حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل - ج ١

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل - ج ١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٢

قريش ، ولا في السابقة ولا فى القرابة .. »

والتفت إليهم فقال :

« أفلا أخبركم عن أنفسكم؟! »

« قل : فانا لو استعفيناك لم تعفنا .. »

وأخذنا يدلي برأيه فيهم ، ويخبر عن نفسياتهم واتجاهاتهم واحدا بعد واحد فقال في الزبير :

« أما أنت يا زبير ، فوعق لقس (١) مؤمن الرضا كافر الغضب ، يوما انسان ، ويوما شيطان ، ولعلها لو أفضت إليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مد من شعير!! أفرأيت إن أفضت إليك ، فليت شعرى من يكون للناس يوم تكون شيطانا ، ومن يكون يوم تغضب!! وما كان الله ليجمع لك أمر هذه الامة ، وأنت على هذه الصفة. »

ومع علمه بنفسية الزبير ، وأنه يوم إنسان ، ويوم شيطان وأنه مبتل بالبخل والشح ويلاطم بالبطحاء على مد من شعير كيف يرشحه للخلافة ، ويجعله من أعضاء الشورى؟؟!!

وأقبل على طلحة فقال له :

« أقول أم أسكت؟. »

فزجره طلحة وقال له :

« إنك لا تقول من الخير شيئا .. »

« أما إني أعرفك منذ اصيبت إصبعك يوم أحد وائيا (٢) بالذي حدث لك ، ولقد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساخطا عليك بالكلمة

__________________

(١) الوعق : الضجر المتبرم ، واللقس من لا يستقيم على وجه

(٢) وائيا : غاضبا

١٨١

التي قلتها يوم انزلت آية الحجاب ... »

وإذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد توفى وهو ساخط على طلحة كيف يرشحه للخلافة الاسلامية التي هي نيابة عن الرسول؟ كما أنه يناقض ما قاله أخيرا في أعضاء الشورى من أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات وهو راض عنهم ، يقول الجاحظ : « لو قال لعمر قائل : أنت قلت : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات وهو راض عن الستة فكيف تقول الآن لطلحة : إنه مات عليه‌السلام ساخطا عليك للكلمة التي قلتها ، لكان قد رماه بمشاقصه (١) ولكن من الذي كان يجسر على عمر أن يقول له ما دون هذا فكيف هذا »

وأقبل على سعد بن ابي وقاص فقال له :

« إنما أنت صاحب مقنب (٢) من هذه المقانب ، تقاتل به ، وصاحب قنص وقوس ، وأسهم ، وما زهرة والخلافة وأمور الناس!! »

فسعد بن أبي وقاص ـ حسب فراسة عمر ـ رجل حرب ، وقتال ، وصاحب قنص وقوس فلا يصلح للخلافة ، وليس خليقا بها هو وأسرته فكيف يرشحه عمر لها ويجعله من أعضاء الشورى الذين لهم الأهلية لتسلم قيادة الحكم؟!

والتفت الى عبد الرحمن بن عوف فقال له :

« وأما أنت يا عبد الرحمن ، فلو وزن نصف إيمان المسلمين بايمانك لرجح إيمانك به ، ولكن ليس يصلح هذا الامر لمن فيه ضعف كضعفك وما زهرة وهذا الامر!. »

__________________

(١) المشاقص : جمع مشقص وهو نصل السهم اذا كان طويلا

(٢) المقنب : جماعة الخيل

١٨٢

ان عبد الرحمن رجل إيمان وتقوى ـ حسب رأي عمر ـ ومن إيمانه الذي اضفاه عليه الخليفة أنه عدل عن انتخاب العترة الطاهرة ، وسلم قيادة الامة ، ومقدراتها بأيدى الامويين خصوم الاسلام واعداء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم ان الايمان بذاته ـ كما يقول عمر ـ لا يصلح لترشيح صاحبه للخلافة ما لم تكن له دراية تامة بشئون المجتمع ، وخبرة وافرة بما نحتاج إليه الامة في جميع مجالاتها ، وعبد الرحمن ـ حسب اعتراف عمر ـ رجل كيف لا يليق للخلافة فكيف يرشحه لها ويجعله من أعضاء الشورى البارزين؟! وأقبل على أمير المؤمنين فقال له :

« لله أنت ، لو لا دعابة فيك! أما والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح ، والمحجة البيضاء .. »

ومتى كانت لأمير المؤمنين عليه‌السلام الدعابة والمزاح ، وهو الذي ما الف في حياته لغير الجد في القول والعمل ، وعلى تقدير اتصافه بها ، فهى من خلق الأنبياء ومن خلق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالاخص ، فقد ورد أنه كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يداعب الرجل ليسره بذلك.

وهل من الحيطة على الاسلام ، والمحافظة على وحدة الامة ، ورعاية صالحها أن يفتل عمر حبل الشورى ويجعل أمير المؤمنين عليه‌السلام أحد أعضائها ، وهو ـ حسب اعترافه ـ لو تولى زمام الحكم لحمل المسلمين على الحق الواضح والمحجة البيضاء ، ولسار بهم سيرا سجحا لا يكلم خشاشه ، ولا يتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلا رويا فضفاضا تطفح ضفتاه ، ولا يترنم جانباه ، ولأصدرهم بطانا ، ونصح لهم سرا واعلانا ـ كما تقول بضعة الرسول ووديعته ـ ويقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إن ولوا عليا فهاديا مهديا » (١)

__________________

(١) الاستيعاب ٣ / ٥

١٨٣

ان الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام لو استولى على زمام السلطة لوفر للمسلمين ما يحتاجون إليه من خيرات الحياة وأوجد لهم الفرص المتساوية ، وصان المثل الاسلامية من التدهور والانحطاط ، فهل من الانصاف أن تصرف الخلافة عنه وتجعل شورى بأسلوب يؤدي الى فوز الامويين بالحكم؟!!

وأقبل عمر على عثمان فقال له :

« هيها إليك!! كأني بك قد قلدتك قريش هذا الامر لحبها إياك فحملت بني أمية ، وبني أبي معيط على رقاب الناس ، وآثرتهم بالفىء فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب ، فذبحوك على فراشك ذبحا. والله لئن فعلوا لتفعلن ، ولئن فعلت ليفعلن ، ثم أخذ بناصيته ، فقال : فاذا كان ذلك فاذكر قولي .. » (١)

ومع علمه بأنه يحمل بنى أمية ، وبنى أبي معيط على رقاب الناس ، ويؤثرهم بفىء المسلمين كيف يرشحه للخلافة ، ويمكنه من رقاب المسلمين ويعرض الامة للويلات والخطوب!!

وبعد ما أدلى بحديثه التفت الى الجمهور قائلا :

إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات وهو راض عن هؤلاء الستة من قريش ، وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم واحدا منهم .. »

ثم قال للمرشحين : « احضروا معكم من شيوخ الانصار ، وليس لهم من أمركم شيء ، واحضروا معكم الحسن بن علي ، وعبد الله بن عباس فان لهما قرابة ، وارجو لكم البركة فى حضورهما وليس لهما من

__________________

(١) شرح النهج لابن ابي الحديد ١ / ١٨٥ ـ ١٨٦

١٨٤

أمركم شيء .. » (١)

وما هى البركة التي تحصل لأعضاء الشورى بحضور الامام الحسن ، وعبد الله بن عباس ، وهما لا يملكان من الامر شيئا ، قد جردهما من الادلاء بالرأي ، كما جرد شيوخ الانصار من ذلك ، ولم يسمح لأحد منهم أن يبدي برأيه ، ثم التفت الى أبي طلحة الانصاري (٢) فقال له :

« يا أبا طلحة ، إن الله أعز الاسلام بكم فاختر خمسين رجلا من الانصار ، فالزم هؤلاء النفر بامضاء الامر وتعجيله .. »

والتفت الى المقداد بن الاسود فاوصاه بمثل ذلك ثم قال :

« اذا اتفق خمسة ، وأبى واحد منهم فاضربوا عنقه ، وان اتفق أربعة وأبى اثنان فاضربوا عنقيهما ، وان اتفق ثلاثة منهم على رحل ، ورضي ثلاثة منهم برجل آخر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس .. »

وخرج الامام أمير المؤمنين المظلوم المهتضم ، وهو ملتاع حزين من الشورى العمرية قد أيس من الامر فالتقى بعمه العباس فبادره قائلا :

« يا عم لقد عدلت عنا .. »

__________________

(١) الامامة والسياسة ١ / ٢٤

(٢) ابو طلحة الانصارى هو زيد بن سهل النجار ، شهد مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدرا ، ولما آخى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين اصحابه آخى بينه وبين ابى عبيدة الجراح ، وكان ابو طلحة من الرماة المعدودين ، ومن الشجعان المشهورين ، قتل يوم حنين عشرين رجلا ، وتزوج بام انس بن مالك ، توفى بالمدينة سنة احدى وثلاثين ، وكان عمره سبعين عاما ، وقد صلى عليه عثمان بن عفان ، اسد الغابة ٥ / ٣٣٤

١٨٥

ومن أعلمك بذلك؟! »

« لقد قرن بي عثمان .. وقال : كونوا مع الاكثر ، ثم قال : كونوا مع عبد الرحمن ، وسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن ، وعبد الرحمن صهر لعثمان ، وهم لا يختلفون فاما أن يوليها عبد الرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن .. » (١)

لقد كشف عليه‌السلام عن المؤامرة التي دبرها الخليفة الراحل ضده فقد فتل حبل الشورى بهذا الاسلوب ليصرف الامر عنه ، وقد كوت هذه الصور المؤلمة قلبه فراح يقول بعد سنين :

« حتى اذا مضى لسبيله ، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم ، فيا لله وللشورى متى اعترض الريب في مع الاول منهم حتى صرت أقرن الى هذه النظائر .. »

أجل والله ، متى اعترض الريب فيه مع أبي بكر حتى صار يقرن بطلحة وعثمان وعبد الرحمن بن عوف فهل فى هؤلاء من هو كفؤ للامام فى دينه وعلمه ، وجهاده ، وسابقته للاسلام ، وإنما استجاب عليه‌السلام لئن يكون من أعضاء الشورى مع وجود هذه المفارقات بينه ، وبين القوم ، فقد بينه في حديثه مع عبد الله بن عباس ، وخلاصته أن عمر قد أهله للخلافة وكان من قبل يقول : لا تجتمع النبوة والخلافة في بيت واحد فاراد أن يظهر أن أقواله تناقض أفعاله ، ولهذا السبب الوثيق انضم مع أعضاء الشورى

نظرة في الشورى :

وتواجه الشورى العمرية عدة من المؤاخذات فقد ذكر الناقدون لها

__________________

(١) الطبري ٥ / ٣٥

١٨٦

أنها لم تستند الى الاساليب الصحيحة ، ولم تبتن على الاسس الوثيقة ، وانها لم تنشد بأي حال صالح الامة ، ولم تهدف الى حماية المجتمع وصيانته من القلق والاضطراب ، وإنما الغرض منها صرف الخلافة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وحرمان الامة من التمتع فى ظل حكمه العادل ، فهي لم تكن شورى واقعية ، وإنما كانت شورى صورية مشفوعة بالعصبية والاحقاد ، والى القراء بعض تلك النقود التي ترد عليها :

١ ـ إن حقيقة الشورى ان تشترك الامة بجميع هيآتها فى الانتخاب والاختيار في جو تتوفر فيه الحريات العامة لجميع الناخبين ، والشورى العمرية قد فقدت هذه العناصر فقد حيل بين الشعب والاختيار فان عمر منح الاختيار الى ستة اشخاص ومن الطبيعي أنهم لا يملكون إلا آراءهم الخاصة فلا يمثلون الامة ولا يحكون ارادتها على أنه ضيق الدائرة فجعل المناط بآراء الثلاثة الذين ينضم إليهم عبد الرحمن بن عوف ، وجعل آراءهم تعادل آراء بقية الشعوب الاسلامية ، وهذا شكل من اشكال التزكية التي تستعملها بعض الحكومات التي تفرض ارادتها على شعوبها ، لقد تصادمت هذه الشورى مع إرادة الشعوب الاسلامية ، وتنافت مع حرياتهم ، وقد فرضت عليهم فرضا.

٢ ـ إن هذه الشورى قد ضمت اكثر العناصر المعادية لأمير المؤمنين عليه‌السلام والحاقدة عليه ففيها طلحة التيمي وهو من أسرة أبي بكر الذي نافس الامام على الخلافة ، وكانت بين تيم والامام أشد المنافرة والخصومة وضمت الشورى عبد الرحمن بن عوف ، وهو صهر عثمان ، بالاضافة الى أنه كان حقودا على امير المؤمنين عليه‌السلام فهو من جملة الذين حملوا الحطب في بيعة أبي بكر لحرق بيت الامام ، وضمت الشورى سعد بن أبي

١٨٧

وقاص ، وكان يحقد على الامام من أجل اخواله الامويين فان أمه حمنة بنت سفيان بن أميّة ، وقد أباد الامام صناديدهم في سبيل الاسلام فكانت نفس سعد مترعة بالحقد والعداء على الامام من أجلهم ، ولما بايع المسلمون الامام كان سعد في طليعة المتخلفين عن بيعته ، واحتوت الشورى على عثمان وهو شيخ الاسرة الاموية التي عرفت بالنصب لآل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد ألب عمر هذه القوى كلها ضد الامام ، لئلا تؤل الخلافة إليه ، وقد تحدث عليه‌السلام بعد ان ولى الامر عن ضغن أعضاء الشورى وحقدهم عليه فقال :

« لكني اسففت إذ أسفوا ، وطرت إذ طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه ، ومال الآخر لصهره مع هن وهن »

لقد ألب عمر عن عمد جميع أحقاد قريش ، واضغانها ضد أخي رسول الله ووصيه وباب مدينة علمه استجابة لأحقاد قريش التي وترها الامام في سبيل الاسلام.

٣ ـ لقد عمد عمر الى اقصاء جميع العناصر الموالية للامام فلم يجعل لها نصيبا في الشورى ولم يرشح أحدا من الانصار وهم الذين آووا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصروه لأنه كان لهم هوى وميل للامام عليه‌السلام كما لم يجعل نصيبا فيها لعمار بن ياسر الذي هو أحد المؤسسين في يناء الاسلام ، وكذلك أقصى أبا ذر ، والمقداد وأمثالهم من أعلام الاسلام لأنهم كانوا شيعة لعلي ، وقصر الشورى على القوى المنحرفة عن الامام والمعادية له.

٤ ـ ومن عجيب أمر الشورى التي وضع برامجها عمر أنه يشهد بحق أعضائها ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات وهو راض عنهم ثم يأمر

١٨٨

بضرب أعناقهم إن تأخروا عن انتخاب أحدهم فهل ان ذلك موجب للخروج عن الدين ، والمروق من الاسلام حتى تباح دماؤهم!!؟

٥ ـ ومن غريب أمر هذه الشورى ان عمر جعل الترجيح للكفة التي تضم عبد الرحمن فيما اذا اختلف أعضاؤها ، وغض طرفه عن الجماعة التي تضم أمير المؤمنين عليه‌السلام فلم يعرها أي اهتمام بل الزمها بالخضوع لرأي عبد الرحمن بن عوف ، وتقديمه على أمير المؤمنين وهو صاحب المواهب والعبقريات الذي لا ند له فى علمه وورعه وتقواه فكيف يساويه بغيره ، والله تعالى يقول : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) أف لك يا زمان ، وتعسا لك يا دهر أيكون أمير المؤمنين ندا لأعضاء الشورى ، ويرجح عليه عبد الرحمن ، ولكنها الاحقاد والعصبيات التي أترعت نفوسهم بها قد أنستهم المقاييس ، وصدتهم عن جادة العدل.

٦ ـ ومما يؤخذ على هذه الشورى انها أوجدت التنافس بين أعضائها فقد رأى كل واحد منهم أنه كفؤ للآخر ، ولم يكونوا قبلها على هذا الرأي فقد كان سعد تبعا لعبد الرحمن ، وعبد الرحمن تبعا لعثمان ، والزبير من شيعة الامام ، وهو القائل على عهد عمر : « والله لو مات عمر بايعت عليا » ولكن الشورى قد نفخت فيه روح الطموح ففارق أمير المؤمنين وخرج عليه يوم الجمل ، وقد تولدت في نفوسهم بسبب الشورى الاطماع والاهواء ، ورجا الخلافة وتطلبها من ليس أهلا لها حتى ضجت البلاد بالفتن والاختلاف ، واضطربت كلمة المسلمين ، وتصدع شملهم ، وقد صرح بهذا الواقع المرير معاوية بن ابي سفيان في حديثه مع ابن حصين الذي أوفده زياد لمقابلته ، فقد قال له معاوية :

ـ بلغنى ان عندك ذهنا ، وعقلا فاخبرني عن شيء أسألك عنه؟

١٨٩

ـ سلنى عما بدا لك :

ـ أخبرني ما الذي شتت أمر المسلمين ، وملأهم وخالف بينهم؟؟

ـ قتل الناس عثمان

ـ ما صنعت شيئا

ـ مسير علي إليك وقتاله اياك

ـ ما صنعت شيئا

ـ مسير طلحة ، والزبير ، وعائشة ، وقتال علي إياهم!!

ـ ما صنعت شيئا

ـ ما عندي غير هذا يا أمير المؤمنين

ـ أنا أخبرك انه لم يشتت بين المسلمين ، ولا فرق أهواءهم إلا الشورى التي جعلها عمر الى ستة نفر ، وذلك ان الله بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون فعمل بما أمره الله به ، ثم قبضه الله إليه ، وقدم أبا بكر للصلاة فرضوه لأمر دنياهم إذ رضيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمر دينهم ، فعمل بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسار بسيرته حتى قبضه الله ، واستخلف عمر فعمل بمثل سيرته ، ثم جعلها شورى بين ستة نفر فلم يكن رجل منهم إلا رجاها لنفسه ، ورجاها له قومه ، وتطلعت الى ذلك نفسه ، ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك خلاف .. » (١)

هذه بعض آفات الشورى التي فتحت باب الفوضى والنزاع بين المسلمين ، وتركت الطلقاء وأبناءهم يتسابقون الى ميدان الخلافة الاسلامية وينزون على منابر المسلمين ، ويستأثرون بالفيء وينكلون باخيار المسلمين

__________________

(١) العقد الفريد ٣ / ٧٣ ـ ٧٤

١٩٠

وصلحائهم فانا لله وإنا إليه راجعون.

الانتخاب :

ولاقى عمر ربه ، ومضى الى مقره الأخير (١) فاحاط البوليس بأعضاء الشورى ، وألزمهم بالاجتماع لينفذوا وصية عمر ، ويختاروا للمسلمين حاكما منهم ، فاجتمع المرشحون في بيت المال ، وقيل في بيت مسرور بن محرمة وأشرف على الانتخاب الامام الحسن عليه‌السلام وعبد الله بن عباس ، وازدلف عمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة الى محل الانتخاب فجلسا في الباب ، فعرف قصدهما سعد بن أبي وقاص فنهرهما وقال :

« تريدان ان تقولا : حضرنا ، وكنا في أهل الشورى؟! »

وتداول الاعضاء الحديث فيما بينهم عمن هو أحق بالامر وأولى به وأكثرهم قدرة وقابلية على ادارة شئون الحكم ، وانبرى إليهم أمير المؤمنين عليه‌السلام فأقام عليهم الحجة ، وحذرهم مغبة ما يحدث في البلاد من الفتن ان استجابوا لنزعاتهم ولم يؤثروا الحق فقال عليه‌السلام :

« لم يسرع أحد قبلي الى دعوة حق ، وصلة رحم ، وعائدة كرم فاسمعوا قولي ، وعوا منطقى ، عسى أن تروا هذا الامر من بعد هذا اليوم

__________________

(١) توفى عمر يوم الاربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة ، وكانت ولايته عشر سنين وستة اشهر ، واربع ليال وهو ابن ثلاث وستين سنة جاء ذلك في مروج الذهب ٢ / ١٩٨ وكان قبل الاسلام من الفقر والبؤس بمكان ، يقول عمرو بن العاص : « والله لقد رايت عمر واباه على كل واحد منهما عباءة قطوانية ، لا تجاوز مأبض ركبتيه ، وعلى رقبته حزمة حطب » ذكر ذلك ابن ابي الحديد في شرح النهج ١ / ١٧٥

١٩١

تنتضى فيه السيوف ، وتخان فيه العهود ، حتى يكون بعضكم أئمة لأهل الضلال وشيعة لأهل الجهالة .. » (١)

ولم يعوا منطق الامام ، ولم يتأملوا فيه ، وانطلقوا مدفوعين وراء أطماعهم وأهوائهم ، وكشف الزمن بعد حين صدق تنبؤ الامام ، فقد انتضوا السيوف ، وخانوا العهود ليصلوا الى صولجان الحكم والسلطان وصار بعضهم أئمة لأهل الضلالة ، وشيعة لأهل الجهالة

وعلى اي حال ، فقد كثر الجدال فى الموضوع ، وانفضت الجلسة ولم تنته على محصل ، وكان الناس ينتظرون بفارغ الصبر النتيجة الحاسمة التي تسفر عن اجتماعهم ، فلم يظفروا بشيء ، وانعقد الاجتماع مرة أخرى ولكنه لم يسفر عن اي نتيجة وأخذت فترة الزمن التي حددها عمر تضيق فأشرف أبو طلحة الانصارى على الاعضاء وقال لهم :

« لا والذي نفس عمر بيده!. لا أزيدكم على الايام الثلاثة التي أمرتم .. »

واقترب اليوم الثالث ، فانعقد الاجتماع فانبرى طلحة ، ووهب حقه لعثمان وانما فعل ذلك لعلمه بانحرافه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فاراد يقوي جانبه ، ويضعف جانب الامام ، وانطلق الزبير فوهب حقه للامام لأنه رأى الامام قد ضعف جانبه ، واندفع سعد فوهب حقه لعبد الرحمن ابن عوف لأنه ابن عمه (٢) أما عبد الرحمن الذي أناط به عمر أمر الشورى وجعل رأيه هو الفيصل فكان يرى في نفسه الضعف وعدم القدرة على ادارة شئون الحكم ، فاتجه الى ترشيح غيره ، وكانت ميوله مع عثمان ،

__________________

(١) نهج البلاغة محمد عبده ٢ / ٣١

(٢) شرح النهج لابن ابي الحديد ١ / ١٨٩

١٩٢

واستشار القرشيين فزهدوه في أمير المؤمنين وحببوا له عثمان ، ودفعوه الى اختياره وانتخابه.

وحلت الساعة الرهيبة التي تغير فيها مجرى التأريخ فقال عبد الرحمن لابن اخته :

« يا مسور .. اذهب فادع لي عليا وعثمان.

« بأيهما أبدأ يا خال؟ »

« بأيهما شئت. »

فانطلق مسور ، فاحضر الامام ، وعثمان وحضر المهاجرون والانصار وازدحمت الجماهير في الجامع لتأخذ القرار الحاسم فقام عبد الرحمن وقال :

« أشيروا علي في هذين ـ واشار الى سليل هاشم ، وشيخ الامويين ـ » فانبرى إليه الطيب ابن الطيب عمار بن ياسر فقال له :

« ان أردت ألا يختلف الناس فبايع عليا .. »

وأشار عليه بالرأي الصائب الذي يصون الامة من الاختلاف ، ويحميها من النزاع والانشقاق ، وانطلق المقداد فأيّد مقالة عمار ، فقال :

« صدق عمار .. وإن بايعت عليا ، سمعنا واطعنا .. »

فقام عبد الله بن ابي سرح أحد أعلام الامويين الذين ناهضوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وناجزوه فخاطب ابن عوف فقال له :

« إن أردت ألا تختلف قريش فبايع عثمان .. »

واندفع عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي فقال :

« صدق إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا .. »

وانبرى عمار بن ياسر فشتم ابن أبي سرح وقال له :

« متى كنت تنصح للإسلام؟؟! »

١٩٣

وصدق عمار فمتى كان ابن أبي سرح يقيم وقارا للاسلام ، او ينصح المسلمين ، ويهديهم الى طريق الحق ، وقد كان من اعدى الناس الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولما فتح مكة أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتله ولو كان متعلقا باستار الكعبة (١) ، أمثل هذا الوغد يتدخل في شئون المسلمين؟ ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون.

وتكلم بنو هاشم وبنو أميّة ، واحتدم الجدال بين الاسرتين ، فانطلق ابن الاسلام البار عمار بن ياسر فقال :

« أيها الناس إن الله اكرمكم بنبيه ، وأعزكم بدينه ، فالى متى تصرفون هذا الامر عن اهل بيت نبيكم!!؟ »

لقد كان كلام عمار حافلا بمنطق الاسلام الذي وعاه قلبه فان قريشا وسائر العرب إنما اعزها الله بدينه وأسعدها بنبيه ، فهو مصدر عزهم وشرفهم ومجدهم ، فليس من الانصاف ولا من العدل أن يصرفوا الامر عن أهله وعترته ويضعونه تارة في تيم واخرى في عدي ، ويجهدون الآن ليضعونه في قبيلة اخرى وانبرى إليه رجل من مخزوم فقطع عليه كلامه قائلا :

« لقد عدوت طورك يا ابن سمية .. وما أنت وتأمير قريش لأنفسها!!؟ » وقد أترعت نفس الرجل بروح الجاهلية فراح يندد بابن سمية ، ويرى أنه عدا طوره ، وتجاوز حده لتدخله فى شئون قريش ، وأي حق لقريش في هذا الامر؟! وهي التي ناهضت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وناجزته ، ووقفت في وجه دعوته ، وإنما الامر للمسلمين يشترك فيه ابن سمية ـ الذي أعزه الله بدينه ـ وسائر الضعفاء الذين ساندوا الرسول ، وحاموا عن دعوته فهؤلاء لهم الرأى ولهم الحكم وليس لطغاة قريش أي رأي

__________________

(١) الاستيعاب ٢ / ٣٧٥

١٩٤

لو كان هناك منطق أو حساب

وعلى أي حال فبعد ما كثر النزاع بين القوى الاسلامية الواعية ، وبين القوى المنحرفة عنه التفت سعد الى عبد الرحمن فقال له :

« يا عبد الرحمن .. افرغ من امرك قبل أن يفتتن الناس .. » »

فاسرع عبد الرحمن الى الامام :

« هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه ، وفعل ابي بكر وعمر؟ :

فرمقه الامام بطرفه واجابه بمنطق الايمان ، ومنطق الاحرار قائلا « بل على كتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأيي .. »

ولا يتوقع من الامام عليه‌السلام غير ذلك فان مصدر التشريع في الاسلام كتاب الله وسنة نبيه فعلى ضوئهما تسير الدولة ، وتعالج مشاكل الرعية ، وليس فعل ابي بكر وعمر من مصادر التشريع ، وقد نهج أبو بكر في سياسته منهجا خاصا لم يوافقه عمر فيه ويرى انه كان بعيدا عن سنن التشريع فقد كان لأبي بكر رأيه الخاص في خالد بن الوليد حينما قتل مالك بن نويرة (١) وزنى بزوجته فقد رأى أبو بكر أن خالدا تأول فأخطأ

__________________

(١) مالك بن نويرة بن حمزة التميمي ، اليربوعى ، يكنى أبا حنظلة ، ويلقب « الجفول » كان شاعرا فارسا شريفا ، معدودا فى قومه من فرسان بني يربوع في الجاهلية ، وكان من ارداف الملوك ، استعمله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوثاقته ونباهته على صدقات قومه ، فلما بلغه وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امسك عن الصدقة ، وفرقها في قومه ، ولعله عمل فى ذلك بالسنة التي نصت على توزيع الزكاة على فقراء المنطقة فان فضل منها شيء يحمل الى بيت المال وإلا فلا ، ويقول فى ذلك

فقلت خذوا اموالكم غير خائف

ولا ناظر فيما يجيء من الغد

فان قام بالدين المخوف قائم

اطعنا وقلنا الدين دين محمد ـ

١٩٥

فلا يستحق أن يقام عليه الحد ، ويرى عمر أنه لا بد من اقامة الحد عليه ولا مجال لاعتذار ابي بكر ، وسلك أبو بكر في سياسته المالية منهجا اقرب الى المساواة من سياسة عمر التي انتهجت في كثير من شئونها منهج الطبقية وتقديم بعض المسلمين على بعض في العطاء ، وحرم عمر المتعتين وهما حسب اعترافه كانتا مشروعتين في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولعمر فتواه المتعارضة فى ميراث الجدة وغيرها فعلى أي منهج منها يسير ابن أبي طالب رائد العدالة الاجتماعية الكبرى في الارض ، ولو كان عليه‌السلام يروم الأمرة والسلطان لالتزم لابن عوف بشرطه ، وبعد ذلك يسير برأيه الخاص في الحكم ، ويعتقل المعارضين له ولكنه عليه‌السلام أبى ذلك وحجزه إيمانه الوثيق أن يقر شيئا لا يراه مشروعا.

ولما يئس ابن عوف من الامام انبرى الى عثمان فشرط عليه ذلك فابدأ عثمان الموافقة لأي شرط وأرسل يده فصفق عبد الرحمن بكفه عليها وقال :

« اللهم. إني قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان .. »

وعلا الضجيج والصخب بين الناس ، فقد فاز عميد الامويين بالحكم وآلت إليه امور الخلافة ، وانطلق أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال لابن عوف :

« والله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه ،

__________________

ـ وهذا الشعر يدل على إيمانه وتمسكه الوثيق بدينه ، وقد زحف إليه خالد بن الوليد ، ولم يؤمر بقتاله فغشيه في الليل ، وبعد اداء فريضة الصلاة خف بجيشه الى الاستيلاء على اسلحتهم ، وامساكهم ، وساقوهم اسرى الى خالد ، وفيهم زوجة مالك ليلى بنت المنهال ، وهى من اشهر نساء العرب فى جمالها ، فافتتن بها خالد ، وتجادل بالكلام مع مالك فقال له خالد : إني قاتلك : قال له مالك : ـ

١٩٦

دق الله بينكما عطر منشم » (١)

والتفت الى القرشيين فقال لهم :

« ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبر جميل ، والله المستعان على ما تصفون. »

واندفع ابن عوف الى الامام يهدده

« يا علي ، لا تجعل على نفسك سبيلا »

وغادر الامام المسجد وهو يقول :

« سيبلغ الكتاب أجله. »

وانطلق الطيب ابن الطيب عمار بن ياسر ، وهو يخاطب ابن عوف :

__________________

ـ أو بذلك امرك صاحبك ـ يعنى ابا بكر ـ قال والله إني قاتلك ، وكان عبد الله ابن عمر وابو قتادة الانصاري الى جانبه فعذلاه عن قتله فأبى وقال : لا اقالنى الله إن لم اقتله ، وامر ضرار بن الازور بضرب عنقه ، فالتفت مالك الى زوجته ، وقال لخالد : هذه التي قتلتني ، فقال له خالد : بل الله قتلك برجوعك عن الاسلام ، فرد عليه مالك قائلا : إني على الاسلام ، وقام ضرار فقتله صبرا وجعل خالد رأسه اثفية لقدر ، وقبض على زوجته وبنى بها في تلك الليلة ، ودرأ ابو بكر عنه الحد بدعوى انه تأول فأخطأ ، يراجع فى تفصيل الحادث المؤسف النص والاجتهاد للامام شرف الدين.

(١) منشم : ـ بكسر الشين ـ اسم امراة كانت بمكة عطارة ، وكانت خزاعة وجرهم اذا ارادوا القتال تطيبوا من طيبها ، وكانوا اذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فيما بينهم ، فكان يقال اشأم من عطر منشم ، صحاح الجوهرى ٥ / ٢٠٤١ وقد استجاب الله دعاء الامام فكانت بينهما اشد المنافرة والخصومة واوصى ابن عوف ان لا يصلي عليه عثمان.

١٩٧

« يا عبد الرحمن .. أما والله لقد تركته ، وانه من الذين يقضون بالحق ، وبه كانوا يعدلون .. »

وخرج المقداد ، وهو مثقل الخطا ويقول :

« تالله ما رأيت مثل ما أتى الى أهل هذا البيت بعد نبيهم!! واعجبا لقريش!! لقد تركت رجلا ما اقول ولا أعلم أن أحدا أقضى بالعدل ولا اعلم ولا اتقى منه أما لو أجد أعوانا .. »

وقطع عليه عبد الرحمن كلامه فقال له :

« اتق الله يا مقداد ، فاني خائف عليك الفتنة .. » (١)

واشرف الامام الحسن على الانتخاب فراعه ما رأى من انقياد القوم نحو الاغراض الشخصية ، والمطامع ، واستبان له أن المهاجرين من قريش يحملون في نفوسهم حقدا وضغنا على أبيه ، وان الدين لعق على ألسنتهم يحوطونه حيث ما درّت معايشهم ، وقد تركت تلكم الصور التي اجتازت عليه في نفسه أشد الاستياء والتذمر ، وعرفته ان القوم يسيرون وراء مصالحهم وأطماعهم ، ولا شأن لهم بالمصلحة العامة ، وهنا نودع الامام الحسن لنلتقي معه في عهد الخليفة الثالث.

__________________

(١) شرح النهج لابن ابي الحديد ١ / ١٩٤

١٩٨

فى عهد عثمان

١٩٩
٢٠٠