حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل - ج ١

باقر شريف القرشي

حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل - ج ١

المؤلف:

باقر شريف القرشي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار البلاغة
المطبعة: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٢

« الله الله يا معشر المهاجرين! .. لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره ، وقعر بيته الى دوركم وقعور بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه فى الناس وحقه؟ .. فو الله يا معشر المهاجرين لنحن احق الناس به ـ لأنا أهل البيت ـ ونحن أحق بهذا الامر منكم ، ما كان فينا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المضطلع بأمر الرعية ، الدافع عنهم الامور السيئة ، القاسم بينهم بالسوية ، والله إنه لفينا فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحق بعدا .. » (١)

ودفع الامام باحتجاجه الرائع جميع شبه القوم فلم يترك لهم نافذة الا سدها ببليغ حجته وقوة برهانه ، فان أبلغ ما تمسك به أبو عبيدة لاثبات ولاية أبي بكر أنه اكبر سنا من امير المؤمنين وذلك عنده مقياس الصواب وفصل الخطاب ، ولكنه منطق مفلوج فى نظر الاسلام ، فان المقياس عنده في قيم الرجال أن تتوفر فيهم المواهب والكفآت والعبقريات فمن تمتع بها فهو الخليق بزعامة الامة ، وبادارة شئونها ، ولهذه الجهة نظر الامام في احتجاجه فبين لهم الصفات الرفيعة الماثلة فى أهل البيت عليهم‌السلام من الفقه بدين الله ، والعلم بسنن رسوله والاضطلاع بامور الرعية ودفع الشر والمكروه عنها ، والقسم بينها بالسوية ، وهذه الصفات التي اعتبر الاسلام مثولها في الحاكمين والمسئولين لم تتوفر الا عند أهل البيت عليهم‌السلام فهم احق بالأمر وأولى به من غيرهم.

٢ ـ الزهراء

واحتجت سيدة نساء العالمين بحجج بالغة على القوم ، وبينت لهم سوء ما فعلوا ، وعظيم ما ارتكبوا قالت سلام الله عليها :

__________________

(١) الامامة والسياسة ١ / ١١ ـ ١٢

١٤١

« ويحهم انى زحزحوها ـ أي الخلافة ـ عن رواسي الرسالة؟! وقواعد النبوة ، ومهبط الروح الأمين ، الطبن (١) بأمور الدنيا والدين ، ألا ذلك هو الخسران المبين ، وما الذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا والله منه نكير سيفه وشدة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمره في ذات الله ، وتالله لو تكافئوا (٢) على زمام نبذه إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لاعتقله (٣) وسار بهم سيرا سجحا (٤) لا يكلم خشاشه (٥) ولا يتتعتع راكبه (٦) ولأوردهم منهلا رويا فضفاضا (٧) تطفح ضفتاه (٨) ولا يترنم جانباه (٩) ولأصدرهم بطانة (١٠) ونصح لهم سرا واعلانا ، غير متحل منهم بطائل الا بغمر الناهل (١١) وردعة سورة الساغب (١٢) ولفتحت عليهم بركات من السماء والارض ، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون ، الا هلمّ فاستمع وما عشت أراك الدهر عجبا!! وإن تعجب فقد اعجبك

__________________

(١) الطبن : الخبير

(٢) التكافؤ : التساوي

(٣) اعتقله : اي وضعه بين ركابه ، وساقه كما يعتقل الرمح

(٤) سجحا : أي سهلا

(٥) الخشاش : عود يجعل فى انف البعير يشد به الزمام

(٦) لا يتتعتع راكبه. اى لا يصيبه اذى

(٧) فضفاضا : اي يفيض منه الماء

(٨) تطفح ضفتاه : اي يمتلئ ويفيض جانباه

(٩) الترنم : الصوت

(١٠) اصدرهم بطانة : اي اشبعهم وافاض عليهم بالنعم والخيرات

(١١) غمر الناهل : اي رى الظمآن

(١٢) ردعة سورة الساغب : كسر شدة الجوع

١٤٢

الحادث الى أي لجأ لجئوا؟! وبأى عروة تمسكوا لبئس المولى ولبئس العشير ، بئس للظالمين بدلا ، استبدلوا والله الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل (١) فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، الا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ، يحهم أفمن يهدى الى الحق أحق أن يتبع امن لا يهدّي إلا ان يهدى فما لكم كيف تحكمون ، أما لعمر إلهكن لقد لقحت ، فنظرة ريثما تنتج ثم احتلبوها طلاع العقب دما عبيطا وذعافا ممقرا (٢) هنالك يخسر المبطلون ، ويعرف التالون غب ما اسس الاولون ، ثم طيبوا عن انفسكم نفسا وطامنوا للفتنة جأشا ، وابشروا بسيف صارم ، وبقرح شامل يدع فيئكم زهيدا ، وجمعكم حصيدا ، فيا حسرة لكم انلزمكموها وانتم لها كارهون .. » (٣)

وشجبت بضعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطابها الرائع البليغ الاعتداء الصارخ على آل البيت عليهم‌السلام ، ونددت بمن غصب الخلافة الاسلامية منهم ، فان القوم قد وضعوها في غير موضعها ، وضيعوا بذلك عترة نبيهم وهم رواسي الرسالة ، وقواعد النبوة والامامة ، وفي بيوتهم هبط الروح الامين ، وتنزل الذكر الحكيم ، وقد حفل خطابها القيم بامور بالغة الخطورة وهي :

١ ـ انها ذكرت اهم الاسباب الوثيقة التي من اجلها زهد القوم

__________________

(١) الكاهل : سند القوم ومعتمدهم يقال « فلان شديد الكاهل » اي منيع الجانب

(٢) الذعاف : الطعام الذي يجعل فيه السم ، الممقر : المر

(٣) بلاغات النساء ص ٢٣ ، اعلام النساء م ٣ / ١٢١٩ ـ ١٢٢٠ الاحتجاج للطبرسي البحار للمجلسي شرح النهج

١٤٣

فى أبي الحسين ، ونقموا منه :

( أ ) ـ نكير سيف الامام الذي حصد به رءوس المشركين والملحدين ونافح به عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع المواقف والمشاهد ، ووتر به الاقربين والابعدين فى سبيل اقامة دعائم الدين ، ومن الطبيعي أن ذلك اولد في نفوس القوم عظيم الحقد والكراهية.

( ب ) ـ شدة وطأته عليه‌السلام فقد كان حتف الكافرين ، وغيظ المنافقين ، لم يصانع ، ولم يحاب ، ولم تأخذه في الله لومة لائم وهو القائل « وأيم الله لانصفن المظلوم من ظالمه ، ولآخذن الظالم بخرامته ، حتى اورده منهل الحق وان كان كارها »

( ج ) ـ تنمره في ذات الله ، فقد وهب عليه‌السلام نفسه لله ، ورصد جميع طاقاته لاحياء دين الله ، واقامة سننه ، وقد قذف نفسه فى لهوات الحروب ، وخاض الغمرات والأهوال ، ووطأ صماخ المشركين باخمصه حتى استقام امر هذا الدين ، وقام على سوقه عبل الذراع كل ذلك ببركة جهوده ، وعظيم جهاده.

ان هذه الاسباب : هي التي أدت الى بغض القوم وحقدهم عليه ، بالاضافة الى حسدهم على ما منحه الله من المواهب والكمالات ، والحسد يولد ضغنا وحقدا في النفوس ، ويلقى الناس في شر عظيم.

٢ ـ ان الامة لو قلدت امورها الى أمير المؤمنين ، وتابعت قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه لظفرت بما يلي :

١ ـ انه يسير فيهم بسيرة العدل والحق ، ويحكم بما انزل الله تعالى ولا يضام في ظل حكمه احد ، ولا تهدر كرامة اي فرد منهم.

٢ ـ انه يوردهم منهلا عذبا ، ويقود ركبهم الى شاطئ الامن والسلامة ويفيض عليهم بالخير والبركات ، ويغدق عليهم بالنعم فلا يشكو

١٤٤

احد في ظل عدله الحرمان والجوع والفقر.

٣ ـ انه ينصح لهم في السر والعلانية ، ويهديهم الى سواء السبيل

٤ ـ ان الامام سلام الله عليه لو تقلد زمام الحكم لما تحلى من دنياهم بطائل ، وما استأثر من اموالهم بشيء ، ولشاركهم في البأساء والضراء وقد حقق ذلك حينما آلت إليه أمور المسلمين ، فقد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعامه بقرصيه وما وضع لبنة على لبنة ، وواسى الفقراء والمحرومين وقد قال كلمته الخالدة في المواساة.

« أأقنع من نفسي بان يقال أمير المؤمنين ، ولا اشاركهم في مكاره الدهر وجشوبة العيش »

ولم يحفل تأريخ المسلمين بحاكم مثله في زهده ، وورعه ، وعدله ، وتجنبه عن اموال الرعية ، وقد بقيت سيرته من اروع الامثلة التي يعتز بها المسلمون.

٥ ـ ان الامام (ع) لو تولى الخلافة من بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لانتشرت الخيرات والبركات ، وعمت النعم جميع ارجاء البلاد ، واكل الناس من فوق رءوسهم ومن تحت ارجلهم ، ولكن المسلمين حرموا انفسهم السعادة وحرموها للاجيال اللاحقة من بعدهم ، فقد استبدلوا الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، وتركوا من يهديهم الى الحق ويسير فيهم بسيرة العدل.

٣ ـ واستشفت بضعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من وراء الغيب النتائج الفظيعة التي تترتب على ما ارتكبه القوم وهي كما يلي :

( أ ) انتشار الفتن بين المسلمين ، وانشقاق صفوفهم وتفلل وحدتهم

( ب ) ـ تنكيلهم وارهاقهم من قبل السلطات الجائرة.

( ج ) ـ استبداد الظالمين بشئونهم

١٤٥

وقد تحققت هذه النتائج الخطيرة على مسرح الحياة حينما استولى الأمويون على زمام الحكم ، فقد حكم معاوية رقاب المسلمين وولى عليهم جلاوزته الجلادين امثال سمرة بن جندب ، وبسر بن ارطاة ، وزياد بن أبيه ، فامعنوا فى ارهاق المسلمين والتنكيل بهم ، واذاعوا الخوف بين المسلمين ، وفي عهد زياد كان الناس يقولون : « انج سعد فقد هلك سعيد » وتولى من بعده يزيد فاستعمل على المسلمين ابن مرجانة ففعل الأفاعيل المنكرة التي سود بها وجه التاريخ ، وهكذا اخذت الخلافة الاسلامية تنتقل من ظالم الى ظالم ، ومن جائر الى جائر حتى ضجت البلاد من الظلم والجور والاستبداد.

ولهذه الاسباب الوثيقة التي بينتها فى خطابها ناهضت الحكم القائم ، وناجزته بجميع امكانياتها ، وطالبت المسلمين بالقيام لقلب الحكم ، ودعتهم الى الثورة لاستنقاذ الحق الغصيب فقد طاف بها زوجها المظلوم اربعين يوما على بيوت المهاجرين والانصار تسألهم النجدة والنصرة فكانوا يقولون لها :

« يا بنت رسول الله .. قد مضت بيعتنا لهذا الرجل »

فتجيبهم مستنكرة

« افتدعون تراث رسول الله يخرج من داره الى غير داره؟ »

واخذوا يعتذرون لها قائلين :

« يا بنت رسول الله ... لو أن زوجك سبق إلينا قبل أبي بكر لما عدلنا به »

ويجيبهم أمير المؤمنين

« أفكنت أدع رسول الله فى بيته لم ادفنه ، ثم أخرج انازع الناس سلطانه؟ »

١٤٦

وتدعم بضعة الرسول قول أمير المؤمنين فتقول :

« ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له .. وقد صنعوا ما الله حسيبهم عليه » (١)

وقد خطبت سلام الله عليها خطبتها الشهيرة واستنهضت ـ في كثير من فصولها ـ همم المسلمين وحفزتهم على الثورة وطالبتهم بارجاع الخلافة الى أمير المؤمنين فقد قالت مخاطبة بني قيلة :

« أيها بنى قيلة ، أأهضم تراث أبي وانتم بمرأى ، ومسمع تبلغكم الدعوة ، وشملكم الصوت وفيكم العدة ، ولكم الدار والجنن ، وانتم نخبة الله التي انتخبت وخيرته التي اختار. باديتم العرب ، وبادهتم الامور ، وكافحتم البهم ، حتى دارت بكم رحى الاسلام ، ودر حلبه وخبت نيران الحرب ، وسكنت فورة الشرك ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوثق نظام الدين ، أفتأخرتم بعد الاقدام ، ونكصتم بعد الشدة ، وجبنتم بعد الشجاعة عن قوم نكصوا أيمانهم من بعد عهدهم ، وطعنوا في دينكم ، فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا ايمان لهم لعلهم ينتهون .. » (٢)

وقد اثارت حفائظ النفوس ، والهبت نار الثورة في خطابها الكبير إلا أن أبا بكر استقبلها بالاعتذار ، واللين ، واظهر لها بالغ الاحترام والتقدير فاخمد الثورة وشل حركتها ، فلم تجد سلام الله عليها مجالا لاسترجاع حق امير المؤمنين عليه‌السلام واخذت تبث الشكوى والشجى الى أبيها وخلدت الى الصبر على ما انتابها من المحن والخطوب.

٣ ـ الامام الحسن

وما استقر في نفس أمير المؤمنين عليه‌السلام من اللوعة والأسى على

__________________

(١) الامامة والسياسة ١ / ١٢

(٢) اعلام النساء ٣ / ١٢١٤

١٤٧

ضياع حقه وغصب تراثه قد استقر فى نفس وليده الامام الحسن عليه‌السلام فقد انطلق إلى مسجد جده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرأى أبا بكر على منبر المسجد يخطب الناس فالتاع ووجه إليه لاذع النقد قائلا له :

« انزل ... انزل عن منبر أبي ، واذهب الى منبر أبيك!! »

وبهت ابو بكر ، وتطلعت ابصار الناس إلى القائل فاذا هو حفيد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وريحانته ، فاخذتهم الحيرة والدهشة ، وساد عليهم الوجوم ، واسترد أبو بكر خاطره فتدارك الموقف فقال له بناعم القول :

« صدقت والله. إنه لمنبر أبيك لا منبر أبي .. » (١)

إن احتجاج الامام الحسن عليه‌السلام ـ وهو في غضون الصبا ـ انبعث عن نضوج وطموح وذكاء ، وكشف عن آلام مرهقة كان يكنها في اعماق نفسه على ضياع حق أبيه.

كان يرى المنبر يرقاه جده الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يدعو الناس الى الله ، ويهديهم الى سواء السبيل ، وقد اختفى ذلك النور ، واحتجب ذلك الصوت ، وهو لا يجد أحدا خليقا بأن يخلفه سوى أبيه سيد الاوصياء الذي نافع عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع المواقف والمشاهد.

__________________

(١) الرياض النضرة ١ / ١٣٩ ، شرح النهج لابن ابى الحديد ٢ / ١٧ مقتل الحسين للخوارزمي ١ / ٩٣ المناقب ٢ / ١٧٢ وجاء في الاصابة ٢ / ١٥ ان هذا الاحتجاج كان من الامام الحسين ، وجاء في الصواعق المحرقة ص ١٠٥ وفي الصبان المطبوع على هامش نور الابصار ص : ١٢٥ ان الحسن قال لأبي بكر هذه الكلمة ، ووقع للحسين ذلك مع عمر بن الخطاب.

١٤٨

٤ ـ سلمان الفارسي

واندفع سلمان الفارسي ابن الاسلام البار ، ومنبع التقوى والصلاح ، الى الانكار على القوم والاحتجاج عليهم فقد راح يتكلم مع أبي بكر قائلا له :

« يا أبا بكر .. الى من تسند أمرك إذا نزل بك ما لا تعرفه؟! وإلى من تفزع اذا سئلت عما لا تعلمه؟ وما عذرك في تقدم من هو اعلم منك ، واقرب الى رسول الله ، واعلم بتأويل كتاب الله عز وجل ، وسنة نبيه ، ومن قدمه النبي في حياته ، واوصاكم به عند وفاته ، فنبذتم قوله ، وتناسيتم وصيته ، واخلفتم الوعد ، ونقضتم العهد ، وحللتم العقد ، الذي كان عقده عليكم ، من النفوذ تحت راية أسامة بن زيد! » (١)

٥ ـ عمار بن ياسر

وانطلق الطيب ابن الطيب عمار بن ياسر الى محاججة القوم فقال لهم :

« يا معاشر قريش .. ويا معاشر المسلمين ، إن كنتم علمتم وإلا فاعلموا أن أهل بيت نبيكم اولى به واحق بارثه ، وأقوم بامور الدين ، وآمن على المؤمنين ، واحفظ لملته ، وانصح لأمته فمروا صاحبكم فليرد الحق الى أهله قبل أن يضطرب حبلكم ، ويضعف أمركم ، ويظهر شقاقكم ، وتعظم الفتنة بكم ، وتختلفون فيما بينكم ، ويطمع فيكم عدوكم ، فقد علمتم أن بني هاشم أولى بهذا الامر منكم ، وعلي أقرب منكم الى نبيكم ، وهو من بينهم وليكم بعهد الله ورسوله ، وفرق ظاهر قد عرفتموه في حال بعد حال عند سد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبوابكم التي كانت الى المسجد كلها غير بابه ، وايثاره اياه بكريمته فاطمة ، دون ساير من خطبها إليه منكم ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انا مدينة العلم ، وعلى بابها ، ومن

__________________

(١) احتجاج الطبرسي ص ٤٢ ـ ٤٣

١٤٩

أراد الحكمة فليأتها من بابها ، وانكم جميعا مضطرون فيما اشكل عليكم من أمور دينكم إليه ، وهو مستغن عن كل أحد منكم الى ما له من السوابق التي ليست لأفضلكم عند نفسه ، فما بالكم تحيدون عنه ، وتبتزون عليا على حقه ، وتؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، بئس للظالمين بدلا ، اعطوه ما جعله الله له ، ولا تولوا عنه مدبرين ، ولا ترتدوا على اعقابكم فتنقلبوا خاسرين .. (١)

٦ ـ خزيمة بن ثابت

وانبرى الصحابي العظيم خزيمة بن ثابت فقال : « أيها الناس ، الستم تعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل شهادتي وحدى ، ولم يرد معي غيرى؟ فقالوا بلى. قال : فاشهد أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : أهل بيتي يفرقون بين الحق والباطل ، وهم الأئمة الذين يقتدى بهم ، وقد قلت ما علمت ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين .. »

٧ ـ أبو الهيثم بن التيهان

وانطلق الصحابي الكبير أبو الهيثم بن التيهان فقال : « وأنا أشهد على نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه أقام عليا يوم غدير خم ، فقالت الانصار ما أقامه الا للخلافة ، وقال بعضهم : ما أقامه إلا ليعلم الناس أنه مولى من كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مولى له ، وكثر الخوض في ذلك فبعثنا رجالا منا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألوه عن ذلك؟ فقال : قولوا لهم : على ولي المؤمنين بعدي ، وانصح الناس لأمتى ، وقد شهدت بما حضرني فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، إن يوم الفصل كان ميقاتا .. »

__________________

(١) احتجاج الطبرسي ص ٤٣

١٥٠

٨ ـ سهل بن حنيف

واندفع سهل بن حنيف فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على النبيّ وآله ثم قال :

« يا معشر قريش ، اشهد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد رأيته في هذا المكان ـ يعنى في جامعه ـ وقد أخذ بيد علي بن أبي طالب عليه‌السلام وهو يقول : أيها الناس هذا علي إمامكم من بعدي ، ووصيي فى حياتي؟ وبعد وفاتي ، وقاضي ديني ، ومنجز وعدي ، وأول من يصافحنى على حوضي ، وطوبى لمن تبعه ، ونصره ، والويل لمن تخلف عنه وخذله .. ».

٩ ـ عثمان بن حنيف

وقام عثمان بن حنيف فقال : « سمعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : أهل بيتي نجوم الأرض فلا تتقدموهم فهم الولاة من بعدي فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله ، وأي أهل بيتك؟ فقال : علي والطاهرون من ولده .. »

١٠ ـ أبو أيوب الانصاري

وقال أبو أيوب الانصاري : « اتقوا الله عباد الله في أهل بيت نبيكم ، وردوا إليهم حقهم الذي جعله الله لهم ، فقد سمعتم مثل ما سمع إخواننا في مقام بعد مقام لنبينا عليه‌السلام ومجلس بعد مجلس يقول : أهل بيتى أئمتكم بعدي ، ويومىء الى على ويقول : هذا أمير البررة ، وقاتل الكفرة مخذول من خذله ، منصور من نصره فتوبوا الى الله من عملكم ، إن الله تواب رحيم ، ولا تتولوا عنه مدبرين ، ولا تتولوا عنه معرضين .. » (١)

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسي ٤٣ ـ ٤٤ وذكره غيره.

١٥١

١١ ـ عتبة بن أبي لهب

وقام عتبة بن أبي لهب وهو يذرف الدموع وينشد :

ما كنت أحسب أن الامر منصرف

عن هاشم ثم منهم عن أبي حسن

عن أول الناس إيمانا وسابقة

واعلم الناس بالقرآن والسنن

وآخر الناس عهدا بالنبي ومن

جبريل عون له في الغسل والكفن

من فيه ما فيهم لا يمترون به

وليس في القوم ما فيه من الحسن (١)

الى غير ذلك من الاحتجاجات الصارمة التي اقامها كبار المسلمين وثقاتهم على احقية الامام عليه‌السلام بالأمر ، ولكن القوم اعاروا ذلك أذنا صماء واصروا على صرف الخلافة عن أهل البيت عليهم‌السلام.

كبس دار الامام

وتخلف امير المؤمنين عليه‌السلام عن بيعة أبي بكر ، واحتج عليه بأنه اولى بالخلافة منه ، واعلن سخطه البالغ على القوم ، وقد انضم إليه اعلام الاسلام ، ووجوه المسلمين كعمار بن ياسر ، وأبي ذر ، والزبير ، وخالد بن سعيد ، وغيرهم ، فكانوا يعقدون الاجتماع في داره ، ويتداولون فيها الاحاديث ، وثقل على أبي بكر ذلك ، وعظم عليه ، فاقتضت سياسته أن يكبس دار الامام ، ويقابله بالشدة والصرامة ، ويتخذ معه جميع الإجراءات الحاسمة ، فاصدر أوامره الى عمر بكبس داره ، وحمله على البيعة قسرا ، فراح عمر يشتد ومعه الشرطة والجنود ، وقد رأى ان خير وسيلة لحمل الامام على الطاعة ان يحرق داره ، ويشعل فيها النار ، فحمل مشعلا من النار ، وحمل القوم حزمة الحطب وانطلقوا مسرعين يعلوهم الغضب ليحرقوا البيت الذي اذن الله أن يرفع ، ويذكر فيه اسمه!! البيت الذي

__________________

(١) تأريخ ابى الفداء ١ / ١٥٦

١٥٢

اذهب الله عن أهله الرجس ، وطهرهم تطهيرا!! وهجم عمر على الدار وهو مغيظ محنق يصيح باعلى صوته.

« والذي نفس عمر بيده ليخرجن ، أو لأحرقنها على من فيها؟ » (١) فعذلته طائفة ، وحذرته من عقوبة الله قائلة :

« ان فيها فاطمة .. »

فصاح فيها غير مكترث ولا مبال

« وإن! وإن! »

وطالعتهم حبيبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبضعته ، وقد علاها الرعب ، واستولى عليها الذهول فوجهت إليهم لاذع القول :

« لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم ، تركتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جنازة بين أيدينا ، وقطعتم امركم بينكم لم تستأمرونا ، ولم تردوا لنا حقا ».

وتبدد جبروت القوم ، وذاب عنفهم ، واسرع عمر الى أبى بكر يحفزه على المضى في حمل الامام على البيعة قائلا :

__________________

(١) ان تهديد عمر لامير المؤمنين بحرق داره إن لم يبايع ثبت بالنصوص المتواترة ودونه اغلب المؤرخين فقد ذكرت في الامامة والسياسة ١ / ١٢ ـ ١٣ ، شرح النهج لابن ابي الحديد ١ / ٣٤ تاريخ الطبري ٣ / ٢٠٢ ط دار المعارف تاريخ ابى الفداء ١ / ١٥٦ ، تاريخ اليعقوبى ٢ / ١٠٥ ، اعلام النساء ٣ / ٢٠٥ ، الاموال لابي عبيد ١٣١ ، مروج الذهب ١ / ٤١٤ ، الامام على لعبد الفتاح ١ / ٢١٣ وذكرها في الجزء الرابع ص ١٧١ ، ونظمها شاعر النيل حافظ ابراهيم فقال :

وقولة لعلي قالها عمر

اكرم بسامعها اعظم بملقيها

حرقت دارك لا ابقى عليك بها

ان لم تبايع وبنت المصطفى فيها

ما كان غير ابي حفص بقائلها

امام فارس عدنان وحاميها

١٥٣

« ألا تأخذ هذا المتخلف عنك بالبيعة؟! »

فارسل أبو بكر قنفذا خلف الامام فابى عليه‌السلام من الحضور ، فانطلق عمر ومعه معاونوه الى بيت الامام فقرع الباب ، واقتحم على الاسد عرينه فانطلقت بضعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي تهتف بابيها وتستغيث به قائلة :

« يا أبت ، يا رسول الله ... ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطاب ، وابن أبي قحافة!!؟ »

وتصدعت القلوب ، وذابت النفوس من هول المصاب ، وانصرف القوم باكين ، وبقى ابن الخطاب ومعه حزبه وبدا عليه الحنق والغضب ولم يجد معه تعنيف بضعة الرسول ، فاخرج أمير المؤمنين بعنف وانطلق به إلى أبي بكر ، فقال له :

« بايع »

« وإن لم افعل؟ » »

فبادر القوم ، وقد اضلهم الهوى قائلين له :

« والله. الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك .. »

فصمت عليه‌السلام برهة ، ونظر الى القوم ، فاذا ليس له معين ولا ناصر فقال بصوت حزين النبرات.

« إذا تقتلون عبد الله ، وأخا رسوله!! »

واندفع ابن الخطاب ، وهو مندلع الثورة فرد على الامام

« اما عبد الله فنعم ، وأما أخو رسوله فلا!! »

وتناسى عمر ان امير المؤمنين اخو النبي ، ونفسه وباب مدينة علمه ، والتفت الى أبي بكر يحثه على الايقاع به ، قائلا :

« الا تأمر فيه بأمرك؟؟ »

١٥٤

وحاذر أبو بكر من الفتنة ، وخاف ان تندلع نيران الثورة فقال :

« لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة الى جانبه .. »

واطلقوا سراح الامام فراح يهرول الى قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستنجد به ويناجيه وهو يبكي أمر البكاء رافعا صوته.

( يَا بْنَ أُمَ ) .. ( إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي ، وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي .. )

لقد استضعفه القوم ، واستوحدوه ، واستباحوا حرمته ، وقفل عليه‌السلام الى البيت راجعا وهو كئيب حزين قد أحاط به الهم والاسى ، واتضح له ما يكنه القوم في نفوسهم من الحقد والكراهية له.

مصادرة فدك

ولما فتحت الجيوش الاسلامية حصون خيبر قذف الله الهلع والرعب في قلوب أهالي فدك ، وخيم عليهم الذعر والخوف فهرعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزلوا على حكمه ، وصالحوه على نصف اراضيهم فكانت ملكا خالصا له لأن المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب ، ولما انزل الله تعالى على نبيه قوله : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) بادر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانحل فاطمة فدكا ، ووضعت يدها عليها وتصرفت فيها تصرف الملاك في املاكهم ، وبعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اقتضت سياسة أبي بكر أن يصادرها ، وينتزعها من يد الزهراء عليها‌السلام لئلا تقوى شوكة الامام ، ويغلب جانبه ، وهو حرب اقتصادى باعثه اضعاف الروح المعارضة ، وشل الحركة المعادية له ، وهذا ما عليه الدول قديما وحديثا أمام خصومها ، وقد مال الى هذا الرأي علي بن مهنأ العلوي قال :

« ما قصد أبو بكر ، وعمر بمنع فاطمة عنها ـ اي عن فدك ـ إلا

١٥٥

أن يقوى علي بحاصلها وغلتها على المنازعة فى الخلافة .. » (١)

وبعد ما استولى أبو بكر على فدك ، واخرج منها عامل الزهراء انبرت سلام الله عليها إليه فطالبته بردها فما اجابها الى ذلك ، وطلب منها إقامة البينة على صدق دعواها ، وهو من الغرابة بمكان ـ اولا ـ ان ذلك لا ينطبق بحال على ما قرر في الفقه الاسلامى من أن صاحب اليد لا يطالب بالبينة ، وانما البينة على المدعي ومع عدم وجودها فلا حق له الا اليمين على المنكر ، والزهراء سلام الله عليها هي صاحبة اليد ، فلا تطالب بالبينة وانما يطالب بها أبو بكر ، ومع عدم وجودها عنده فلا حق له سوى اليمين عليها ، ولكنه أهمل ذلك وصمم على أن تقيم البينة ـ وثانيا ـ ان فاطمة سيدة نساء هذه الأمة ، وخير نساء العالمين ، على حد تعبير أبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واجمع المسلمون على أنها ممن انزل الله فيهم آية التطهير ، وهي تدل على طهارة ذيلها وعصمتها ، وهي اصدق الناس لهجة حسب قول عائشة (٢) أفلا يكفى ذلك كله في تصديقها ، واجابة قولها؟

وعلى اي حال فقد مضت ريحانة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاحضرت أمير المؤمنين ، وأم أيمن فشهدا عنده ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انحلها فدكا ، فرد الشهادة واعتذر بأن البينة لم تتم ، وهذا لا يخلو أيضا من المؤاخذات ـ اولا ـ انه لا يتفق مع القواعد الفقهية فانها صريحة في أن الدعوى اذا كانت على مال أو كان المقصود منها المال فانها تثبت بشاهد ويمين فان اقام المدعي شاهدا واحدا فان على الحاكم أن يحلفه بدلا من الشاهد الثاني فان حلف اعطاه الحق ، وإن نكل رد الدعوى ،

__________________

(١) اعلام النساء ٣ / ١٢١٥

(٢) حلية الأولياء ٢ / ٤١ ، مستدرك الحاكم ٣ / ١٦٠

١٥٦

ولم يطبق ذلك أبو بكر فالغى الشهادة ورد الدعوى ، وثانيا ـ انه رد شهادة أمير المؤمنين ، وهو مع القرآن ، والقرآن معه لا يفترقان كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ـ وثالثا ـ انه رد شهادة السيدة الصالحة أم ايمن وقد شهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنها من أهل الجنة (٢)

وخرجت سيدة النساء من عند أبي بكر وهي تتعثر باذيالها من الخيبة قد انهد كيانها والم بها الشجى والحزن يقول الامام شرف الدين نضّر الله مثواه.

فليته اتقى فشل الزهراء في مواقفها بكل ما لديه من سبل الحكمة ، ولو فعل لكان ذلك أحمد في العقبى ، وابعد عن مظان الندم ، وأنأى عن مواقف اللوم ، واجمع لشمل الامة واصلح له بالخصوص

وقد كان فى وسعه أن يربأ بوديعة رسول الله ووحيدته عن الخيبة ويحفظها عن أن تنقلب عنه وهي تتعثر باذيالها ، وما ذا عليه ، إذ احتل محل أبيها لو سلمها فدكا من غير محاكمة؟! فان للامام أن يفعل ذلك بولايته العامة ، وما قيمة فدك في سبيل هذه المصلحة ، ودفع هذه المفسدة؟ » (٣)

إن أبا بكر لم يصنع الجميل ، ولم يفعل المعروف مع بضعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد كان بوسعه أن يقر يدها على فدك ، ولا يستعمل معها اللف والدوران ، ولا يواجهها بمثل هذه القسوة والجفوة ، ولكن الأمر كما حكاه على بن الفارقي احد اعلام بغداد ومن المدرسين في مدرستها

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ / ١٢٤ الصواعق المحرقة ص ٧٥

(٢) الاصابة

(٣) النص والاجتهاد : ص ٣٧

١٥٧

الغربية ، واحد شيوخ ابن أبي الحديد فقد سأله

ـ أكانت فاطمة صادقة ـ في دعواها النحلة ـ؟

ـ نعم

ـ فلم لم يدفع لها أبو بكر فدكا وهي عنده صادقة؟

قال ابن أبي الحديد : فتبسم ، ثم قال : كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه ، وحرمته وقلة دعابته ، قال : لو اعطاها اليوم فدكا بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا ، وادعت لزوجها الخلافة ، وزحزحته عن مقامه ولم يكن يمكن حينئذ الاعتذار بشيء ، لأنه يكون قد سجل على نفسه بأنها صادقة فيما تدعي كائنا ما كان من غير حاجة الى بينة ولا شهود »

نعم لهذه الجهة اجمع القوم على هضمها ، وسلب تراثها ، واستباحوا رد شهادة أمير المؤمنين ، وتركوا عترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتقطعون حسرات ، ويتصعدون زفرات قد خيم عليهم الهم والغم واخذهم من الحزن ما يذيب لفائف القلوب ومن الوجل ما تميد به الجبال.

ندم ابى بكر

وندم أبو بكر أشد الندم على ما فرط مع بضعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخذ يؤنبه ضميره على ما صدر منه من كبس دارها ، وحمل مشاعل النار لاحراقها فقال :

« وددت أني لم اكشف بيت فاطمة ، ولو انهم اغلقوه على الحرب. » (١)

وجزع جزعا شديدا على ما ارتكبه مع وديعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانطلق مع صاحبه عمر الى بيتها ليطيبا خاطرها ويفوزا برضاها ،

__________________

(١) كنز العمال ٣ / ١٣٥ ، الطبري ٤ / ٥٢

١٥٨

فاستأذنا عليها فأبت أن تأذن لهما ، ثم استأذنا ثانيا فأبت ، فسارا الى أمير المؤمنين وطلبا منه أن يمنحهما الإذن لمقابلة وديعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانطلق عليه‌السلام الى الدار فالتمس من سيدة النساء أن تأذن لهما فاجابته الى ذلك فأذن (ع) لهما ودخلا فسلما عليها فلم تجبهما ، وتقدما فجلسا أمامها فازاحت بوجهها عنهما ، وراحا يلحان أن تسمع مقالتهما ، فاذنت لهما فى ذلك فقال أبو بكر : « يا حبيبة رسول الله والله ان قرابة رسول الله أحب الى من قرابتى ، وإنك لأحب الى من عائشة ابنتي ولوددت يوم مات أبوك أني مت ، ولا ابقى بعده ... أفتراني اعرفك وأعرف فضلك وشرفك وامنعك حقك وميراثك من رسول الله؟ الا أني سمعت رسول الله يقول :

« لا نورث ما تركناه فهو صدقة »

وقد فندت روايته بضعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما اقامته ـ في خطابها الكبير ـ من اوثق الأدلة على بطلان قوله ومساواة النبي لعموم المسلمين في الميراث ، والتفتت سلام الله عليها إلى أبي بكر وقد اشركت عمر معه فى خطابها قائلة :

« ونشدتكما الله ... ألم تسمعا رسول الله يقول : رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي ، فمن احب فاطمة ابنتي فقد أحبنى ، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ، ومن اسخط فاطمة فقد أسخطني؟ »

فاجابا بالتصديق قائلين :

« اجل سمعناه يقول ذلك »

فرفعت كفيها إلى السماء وراحت تقول بفؤاد مكلوم

« فاني اشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني ، وما أرضيتماني ... ولئن لقيت رسول الله لأشكو كما إليه! »

١٥٩

وانطلق أبو بكر يبكي فقالت له :

« والله لأدعون عليك في كل صلاة اصليها .. » (١)

( فما كان أشدها كلمات أخف من وقعها ضربات السيف! مادت الارض تحتهما ، ودارت كالرحى حتى سارا من هول ما لقيا يترنحان. وغادرا الدار وقد خبا أملهما في رضا زهراء الرسول ، وعلما مدى الغضب الذي أثاراه عليهما في قلبها ومدى السخط الذي باءا به ) (٢)

وحقا لأبي بكر أن يبكي ويحزن من غضب سيدة النساء عليه فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها :

« إن الله يغضب لغضبك ، ويرضى لرضاك » (٣)

لقد ضاقت الدنيا على أبي بكر ، ولاذ بدموعه ليخفف بها آلامه واحزانه فقد فاته رضاء بضعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو من رضاء الله

كل هذه الحوادث كانت بمرأى من الامام الحسن ومسمع فكان لها الاثر في موطن شعوره فقد جعلته واجدا على من تقمص حق أبيه وناقما على من احتل مركزه

شجون الزهراء

وطافت بوديعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موجات من الهموم والاحزان

__________________

(١) الامامة والسياسة ١ / ١٤ ، اعلام النساء ٣ / ١٢١٤ ، الامام على ١ / ٢١٧

(٢) الامام على ١ / ٢١٧ ـ ٢١٨

(٣) مستدرك الحاكم ٣ / ١٥٣ ، اسد الغابة ٥ / ٥٢٢ ، تهذيب التهذيب ١٢ / ٤٤١ ، ميزان الاعتدال ٢ / ٧٢ ، كنز العمال ٦ / ٢١٩ ، ذخائر العقبى ص ٣٩ مقتل الخوارزمي ١ / ٥٢

١٦٠