حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل - ج ١

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل - ج ١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٢

وغشيتها سحب من الكدر واللوعة ، على ضياع حقها ، وعلى فقد أبيها ، فقد حدثوا أنها لم تر ضاحكة ، ولا داخلها السرور بعده حتى لحقت به فكانت لا تفكر الا به ، ولا تذكر اسمه إلا مقرونا بالتفجع والآلام.

وكانت تزور جدثه الطاهر فتطوف به وهي حيرى فتبل أديمه المقدس بدموع سخية ، وتلقي بنفسها على القبر وهي ذاهلة اللب ، مصدوعة الجسم ، منهدة الكيان فتأخذ من ثرى القبر قبضة فتضعها على عينيها ووجهها وتطيل من شمها وتقبيلها وهي تبكي أمر البكاء وترفع صوتها الحزين النبرات قائلة :

ما ذا على من شم تربة أحمد

أن لا يشم مدى الزمان غواليا

صبت علي مصائب لو أنها

صبت على الأيام صرن لياليا (١)

ينظر الحسن عليه‌السلام الى هذا الحزن البهيم الذي حل بأمه الرؤم فينصدع قلبه ، ويذرف من الدموع مهما ساعدته الجفون ، يرى الحسن وهو في غضون الصبا لوعة المصائب التي دهت أمه الحنون حتى وهت قوتها ولوّن الاسى وجهها كانها صورة جثمان قد فارقته الحياة ، فيغرق في الدموع والشؤون.

أي حزن هذا الذي حل بابنة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وريحانته

__________________

(١) نور الابصار ص ٤٢ ، وذكر ابن شهرآشوب فى المناقب ٢ / ١٣١ زيادة على هذين البيتين وهي :

قل للمغيب تحت اطباق الثرى

إن كنت تسمع صرختى وندائيا

قد كنت ذات حمى بظل محمد

لا اختشي ضيما وكان جماليا

فاليوم اخضع للذليل واتقي

ضيمي وادفع ظالمي بردائيا

فاذا بكت قمرية في ليلها

شجنا على غصن بكيت صباحيا

فلأجعلن الحزن بعدك مؤنسي

ولأجعلن الدمع فيك وشاحيا

١٦١

حتى ضربوا بها المثل في الحزن ، وعدوها من البكائين الخمس (١) الذين مثلوا الحزن والاسى على مسرح الحياة؟؟

وبلغ من عظيم حزنها ان أنس بن مالك استأذن عليها ليعزيها بمصابها الجليل فاذنت له وكان ممن وسد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقره الأخير فقالت.

« أنس بن مالك »

« نعم ، يا بنت رسول الله »

فقدمت له سؤالا مقرونا بالتفجع والآلام

« كيف طابت نفوسكم أن تحثوا التراب على رسول الله؟. » (٢)

وخرج أنس وقلبه كاد أن يقضي حسرة ، قد علا صوته بالبكاء ، وكانت سلام الله عليها تطالب أمير المؤمنين بالقميص الذي غسل فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاذا رأته شمته ووضعته على عينيها ، ويذوب قلبها من الم الحزن حتى يغشى عليها.

وهكذا بقيت بضعة الرسول بعد أبيها قد اضناها الحزن ، وزاد في احزانها جحد القوم حقها وسلبهم لتراثها ، وبقي الحسن يشاهد ما منيت به أمه من الكوارث والخطوب وهو مصدوع الجسم ، قد ذبلت نضارة صباه لا يعرف في نهاره إلا شجرة الأراك حيث يمضي مع أمه ليساعدها في النوح ويخفف عنها اللوعة والحسرة ويستمر معها طيلة النهار في حزن وكمد فاذا اوشكت الشمس أن تغرب تقدمها مع أبيه وأخيه قافلين الى الدار فيجد الوحشة والهم قد خيما عليها ،

__________________

(١) البكاءون الخمس : آدم ، ويعقوب ، ويوسف ، وعلي بن الحسين ، وفاطمة ، ذكر ذلك المجلسي فى البحار ١٠ / ٤٤

(٢) سنن ابن ماجة ص ١٨

١٦٢

وقلع القوم الشجرة التي كانت تستظل بها فكانت تبكي مع ولديها في حر الشمس ، فقام أمير المؤمنين فبنى لها بيتا أسماه بيت الاحزان فكانت تجلس فيه وتبكي على أبيها وتناجيه وتبثه الشكوى.

وأحاطت بها الآلام ، وفتكت بها الامراض فلازمت الفراش ، ولم تتمكن من النهوض والقيام وبادرت نساء المسلمين يعدنها فقلن لها :

« كيف اصبحت من علتك يا بنت رسول الله؟. »

فرمقتهن بطرفها ، واعربت لهن عما تكنه في نفسها من الاسى قائلة « أجدني كارهة لدنياكن ، مسرورة لفراقكن ، القى الله ورسوله بحسرات منكن فما حفظ لي الحق ، ولا رعيت منى الذمة ، ولا قبلت الوصية ، ولا عرفت الحرمة. » (١)

وعدنها بعض نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلن لها :

« يا بنت رسول الله ... صيرى لنا فى حضور غسلك حظا ... »

فأبت وقالت :

« اتردن أن تقلن في ، كما قلتن في أمي ، لا حاجة لي فى حضوركن »

الى الرفيق الاعلى

وبرح المرض بابنة الرسول ، وانهك الحزن جسمها النحيل ، واضر الأسى بقلبها الرقيق المعذب ، حتى مشى إليها الموت وهي في فجر الصبا وروعة الشباب ... فوا لهفتاه على حبيبة النبيّ وريحانته ، لقد دنا إليها الموت سريعا ، وحان موعد اللقاء بينها وبين أبيها الذي اشتاقت إليه وتطلبت لقياه بفارغ الصبر.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ٩٥.

١٦٣

ولما علمت بدنو الاجل المحتوم منها استدعت امير المؤمنين فاوصته بوصيتها ، وأهم ما فيها أن يواري جثمانها فى غلس الليل البهيم ، وأن لا يصلي عليها ، ولا يقوم على قبرها أحد من الذين ظلموها وجحدوا حقها لأنهم اعداؤها وأعداء أبيها ـ على حد تعبيرها ـ وانصرف الامام وهو غارق في البكاء ، قد استجاب لأحاسيس نفسه الولهى الذي لم يترك الزمن فيها فراغا لغير الاسى والحزن.

واحبت ان يصنع لها نعش يواري جثمانها المقدس لان الناس كانوا يضعون الميت على سرير تبدو فيه جثته فكرهت ذلك ، وما احبت أن ينظر إليها أحد فاستدعت اسماء بنت عميس (١) واخبرتها بما ترومه فعملت لها سريرا يستر من فيه قد شاهدته يوم كانت في الحبشة ، فلما نظرت إليه تبسمت وهي اول ابتسامة شوهدت لها بعد وفاة أبيها (٢)

__________________

(١) اسماء بنت عميس بن سعيد بن الحارث الخثعمي ، وامها هند بنت عوف ابن زهير من كنانة ، اسلمت قبل دخول رسول الله (ص) دار الارقم بمكة ، وبايعت وهاجرت الى ارض الحبشة مع زوجها جعفر بن ابى طالب. وقالت يا رسول الله ، ان رجالا يفخرون علينا أن لسنا من المهاجرين الاولين ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بل لكم هجرتان هاجرتم الى ارض الحبشة ونحن مرهنون بمكة ، ثم هاجرتم بعد ذلك. روت عن النبي (ص) ستين حديثا ، وكان عمر بن الخطاب يسألها عن تفسير المنام ، وفرض لها الف درهم ، ولما استشهد زوجها تزوجها ابو بكر فولدت له الطيب محمد ولما مات ابو بكر تزوجها امير المؤمنين (ع) وهي اخت ميمونة بنت الحارث زوج النبي (ص) واخت أمّ الفضل زوج العباس ، ترجمت في اسد الغابة ٥ / ٣٩٥ وتهذيب التهذيب والاستيعاب ، واعلام النساء وطبقات ابن سعد وغيرها.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ / ١٦٢

١٦٤

وفي اليوم الاخير من حياتها كانت فرحة مسرورة لعلمها باللحاق بابيها الذي بشرها انها تكون اول أهل بيته لحوقا به ، وعمدت لولديها فغسلت لهما ، وأمرتهما ، بالخروج لزيارة قبر جدهما فخرجا وهما يفكران في الأمر هل ان أمهما قد انهكتها العلة ، واضر الداء بها حتى لا تستطيع ان تمضي الى بيت الاحزان الذي الفته؟! او انها تريد أن تبكي في هذا اليوم فى ثويها؟! كيف البكاء وشيوخ المدينة قد منعوها من البكاء؟! وغرقا فى بحر من الهموم وتيار من الهواجس.

والتفتت الى سلمى بنت عميس (١) وكانت تتولى خدمتها وتمريضها فقالت لها.

« يا أماه »

« نعم يا حبيبة رسول الله »

« اسكبي لي غسلا »

فانبرت وأتت لها بما طلبته من الماء فاغتسلت فيه ، وهي على احسن ما تكون ، وقالت لها :

« ايتني بثيابي الجدد »

فناولتها ثيابها ، وهتفت بها ثانية « اجعلي فراشي وسط البيت »

فذهلت المرأة وقامت تتعثر باذيالها فصنعت لها ذلك فاضطجعت على فراشها ، واستقبلت القبلة والتفتت الى سلمى قائلة :

« يا أمه ... اني مقبوضة الآن ، وقد تطهرت ، فلا يكشفني احد » (٢)

__________________

(١) سلمى بنت عميس اخت اسماء وهي احدى الاخوات اللاتي قال فيهن رسول الله (ص). الاخوات مؤمنات ، وهي زوج حمزة بن عبد المطلب جاء ذلك في اسد الغابة ٥ / ٤٧٩

(٢) طبقات ابن سعد ٨ / ١٧ وفى مسند الامام احمد بن حنبل ٦ / ٤٦١ وفي

١٦٥

وقبضت في وقتها وقد انطوت في ذلك اليوم الخالد في دنيا الاحزان اروع صفحة من صفحات الفضيلة والطهر والعفاف ، وانقطع بموتها آخر من كان في دنيا الوجود من نسل رسول الله

وقفل الحسنان راجعين الى الدار فنظرا فاذا ليس فيها أمهم فبادرا الى سلمى فقالا.

« سلمى اين امنا؟ »

فبادرت إليهما ، وقد احاطت بها رعشة الذهول والارتباك ، وغامت عيناها بالدموع فقالت :

« يا سيدى إن أمكما قد ماتت ... فاخبرا بذلك أباكما .. »

وا شرفا على الموت بهذا النبأ المريع فبادرا الى المسجد ، وقد علا منهما البكاء فاستقبلهما المسلمون ، قائلين :

« ما يبكيكما يا بني رسول الله؟ لعلكما نظرتما الى موقف جدكما فبكيتما شوقا إليه؟ »

فاجابا بصوت مشفوع بالاسى والعبرات

« أو ليس قد ماتت أمنا فاطمة »

وسلبا شعور المسلمين بهذا النبأ المؤلم ، وتركا الالم يحز في قلوبهم لانهم فقدوا بضعة نبيهم واعز ابنائه وبناته عنده ، وهم لم يحفظوا مكانتها ولم يؤدوا حقها ، وهرعوا من كل جانب الى دار الامام ليفوزوا بتشييع بقية النبوة ، القديسة الطاهرة ، وازدحموا على بيت الامام ، وقد علاهم الندم والاسى على عدم قيامهم بمراعاة بضعة نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي برّ بدينهم ودنياهم.

وامر الامام سلمان الفارسي أن يصرف الناس فخرج سلمان وصرفهم

__________________

ذخائر العقبى ص ٥٣ ان التي شهدت وفاة الصديقة هي أمّ سلمة لا سلمى بنت عميس.

١٦٦

واقبلت عائشة فارادت الدخول الى بيت الامام فمنعتها اسماء وقالت لها :

« لقد عهدت الي فاطمة أن لا يدخل عليها أحد .. » (١)

وقام الامام الثاكل الحزين فغسل الجسد الطاهر وطيبه بالحنوط ، وادرجه في الاكفان ودعا باطفالها الذين لم ينتهلوا من حنان امهم فالقوا عليها نظرة الوداع ، وقد علا منهم الصراخ والعويل ، وبعد الفراغ من ذلك انتظر الهزيع الاخير من الليل فلما حل خرج مع حفنة من الرجال وهم يحملون الجثمان المقدس الى مقره الاخير ، ولم يخبر امير المؤمنين احدا من الناس سوى الصفوة من اصحابه تنفيذا لوصيتها (٢) وحفر (ع) لها قبرا في البقيع على ما قيل (٣) ووسدها فيه واهال عليها التراب ، ولما انصرف من كان معه من المشيعين وقف على حافة القبر ونار الحزن قد لسعت قلبه ، فجعل يناجى الرسول ، ويؤبن زهراءه بكلمات تنم عن قلب افعم بالآلام والحسرات.

__________________

(١) اسد الغابة ٥ / ٥٢٤ ، كنز العمال ٧ / ١١٣

(٢) ذكر ذلك شراح البخاري من المجلد الثامن ص ١٥٧ وفي مستدر الحاكم ٣ / ١٦٢ عن عائشة قالت : دفنت فاطمة بنت رسول الله (ص) ليلا ودفنها على (ع) ولم يشعر ابو بكر حتى دفنت وصلى عليها علي ، ويوجد هذا الحديث في مسند احمد ١ / ٦ و٩ وفى صحيح مسلم ٢ / ٧٢ وفي تاريخ الطبرى ٣ / ٢١٢ وفي سنن البيهقي ٦ / ٣٠٠ وفي مشكل الآثار للطحاوي وذكره ابن كثير فى تاريخه ٥ / ٢٨٥ وقال فى ج ٦ / ٣٣٣ لم تزل فاطمة تبغضه مدة حياتها ، وفى السيرة الحلبية ٣ / ٣٩٠ قال الواقدي : ثبت عندنا ان عليا كرم الله وجهه دفنها رضي الله عنها وصلى عليها ومعه العباس والفضل ولم يعلموا بها احدا.

(٣) البحار ١٠ / ٥٢ وجاء فيه ان ابن بابويه يذهب الى انها دفنت في بيتها وذهب شيخنا ابو جعفر الطوسي الى انها دفنت اما فى دارها او فى الروضة.

١٦٧

« السلام عليك يا رسول الله ، عنى وعن ابنتك النازلة في جوارك ، والسريعة اللحاق بك ... قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبرى ، ورق عنها تجلدي ... الا أن في التأسي بعظيم فرقتك ، وفادح مصيبتك موضع تعز فلقد وسدتك في ملحودة قبرك ، وفاضت بين نحرى وصدرى نفسك ... إنا لله وإنا إليه راجعون ، لقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة ، أما حزني فسرمد وأما ليلى فمسهد (١) الى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم ، وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك على هضمها فاحفها السؤال (٢) واستخبرها الحال ... هذا ولم يطل العهد ، ولم يخل منك الذكر. والسلام عليكما سلام مودع لا قال ولا سئم (٣) فان انصرف فلا عن ملالة ، وان اقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين .. » (٤)

__________________

(١) الليل المسهد : الذي ينقضي بالسهر

(٢) الاحفاء بالسؤال : الاستقصاء ، ويطلب سلام الله عليه من النبيّ ان يكثر من سؤال بضعته لتخبره بما جرى عليها من الخطوب والكوارث والآلام التي تجرعتها من صحابته.

(٣) القالى : المبغض ، والسئم ماخوذ من السامة وهى ملال الشيء

(٤) شرح النهج محمد عبده ٢ / ٢٠٧ ـ ٢٠٨ واختلف فى تأريخ وفاتها ففي طبقات ابن سعد ٨ / ١٨ انها توفيت بعد وفاة ابيها (ص) بثلاثة اشهر ، وكان عمرها يوم وفاتها عشرين سنة ، وفي مستدرك الحاكم ٣ / ١٦٢ انها توفيت بعد وفاة ابيها بثمانية اشهر ، وقيل لم تمكث إلاّ شهرين ، وكان عمرها الشريف احدى وعشرين سنة ، وفي البحار ١٠ / ٦٠ انها توفيت بعد ابيها بخمسة وسبعين يوما ، وقيل باربعين يوما وكان عمرها ثمانى عشر سنة وشهرين نقله عن السيد المرتضى علم الهدى وذكر اقوالا أخر.

١٦٨

واعلن الامام (ع) بهذه المناجاة الحزينة عن تظافر الأمة على هضم وديعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الوقت الذي لم يطل فيه غيابه ، ولم ينقطع ذكره ويطلب منه أن يستقصي في السؤال من بضعته لتخبره بما جرى عليها بعده من الشؤون والشجون ، وتعرفه بما لاقته من الظلم والاذى والاضطهاد يصغي الامام الحسن عليه‌السلام الى هذه المناجاة الحزينة من أبيه فتلم به آلام مبرحة ، ويحف به حزن مرهق ، وتضاعف حزنه وشجاه حينما رأى أعز ما في الحياة عنده أمه الرءوم قد عاشت في هذه الدنيا وعمرها كعمر الزهور ، وفاجأها الموت وهي في شبابها الغض الاهاب ، وقد حملت على الآلة الحدباء فى غلس الليل البهيم ولم يحضر أحد من المسلمين تشييعها عدا نفر قليل ، وهي بضعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وريحانته ، ووديعته في امته واعز من أحب من أبنائه وبناته ، وقد ذاق من هذه الكوارث وهو فى دوره الباكر مرارة الحياة ، وصار قلبه موطنا للهموم ، ومركزا للاحزان والشجون.

اعتزال الامام

وانصرف امير المؤمنين عليه‌السلام بعد أن ودع بضعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الثرى ، وهو يبكي أمر البكاء ، وعاد الى البيت وهو كئيب حزين ، ينظر الى اطفاله وهم يندبون امهم ويبكون على فادح المصاب ، فتهيج أحزانه ، وتزداد آلامه ، ويشاهد حقه وتراثه فيرى الرجال قد تناهبوه فتلم به الكوارث والخطوب ، فآثر عليه‌السلام العزلة ، واحب الخلود الى السكون في داره ، وقد اعتزل عليه‌السلام عن الناس فصار جليس بيته ، لا يجتمع بالناس ، ولا يجتمعون به قد اعرض عن القوم ، واعرضوا عنه ، لا يراجعهم ، ولا يراجعونه ، ولا يشار كونه فى جميع الامور اللهم إلا إذا حلت في ناديهم مشكلة لا يعرفون جوابها ، ولا يهتدون لحلها ، فزعوا إليه ليكشف لهم الستار عنها ، وكان عليه‌السلام تارة يتولى جواب ذلك

١٦٩

بنفسه ، واخرى يحيله الى ولده الحسن للتدليل على فضله ومواهبه ، فمن ذلك ما حدث به الرواة ان اعرابيا سأل أبا بكر فقال له :

« إني اصبت بيض نعام فشويته وأكلته ، وانا محرم فما يجب علي؟. »

فتحير ابو بكر ولم يطق جوابا ، واحال الجواب الى عمر فتحير أيضا ، واحال الجواب الى عبد الرحمن فعجز عنه ، وفزعوا جميعا الى باب مدينة علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليهديهم الى الجواب ، ووجه إليه الاعرابي السؤال السالف فقال (ع) :

« سل أي الغلامين شئت ـ واشار الى الحسن والحسين ـ »

ووجه الاعرابي سؤاله الى الامام الحسن فقال (ع) له

ـ ألك إبل؟

ـ نعم

ـ فاعمد الى ما أكلت من البيض نوقا فاضر بهن فى الفحول ، فما ينتج منها ، اهده الى بيت الله العتيق ، الذي حججت إليه .. »

والتفت إليه أمير المؤمنين

« يا بني. إن من النوق السلوب ، وما يزلق (١) »

فاجابه الحسن عن اشكاله.

« يا ابة. إن يكن من النوق السلوب ، وما يزلق فان من البيض ما يمرق (٢) وكان جوابه عليه‌السلام على وفق ما قرر في الفقه الاسلامي في كفارة الاحرام ، واستحسن أمير المؤمنين جوابه فالتفت عليه‌السلام الى حضار مجلسه ، وهو يشيد بمواهب ولده ، وغزارة علمه وفضله ، قائلا :

« معاشر الناس .. إن الذي فهم هذا الغلام هو الذي فهمه سليمان بن داود (٣)

__________________

(١) السلوب : الناقة التي مات ولدها او القته بغير تمام ، الزلوق : الناقة التي تلقى ولدها بغير تمام.

(٢) يمرق : مأخوذ من مرقت البيضة اي فسدت

(٣) مناقب ابن شهر اشوب ٢ / ١٥٠ نقله عن القاضي فى شرح الاخبار

١٧٠

لقد كان امير المؤمنين عليه‌السلام مرجعا للفتيا في حياة أبي بكر وعمر ومفزعا للمسلمين إن حلت يناديهم مشكلة ، وقد اتفقت الكلمة انه اعلم الصحابة بشئون الدين واحكام الشرع.

وفاة ابي بكر

وظل أبو بكر متقمصا للخلافة زمنا يسيرا يدير شئون الامة ، ويتصرف في أمورها ، قد اعتمد على عمر وأسند إليه مهام الدولة ، ولما مرض مرضه الذي توفي فيه وثقل حاله ادلى بالامر من بعده إليه وقد انكر عليه طلحة هذا الاختيار فقال له :

« ما ذا تقول لربك ، وقد وليت علينا فظا غليظا؟ تفرق منه النفوس وتنفض منه القلوب » (١)

فسكت أبو بكر ، واندفع طلحة قائلا :

« يا خليفة رسول الله ، إنا كنا لا نحتمل شراسته وأنت حي تأخذ على يديه ، فكيف يكون حالنا معه ، وأنت ميت وهو الخليفة .. » (٢)

ولم ينفرد طلحة بهذا الانكار بل شاركه جمهور المهاجرين والانصار فقد بادروا الى أبي بكر وقالوا له :

« نراك استخلفت علينا عمر ، وقد عرفته ، وعلمت بوائقه فينا ، وأنت بين أظهرنا ، فكيف اذا وليت عنا ، وأنت لاق الله عز وجل فسائلك ، فما أنت قائل؟ .. »

فاجابهم أبو بكر بصوت خافض

__________________

(١) شرح النهج لابن ابي الحديد ١ / ٥٥

(٢) شرح النهج ٦ / ٣٤٣ ط دار احياء الكتب العربية

١٧١

« لئن سألني الله لاقولن استخلفت عليهم خيرهم فى نفسي ... » (١)

وكون عمر خيرهم في نفسه ليس مبررا له في ترشيحه للخلافة ، فان الاجدر أن يأخذ رأي المسلمين في ذلك ويستشير أهل الحل والعقد منهم عملا بقاعدة ( الشورى ) ولكنه اهمل ذلك ، واستجاب لعواطفه ورغبته الملحة في أن يتولى زمام الحكم من بعده خدنه وزميله ، وعلى أي حال فقد كان عمر الى جانبه يعزز مقالته ورأيه فيه قائلا :

« أيها الناس ، اسمعوا ، واطيعوا قول خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. » (٢)

ودعا أبو بكر عثمان بن عفان ، وامره أن يكتب له العهد في عمر وأملاه عليه وهذا نصه :

« هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة ، آخر عهده في الدنيا نازحا عنها. وأول عهده بالآخرة داخلا فيها ، إني استخلفت عليكم عمر ابن الخطاب ، فان تروه عدل فيكم فذلك ظني به ورجائى فيه ، وإن بدل وغير فالخير أردت ، ولا اعلم الغيب ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) (٣)

وتناول عمر الكتاب ، وانطلق يهرول الى الجامع ليقرأه على الناس فقال له رجل :

« ما في الكتاب يا أبا حفص.؟ »

« لا ادري. ولكني أول من سمع وأطاع .. »

فنظر الرجل إليه نظرة ريبه وانبرى قائلا :

__________________

(١) الامامة السياسة ١ / ١٩

(٢) تأريخ الطبرى ٤ / ٥٢

(٣) الامامة والسياسة ١ / ١٩ ، تأريخ الطبرى ، طبقات ابن سعد

١٧٢

« ولكني والله أدرى ما فيه : أمرته عام أول ، وأمرك العام .. » (١)

لقد مهد أبو بكر الأمر الى عمر ، وعبدّ له الطريق ، وتناسى أمير المؤمنين فلم يشاوره في الامر ، ولم يرع حقه ، وقد نطق عليه‌السلام بعد سنين عما يكنه في نفسه من عميق الالم والحزن يقول في خطبته الشهيرة بالشقشقية :

فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهبا ، حتى مضى الاول لسبيله ، فادلى بها الى فلان بعده ، ثم تمثل بقول « الأعشى » :

شتان ما يومي على كورها

ويوم حيان أخي جابر

فيا عجبا!! بينا هو يستقيلها في حياته (٢) إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها .. (٣)

وهذه الكلمات قد عبرت عن عظيم الوجد ، وبالغ الاسى الذي استقر في نفس الامام على ضياع حقه ، ويعتقد بعض كتاب العصر أن السبب في عدول أبي بكر عن اختياره ، هو تخلفه عن بيعته ، واحتجاجه عليه بأنه أحق بالأمر منه لقرابته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما اوجب بغض أبي بكر له ، وحقده عليه.

وزاد المرض بأبي بكر ، وثقل حاله حتى وافاه الأجل المحتوم (٤)

__________________

(١) الامامة والسياسة ١ / ٢٠

(٢) اشارة الى قول ابي بكر بعد ما بويع « اقيلوني فلست بخيركم »

(٣) نهج البلاغة محمد عبده ١ / ٢٦ ـ ٢٧

(٤) توفى ابو بكر ليلة الثلاثاء لثمان ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة ، وعمره ثلاث وستون سنة ، ومدة خلافته سنتان وثلاثة اشهر ذكر ذلك المسعودى في مروج الذهب ٢ / ١٩١ وكان في الجاهلية معلما للصبيان ،

١٧٣

فقام عمر في شئونه ، ودفنه في بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي جواره ، وبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يخلو اما أن يكون ميراثا كما تقول به بضعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو يكون صدقة كما زعم أبو بكر فان كان ميراثا فلا يحل دفنه فيه الا بعد ارضاء الورثة ، وان كان صدقة فلا بد من ارضاء جماعة المسلمين ، ولم يتحقق كل ذلك.

خلافة عمر

وتولى عمر بن الخطاب أزمة الحكم بعد وفاة أبي بكر ، وتسلم قيادة الأمة بهدوء وسلام ، فساس البلاد بشدة وعنف بالغين ، وقد تحامى لقاءه أكابر الصحابة ، فلم يستطع أحد منهم أن يجاهر بآرائه ، أو ينقد الحكم القائم ، فان درة عمر ـ كما يقولون ـ كانت أهيب في النفوس من سيف الحجاج ، حتى ان ابن عباس لم يتمكن أن يصرح برأيه في جواز المتعة ، وحليتها الا بعد وفاة عمر ، وقد وصف الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد اعوام سياسة عمر ، وشدة عنفه يقول عليه‌السلام :

« فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ، ويخشن مسها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة ، إن اشنق لها خرم وان اسلس لها تقحم ، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس ، وتلون واعتراض .. » (١)

وهو وصف دقيق للسياسة العمرية التي انتهجت منهج الشدة والغلظة في جميع مجالاتها حتى مني الناس بخبط وشماس وتلون واعتراض ، وبلغ من

__________________

وفى الاسلام خياطا ، وكان ابوه فقيرا ، يكتسب من صيد القمارى والدباسي ، ولما عمى وعجز ابنه عن القيام به التجأ إلى عبد الله بن جدعان احد رؤسا. مكة فنصبه ينادى على مائدته جاء ذلك فى حق اليقين ١ / ١٨١

(١) نهج البلاغة لابن ابي الحديد ١ / ١٦٢

١٧٤

عظيم عنفها ان امرأة جاءت تسأله عن أمر ، وكانت حاملا ، ولشدة خوفها اجهضت حملها (١) ويقول عثمان في شدة عمر وقسوته : « لقد وطئكم ابن الخطاب برجله ، وضربكم بيده ، وقمعكم بلسانه فخفتموه ، ورضيتم به » ويذهب الناقدون الى هذه السياسة انها لا تمثل وجهة السياسة الاسلامية ، فانها لا تقر بحال سياسة العنف والارهاب ، فقد جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخذته هيبة النبيّ فارتعدت اعضاؤه فنهره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال له : « انما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد » إن الاسلام بنى على الرفق ، واللين ، والتسامح وليس لرئيس الدولة أن يسلك أي طريق يؤدي الى ارهاق المواطنين وعنائهم.

ومما يؤخذ على السياسة العمرية انها كانت تنهج إلى ايجاد الطبقية في الاسلام ، فقد التزم في سياسته المالية بتقديم بعض الطبقات على بعض في العطاء ، فقدم امهات المؤمنين على غيرهن ، وقدم البدريين على من سواهم ، والمهاجرين على الانصار (٢) ومن الطبيعي أن ذلك يتنافى مع المساوات التي جاء بها الاسلام.

ومما يرد على سياسة عمر أنه فرض الحصار على الصحابة في يثرب ولم يسمح لهم بمغادرتها وذلك يجافي الحرية التامة التي اقرها الاسلام ، ومنحها لجميع المواطنين.

ولعل لهذه الجهات وصف أمير المؤمنين عهد عمر بأن المجتمع قد منى فيه بخبط وشماس وتلون واعتراض.

__________________

(١) نهج البلاغة ١ / ١٧٤

(٢) الأموال لأبى عبيد ص ٢٢٤

١٧٥

اعتزال الامام

واعتزل الامام امير المؤمنين عليه‌السلام في دور الخليفة الثاني كما اعتزل في عهد الخليفة الاول ، فلم يشترك في شأن من شئون القوم ، ولم يتدخل في أمر من أمورهم ، حتى خفت صوته في جميع الحروب والمواقف اللهم الا رأيه الوثيق اذا استفتي حتى اشتهرت كلمة عمر في ذلك : لو لا علي لهلك عمر » (١) فقد كان عمر لا يستغنى عن الامام من ناحية الفتيا لأن معلومات الخليفة في الفقه الاسلامي كانت ضئيلة للغاية فقد قضى في ميراث الجد مع الاخوة قضايا كثيرة مختلفة ثم خاف في الحكم فى هذه المسألة فقال : من أراد أن يقتحم جرائيم جهنم فليقل في الجد برأيه ، (٢) وقال : لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها صداق نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الا ارتجعت ذلك منها ، فقالت إليه امرأة :

« ما جعل الله لك ذلك ، إنه تعالى قال : ( وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً ) (٣)

فانطلق عمر وهو يبدى للمسلمين عجزه قائلا :

« كل الناس أفقه من عمر حتى ربات الحجال! ألا تعجبون من إمام أخطأ ، وامرأة اصابت فاضلت إمامكم ففضلته .. (٤)

__________________

(١) السنن الكبرى ٧ / ٤٤٢ ، تفسير الرازي ٧ / ٤٨٤

(٢) نهج البلاغة ١ / ١٨١

(٣) سورة النساء : آية ٢٠

(٤) نهج البلاغة ١ / ١٨٢

١٧٦

وعلى أي حال فقد كان عمر قليل البضاعة في الفقه الاسلامي ليست له دراية في كثير من مسائله ، فكان بطبيعة الحال مضطرا الى الرجوع الى باب مدينة علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووصيه ليكشف له الستار عما أشكل عليه ، وقد تصدى عليه‌السلام بسخاء لهذه الناحية ، ولم يظن على القوم بعلومه ومعارفه لئلا تهمل أحكام الله وتتعطل حدوده ، وهو في نفس الوقت كان بعيدا عن القوم كل البعد فلم يشترك في شأن من شئونهم قد خلد الى الانعزال ، والابتعاد عنهم ، وأظهر لهم المسالمة حرصا منه على كلمة الإسلام ، وخوفا على كلمة المسلمين من الانشقاق.

وقد قطع الامام الحسن عليه‌السلام في عهد عمر دور الصبا حتى أشرف على ميعة الشباب ، وقد اقتضت سياسة عمر أن يجل السبطين ويجعل لهما نصيبا فيما يغتنمه المسلمون ، ووردت إليه حلل من وشي اليمن فوزعها على المسلمين ونساهما ، فبعث الى عامله على اليمن أن يرسل له حلتين ، فأرسلهما إليه فكساهما وقد جعل عطاءهما مثل عطاء أبيهما ، وألحقهما بفريضة أهل بدر ، وكانت خمسة آلاف (١).

ولم تظهر لنا أي بادرة عن الامام الحسن عليه‌السلام ما عدا ذلك ، ويعود السبب الى عدم تدخل أبيه أمير المؤمنين عليه‌السلام في شئون عمر وعدم اشتراكه في أي جانب من الجوانب العامة.

اغتياله :

واغتاله أبو لؤلؤة غلام المغيرة فطعنه ثلاث طعنات إحداهن تحت سرته وهي التي قضت عليه ، وتعزو بعض المصادر سبب ذلك الى ان المغيرة جعل

__________________

(١) تأريخ ابن عساكر ٤ / ٣٢١

١٧٧

عليه خراجا ثقيلا فشكا حاله الى عمر فزجره وقال له :

« ما خراجك بكثير من أجل الحرف التي تحسنها .. »

فتأثر أبو لؤلؤة ، وأضمر له الشر في نفسه ، واجتاز عليه فى وقت آخر فسخر منه عمر قائلا :

« بلغنى أنك تقول : لو شئت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت .. »

فاندفع أبو لؤلؤة وقد لسعته سخريته فاخبره بما يبيت له من الشر قائلا :

لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها .. »

وفي اليوم الثاني قام بعملية الاغتيال (١) وقيل ان اغتياله كان وليد مؤامرة دبرها الناقمون على سياسته التي انتهجت منهج الشدة والقسوة ، وخلقت الطبقية بين المسلمين.

ومهما يكن من أمر فقد حمل عمر الى داره ، وجراحاته تنزف دما وبادر أهله فأحضروا له طبيبا فقال له :

« أي الشراب أحب إليك؟. »

« النبيذ »

فسقوه منه ، فخرج من بعض طعناته ، فقال الناس : خرج صديدا ثم سقوه لبنا فخرج من بعض طعناته ، فيئس منه الطبيب وقال له :

لا أرى أن تمسى (٢) ولما أيقن ولده عبد الله بموته قال له :

« يا أبة. استخلف على امة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانه لو جاءك راعي إبلك أو غنمك ، وترك إبله أو غنمه لا راعى لها لمته ، وقلت له :

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٢١٢ ، الاستيعاب

(٢) الامامة والسياسة ١ / ٢١

١٧٨

كيف تركت أمانتك ضائعة؟! فكيف بأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستخلف عليهم .. »

فنظر إليه نظرة ريبة فقال له :

« إن استخلف عليهم فقد استخلف أبو بكر ، وإن أتركهم فقد تركهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. » (١)

وأقام عبد الله في حديثه برهانا تدعمه الفطرة على ضرورة نصب الوصي ، وتعيين ولى العهد ، وان من أهمله يستحق اللوم والتقريع ، وهو أمر واضح لا مجال للشك فيه ، والعجب من عمر وهو في ساعاته الأخيرة كيف يقول إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك امته ولم يستخلف عليها أحدا من بعده!! وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحريص على امته الذي يعز عليه عنتها واختلافها ، وانشقاقها وقد لاقى في سبيل هدايتها أعظم العناء وأشقه ، ولعل ( الوجع ) قد غلب على عمر فنسي النصوص المتضافرة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمير المؤمنين عليه‌السلام وأنه ولى عهده وخليفته من بعده ، وتناسى بيعته له يوم غدير خم ، وقوله له : « بخ بخ لك يا علي أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة » ولكن إنا لله ، وإنا إليه راجعون.

الشورى :

ولما يئس عمر من الحياة ، وأيقن بنزول الأجل المحتوم أخذ يطيل التفكير ، ويمعن النظر فيمن يتولى شئون الحكم من بعده ، وتذكر أقطاب حزبه الذين شاركوه في تمهيد الأمر الى أبي بكر ، وصرفه عن أهل بيت

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٢١٢

١٧٩

النبوة فطافت به آلام مبرحة لأنه لم يكن أحد منهم إلا اختطفته يد المنون فجزع عليهم وقال بنبرة الآسف : « لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته لأنه أمين هذه الامة ، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا استخلفته لأنه شديد الحب لله تعالى ... »

لقد اسف على هلاك أبي عبيدة وسالم ، ولو كانا حيين لرشحهما لمنصب الخلافة ، فهل لهما سابقة الجهاد في الاسلام؟ أو أنهما كانا أثيرين عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليستحقا هذا المنصب الخطير.

لقد فتش عمر في سجل الاموات عمن هو أهل للخلافة ، ونسي أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي هو نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وباب مدينة علمه ، وباب دار حكمته ، وأقضى امته ، وأبو سبطيه ، وناصره في جميع المشاهد والمواقف ، لقد نساه عمر فلم يذكره بقليل ولا بكثير ، وعلى اي حال فقد رأى عمر ان يجعلها شورى في جماعة زعم أن الامام أحدهم ، وهي مؤامرة خطيرة دبرت ضد أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول الامام كاشف الغطاء رحمه‌الله :

« الشورى بجوهرها وحقيقتها مؤامرة واقعية ، وشورى صورية ، وهي مهارة بارعة لفرض عثمان خليفة على المسلمين رغما عليهم ولكن بتدبير بارع عاد على الاسلام والمسلمين بشر ماله دافع .. »

ودعا عمر أعضاء الشورى فلما مثلوا عنده قال لهم :

« أكلكم يطمع بالخلافة بعدي؟ .. »

ووجموا عن الكلام ، فأعاد القول عليهم ثانيا فانبرى إليه الزبير فرد عليه مقالته قائلا :

« وما الذي يبعدنا منها!! وليتها أنت فقمت بها ولسنا دونك في

١٨٠