الإمام الرضا عليه السلام سيرة وتاريخ

عبّاس الذهبي

الإمام الرضا عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

عبّاس الذهبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-368-3
الصفحات: ٢٠١
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ثلاثة ، هم : موسىٰ ومحمد وفاطمة ـ ويضيف : أما محمد هو أبو جعفر الثاني إمام الشيعة الاثني عشرية ، لقبه التقي عليه‌السلام مات أبوه وله أربع سنين (١). وفي كتاب (لباب الأنساب) أن للرضا ولدا اسمه علي بن علي الرضا (٢).

ويذهب صاحب (الصواعق المحرقة) إلى أن الرضا عليه‌السلام : توفي عن خمسة ذكور وبنت ، أجلُّهم محمد الجواد لكنه لم تطل حياته (٣). ويذهب الصفدي والذهبي إلى هذا الرأي ، ويسرد الصفدي وابن الصباغ أسماءهم ، وهم : محمد ، الحسن ، جعفر ، ابراهيم ، الحسين ، عائشة (٤).

وعن (العُدد القوية) : كان له ولدان محمد وموسى لم يترك غيرهما (٥).

وقال الشيخ المفيد : مضى الرضا عليه‌السلام ولم يترك ولداً نعلمه إلّا ابنه الإمام بعده أبا جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام (٦).

والذي يترجح في النظر ما ذكره المفيد ، وبه جزم ابن شهرآشوب (٧) ، والطبرسي (٨) ، وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري (٩) فالمعلوم لدينا من ابنائه هو الإمام محمد الجواد ، واما غيره فلم يثبت ، ويؤيد هذا الرأي

________________

(١) المجدي في أنساب الطالبيين / علي بن محمد العلوي : ١٢٨.

(٢) لباب الأنساب والألقاب والأعقاب / ابن فندق ٢ : ٤٤١.

(٣) الصواعق المحرقة / الهيتمي : ٣١١.

(٤) الوافي بالوفيات / الصفدي ٢٢ : ٢٤٨ ، ترجمة رقم (١٨). سير أعلام النبلاء ٩ : ٣٩٣ ، الترجمة ١٢٥ ، وأيضاً : الفصول المهمة : ٢٦٠.

(٥) في رحاب أئمة أهل البيت عليهم‌السلام / السيد محسن الأمين ٤ : ٢٦٤.

(٦) الإرشاد ٢ : ٢٧١.

(٧) المناقب ٤ : ٣٩٧.

(٨) اعلام الورى ٢ : ٨٦.

(٩) دلائل الإمامة : ٣٥٩.

٤١

الرواية الواردة عن حنان بن سدير ، قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : أيكون إمام ليس له عقب ؟ فقال أبو الحسن : « اما أنه لا يولد لي إلّا واحد ، ولكن الله منشىء منه ذرية كثيرة ». قال أبو خداش : سمعت هذا الحديث منذ ثلاثين سنة (١).

والله أعلم بواقع الأمر.

*         *        *

________________

(١) كشف الغمة ٣ : ٩٥.

٤٢

الفصل الثالث

الإمام الرضا عليه‌السلام بعد تولـيه الإمامة

تعتقد مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام أن الإمامة أمرٌ الهي وجعلٌ رباني لا رأي لأحد فيها من الأمة. وبأن الإمام يجب أن يكون منصوصاً عليه من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. إذ الإمامة هي امتداد للنبوة ، والدليل الذي يوجب إرسال الرسل وبعث الأنبياء هو نفسه أيضاً يوجب نصب الإمام. وهي أيضاً لطف من الله كالنبوة فلابد من أن يكون في كل عصر إمام هادٍ يخلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وظائفه في هداية البشر.

ولو تعمقنا في النظر قليلاً لوجدنا أن فكرة النص تقوم على دليلين :

الأول : عقلي : ويستدل به على استحالة أن يترك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمة فوضى من بعده ، وهو الحريص عليها ، وقد بيّن لها صغائر الأمور ، فكيف يترك مسألة الإمامة أو القيادة دون تعيين ؟!. علما بأن الخليفة الأول والثاني قد عينا أشخاصاً قبيل وفاتهم لأمر الخلافة.

الثاني : شرعي : حيث استُدلّ بالكثير من الآيات والروايات على ثبوت الإمامة في أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وأحد عشر من ولده من بعده.

وعرض جميع الادلة العقلية والنقلية على إمامة أهل البيت عليهم‌السلام بحث طويل وعريض لامجال هنا لاستقصائه ، ومن شاء فليراجع كتاب (الشافي

٤٣

في الإمامة) للسيد المرتضىٰ قدس‌سره ، إذ يعد هذا الكتاب بشهادة أعلام الطائفة فريداً في بابه ، بل هو كما يقول الشيخ محمد جواد مغنية في تقريظه : إنه صورة صادقة لمعارف المرتضىٰ ومقدرته ، أو لمعارف علماء الإمامية وعلومهم في زمنه ـ على الأصح ـ عالج المرتضىٰ مسألة الإمامة من جميع جهاتها كمبدأ ديني واجتماعي وسياسي ، وأثبت بدليل العقل والنقل الصحيح أنها ضرورة دينية واجتماعية ، وأن علياً عليه‌السلام هو الخليفة الحق المنصوص عليه بعد الرسول ، وأنه من عارض وعاند فقد عارض الحق والصالح العام. ذكر الشريف جميع الشبهات التي قيلت أو يمكن أن تُقال حول الإمامة وأبطلها بمنطق العقل والحجج الدامغة (١).

لقد شغل موضوع الإمامة حيزاً كبيراً من فكر أئمة أهل البيت عليهم‌السلام لكونها حجر الزاوية في الفكر الإسلامي عامة والشيعي على وجه الخصوص ، إضافة إلى كثرة اختلاف الناس حولها ، وحاجتهم الماسة إلى القول الفصل فيها ، بغية الخروج من مرحلة الحيرة والتساؤل.

وقد حظيت هذه المسألة بأهمية استثنائية عند إمامنا الرضا عليه‌السلام فأجاب عن الاشكالات والشبهات المطروحة إجابةً شافيةً ووافية ، نجدها في الرواية التالية : عن القاسم بن مسلم ، عن أخيه عبد العزيز بن مسلم ، كنا في أيام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام بمرو ، فاجتمعنا في مسجد جامعها في يوم الجمعة في بدء مقدمنا ، فأدار الناس أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها فدخلت على سيدي ومولاي الرضا عليه‌السلام ، فأعلمته ما خاض الناس فيه ، فتبسم عليه‌السلام ثم قال : « يا عبد العزيز ، جهل القوم وخدعوا عن

________________

(١) مقدمة تحقيق كتاب الشافي ١ : ١٩ ـ ٢٠.

٤٤

أديانهم ، ان الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء بيّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه كملاً فقال عزّوجلّ : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) (١) وأنزل في حجة الوداع وفي آخر عمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) (٢) وأمر الإمامة في تمام الدين ، ولم يمض صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى بيّن لأمته معالم دينهم ، وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد الحق وأقام لهم علياً عليه‌السلام علماً وإماماً ، وما ترك شيئاً تحتاج إليه الأمة إلّا بينه ، فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه ، فقد ردّ كتاب الله عزّوجلّ ، ومن ردّ كتاب الله تعالى فهو كافر ، هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم ؟ ان الإمامة أجلّ قدراً وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم ، أو ينالونها بآرائهم أو يقيموا إماماً باختيارهم ـ إلى أن يقول ـ فقلّدها علياً عليه‌السلام بأمر الله عزّوجلّ على رسم ما فرضها الله عزّوجلّ ، فصارت في ذريته الأصفياء الذين أتاهم الله العلم والإيمان بقوله عز وجل : ( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ ) (٣) فهي في ولد علي عليه‌السلام خاصة إلى يوم القيامة ـ إلى أن قال ـ ان الإمامة هي منزلة الأنبياء وإرث الاوصياء ، ان الإمامة خلافة الله عز وجل وخلافة الرسول ومقام أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسين عليهما‌السلام ، ان الإمامة زمام الدين ونظام

________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٣٨.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٣.

(٣) سورة الروم : ٣٠ / ٥٦.

٤٥

المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين ، ان الإمامة أُسّ الإسلام النامي وفرعه السامي ».

ثمّ يورد تشبيهات بليغة وبديعة ، فيقول : « الإمام كالشمس الطالعة للعالم وهي بالافق بحيث لاتنالها الأيدي والابصار ، الإمام البدر المنير ، والسراج الزاهر ، والنور الساطع ، والنجم الهادي في غياهب الدجى والبيد القفار ولجج البحار ، الإمام الماء العذب على الظمأ ، والدال على الهدى والمنجي من الردىٰ ».

ثمّ يضيف قائلاً : « فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام ويمكنه اختياره ؟ هيهات هيهات.. فكيف لهم باختيار الإمام ؟! والإمام عالم لا يجهل ، وراع لا ينكل ، معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة ، مخصوص بدعوة الرسول وهو نسل المطهرة البتول ، لا مغمز فيه في نسب ، ولايدانيه ذو حسب ، فالنسب من قريش والذروة من هاشم ، والعترة من آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (١).

لقد حاول الإمام الرضا عليه‌السلام أن يعيد الوعي الإسلامي الصحيح بشأن الإمامة سيّما بعد تفريط القسم الأعظم من الأمة بها ، بحيث أنه عليه‌السلام لم يترك فرصة إلّا واستغلها في بيان ضرورتها وأدلتها وكشف أبعادها ، والطريق اللاحب في انعقادها ، ولعلّ أوضح مثل على ذلك ، ما جاء عن الحسن بن جهم ، قال : حضرت مجلس المأمون يوماً وعنده علي بن موسى الرضا عليه‌السلام وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام من الفرق المختلفة فسأله بعضهم ، فقال له : يا ابن رسول الله بأي شيء تصح الإمامة لمدعيها ؟ قال : « بالنص والدليل » ،

________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩٥ ، ح ١ ، باب (٢٠).

٤٦

قال له : فدلالة الإمام فيما هي ؟ قال : « في العلم واستجابة الدعوة.. » (١).

ومن الواضح أن الإمام الرضا عليه‌السلام قد تصدّى للإمامة علناً ، وقال بإمامة نفسه وأذعنت له قاعدته ، وشهد بذلك خصمه. الأمر الذي يستوجب استجلاء هذه الأمور في ثلاثة مباحث ، وهي :

المبحث الأول : النص على الإمام الرضا عليه‌السلام بالإمامة

أولاً : من النصوص الدالة على إمامته عليه‌السلام :

هناك روايات عديدة من طرق الشيعة الإمامية تؤكد على سلسلة أسماء السلالة الطاهرة للأئمة عليهم‌السلام واحداً بعد الآخر ، ويأتي ذكر الإمام الرضا عليه‌السلام في الترتيب الثامن : أخرج الشيخ الصدوق بسند صحيح عن الثقة عبد الله بن جندب عن موسىٰ بن جعفر عليه‌السلام ما ينبغي أن يقال في سجدة الشكر وهذا نصّه : « اللهمّ إني أُشهدك وأُشهد ملائكتك وأنبياءك ورسلك وجميع خلقك أنك أنت الله ربّي والإسلام سلام ديني ومحمداً نبيي وعلياً والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمّد وموسىٰ بن جعفر وعلي بن موسىٰ ومحمّد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي والحجّة بن الحسن بن علي أئمتي بهم أتولىٰ ومن أعدائهم أتبرأ.. » (٢).

ويمكن الاستشهاد أيضاً بحديث اللوح المتواتر المروي من طرق

________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢١٦ ، ح ١ ، باب (٤٦).

(٢) من لا يحضره الفقيه / الشيخ الصدوق ١ : ٢١٧ باب (٤٧).

٤٧

جمّة ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، وكذلك عن الإمام السجاد والباقر والصادق عليهم‌السلام ، نكتفي منها برواية أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « قال أبي عليه‌السلام لجابر بن عبد الله الأنصاري : إن لي إليك حاجة ، فمتىٰ يخف عليك أن أخلو بك ، فأسألك عنها ؟ قال له جابر : في أي الأوقات شئت ، فخلا به أبي عليه‌السلام فقال له : يا جابر أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد أُمي فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما أخبرتك به أُمي أنه في ذلك اللوح مكتوب.

قال جابر : أشهد بالله ، أني دخلت على أُمك فاطمة في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهنئها بولادة الحسين عليه‌السلام فوجدت في يدها لوحاً أخضر ظننت أنه زُمرّد ، ورأيت فيه كتاباً أبيض شبه نور الشمس ، فقلت لها : بأبي أنتِ وأمي يا بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما هذا اللوح ؟ فقالت : هذا اللوح أهداه الله عزّوجلّ إلىٰ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه اسم أبي واسم بعلي واسم ابنَيّ وأسماء الأوصياء من ولدي ، فأعطانيه أبي عليه‌السلام ليسرّني بذلك ، قال جابر : فأعطتنيه أمك فاطمة ، فقرأته ، وانتسخته فقال أبي عليه‌السلام : فهل لك يا جابر أن تعرضه عليّ ، قال نعم ، فمشىٰ معه أبي عليه‌السلام حتى انتهى إلىٰ منزل جابر ، فأخرج أبي عليه‌السلام صحيفة من رق ، قال جابر : فأشهد بالله أني هكذا رأيته في اللوح مكتوباً : « بسم الله الرحمٰن الرحيم هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لمحمد نوره وسفيره وحجابه ودليله نزل به الروح الأمين من عند ربّ العالمين ، عظّم يا محمد أسمائي واشكر نعمائي ، ولا تجحد آلائي... إني لم أبعث نبياً فأكملتُ أيامه وانقضت مدّته ، ألا جعلت له وصيّاً ، وأني فضلتك على الأنبياء وفضلت وصيك على الأوصياء ، وأكرمتك بشبليك بعده وبسبطيك

٤٨

الحسن والحسين فجعلت حسناً معدن علمي بعد انقضاء مدّة أبيه ، وجعلت حسيناً خازن وحيي وأكرمته بالشهادة ، وختمت له بالسعادة ، فهو أفضل من استشهد ، وأرفع الشهداء درجة عندي ، وجعلت كلمتي التامة معه والحجّة البالغة عنده ، بعترته أثيب وأعاقب : أولهم علي سيد العابدين وزين أوليائي الميامين ، وابنه شبيه جدّه المحمود محمد الباقر لعلمي والمعدن لحكمي ، سيهلك المرتابون في جعفر الراد عليه كالراد عليّ ، حق القول مني لأكرمنّ مثوىٰ جعفر ولاسرنّه في أشياعه وأنصاره وأوليائه ، انتجبت بعده موسىٰ وانتجبت بعده فتنة عمياء حندس لأن خيط فرضي لا ينقطع وحجتي لا تخفى.. وويل للمفترين الجاحدين عند انقضاء مدة عبدي موسىٰ وحبيبي وخيرتي ، إن المكذب بالثامن مكذب كل أوليائي ، وعلي وليي وناصري ، ومن أضع عليه أعباء النبوة وأمنحه بالاضطلاع ، يقتله عفريت مستكبر ، يدفن في المدينة التي بناها العبد الصالح إلى جنب شر خلقي ، حقّ القول مني لاقرنَّ عينيه بمحمد ابنه وخليفته من بعده ، فهو وارث علمي ومعدن حكمي وموضع سرّي وحجتي علىٰ خلقي.. وأختم بالسعادة لابنه علي وليي وناصري والشاهد في خلقي ، وأميني علىٰ وحيي ، أخرج منه الداعي إلىٰ سبيلي والخازن لعلمي الحسن ، ثم أكمل ذلك بابنه رحمةً للعالمين ، عليه كمال موسىٰ وبهاء عيسىٰ وصبر أيوب.. أُولئك أوليائي حقاً بهم أدفع كل فتنة عمياء حندس.. أُولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة وأولئك هم المهتدون » قال عبد الرحمٰن بن سالم : قال أبو بصير : لو لم تسمع في دهرك إلّا هذا الحديث لكفاك ، فصنه إلّا عن أهله » (١).

________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٤٨ ، ح ٢ باب (٦).

٤٩

ثانياً : أساليب الإمام الكاظم عليه‌السلام في النصّ على إمامة ولده الرضا عليه‌السلام

مرّت الشيعة بعد وفاة الإمام الكاظم عليه‌السلام بمنعطف خطير. فقد كان عليه‌السلام يمر بظروف خانقة كما أسلفنا ، ولذلك تمسك بالتقية وكان تحركه بمنتهى السرية ، ومن ثم غيبته الطويلة في السجون ، كل ذلك ساعد على انقطاعه عن قاعدته الجماهيرية ، وكان الإمام الكاظم عليه‌السلام يدرك المقطع الزمني الحساس والعصيب الذي ستمر به إمامة ولده الرضا عليه‌السلام ، فهناك الأجواء السياسية الملبدة بالغيوم من قبل الحكام ، وهناك ذوو الاطماع من علماء السوء الذين سوف يصنعون سياجاً هائلاً من التعتيم والتكتم أو التشكيك بإمامة ولده ، لذلك لم يأل جهداً ولم يدّخر وسعاً في التبليغ لإمامة ولده الرضا عليه‌السلام ، مرة من خلال التلميح بفضائله وكمالاته وأهليته للإمامة ، ومرة أخرى من خلال التصريح بها ، وتارة يتصل مع أصحابه والثقات من شيعته بصورة فردية ، وتارة أخرى يجتمع مع أقربائه وأهل المدينة بصورة جماعية ، وأحياناً يشير إلى إمامة ولده بصورة شفوية ، وأخرى بصورة كتب أو ألواح يشرح فيها أهلية ولده لمنصب الإمامة ويضمّنها وصاياه به. وبدا لنا من خلال البحث أن الإمام الكاظم عليه‌السلام قد سار حسب خطة مرسومة للتعريف بالرضا عليه‌السلام والإشادة بمنزلته ، وقد هدد وأوعد كل من يسقط تحت حوافر الاطماع أو ينساق إلىٰ مهاوي الضياع كالواقفية.

ونحن سوف نغوص في أعماق الروايات الدالة على إمامة الرضا عليه‌السلام ، نحاول أن ندرسها ونسبر أغوارها ونصنفها حسب الغاية التي توخيتْ منها.

٥٠

وقد توصلنا من خلال البحث الى أن الإمام الكاظم عليه‌السلام قد اتبع عدة أساليب للتعريف بإمامة ولده الرضا عليه‌السلام ، هي :

أولاً : أسلوب التلميح الشفوي :

يجد الباحث في هذا الصدد عدداً من الروايات لم تصرح بإمامة الرضا عليه‌السلام ، ولكنها تلمح الى ذلك من خلال عبارات دقيقة موحية ، ويبدو أنها قيلت بظرف خاص لا يساعد على التصريح ، كما سنرىٰ في العناوين التالية :

١ ـ السيادة وانتحال الكنية :

نجد روايات يشيد فيها الكاظم عليه‌السلام بولده الرضا عليه‌السلام بأنه سيد ولده ، أو أنه نحله كنيته ، فهكذا عبارات توحي ـ بدون شك ـ ضمناً الى استحقاقه للإمامة ، لاسيما أن الكناية عند ذوي الألباب أبلغ من التصريح ، ويبدو أن أصحاب الإمام الكاظم عليه‌السلام ، كهشام بن الحكم ، ممن يغنيهم التلميح عن التصريح قد أدركوا جيداً ماوراء هذه العبارات من دلالات..

عن الحسين بن نعيم الصحاف ، قال : كنت أنا وهشام بن الحكم وعلي ابن يقطين ببغداد فقال علي بن يقطين : كنت عند العبد الصالح موسى بن جعفر عليه‌السلام جالساً ، فدخل عليه ابنه الرضا عليه‌السلام فقال : « يا علي ، هذا سيد ولدي ، وقد نحلته كنيتي » ، فضرب هشام براحته جبهته ! ثم قال : ويحك ! كيف قلت ؟ فقال علي بن يقطين : سمعت والله منه كما قلت لك ، فقال هشام : أخبرك والله أن الامر فيه من بعده (١).

________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣١ ، ح ٣ ، باب (٤).

٥١

وقد استخدم الإمام الكاظم عليه‌السلام عبارات ايحائية أخرى ، منتقاة بدقة :

عن زياد بن مروان القندي ، قال : دخلت على أبي ابراهيم عليه‌السلام وعنده علي ابنه ، فقال لي : « يا زياد ، هذا كتابه كتابي ، وكلامه كلامي ، ورسوله رسولي ، وما قال فالقول قوله » (١).

قال الشيخ الصدوق بعد رواية الخبر : إن زياد بن مروان القندي روى هذا الحديث ثم انكره بعد مضي موسى عليه‌السلام وقال بالوقف ، وحبس ماكان عنده من مال موسى بن جعفر !

٢ ـ بيان منزلته عليه‌السلام :

أولى الإمام الكاظم عليه‌السلام عناية خاصة بولده الرضا عليه‌السلام وأحاطه باهتمام ملحوظ منذ نعومة أظفاره مما جعل الانظار تتجه إليه والألسن تتحدث عنه ، ومن الروايات الواردة في هذا الشأن ، ما أخرجه الشيخ الصدوق : عن المفضل بن عمر ، قال : دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام وعلي ابنه في حجره وهو يقبّله ويمصّ لسانه ، ويضعه على عاتقه ويضمه اليه ، ويقول : « بأبي أنت وأمي ، ما أطيب ريحك وأطهر خلقك وأبين فضلك ! » قلت : جعلت فداك ، لقد وقع في قلبي لهذا الغلام من المودة ما لم يقع لأحد إلّا لك. فقال لي : « يا مفضل هو مني بمنزلتي من أبي عليه‌السلام ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٢) » (٣).

________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٩ ، ح ٢٥ ، باب (٤) ، أعلام الورى ٢ : ٤٥.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٣٤.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٨٦ ، ح ٢٨ ، باب (٤).

٥٢

٣ ـ الوصية بدفع الحقوق له عليه‌السلام :

وهي قرينة أخرى على إمامته ، لأن الحقوق تعطى ـ كما هو معروف ـ للإمام الشرعي لكي يصرفها في مواردها. ولانريد أن نسترسل في إيراد الامثلة على ذلك ، ونكتفي بعرض الروايتين التاليتين :

الرواية الأولى : عن الحسن بن علي الخزاز ، قال : خرجنا إلى مكة ومعنا علي بن أبي حمزة ومعه مال ومتاع ، فقلنا : ما هذا ؟ قال : هذا للعبد الصالح عليه‌السلام أمرني أن أحمله إلى علي ابنه عليه‌السلام وقد أوصى اليه.

قال الشيخ الصدوق : إن علي بن أبي حمزة أنكر ذلك بعد وفاة موسى ابن جعفر عليه‌السلام وحبس المال عن الرضا عليه‌السلام (١) !

الرواية الثانية : عن داود بن زربي ، قال : جئت إلى أبي ابراهيم عليه‌السلام بمال فأخذ بعضه وترك بعضه ، فقلت : أصلحك الله ، لأي شيء تركته عندي ؟! فقال : « إنّ صاحب هذا الأمر يطلبه منك ».

فلمّا جاء نعيه عليه‌السلام بعث إليّ أبو الحسن عليه‌السلام فسألني ذلك المال ، فدفعته إليه (٢).

٤ ـ الإشارة إلىٰ كون الإمام الرضا عليه‌السلام من الأوصياء :

وهي قرينة إيحائية قوية تضاف إلى سائر القرائن والعلامات الأخرى السابقة ، يتضح لنا ذلك من متن الرواية التالية : عن نعيم القابوسي ، عن

________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٧ ، ح ٣٧ ، باب (٤).

(٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٤ : ٣٦٨ ، الكافي ١ : ٢٥٠ / ١٣.

٥٣

أبي الحسن موسى عليه‌السلام قال : « ابني عليّ أكبر ولدي ، وآثرهم عندي ، وأحبهم إليّ ، وهو ينظر في الجفر ولم ينظر فيه إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ » (١).

فهنا لم يصرح الإمام الكاظم عليه‌السلام علناً بإمامة ولده الرضا عليه‌السلام ولكن ذكر « الجفر » وكون النظر فيه من اختصاص النبي أو الوصي ، فهذه الجملة تعطي إيماءة مهمة على إمامته ، وخاصة بعد سبقها بذكر علامات أخرى ، ككونه أكبر ولده وأحبهم اليه ، وآثرهم عنده ، وهي من صفات الإمام الذي يخلف أباه في الإمامة كما جاءت بهذا أحاديث صريحة كثيرة لا حصر لها.

ثانياً : أسلوب التصريح الشفوي

وهنا نجد الإمام الكاظم عليه‌السلام يصرح بصورة لالبس فيها بإمامة ولده ، ويحدد القول الفصل حول إمامته بوضوح لا يخفىٰ ، وهذا الأسلوب تتوضح خطوطه من خلال روايات عديدة ، وبعد دراستنا لها ، نلاحظ :

أولا : تصريحه عليه‌السلام بإمامة ولده الرضا عليه‌السلام :

اذ نلاحظ أن الإمام الكاظم عليه‌السلام يغتنم كل مناسبة لكشف النقاب عن إمامة ولده الرضا عليه‌السلام ، ويبدو أنه كان يركز على ثقات أصحابه وشيعته ، من أجل تمهيد الطريق أمام إمامة ولده ، حاملاً على كتفه عب ء إيصال هذه الأمانة الإلهية الخطيرة ، ومدركاً في الوقت نفسه بأن هناك من تسوّل له نفسه الخروج عن وصيته بإمامة ابنه ، ففي اسناد ينتهي إلىٰ غنام بن القاسم

________________

(١) اعلام الورى ٢ : ٤٤.

٥٤

قال : قال لي منصور بن يونس بن بزرج : دخلت على أبي الحسن ـ يعني موسىٰ بن جعفر عليهما‌السلام ـ يوماً ، فقال لي : « يا منصور ، أما علمت ما أحدثت في يومي هذا ؟ » قلت : لا ، قال : « قد صيّرت علياً ابني وصيي » وأشار بيده الى الرضا عليه‌السلام « وقد نحلته كنيتي ، وهو الخلف من بعدي ، فادخل عليه وهنّئه بذلك ، واعلم أني أمرتك بهذا » قال : فدخلت عليه فهنّئته بذلك وأعلمته أنه أمرني بذلك.. ثمّ جحد منصور فأخذ الأموال التي كانت في يده وكسرها ! (١).

ثانياً : جواب الإمام الكاظم عليه‌السلام علىٰ سؤال (عمن سيخلفه في الإمامة) :

كان بعض الشيعة ونتيجة مباشرة لظروف التقية لم تسمع من إمامها الكاظم عليه‌السلام من يخلفه على الإمامة ، ولم تطرق سمعها النصوص السابقة من آبائه عليهم‌السلام ، أو سمعت بها وأحبّت التأكد من شخص الإمام كما تحكيه بعض الروايات في هذا المقام ، خصوصاً وإن حديث « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » قد تواتر نقله عند الإمامية وصحّت طرقه عند غيرهم ، الأمر الذي يؤدي إلى السؤال من الإمام عمن سيلي الأمر بعده ؛ لأجل قطع الظن الحاصل من السماع السابق أو عدمه ، باليقين الحاصل من السماع من الإمام مباشرةً ، ومن هنا وجهت بعض الشخصيات أسئلة صريحة للإمام الكاظم عليه‌السلام حول من سيخلفه بعد وفاته ، فأجابهم الإمام بصورة صريحة لا لبس فيها أن الإمام من بعده علي الرضا عليه‌السلام ابنه ، ومن الشواهد عليه ، ما جاء عن داود الرقي ، قال : قلت لأبي ابراهيم

________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٢ ، ح ٥ ، باب (٤).

٥٥

ـ يعني موسى الكاظم عليه‌السلام : فداك أبي ، إني قد كبرت وخفت أن يحدث بي حدثٌ ولا ألقاك ، فأخبرني من الإمام من بعدك ؟ فقال : « ابني علي عليه‌السلام » (١).

ونظير هذه الرواية ما أسنده الصدوق إلىٰ نصر بن قابوس. قال : قلت لأبي ابراهيم موسى بن جعفر عليهما‌السلام : اني سألت أباك عليه‌السلام من الذي يكون بعدك ؟ فأخبرني أنك أنت هو ، فأخبرني من الذي يكون بعدك ؟ قال : « ابني علي عليه‌السلام » (٢).

٢ ـ توسيعه عليه‌السلام دائرة التصريح بإمامة ولده الرضا عليه‌السلام :

لم تقتصر دعوة الإمام الكاظم عليه‌السلام لإمامة ولده الرضا عليه‌السلام على اللقاءات والاتصالات الفردية التي تتم عادة تحت ستار كثيف من الكتمان والسرية ، بل جهد في إعلان إمامته أمام الجموع أو الملأ العام ، لاسيما وأنه قد أدرك أن حصرها في نطاق ضيق قد لايحقق النتيجة المرجوة ، فمن المحتمل أن تكون عرضة للتشكيك أو الإنكار ، وقد تعطي مبرراً لتنصل أهل الأهواء وملتمسي الأعذار وأصحاب المطامع بالأموال.

من أجل ذلك أخذ الإمام الكاظم عليه‌السلام يجمع في بداية الأمر من يخصه بالقرابة القريبة من ولد علي وفاطمة عليهم‌السلام : عن حيدر بن أيوب ، قال : كنّا بالمدينة في موضع يعرف بالقبا ، فيه محمد بن زيد بن علي ، فجاء بعد الوقت الذي كان يجيئنا فيه ، فقلنا له : جعلنا الله فداك ،

________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٣ ، ح ٨ ، باب (٤).

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٤٠ ، ح ٢٦ ، باب (٤).

٥٦

ما حبسك ؟ قال : دعانا أبو ابراهيم عليه‌السلام اليوم سبعة عشر رجلاً من ولد علي وفاطمة عليهما‌السلام ، فأشهدنا لعلي ابنه بالوصية والوكالة في حياته وبعد موته ، وأن أمره جائز عليه وله ، ثم قال محمد بن زيد : والله يا حيدر لقد عقد له الإمامة اليوم وليقولن الشيعة به من بعده ، قال : حيدر ، قلت : بل يبقيه الله ، وأي شيء هذا ؟ قال : يا حيدر ، إذا أوصى إليه فقد عقد له الإمامة (١).

ومن ثم وسع نطاق الوصية إلىٰ دائرة القرابة الأبعد كولد جعفر بن أبي طالب من الرجال والنساء ، فعن عبد الله بن الحارث وأمه من ولد جعفر بن أبي طالب ، قال : بعث إلينا أبو ابراهيم عليه‌السلام فجمعنا ثم قال : « أتدرون لم جمعتكم ؟ » قلنا : لا ، قال : « اشهدوا أنّ علياً ابني هذا وصيّي ، والقيّم بأمري ، وخليفتي من بعدي ، من كان له عندي دَين فليأخذه من ابني هذا ، ومن كانت له عندي عدة فليستنجزها منه ، ومن لم يكن له بد من لقائي فلا يلقني إلّا بكتابه » (٢).

ويبدو من الرواية التالية أنه قد وسع من نطاق الدعوة لإمامة ولده الرضا عليه‌السلام ، بحيث شملت المدينة بصورة عامة ، وبذلك انتقل إلى مدار جديد من أجل إشهاد أكبر عدد ممكن من الأفراد على استحقاق ابنه للإمامة ، ليقطع الطريق على كل الأعذار ، ويزيل جميع الشكوك التي تساور الأذهان المريضة في هذا الشأن : عن حسين بن بشير ، قال : أقام لنا أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام ابنه علياً عليه‌السلام كما أقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً عليه‌السلام يوم

________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٧ ، ح ١٦ ، باب (١).

(٢) اعلام الورى ٢ : ٤٥ ، الكافي ١ : ٢٤٩ / ٧ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٦ ، ح ١٤ ، باب (٤).

٥٧

غدير خم ، فقال : « يا أهل المدينة » أو قال : « يا أهل المسجد ، هذا وصيي من بعدي » (١).

ثالثاً : أسلوب الكتابة

حشد الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام كل الحجج والادلة على إمامة ولده الرضا عليه‌السلام من بعده ، ولم يقتصر علىٰ عرضها في اللقاءات الفردية والجماعية التي تكون عادة بصورة شفوية ، من خلال كلامه المباشر مع الناس أفراداً أو جماعات ، حيث يختار عبارات منتقاة بعناية حسب مايسمح به الظرف السياسي السائد ، اذ يشير تلميحا أو تصريحا الى إمامة الرضا عليه‌السلام ، ويظهر أنه لم يكتف بالأسلوب الشفوي كوسيلة اعلامية سائدة بل أردفه بأسلوب تحريري ، من خلال كتابة الالواح والكتب ، حتى تكون الحجة أبلغ. ولايخفى بان الكلام المكتوب يكون أكثر وقعاً وتأثيراً في النفوس من الكلام الشفوي الذي يكون ـ احياناً ـ عرضة للتأويل والتزوير. يتضح لنا هذا الأسلوب من خلال الروايتين التاليتين :

الرواية الأولى : عن عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : أوصى أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام الى ابنه علي عليه‌السلام ، وكتب له كتاباً أشهد فيه ستين رجلاً من وجوه أهل المدينة (٢).

الرواية الثانية : عن الحسين بن المختار ، قال : لما مرّ بنا أبو الحسن عليه‌السلام بالبصرة خرجت إلينا منه « ألواح » مكتوب فيها : « عهدي إلى أكبر

________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٧ ، ح ١٧ ، باب (٤).

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٧ ، ح ١٧ ، باب (٤).

٥٨

ولدي » (١). ومعلوم أن الإمام الرضا عليه‌السلام أكبر ولد الإمام الكاظم عليه‌السلام.

أسلوب الوصية :

جارى الإمام الكاظم عليه‌السلام الاسلوب المتَّبَع عند الأئمة عليهم‌السلام في الوصية لأولادهم من بعدهم ، ويبدو أن الإمام الكاظم عليه‌السلام في وصيته لولده الرضا عليه‌السلام كان يخشى عليه من حسد إخوته ومنافستهم إيّاه ، أو كان يخشى عليه من السلطات الحاكمة التي ترصد بدقة من يخلفه في أمره ، لذلك كانت وصيته له اتخذت أسلوبين :

الأسلوب العام :

عندما أوصى لولده الرضا عليه‌السلام في الظاهر ، ولأجل التمويه أشرك معه بنيه ، حتى لا يتحسّسوا منه ، ولا تكشف السلطة من يخلفه.

الأسلوب الخاص :

فقد أوصى الإمام الكاظم عليه‌السلام للرضا عليه‌السلام خاصة ، وأفرده بالوصية وحده ، يظهر كل من الشكلين في الرواية التالية ذات الدلالة :

عن يزيد بن سليط قال : لقيت أبا ابراهيم عليه‌السلام ونحن نريد العمرة في بعض الطريق... قال : « أخبرك يا أبا عمارة ، اني خرجت من منزلي فأوصيت إلى ابني فلان وأشركت معه بنيّ في الظاهر ، وأوصيته في الباطن ، وأفردته وحده ، ولو كان الأمر إليّ لجعلته في القاسم لحبّي إيّاه ورأفتي عليه ، ولكن ذاك الى الله يجعله حيث يشاء ».

عند التمعّن في هذه الرواية نكتشف أن السبب في انتخاب الإمام

________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٩ ، ح ٢٤ ، باب (٤) ، وفي اعلام الورى ٢ : ٤٦ ، الفصل الثاني : أن الالواح خرجت وهو في الحبس.

٥٩

الرضا عليه‌السلام للإمامة ليس هو الحب فحسب ، والا فقد كان الكاظم عليه‌السلام ـ على حد قوله الشريف ـ يحب ولده « القاسم » ويرأف به ، وانما الإمامة جعل إلهي ، ينص الله تعالى على من يرتضيه لدينه ، ويكون الاصلح من بين خلقه. ومن هنا نجد أن الإمام الكاظم عليه‌السلام عند قرب أجله أوصى صريحاً بولده الرضا عليه‌السلام ، وبيّن أنه يجمع بين خصائص أو سمات إمامين يشاركونه في الاسم ، قال الإمام الكاظم : « إني أُؤخَذ هذه السنّة ، والأمر الى ابني عليّ سميّ عليّ وعليّ ، فأمّا عليّ الأول فعلي بن أبي طالب عليه‌السلام وأما عليّ الآخر فعلي بن الحسين عليهما‌السلام ، اُعطي فهم الأول وحكمته وبصره وودّه ودينه ومحنته ، ومحنة الآخر وصبره على مايكره ، وليس له أن يتكلم إلّا بعد موت هارون بأربع سنين » (١).

خامساً : أسلوب الترغيب والترهيب

لقد استخدم الإمام الكاظم عليه‌السلام هذا الأسلوب في تثبيت إمامة ولده من بعده ، لاسيما وأن النفس البشرية تسير علىٰ خطى الخوف والرجاء ، فمن جانب حبب لشيعته طاعته ، وافصح عن الثواب الجزيل الذي ينتظر من أقرّ بإمامته :

عن المفضل بن عمر ، قال : دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام وعلي ابنه في حجره.. قال : قلت هو صاحب هذا الأمر من بعدك ؟ قال : « نعم ، من أطاعه رشد ، ومن عصاه كفر » (٢).

________________

(١) اعلام الورى ٢ : ٥٠.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٤٠ ، ح ٢٨ ، باب (٤).

٦٠