الإمام الرضا عليه السلام سيرة وتاريخ

عبّاس الذهبي

الإمام الرضا عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

عبّاس الذهبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-368-3
الصفحات: ٢٠١
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

اللَّهِ .. ) (١).

وقال علي عليه‌السلام : يهلك فيَّ اثنان ولا ذنب لي؛ محب مفرط ، ومبغض مفرط ، وأنا أبرأ إلى الله تعالى ممن يغلو فينا ويرفعنا فوق حقنا كبراءة عيسى بن مريم عليه‌السلام من النصارى ، قال الله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ.. ) (٢) وقال عزوجل : ( لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ.. ) (٣) وقال عزوجل : ( مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ.. ) (٤) ومعناه أنّهما كانا يتغوّطان ، فمن ادعى للأنبياء ربوبية وادعى للأئمة ربوبية أو نبوة أو لغير الأئمة إمامة فنحن منه براء في الدنيا والآخرة » (٥).

ثالثاً : تكفير الغلاة والزجر عن مخالطتهم :

وخير ما يعبر عن هذا رواية أبي هاشم الجعفري رضي‌الله‌عنه عن الإمام الرضا عليه‌السلام وقد سأله عن الغلاة ، فقال بعد أن كفرهم صراحةً :

« .. من جالسهم أو خالطهم أو آكلهم أو شاربهم أو واصلهم أو زوّجهم أو تزوج منهم أو آمنهم أو ائتمنهم على أمانة أو صدق حديثهم أو أعانهم بشطر كلمة خرج من ولاية الله عزوجل وولاية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وولايتنا أهل

________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٧٩.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ١١٦.

(٣) سورة النساء : ٤ / ١٧٢.

(٤) سورة المائدة : ٥ / ٧٥.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢١٧ ، ح ١ ، باب (٤٦).

١٦١

البيت » (١).

رابعاً : تشبيهه عليه‌السلام الغلاة باليهود ونظرائهم :

عن علي بن معبد بن الحسين بن خالد الصيرفي ، قال : قال أبو الحسن الرضا عليه‌السلام : « من قال بالتناسخ فهو كافر » ثم قال عليه‌السلام : « لعن الله الغلاة ، ألا كانوا يهوداً ! ألا كانوا مجوساً ! ألا كانوا نصارى ! ألا كانوا قدرية ! ألا كانوا مرجئة ! ألا كانوا حرورية ! » ثم قال عليه‌السلام : « لا تقاعدوهم ولا تصادقوهم ، وابرؤوا منهم ، بريء الله منهم » (٢).

المبحث الثاني : موقفه من الواقفة

لقد انحرفت بالواقفة السبل من جراء الاستئثار بالأموال ، وأخذوا يُلبسون أطماعهم رداء المبدئية ، فقد ران زخرف الحياة على قلوبهم وتنكروا للرضا عليه‌السلام كإمام شرعي مفترض الطاعة ، بمزاعم واهية نسجوها من خيالهم لتبرير استئثارهم بالحقوق ، ولم تقتصر ضلالتهم على أنفسهم بل عملوا جاهدين على حرف الشيعة عن الإمام الحق وتأليبهم عليه ، من خلال أسلوب « الترغيب والترهيب ».

عن يونس بن عبد الرحمن ، قال :

مات أبو الحسن عليه‌السلام وليس من قوّامه أحد إلّا وعنده المال الكثير فكان ذلك سبب وقفهم وجحودهم لموته ، وكان عند زياد القندي سبعون

________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢١٩ ، ح ٤ ، باب (٤٦).

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢١٨ ، ح ٢ ، باب (٤٦).

١٦٢

ألف دينار ، وعند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار.

قال : فلما رأيت ذلك وتبين الحق وعرفت من أمر أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ماعلمت تكلّمت ودعوت الناس إليه ، قال : فبعثا إليَّ وقالا لي : ما يدعوك إلى هذا ؟! إن كنت تريد المال فنحن نغنيك ! وضمنا لي عشرة آلاف دينار ، وقالا لي : كفّ ! فأبيت ، وقلت لهم : إنا روينا عن الصادقين عليهما‌السلام أنهم قالوا : « إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه ، فإن لم يفعل سلب منه نور الإيمان ، وما كنت لأدع الجهاد في أمر الله على كل حال. فناصباني وأضمرا لي العداوة » (١).

لقد أسقط إمامنا القناع عن وجه الواقفة وأبطل المزاعم وقشع الشبهات التي تدثروا بها ، فقد حاول الواقفة التشكيك بإمامة الرضا عليه‌السلام تحت ستار كثيف من الزيف ، وسوف نقف هنا على أبرز الشبهات التي أثاروها ، والردود التي أوردها عليهم الإمام الرضا عليه‌السلام من خلال النقاط التالية :

أولاً : شبهة الواقفة بأنّ الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام لم يمت

تمسك الواقفة بشبهة واهنة مفادها عدم موت الإمام الكاظم عليه‌السلام ، وضربوا بالأخبار المؤكدة لموته عليه‌السلام عرض الجدار ، ولم يعطوا أُذناً صاغية لكل من يُخبرهم بوفاته ولو جاءت من أقرب المقربين إليه كولده الرضا عليه‌السلام ؛ فقد كان عثمان بن عيسى ، وهو الموكل من قبل الإمام الكاظم عليه‌السلام بمصر ، وعنده مال كثير وست جواري ، فبعث إليه أبو الحسن الرضا عليه‌السلام فيهن وفي المال ، فكتب إليه : أن أباك لم يمت ! ، فكتب إليه

________________

(١) علل الشرائع / الشيخ الصدوق ١ : ٢٧٦ ، ح ١ ، باب (١٧١).

١٦٣

الرضا عليه‌السلام : « إن أبي قد مات ، وقد اقتسمنا ميراثه ».

فكتب إليه : ان لم يكن أبوك مات فليس لك من ذلك شيء ، وإن كان قد مات على ما تحكي فلم يأمرني بدفع شيء إليك ، وقد أعتقت الجواري وتزوجتهن (١).

قال الصدوق : لم يكن موسى بن جعفر عليهما‌السلام ممن يجمع المال ، ولكنه حصل في وقت الرشيد وكثر أعداؤه ولم يقدر على تفريق ما كان يجتمع إلّا على القليل ممن يثق بهم في كتمان السر ، فاجتمعت هذه الأموال لأجل ذلك ، على أنها لم تكن أموال فقراء وإنما كانت أموالاً تصله بها مواليه لتكون له إكراماً منهم له وبرا منهم به (٢).

لقد تمسّك هؤلاء بشبهة ذرائعية تواصوا عليها وأشاعوا ما استطاعوا إلىٰ ذلك سبيلاً ، واستخدموا لذلك أساليب وفنون :

عن علي بن رباط ، قال : قلت لعلي بن موسى الرضا عليه‌السلام : ان عندنا رجل يذكر أن أباك عليه‌السلام حي ، وأنك تعلم من ذلك ما تعلم !! فقال عليه‌السلام : « سبحان الله مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يمت موسى بن جعفر عليه‌السلام ؟! بلى والله لقد مات وقسمت أمواله ونكحت جواريه (٣) ».

ولما أصرّ الواقفة على العناد واشتد أوار فتنتهم وغلا مرجلها ، لعنهم الإمام الرضا عليه‌السلام ووصمهم بالكذب ، وكان ينمّي وعي أصحابه ويبين لهم حقيقة الحال : عن جعفر بن محمد النوفلي ، قال : أتيت الرضا وهو بقنطرة

________________

(١) علل الشرائع ١ : ٢٧٦ ، ح ٢ ، باب (١٧١).

(٢) علل الشرائع ١ : ٢٧٦ ، ح ٢ ، باب (١٧١).

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٩٠ ، ح ٩ ، باب (٨).

١٦٤

اربق (١) فسلمت عليه ثم جلست وقلت : جعلت فداك ان أناساً يزعمون أن أباك حي ، فقال : « كذبوا لعنهم الله ، ولو كان حياً ما قسم ميراثه ولا نكح نساؤه ، ولكنه والله ذاق الموت كما ذاقه علي بن أبي طالب عليه‌السلام » (٢).

ثانياً : زعمهم بأن الرضا عليه‌السلام ليس له ولد

سقط الواقفة تحت حوافر الشك والريب لما وجدوا أن الإمام الرضا عليه‌السلام لم يلد له مولود مع تقدمه في السن ، ولم يكن الإمام كما زعموا مسناً وإنما فارق شرخ الشباب ببضع سنين. وعلى أية حال فإن إمامنا الذي كان ينظر للغيب من وراء ستر رقيق قد رد هذه الدعوى وكشف عن أنه سيرزق ولداً يكون حجة على الخلق من بعده ، وإخباره هذا الذي صدقته الأيام يعدّ أحد معاجزه الباهرة.

عن ابن أبي نجران وصفوان ، قالا : حدثنا الحسين بن قياما ، وكان من رؤساء الواقفة ، فسألنا أن نستأذن له على الرضا عليه‌السلام ففعلنا ، فلمّا صار بين يديه قال له : أنت إمام ؟ قال : « نعم » ، قال : إنّي أشهد الله أنّك لست بإمام ! قال : فنكت طويلاً في الأرض منكّس الرأس ثم رفع رأسه إليه ، فقال له : « ما علمك أنّي لست بإمام ؟ ».

قال : لأنّا روينا عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « أن الإمام لايكون عقيماً » ، وأنت قد بلغت هذا السنَّ وليس لك ولد.

قال : فنكس رأسه أطول من المرَّة الأولى ثم رفع رأسه فقال : « اُشهد الله أنّه لاتمضي الأيام والليالي حتّى يرزقني الله ولداً منّي ».

________________

(١) من نواحي رام هرمز في خوزستان ، انظر : معجم البلدان ٢ : ١٣٧.

(٢) اعلام الورى ٢ : ٥٩ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٣٣ ، ح ٢٣ ، باب (٤٧).

١٦٥

قال عبد الرحمن بن أبي نجران : فعددنا الشهور من الوقت الذي قال فوهب الله له أبا جعفر عليه‌السلام في أقلَّ من سنة ، قال : وكان الحسين بن قياما هذا واقفاً في الطواف فنظر إليه أبو الحسن عليه‌السلام فقال له : « ما لك حيّرك الله » ، فوقف عليه بعد الدَّعوة (١).

لقد كان الواقفة من أشد الناس عناداً للحق لأنهم لا يؤمنون بكل شيء خالف عقيدتهم ولو كان بيناً كالشمس في رائعة النهار. ويكفي أنهم أنكروا عشرات الادلة والبينات والشهادات المتواترة على موت الإمام الكاظم وتشييعه وتغسيله وتكفينه ودفنه عليه‌السلام.

ومن هنا لعنهم الإمام الرضا عليه‌السلام كما لعن الغلاة من قبل يروى أنه سئل عن الواقفة ، فقال : « ( مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ) (٢) والله إن الله لايبدلها حتى يقتلوا عن آخرهم » (٣).

ومن الأهمية بمكان القول بأن التشيع قد انبسط في أيام إمامنا ورجع إلى إمامته أكثر الضالين بعد وفاة أبيه وجده عليهما‌السلام ، وقد وجدنا أن بعض كبار أقطاب الواقفة قد ثابوا إلى رشدهم فاستبصروا بمجرّد مراسلتهم للإمام عليه‌السلام أو مقابلتـهم العابـرة لـه ، منهم : أبو نصر البزنطي (٤) ، وعبد الله بن المغيرة (٥).

________________

(١) اعلام الورى ١ : ٥٧ ، الفصل الثالث ، بحار الأنوار ٤٩ : ٣٤ ، ح ١٣ ، باب (٣).

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٦١ و ٦٢.

(٣) المناقب / ابن شهرآشوب ٤ : ٣٥٨.

(٤) الخرائج والجرائح ٢ : ٦٦٢ ، ح ٥ ، فصل : في أعلام الإمام الرضا عليه‌السلام.

(٥) الخرائج والجرائح ١ : ٣٦٠ ، ح ١٥ ، باب (٩).

١٦٦

الفصل السادس

ولاية العهد وآثارها على حياة الإمام

تعتبر ولاية العهد من أكبر وأخطر المحطات السياسية في حياة الإمام الرضا عليه‌السلام ، فقد كانت تحولاً مفاجئا في السلوك السياسي العباسي تجاه العلويين ، فاجأ رجال الفكر والسياسة في زمانه وأثار موجةً من ردود الفعل المختلفة ، أخذت تتسع دائرتها إلى وقتنا الحاضر ، فكل من يتناول حياة الإمام الرضا عليه‌السلام يتطرق بالبحث والتحليل لهذه القضية الحساسة في الفكر السياسي الاسلامي لكونها تشكل سابقة فريدة في السلوك السياسي العباسي عندما يتنازل الحاكم للمعارضة ويعرض عليها تقاسم أعباء الحكم ، حملها البعض على نحو من الجدية وأثنى على المأمون غاية الثناء ، ووصفه بالتجرّد والنزاهة.

على الرغم من كونها مسرحية سياسية أجاد المأمون نسج فصولها وتوزيع أدوارها وحسن توقيتها. كما يستفاد من تصريحات ولي العهد نفسه عليه‌السلام بعيداً عن تحليلات أولئك المتأخرين ، وبدورنا سوف نستعرض خلفيات ولاية العهد ، والعوامل الدافعة للمأمون على تغيير السياسة القمعية العباسية تجاه العلويين عموماً وشيعة أهل البيت عليهم‌السلام على وجه

١٦٧

الخصوص ، ونتعرف على موقف الإمام الرضا عليه‌السلام من ولاية العهد ، ومن ثم نستعرض آثارها في شهادته.

المبحث الأول : خلفيات ولاية العهد

اتبع العباسيون ـ منذ البداية ـ سياسة مخادعة مع العلويين ، فقد رفعوا في أثناء صراعهم مع الأمويين شعاراً تضليلياً هو « الرضا من آل محمد » دون أن يحددوا مضمونه ، وتمسكوا بالسرية التامة ، فلم يفصحوا عن اسم الإمام حتى لايحس العلويون ولا قاعدتهم العريضة في خراسان بخروج الأمر منهم.

وبعد وصولهم للسلطة تنكر العباسيون للدعم الكبير والمساندة الواسعة التي أبداها العلويون وقاعدتهم ، وفوق ذلك أذاقوهم ألوان العذاب ، وعملوا على الحطّ من شأنهم ، وإبعادهم عن الحياة السياسية ، ووضعوا الرقابة المشددة عليهم ، ومنعوا الناس من الاتصال بهم فضلاً عمن أطلوا دمه أو هلك في طواميرهم المظلمة.

وضرب المنصور العباسي المثل الأقسى في معاملة العلويين ، فقد أذاقهم جميع صنوف العنف والجور والعذاب ، وزج جمع منهم في سجن مظلم لا يُعرف فيه الليل من النهار حتى باتوا لايعرفون وقت الصلاة ، فجزأوا القرآن الكريم خمسة أجزاء ، فكانوا يصلون الصلاة على فراغ كل واحد منهم لجزئه (١).

________________

(١) انظر : مروج الذهب / المسعودي ٣ : ٢٢٥.

١٦٨

وأمر المنصور عماله بمصادرة جميع أموالهم وبيع رقيقهم ، وقد صادر بالفعل أموال بني الحسن وكثير من العلويين وبني هاشم (١).

وأمر المنصور أيضاً باحضار محمد بن إبراهيم بن الحسن المثنّىٰ ، وكان آية في بهاء وجهه وجماله ، فالتفت نحوه وقال ساخراً : أنت المسمى بالديباج الأصفر ؟ فقال : نعم. قال الطاغية : أما والله لأقتلنك قتلة ما قتلها أحداً من أهل بيتك. ثم أمر باسطوانة مبنية ففرغت وأدخل فيها ، فبنيت عليه وهو حي ! (٢).

لقد أطلق هذا الطاغية يده في استخدام القوة ضد العلويين ، واتبع معهم سياسة « السيف والنطع » وخاض ضدهم حرباً ليس لها هوادة ولا يخف لها أوار ، فقد كمّم أفواههم وزجهم في السجون ، وكان يتميز من الغيظ ضد كل علوي ، فمرت الأحداث تنفث سمومها ، وتبعث بلهبها لتكوي آل علي بكل ما يشيب الطفل. وكان أبو جعفر المنصور يخشى على منصبه مما وصل إليه الإمام الصادق عليه‌السلام من علو المنزلة وسمو المكانة بين المسلمين ، حتى أن المنصور كان يصفه بأنه (الشجىٰ المعترض حلقه) (٣). وقد استدعى هذا الطاغية إمامنا الصادق عليه‌السلام إلى العراق ، ليوقفه بين يديه ، يريد بذلك استنقاصه أمام أعين الناس والتصغير من شأنه. ولكن ما زاده ذلك إلّا علواً إذ كان اقبال الناس على الإمام الصادق عليه‌السلام وشدّهم الرحال إليه قد أثار مخاوف العباسيين وباتوا يلوحون بالعصا العباسية

________________

(١) مقاتل الطالبيين / أبو الفرج الأصبهاني : ٢٧٣.

(٢) تاريخ الطبري ٩ : ٣٩٨.

(٣) انظر : تاريخ اليعقوبي ٣ : ١١٧.

١٦٩

لشيعته.

واتبع الهادي العباسي مع العلويين سياسة تقوم على العنف بخلاف المهدي الذي حاول استرضاء العلويين فألحّ الهادي في طلبهم (وأخافهم خوفاً شديداً وقطع ما كان المهدي يجريه عليهم من الأرزاق والأعطية ، وكتب إلى الآفاق في طلبهم وحملهم) (١).

ومضى الهادي إلىٰ آخر الشوط فازداد تعطشاً لدماء العلويين ، فجهد على استأصال شأفة شبابهم كما حدث في كارثة « فخ » التي اقترف فيها العباسيون جرائم ضاهت ما اقترفه الأمويون في كربلاء ، فقد رفعوا رؤوس العلويين على الرماح وأطافوا بأسراهم في الأقطار وتركوا جثث قتلاهم ملقاة على الأرض مبالغة منهم في التشفّي والانتقام من العلويين. الذين وقعوا تحت وطأة ظلم صارخ ووحشية مروعة ، حتى قال الشاعر :

يا ليت جور بني مروان عاد لنا

وليت عدل بني العباس في النار

يروي الطبري : أن الأسرى العلويين كانوا مقيدين في السلاسل وفي أيديهم وأرجلهم الحديد ، وأمر الطاغية الهادي بقتل الأسرى فقتلوا وصلّبوا (٢). ويضيف المسعودي قائلاً : إنّ الجثث ظلت ثلاثة أيام دون أن توارى في الثرى حتى أكلتها الحيوانات الضارية والطيور الجارحة (٣).

وقد رفع الطاغية هارون من وتائر الضغط على العلويين ، وكان يقذفهم بالشر والشرر ، ولم يترك حجراً على حجر من أجل الظفر

________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٣ : ٤٠٤.

(٢) تاريخ الطبري ١٠ : ٢٩.

(٣) مروج الذهب / المسعودي ٣ : ٣٣٦.

١٧٠

برجالهم ، فاتبع ـ اضافة لما تقدم ـ آليات الإقصاء والاستبعاد والقمع ، وكان نصيب الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام من ظلمه كبيراً كما أسلفنا ، وعموماً فقد كان العلويون يعانون الأمرّين من هارون حتى (ركنوا إلىٰ الهدوء في أواخر عهده وطول عهد ولده الأمين ، ولكن بدأت بوادر قيام حركة جديدة من حركات الشيعة في مطلع عهد المأمون) (١).

وبالفعل فقد تزعّم محمد بن إبراهيم بن طباطبا وداعيته أبو السرايا في أواخر سنة ١٩٩ هـ حركة ثورية ضد حكم المأمون (٢) ، وفي السنة التالية تزعّم إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق عليهما‌السلام وحركة أخرى فى اليمن ضد السلطة العباسية (٣) ، كما تمرد الحسين بن الحسين الأفطس بمكة أيضاً (٤). واتصلت حركته بالدعوة إلى زعامة محمد بن الإمام جعفر الصادق ، ولقّبه أنصاره بأمير المؤمنين (٥).

سياسة المأمون مع العلويين :

إن تحوّل السياسة العباسية تجاه العلويين في زمن المأمون لم يتمّ صدفة ولم ينطلق من فراغ ، كما لم يكن أمراً سهلاً لدقة الظروف وخطورة الاحتمالات ، ولكن لهذا التحول عوامل عديدة نستطيع أن نصنفها إلى قسمين أساسيين ، هما :

________________

(١) جهاد الشيعة / الدكتورة سميرة الليثي : ٣١٩.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٥٢٨ ـ ٥٣٥.

(٣) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣٥ ـ ٥٣٦.

(٤) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣٦ ـ ٥٣٨.

(٥) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣٨ ـ ٥٤٠.

١٧١

أولاًـ العوامل الذاتية :

ونقصد بها تلك العوامل التي تفاعلت في نفس المأمون ودفعته إلى تغيير السياسة العباسية الظالمة تجاه العلويين. وهنا يورد المؤرخون والمحدثون عوامل عديدة محتملة كان لها دور كبير في التغيير المذكور ، وهي :

١ ـ دعوىٰ ميول المأمون للتشيع :

يرى البعض أن منشأ هذا التحول في مسار السياسة العباسية تجاه العلويين في زمن المأمون يعود إلى ميل ديني عاطفي للمأمون تجاه العلويين ، وانه كان ينظر إلى علي بن أبي طالب عليه‌السلام نظرة تقدير ، ويرى أنه أحق بالخلافة من باقي الصحابة. ونتيجة لذلك كان يتجنب إراقة دماء العلويين ، ولايريد أن يذهب مذهب أسلافه العباسيين في اضطهاد الشيعة ، كما أنه كان يود التقريب بين فرعي البيت الهاشمي من علويين وعباسيين ، ويضع حداً للعداء الطارىء بين الطرفين.

يرى السيوطي أن الذي حمل المأمون على ذلك هو إفراطه في التشيع ، حتى أنه هَمّ أن يخلع نفسه عن الخلافة ويسلمها للرضا عليه‌السلام ، ويروي السيوطي : أن المأمون أجاب عن سؤال وجهه أحدهم إليه عن سبب عطفه على العلويين ، فقال : (انما فعلت ما فعلت لأن أبا بكر لما ولى لم يول أحداً من بني هاشم شيئاً ، ثم عمر ، ثم عثمان كذلك ، ثم ولّى علي رضي‌الله‌عنه عبد الله بن عباس البصرة ، وعبيد الله اليمن ، وسعيداً مكة ، وقثم البحرين ، وماترك أحدا منهم حتى ولاه شيئاً ، فكانت هذه في أعناقنا

١٧٢

حتى كافأته في ولده بما فعلت) (١).

وذات الرأي ينقله صاحب الفخري : من أن زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس قد سألت المأمون عن سبب تحويله الخلافة من العباسيين إلىٰ بيت علي فأجاب : (ما رأيت أحداً من أهل بيتي حين أفضى الأمر إليهم كافوه على فعله في ولده ـ أي في ولد العباس ـ ، فأحببت أن اُكافيه على إحسانه) (٢).

وقد أورد الشيخ الصدوق روايات تعزز هذا الاعتقاد وتدل على ميل المأمون للتشيع : عن سفيان بن نزار قال : كنت يوماً على رأس المأمون ، فقال : أتدرون من علّمني التشيع ؟ فقال القوم جميعاً : لا والله ما نعلم.

قال : علمنيه الرشيد ! قيل له : وكيف ذلك ، والرشيد كان يقتل أهل هذا البيت !

قال : كان يقتلهم على الملك ، لأن الملك عقيم (٣). ثم روى لهم كيف أن هارون قد قام للكاظم عليه‌السلام إجلالاً وإعظاماً لما دخل عليه وقبّل وجهه وعينيه وأخذ بيده حتى أجلسه صدر المجلس ، وأن المأمون سأل والده هارون عن ذلك فقال : هذا إمام الناس وحجة الله على خلقه وخليفته على عباده.. وأنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر ، وموسى بن جعفر إمام حق ، والله يابني انه لأحق بمقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مني ومن الخلق جميعاً ،

________________

(١) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٣٠٧ و ٣٠٨.

(٢) الفخري في الآداب السلطانية / ابن الطقطقا : ٢٠٠.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٨٤ ، ح ١١ باب (٧).

١٧٣

والله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك ، فإن الملك عقيم (١).

وعن الريان بن شبيب ، قال : سمعت المأمون يقول : ما زلت أحب أهل البيت عليهم‌السلام واظهر للرشيد بغضهم تقرباً إليه. فلما رأيت أبي هارون يُكرم الكاظم عليه‌السلام قلت له : لقد رأيتك عملت بهذا الرجل شيئاً مارأيتك فعلته بأحد من أبناء المهاجرين والأنصار ولابني هاشم ، فمن هذا الرجل ؟! فقال : يابني هذا وارث علم النبيين ، هذا موسى بن جعفر بن محمد عليهم‌السلام إن أردت العلم الصحيح فعند هذا. قال المأمون : فحينئذ انغرس في قلبي محبّتهم (٢).

٢ ـ نذر المأمون :

وهناك من يُرجع هذا التحول إلى النذر الذي قطعه المأمون على نفسه بأنه إذا ظفر بأخيه المخلوع فانه يُخرج الخلافة إلىٰ أفضل آل أبي طالب.

وهذا العهد يستدعي ـ بطبيعة الحال ـ الإحسان إلىٰ العلويين. وفي هذا الصدد يروي الاصفهاني : أن المأمون كان خلال صراعه مع أخيه الأمين قد عاهد الله أن ينقل الخلافة إلى أفضل آل أبي طالب ، وان علي الرضا هو أفضل العلويين (٣). ويعزز ذلك ما رواه الصدوق بأن المأمون قال : (فلما وفى الله تعالى بما عاهدته عليه أحببت أن أفي لله بما عاهدته ، فلم أرَ أحداً أحقّ بهذا الأمر من أبي الحسن الرضا) عليه‌السلام. والشيخ الصدوق يفسر إقدام المأمون على دعوة الرضا عليه‌السلام لقبول ولاية العهد بناءً على هذا النذر (٤).

________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٨٤ ، ح ١١ باب (٧).

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٨٧ ، ح ١٢ باب (٧).

(٣) مقاتل الطالبيين : ٥٦٣.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٧٦ ـ ١٧٧ ، ح ٢٨ باب (٤٠).

١٧٤

٣ ـ دعوى حب المأمون للعفو وكراهيته للانتقام :

والبعض الآخر يُرجع هذا التحول إلىٰ عامل نفسي ، فيدّعي أن المأمون قد اشتهر بالعفو ومقت الانتقام وكان يكره إراقة الدماء ، ومن دلائل ذلك معاملته السمحة للعلويين الذين ثاروا ضده ، فقد عفا عن محمد بن محمد بن زيد وأسكنه داراً ، كما عفا عن محمد بن جعفر الصادق واشترك في تشييع جنازته وقام بسداد ديونه (١). كما عفا المأمون أيضاً عن عبد الرحمن بن أحمد العلوي الذي أعلن الثورة في بلاد اليمن (٢). وقد فات هؤلاء بأن المأمون قد قتل أخاه وصلب جثته ، فكيف والحال هذه أن نقتنع بحبه للعفو وكرهه لإراقة الدماء ؟!.

وهناك رأي مفاده أن المأمون عرف الحق لأهله وتنكر لسيرة الماضين من آبائه الذين أمعنوا في ظلم أهل البيت عليهم‌السلام قتلاً وسماً وتشريداً ، وذلك بناءً على رواية أوردها الصدوق عن أحمد بن محمد بن اسحاق ، قال : حدثني أبي قال : لما بويع الرضا عليه‌السلام بالعهد اجتمع الناس إليه يهنئونه ، فأومى إليهم فأنصتوا ، ثم قال : « .. بسم الله الرحمن الرحيم ، إن أمير المؤمنين عضده الله بالسداد ووفّقه للرشاد عرف من حقّنا ما جهله غيره ، فوصل أرحاماً قطعت ، وأمّن نفوساً فزعت ، بل أحياها وقد تلفت ، وأغناها إذ افتقرت ، مبتغياً رضا رب العالمين.. » (٣).

________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٥٤١ ، والفخري في الآداب السلطانية : ١٦٥.

(٢) تاريخ الطبري ٧ : ١٦٨ ـ ١٦٩.

(٣) عقيدة الشيعة الإمامية / هاشم معروف الحسني : ١٦١ و ١٦٢ ، والرواية في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥٧ ، ح ١٧ ، باب (٤٠).

١٧٥

ثانياً : العوامل الموضوعية :

ان قراءة معمقة لما بين سطور أحداث تلك الفترة تكشف لنا عن تفاعل عوامل موضوعية عديدة دفعت المأمون إلى التقرب من العلويين وتنفيس الاحتقان بين البيتين العلوي والعباسي. ومن هذه العوامل :

١ ـ تعاطف أهل خراسان : ومن الطبيعي والحال هذه أن يأخذ المأمون هذا التعاطف بعين الاعتبار ، لذلك (كانت البيعة لعلي الرضا بولاية العهد ترضي مشاعر أهل خراسان إرضاءً تاماً ، ولاشك أن ذلك الدافع كان في مقدمة الدوافع التي حدت بالمأمون إلى البيعة لهذا الزعيم العلوي بولاية عهده) (١).

فهناك من يرى بأن المأمون حاول أن يتقرب إلى العلويين مدفوعاً في ذلك بتأثير الفضل بن سهل الذي أشار على المأمون أن يتقرب إلى الله عزوجل إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصلة رحمه بالبيعة بالعهد لعلي بن موسى الرضا عليه‌السلام ليمحو بذلك ماكان من أمر الرشيد فيهم ، وماكان يقرر على خلافه في شيء.. (٢).

وكان الرأي العام في ذلك الوقت يعتبر أمر البيعة للرضا عليه‌السلام من تدبير الفضل بن سهل : عن الريان بن الصلت قال : أكثر الناس في بيعة الرضا من القواد والعامة ومن لم يحب ذلك ، وقالوا : ان هذا من تدبير الفضل بن سهل ذي الرياستين (٣).

________________

(١) جهاد الشيعة / الدكتورة سميرة الليثي : ٣٥٠.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥٨ ، ح ١٩ ، باب (٤٠).

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٢ ، ح ٢٢ ، باب (٤٠).

١٧٦

وهناك أخبار رواها الصدوق تعزّز هذا الاعتقاد ، وتسنده إلى مصادر تاريخية متقدمة ، فقد نقله الصدوق عن أبي علي الحسين بن أحمد السلامي ، في كتابه الذي صنفه في أخبار خراسان (١)..

ومما يدعم هذا الرأي ما رواه الصدوق من أن ذا الرياستين قال للمأمون : (ان ذنبي عظيم عند أهل بيتك وعند العامة والناس يلومونني بقتل أخيك المخلوع وبيعة الرضا عليه‌السلام ولا آمن السعاة والحساد وأهل البغي..) (٢).

وبالمقابل هناك روايات تستبعد ذلك وتتنكر لدور ذي الرياستين في احداث التحول المذكور ، لكون الفضل بن سهل من صنائع البرامكة الذين ناصبوا العداء لأهل البيت عليهم‌السلام وألّبوا الحكام العباسيين عليهم ، روى الصدوق : أن ذا الرياستين قد أظهر عداوة شديدة لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام وحسده على ما كان المأمون يفضّله به (٣). وهناك شاهد آخر يصبّ في هذا الاتجاه ، فقد روى الصدوق أن المأمون قد أنكر صراحةً دور الفضل بن سهل المظنون ، وذلك لما بلغه أن الناس يتحدثون بذلك ، قال للريان : (ويحك ياريان أيجسر أحد أن يجيء إلى خليفة وابن خليفة قد استقامت له الرعية والقواد واستوت له الخلافة ، فيقول له : ادفع الخلافة من يدك إلى غيرك ؟ أيجوز هذا في العقل ؟ ..لا والله ما كان كما يقولون) (٤).

________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٧٦ ، ح ٢٨ ، باب (٤٠).

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٧٣ ح ٢٤ ، باب (٤٠).

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٥ ، ح ٢٢ ، باب (٤٠).

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٣ ، ح ٢٢ ، باب (٤٠).

١٧٧

ويمكن الجمع بين الرأيين المتعارضين باحتمال استشارة المأمون لذي الرياستين بشأن الإمام الرضا وموافقة الأخير له بعد أن رأى ميل المأمون لذلك في الظاهر ، فلم يحب مخالفته ، وحين استبان له الواقع أعرب عما كان يكنه من عداء لأهل البيت عليهم‌السلام.

٢ ـ عداء البيت العباسي للمأمون :

وهناك من تتبع المجرى العريض لهذا التطور وعد من العوامل التي دفعت المأمون إلى التقرب من البيت العلوي وشيعتهم مالمسه من عداء البيت العباسي له. يذكر الطبري من بين أحداث سنة ٢٠١ هـ ما كان (من مراودة أهل بغداد منصور بن المهدي على الخلافة) (١). وقد أمتنع منصور المذكور عن ذلك ولكنه قبل أن يصبح أميراً على بغداد. إلى جانب عداء ابراهيم بن المهدي وغيره من العباسيين للمأمون (٢) ، وقد أعلن أهل بغداد عصيانهم للحسن بن سهل والي المأمون على بلاد العراق (٣).

وهذا الأمر غير صحيح لحصول تلك الأحداث بعد قتل الأمين وتقرّب المأمون إلى التشيع في الظاهر.

٣ ـ فشل المعالجة القمعية بحق العلويين :

قد يكون أحد العوامل السالفة الذكر أو بعضها قد أثر في نفس المأمون ودفعه إلى انتهاج سياسة جديدة مع العلويين ، ولكن يبدو لنا أن القضية أعمق من ذلك بكثير ، فالمأمون وقد عُرف بالحنكة السياسية

________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٣٢.

(٢) انظر : تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٥٠.

(٣) البداية والنهاية / ابن الاثير : ١٠ : ٢٤٧.

١٧٨

فأدرك أن نتائج المعالجة القمعية للشيعة لم تقتصر على الفشل فقط ، وإنما كانت تغذّي الاتجاهات الثورية الرافضة للحكم العباسي بمزيد من المبررات للانتشار والاستمرار ، وعليه فالمعالجة القمعية غير مجدية بل تزيد نار الخلاف تأججاً ، من هنا أوقف عمليات المطاردة والإبادة ضدهم وعمل على تصفية الجو المتوتر الذي خلّفته سياسة أبيه معهم ، كما أنه أراد القضاء على تذمر العلويين وإيقاف ثوراتهم المستمرة ، وتصاعد مسلسل التطبيع معهم حتى بلغ ذروته بمبايعة الإمام الرضا عليه‌السلام زعيم العلويين بولاية العهد ، وقد اوحى المأمون بانتقال السياسة العباسية إلى مدار جديد يعيد فيه الحق إلى نصابه. وعليه فالعامل السياسي يعد من أقوى العوامل في تفسير التحول الذي أحدثه المأمون في السياسة العباسية مع المعارضة العلوية.

يقول العلامة المجلسي : أن المأمون كان أوّل أمره مبنياً على الحيلة والخديعة لإطفاء نائرة الفتن الحادثة من خروج الأشراف والسادة من العلويين في الأطراف ، فلمّا استقر أمره أظهر كيده (١).

ومما يعزز ذلك أن عهد المأمون قد حفل بكثير من حركات العلويين ، وكانت الحركة الشيعية تزداد انتشاراً حتى دب التشيع في أركان الدولة ، من هنا أحس المأمون بأن الخطر قد أحدق به ، فحاول الإمساك بزمام الأمور في اللحظة الحرجة التي كان يواجهها من تعاظم قوة العلويين ، في مقابل الانقسام الخطير في صفوف العباسيين ، فوجد من الحكمة أن يتقرب من العلويين وبلغ تقربه ذروته باستدعاء الإمام

________________

(١) انظر : بحار الأنوار ٤٩ : ٣١٣.

١٧٩

الرضا عليه‌السلام وإناطة ولاية العهد به.

نحن لانغض الطرف عن تأثير عدد من العوامل الذاتية والموضوعية التي ساهمت بنحو أو آخر في إحداث التحول المفاجىء في مسار السياسة العباسية تجاه المعارضة العلوية المتعاظمة ، ولكننا نعيد التأكيد على أن المأمون قد استوعب حجم المتغيرات الداخلية ، وعرف أن ميزان القوىٰ أخذ يميل لصالح العلويين ، وبعد أن أدرك عقم المعالجة القمعية أخذ بالتقرب منهم ، وفق مخطط مدروس بعناية ، وليس على نحو عرضي. والشيعة بدورهم قد أدركوا أبعاد هذا المخطط.

تقول الدكتورة نبيلة عبد المنعم داود : « إن البيعة ذاتها لم تقرب جميع العلويين من المأمون ، ولكنها أرضت قسماً منهم فقط » (١). وتعزز هذا الرأي الدكتورة سميرة الليثي ، فتقول : « لم تكن البيعة لعلي الرضا ترضي نفوس الشيعة ، ولاتقنعهم بالولاء للمأمون ، فقد اعتبرت الشيعة هذه البيعة وسيلة لتسكين خواطرها ، ودفعها إلى الركون إلى الهدوء والسلام ، بعد أن تعددت الحركات العلوية في عهد المأمون » (٢).

المبحث الثاني : موقف الإمام الرضا من ولاية العهد :

اذا أمعنا النظر في النصوص والروايات الواردة بخصوص موقف الإمام الرضا عليه‌السلام من ولاية العهد نجد أن الإمام قد رفض بشدة العروض التي

________________

(١) نشأة الشيعة الإمامية : ٢٣١.

(٢) جهاد الشيعة : ٣٦٥ ـ ٣٦٦.

١٨٠