالتهم :

« انكم انما خرجتم ان تجاهدوا في سبيل الله عز وجل ، تطلبون دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فان دين محمد قد أفسده خليفتكم فاقيموه .. »

واستجابت الامصار الاسلامية لهذا النداء فارسلت وفودها الى يثرب للاطلاع على الاوضاع الراهنة ودراسة الموقف ، وما يحتاجه من علاج ، والوفود التي أقبلت هي :

أ ـ الوفد المصري

وأرسلت مصر وفدا عدده اربع مائة شخص ، وقيل اكثر من ذلك بقيادة محمد بن أبي بكر ، وعبد الرحمن بن عديس البلوي

ب ـ الوفد الكوفي

وأرسلت الكوفة وفدها بقيادة الزعيم مالك الاشتر ، وزيد بن صوحان

٢٧٣

العبدي ، وزياد بن النضر الحارثي ، وعبد الله بن الاصم العامري ، وعلى الجميع عمرو بن الاهثم

ج ـ الوفد البصري

ونزح من البصرة حكيم بن جبلة في مائة رجل ، ولحقه بعد ذلك خمسون ، وفيهم ذريح بن عباد العبدي وبشر بن شريح القيسي ، وابن المحرش وغيرهم من الاعيان والوجوه

ورحبت الصحابة بالوفود ، واستقبلتها بمزيد من الابتهاج والشكر وأخذت تذكر لها احداث عثمان التي لا تتفق بظاهرها وواقعها مع الدين وحرضوها على الايقاع به والاجهاز عليه لتستريح الامة من حكمه.

ورأى الوفد المصري ـ قبل كل شيء ـ أن يرفع مذكرة الى عثمان يدعوه فيها الى التوبة والاستقامة في سياسته فكتبوا ذلك ، وهذا نصه :

« أما بعد فاعلم ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فالله الله ثم الله الله ، فانك على دنيا فاستتم معها آخرة ، ولا تنسى نصيبك من الآخرة ، فلا تسوغ لك الدنيا ، واعلم انا لله ولله نغضب ، وفي الله نرضى وإنا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبة مصرحة أو ضلالة مجلحة مبلجة (١) فهذه مقالتنا لك وقضيتنا إليك والله عذيرنا منك والسلام .. » (٢)

واضطرب عثمان من الامر ، وقرأ الرسالة بامعان ، وأحاط الثوار به فبادر إليه المغيرة وطلب منه الاذن بالكلام معهم ، فاذن له وانطلق

__________________

(١) مجلحة. من جلح على الشيء اقدم عليه اقداما شديدا ، مبلجة : واضحة بينة

(٢) الانساب ٥ / ٦٤ ـ ٦٥ ، تاريخ الطبري ٥ / ١١١ ـ ١١٢

٢٧٤

إليهم فلما رأوه صاحوا به

« يا أعور وراءك! يا فاجر وراءك! يا فاسق وراءك! »

فرجع خائبا ودعا عثمان عمرو بن العاص ، وطلب منه ان يكلم القوم فمضى إليهم وسلم فما ردوا عليه‌السلام ، وقالوا له :

« ارجع يا عدو الله! ارجع يا ابن النابغة! فلست عندنا بأمين ولا مأمون » وعلم عثمان ان لا ملجأ له إلا الامام أمير المؤمنين فاستغاث به ، وطلب منه ان يدعو القوم الى كتاب الله وسنة نبيه ، فأجابه الامام الى ذلك ولكن شرط عليه ان يعطيه عهد الله وميثاقه على الوفاء بما قال فأعطاه ذلك ومضى الامام الى القوم فلما رأوه قالوا له :

ـ وراءك!

ـ لا. بل امامي ، تعطون كتاب الله ، وتعتبون من كل ما سخطتم وعرض عليهم ما بذله عثمان لهم

ـ أتضمن ذلك عنه؟

ـ نعم

ـ رضينا

وأقبل وجوههم وأشرافهم مع أمير المؤمنين حتى دخلوا على عثمان ، فعاتبوه على اعماله فاعتبهم من كل شيء ، وطلبوا منه أن يكتب لهم كتابا يلتزم فيه على نفسه بالعمل على كتاب الله وسنة نبيه وتوفير الفيء للمسلمين فأجابهم الى ذلك ، وكتب لهم ما نصه :

« هذا كتاب من عبد الله عثمان أمير المؤمنين لمن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين أن لكم أن اعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه ، يعطى المحروم ويؤمن الخائف ، ويرد المنفي ، ولا تجمر فى البعوث. ويوفر الفيء ، وعلي

٢٧٥

ابن أبي طالب ضمين للمؤمنين والمسلمين ، على عثمان الوفاء بما في هذا الكتاب »

وشهد فيه كل من الزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعد ابن مالك أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، وزيد بن ثابت ، وسهل بن حنيف ، وأبو ايوب خالد بن زيد ، وكتب ذلك في ذي القعدة سنة خمس وثلاثين من الهجرة ، وأخذ القوم الكتاب وانصرفوا (١) ، وطلب منه الامام أمير المؤمنين ان يخرج الى الناس ، ويعلن لهم أنه قد استجاب لهم ونفذ طلباتهم ، ففعل عثمان ذلك ، واعطى الناس عهدا ان يسير فيهم على كتاب الله وسنة نبيه ، وأن يوفر لهم الفيء ، ولا يؤثر به أحدا من أرحامه ، وذوي قرباه ، ورجع المصريون الى بلادهم ، ودخل مروان على عثمان فقال له :

« تكلم واعلم الناس ان اهل مصر قد رجعوا ، وان ما بلغهم عن امامهم كان باطلا ، فان خطبتك تسير في البلاد قبل ان يتحلب الناس عليك من امصارهم فيأتيك من لا تستطيع دفعه .. »

لقد دعاه ان يعلن الكذب ، ويقول غير الحق فامتنع من اجابته ـ اولا ـ ولكنه انصاع أخيرا لقوله فخرج ، واعتلى أعواد المنبر وقال :

« أما بعد : إن هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن امامهم أمر فلما تيقنوا أنه باطل ما بلغهم رجعوا الى بلادهم ... »

واندفع المسلمون الى الانكار عليه فناداه عمرو بن العاص

« اتّق الله يا عثمان فانك قد ركبت نهابير (٢) وركبناها معك فتب الى الله نتب معك .. »

__________________

(١) الانساب

(٢) النهابير : المهالك.

٢٧٦

فزجره عثمان وصاح به :

« وإنك هناك يا ابن النابغة؟ قملت والله جبتك منذ تركتك من العمل؟ .. »

وارتفعت من جميع جنبات المسجد أصوات الانكار وهي ذات لهجة واحدة

« اتق الله يا عثمان اتق الله. »

فانهارت قواه ، ولم يجد بدا من أن يعلن التوبة على هذا الإفك ، ونزل عن المنبر ومضى الى منزله (١)

وهذه البادرة تدل على ضعفه ، وهزال ارادته ، وتلاعب مروان فى شئونه ، وسيطرته على جميع اموره ، وأنه لا قدرة له على مخالفته ، والتغلب عليه.

استنجاده بالامصار

ولما ازداد نشاط الثوار ، وحاصروه فى داره استنجد بمعاوية ، واستغاث به ، وكتب إليه هذه الرسالة :

« أما بعد : فان اهل المدينة قد كفروا ، وخلعوا الطاعة ، ونكثوا البيعة ، فابعث إلي من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول .. » (٢) وتربص معاوية حينما اطلع على الكتاب فلم يندفع الى نصرته واجابته وتنكر للأيادي التي اسداها عليه ، وعلى اسرته.

ولما ابطأ معاوية على عثمان ، ولم يقم بنجدته بعث عثمان رسالة الى يزيد بن اسد بن كرز وإلى أهل الشام يستفزهم ويحثهم على الخروج

__________________

(١) تأريخ الطبري ٥ / ١١٠ ، الانساب ٥ / ٧٤

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٥٢ الكامل لابن الاثير ٥ / ٦٧

٢٧٧

لنصرته ، ولما انتهى إليهم الكتاب نفروا للخروج تحت قيادة يزيد القسري ولكن معاوية أمره أن يقيم بذي خشب ، ولا يتجاوزه ، فأقام الجيش هناك حتى قتل عثمان ، والسبب في ذلك هو أن يتخذ من قتله وسيلة للمطالبة بدمه لتؤل الخلافة الى بني أميّة ، إن معاوية ممن دبر الحيلة في قتله ، والى ذلك يشير أبو أيوب الانصاري بقوله لمعاوية : « إن الذي تربص بعثمان ، وثبط يزيد بن اسد عن نصرته لأنت. »

وعلى اي حال فان عثمان قد كتب رسائل متعددة الى الامصار ، والى من حضر الموسم في مكة يستنجد بهم ويطلب منهم القيام بنجدته.

يوم الدار

ورجع الوفد المصري من اثناء الطريق لما تبينت له المكيدة الخطيرة التي دبرت ضده ، فاحاطوا بقصر عثمان وهم يهتفون بسقوطه ، ويطالبونه بالاستقالة من منصبه ، وخرج إليهم مروان فشتمهم ونال منهم قائلا :

« ما شأنكم؟ كأنكم قد جئتم لنهب؟ شاهت الوجوه. تريدون ان تنزعوا ملكنا من ايدينا اخرجوا عنا. »

فألهبت هذه الكلمات نار الثورة في نفوسهم فاحاطوا بعثمان ، وعزموا على قتله فاستنجد بالامام فاقبل إليه وقد نقلت له كلمات مروان فقال (ع) :

« أما رضيت من مروان ، ولا رضى منك إلا بتحرفك عن دينك وعن عقلك ، مثل جمل الضعينة يقاد حيث يسار به ، والله ما مروان بذي رأي فى دينه ، ولا فى نفسه ، وأيم الله لأراه سيوردك ثم لا يصدرك وما أنا بعائد بعد مقامى هذا لمعاتبتك ، اذهبت شرفك ، وغلبت على امرك .. »

إن الذي اجهز على عثمان وقتله هو مروان وبنو أميّة ، وقد صرحت

٢٧٨

بذلك نائلة زوج عثمان فقالت للامويين :

« أنتم والله قاتلوه وميتمو أطفاله .. »

ونصحت زوجها بأن لا يطيع مروان تقول له : « انك متى اطعت مروان قتلك .. »

إن عثمان يحمل قسطا ليس بالقليل فى الجناية على نفسه لأنه لما علم أنه ضعيف الارادة ، ولا قابلية له للتغلب على الاحداث وان بني أمية قد استولوا على اموره ، وهو يعلم من دون شك كراهية المسلمين لهم ، فكان اللازم عليه أن يترك الامر لغيره ويستقيل من منصبه ، ولا ينكب الامة بقتله. وأيقن الثوار أنه لا مجال لإصلاحه لأنه إن ابرم أمرا نقضه مروان فاصروا عليه أن يخلع نفسه عن الخلافة فأبى وقال : « انما هي ثوب البسنيها الله. » وفي الحقيقة انها ثوب كساه بها عمر ، وألبسها اياه عبد الرحمن بن عوف.

وعلى أي حال فقد اندلعت نيران الثورة ، واشتد أوارها حتى بلغ السيل الزبى فقد صمم الثوار على قتله بعد إبائه عن الاستقالة من منصبه فمنع عنه طلحة الماء ، واستولى على بيوت الاموال ، واحاط الثوار بقصره وتسلق بعضهم عليه الدار فجعلوا يرمونه بالحجارة ، ويبالغون في سبه وشتمه وقذفه

موقف الامام الحسن

وزعم غير واحد من المؤرخين ان الامام الحسن وقف يوم الدار مدافعا عن عثمان بايعاز من أبيه ، وقد أبلى في ذلك بلاء حسنا حتى خضب بدمائه ، وهذا القول ـ من دون شك ـ من موضوعات الامويين

٢٧٩

ومن مفترياتهم فان الامام الحسن (ع) وسائر البقية الصالحة من المهاجرين والانصار كانوا في معزل عن عثمان بل ومن الناقمين عليه ، ولم يحضر من يدافع عنه فى حصاره سوى بني أمية وبعض المنتفعين منهم ولو كان له أي رصيد في المجتمع لما تمكن الثائرون من قتله.

لقد اتفقت كلمة الصحابة على خذلانه ، ولم تظهر منهم بادرة من بوادر المساعدة والمؤازرة له بل كانوا يمجدون الثورة ، ويبعثون روح الحماس في نفوس الثوار ، وبعد هذا فكيف يمكن ان يخرق الامام الحسن الاجماع ويمضي للدفاع عنه وعلى أى حال فقد تعرض المحقق الاميني الى تزييف تلك الاخبار ، وعدها في سلسلة الموضوعات (١)

الاجهاز على عثمان

واجهز الثوار على عثمان ، وقد تولى قتله جماعة في طليعتهم محمد ابن ابي بكر فكان من أحقدهم عليه فقد شهر السيف في وجهه وقال له :

ـ على أي دين أنت يا نعثل؟

ـ على دين الاسلام ولست بنعثل ، ولكني أمير المؤمنين

ـ غيرت كتاب الله

ـ كتاب الله بيني وبينكم

وأخذ بلحيته فسحبه الى الارض وهو يقول : إنا لا يقبل منا يوم القيامة أن نقول : ربنا إنا أطعنا ساداتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل.

وهجم القوم عليه فاردوه قتيلا يتخبط بدمائه ، وتركوه جثة

__________________

(١) الغدير ٩ / ٢١٨ ـ ٢٤٧

٢٨٠