الإمام الرضا عليه السلام سيرة وتاريخ

عبّاس الذهبي

الإمام الرضا عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

عبّاس الذهبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-368-3
الصفحات: ٢٠١
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

خالفه » (١).

ثانياً : تصحيح المفاهيم

قاد إمامنا عليه‌السلام حملة تصحيحية واسعة على الصعيد الفكري ، كان لها الأثر البالغ في فضح وتعرية المفاهيم المغلوطة ، ومواجهة السذاجة الفكرية ، وهنا نود التعجيل بإيراد الشواهد على ذلك :

دخل على علي بن موسى الرضا عليه‌السلام قوم من الصوفية فقالوا : إن أمير المؤمنين المأمون لما نظر فيما ولاه من الأمور فرآكم أهل البيت أولى من قام بأمر الناس ، ثم نظر في أهل البيت فرآك أولى بالناس عن كل واحد منهم ، فرد هذا الأمر إليك ، والإمامة تحتاج إلى من يأكل الخشن ويلبس الخشن ويركب ويعود المريض ويشيع الجنائز ، وكان الرضا متكئاً فاستوى جالساً ، ثم قال : « كان يوسف بن يعقوب نبياً فلبس أقبية الديباج المزركشة بالذهب والقباطي المنسوجة بالذهب وجلس على متكآت آل فرعون ، وحكم وأمر ونهى ، وإنما يراد من الإمام قسط وعدل ، إذا قال صدق وإذا حكم عدل وإذا وعد أنجز ، إن الله لم يحرّم ملبوساً ولا مطعوماً » وتلا قوله : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) (١) (٢).

وبهذا تلقى المتصوفة درساً بليغاً في الزهد حريا بأن يكون موعظة

________________

(١) كشف الغمة ٣ : ٨٢ ، باب : ذكر طرف من دلائله وأخباره.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٣٢.

(٣) الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي : ٢٥١ ، الفصل الثامن.

١٢١

لادعياء الزهد والزاهدين معاً. علماً بأن إمامنا الرضا عليه‌السلام كان من الزاهدين ، كان جلوسه في الصيف على حصير ، وفي الشتاء على مسح (٣).

ومن الشواهد الأخرى التي نستدل من خلالها على حملة تصحيح المفاهيم هذه ، نظرة الإمام عليه‌السلام العميقة لمفهومي « الجود والبخل » علماً بان الجود يمثل أحد الخصال العربية الأصيلة ، التي يتباهى بها البعض دون أن يعرف أبعادها وما تنطوي عليه من بُعد عبادي :

سأله رجل وهو في الطواف : أخبرني عن الجواد ؟

فقال : « إن لكلامك وجهين ، فإن كنت تسأل عن المخلوق ، فإن الجواد هو الذي يؤدي ما افترض الله عليه ، والبخيل من بخل بما افترض الله عليه. وان تكن تعني الخالق فهو الجواد ان أعطى ، وهو الجواد إن منع ، إن أعطى عبداً أعطاه ما ليس له ، وان منع منع ما ليس له » (١).

وقد شملت حملة التصحيح هذه بعض المفاهيم ذات العلاقة بطبائع الناس كمفهوم « الحمية » ؟

عن إسماعيل الخراساني ، عن الرضا عليه‌السلام قال : « ليس الحمية من الشيء تركه ، إنما الحمية من الشيء الإقلال منه » (٢).

ثالثاً : كشف التحريف في الحديث

لقد قام الرضا عليه‌السلام بدور مشرّف في كشف وتعرية التحريف الذي

________________

(١) اُنظر : الفصول المهمة : ٢٤٨ ، الفصل الثاني.

(٢) كشف الغمة ٣ : ٨١ ، باب : ذكر طرف من دلائله وأخباره.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٧٦ ، ح ٧٢ ، باب (٢٨).

١٢٢

حصل في الأحاديث ، والذي أثر بشكل مباشر على العقيدة الإسلامية وأفقدها نقاءها وأوقع الالتباس في فهم النصوص ، ولسنا بحاجة هنا لاستعراض جميع مظاهر التحريف ، ولكن يكفينا الاستشهاد على ذلك بما ورد عن ابراهيم بن محمود ، قال : قلت للرضا عليه‌السلام : يا بن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ان الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلىٰ السماء الدنيا ؟ (٣)

قال عليه‌السلام : « لعن الله المحرّفين للكلم عن مواضعه ، واللّه ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك ، إنّما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان الله تعالى يُنزل ملكاً إلى السماء الدنيا كل ليلة في الثلث الأخير وليلة الجمعة في أول الليل ، فيأمره فينادي : هل من سائل فاعطيه ؟ هل من تائب فاتوب عليه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ يا طالب الخير أقبِل ، يا طالب الشرّ أقصر ، فلا يزال ينادي بذلك حتى يطلع الفجر ، فإذا طلع الفجر عاد إلى محله من ملكوت السماء. حدثني بذلك أبي عن جدي عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٢).

والملاحظ أن تأكيد الإمام عليه‌السلام على سند هذا الحديث ـ وأنه عن أبيه وأجداده عليهم‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ جاء في مقابل من يسند كذباً إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه قال بخلاف ذلك.

ومن الشواهد على تصدي الإمام عليه‌السلام لهذا اللّون من التحريف الذي طال الأحاديث ، ما جاء عن الحسين بن خالد ، قال : قلت للرضا عليه‌السلام :

________________

(١) أخرجه البخاري عن أبي هريرة ، اُنظر : صحيح البخاري ١ : ٣٨٤ ، ح ١٠٩٤ ، باب (١٤) كتاب التهجّد

(٢) كشف الغمة ٢ : ٧٨ ـ ٧٩ ، باب : ذكر طرف من دلائله وأخباره.

١٢٣

يا بن رسول الله إن قوما يقولون : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « إن الله خلق آدم على صورته » فقال : قاتلهم الله ! لقد حذفوا أول الحديث ، إن رسول الله مرّ برجلين يتسابّان ، فسمع أحدهما يقول لصاحبه : قبّح الله وجهك ووجه من يشبهك فقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا عبد الله لا تقل هذا لأخيك ! فإن الله عزَّوجلَّ خلق آدم على صورته » (٢).

رابعاً : التأويل السليم لما دلّ بظاهرة على التشبيه والتجسيم :

من المعلوم أن هناك فريقاً من المسلمين قد جمد على ظواهر القرآن ، الأمر الذي أساء إلى العقيدة الإسلامية ، وخاصة في مسألة التوحيد التي تعتبر حجر الزاوية فيها ، فقد أدّى الجمود على ظواهر الألفاظ إلى التشبيه والتجسيم تعالى الله عن ذلك ، فتصوّروا مثلاً أن لله يداً ، وعرشاً يجلس عليه ، وأن بالإمكان النظر إليه ، وأن له مكاناً يُحجَب عنه الكافرون ، وأنه يتحرك ويجيء مع المَلَك ، وما إلى ذلك من مزاعم لا تستقيم مع سكة العقل السوية ، وتتنافى مع تنزيه الله تبارك وتعالى.

ومن هنا قام إمامنا الرضا عليه‌السلام بواجبه المقدس وأزاح غبش العيون لترى حقائق القرآن صافية ، مؤكداً أن لتلك الظواهر القرآنية معنىً تكشف عنه آيات اُخر ، وثوابت العقيدة أيضاً ، ومن الشواهد على ذلك : قال الرضا عليه‌السلام : في قول الله عزَّوجلَّ : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (١) قال : يعني ـ مشرقة ـ تنتظر ثواب ربها (٢).

________________

(١) الاحتجاج / الطبرسي ٢ : ١٩٢.

(٢) سورة القيامة : ٧٥ / ٢٢ ـ ٢٣.

(٣) الاحتجاج ٢ : ١٩١ ، اُنظر : أجوبة الإمام عليه‌السلام على أسئلة أبي الصلت الهروي.

١٢٤

ويؤكد هذا المعنى ما قاله أمير المؤمنين عليه‌السلام لأحد الزنادقة عندما سأل الإمام عليه‌السلام قائلاً : أجد الله يقول : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) وأجده يقول : ( لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ) (١).

فقال عليه‌السلام : « إنَّ المؤمنين يُؤمَرون بدخول الجنّة ، فمن هذا المقام ينظرون إلىٰ ربّهم كيف يثيبهم... أي : النظر إلى ما وعدهم ـ عزَّوجلَّ ـ فذلك قوله تعالى : ( إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ). والناظرة : المنتظرة ». ثمّ قال عليه‌السلام : « ألم تسمع قوله تعالى : ( فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) (٢) أي منتظرة » (٣).

وأيضاً : سُئل عن قوله عزَّوجلَّ : ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) (٤) فقال : « إن الله لا يُوصف بالمجيء والذهاب والانتقال ، إنما يعني بذلك : وجاء أمر ربّك » (٥).

وسئل عن قوله عزَّوجلَّ : ( .. كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ) (٦) فقال : « إن الله تعالى لا يُوصف بمكان يحلّ فيه فيحجب عن عباده ، ولكنّه يعني : عن ثواب ربّهم محجوبين » (٧).

________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٠٣.

(٢) سورة النمل : ٢٧ / ٣٥.

(٣) التوحيد / الصدوق : ٢٦١ / ٥.

(٤) سورة الفجر : ٨٩ / ٢٢.

(٥) الاحتجاج ٢ : ١٩٣.

(٦) سورة المطففين : ٨٣ / ١٥.

(٧) الاحتجاج ٢ : ١٩٣.

١٢٥

خامساً : بيان سرّ أخبار الغلو والتقصير ومصدرها

ليس خافياً بأن أهل البيت عليهم‌السلام هم رموز العقيدة وأعلامها ، وبعد أن فشل الأعداء في النيل من العقيدة أخذوا يثيرون الشبهات والشكوك حول رموزها ، بأساليب وطرق مختلفة ، مرّة من خلال وضع الأحاديث التي ينم ظاهرها عن إظهار فضائل آل البيت ولكنها في الحقيقة تُسيء إليهم بما تتضمنه من غلو أو تقصير في أمرهم ، أو التصريح بمثالب أعدائهم بأسمائهم بغية تأجيج نار الفتنة ورفع وتيرة العداء معهم.

والإمام الرضا عليه‌السلام قد كشف عن هذه الأساليب التي يراد منها الإساءة إلى أهل البيت عليهم‌السلام يتضح لنا ذلك من هذه الرواية : قال ابراهيم ابن أبي محمود ، قلت للرضا عليه‌السلام يابن رسول الله ، إن عندنا أخباراً في فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام وفضلكم أهل البيت ، وهي من رواية مخالفيكم ولا نعرف مثلها عندكم ، أفندين بها ؟

فقال : « يا بن أبي محمود ، لقد أخبرني أبي ، عن أبيه ، عن جدّه عليه‌السلام : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فان كان الناطق عن الله عزَّوجلَّ فقد عبد الله ، وان كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس..

يا بن أبي محمود ، إن مخالفينا وضعوا أخبارا في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام : أحدها الغلو ، وثانيها التقصير في أمرنا ، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا ، فإذا سمع الناس الغلو فينا كَفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا ، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا ، واذا سمعوا مثالب أعداءنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا ، وقد قال الله عزَّوجلَّ : ( وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ

١٢٦

مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ) (١).

يابن أبي محمود ، إذا أخذ الناس يميناً وشمالاً فالزم طريقتنا ، فانه من لزمنا لزمناه ، ومن فارقنا فارقناه ، ان أدنى ما يخرج به الرجل من الإيمان أن يقول للحصاة : هذه نواة ثم يدين بذلك ويبرء ممن خالفه ، يابن أبي محمود احفظ ما حدثتك به ، فقد جمعت لك خير الدنيا والآخرة » (٢).

وهكذا نجد إمامنا يقوم بتعرية وفضح أساليب أعداء أهل البيت عليهم‌السلام وتقويم اعوجاج الأذهان وقشع غيوم الشبهات المثارة.

ومن الشواهد ذات الدلالة على ذلك ما روي عن محمد بن زيد الطبريِّ ، قال : كنت قائماً على رأس الرِّضا عليه‌السلام بخراسان ، وعنده جماعة من بني هاشم منهم إسحاق بن العباس بن موسى.. فقال عليه‌السلام له : « يا اسحاق بلغني أنَّكم تقولون : إنّا نقول : إنَّ الناس عبيد لنا ! لا وقرابتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قلته قطّ ، ولا سمعته من أحد من آبائي ، ولا بلغني عن أحد منهم قاله ، ولكنّا نقول : النّاس عبيد لنا في الطاعة ، مدال لنا في الدِّين ، فليبلّغ الشاهد الغائب » (٣).

سادساً : الآثار العلمية المنسوبة إلى الإمام الرضا عليه‌السلام

من المبحث السابق اتضح لنا مقدار الجهد العلمي الكبير الذي بذله إمامنا عليه‌السلام من أجل الذود عن العقيدة والفكر الإسلامي ، وكان

________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٠٨.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٧٢ ، ح ٦٣ ، باب (٢٨).

(٣) أمالي الشيخ المفيد : ٢٥٣ ، المجلس الثلاثون.

١٢٧

من نتيجة ذلك ظهور بعض الآثار العلمية المنسوبة إلى إمامنا الرضا عليه‌السلام ، وقد اُثير الجدل والنقاش بين العلماء حول صحة نسبة بعضها إليه عليه‌السلام ، وهي :

١ ـ كتاب الفقه الرضوي.

٢ ـ الطب الرضوي أو (الرسالة الذهبية).

٣ ـ الصحيفة الرضوية.

٤ ـ أجوبة مسائل ابن شاذان.

٥ ـ العلل لابن شاذان.

ولا نرىٰ حاجة بتتبّع هذه الآثار وبيان من شكك في نسبة بعضها للإمام عليه‌السلام سيما كتاب الفقه الرضوي وكتاب العلل لابن شاذان ، سيّما وهدفنا من هذه الدراسة تربوي محض..

المبحث الرابع : أساليبه التربوية وتعاليمه الراقية

خلّف لنا الإمام الرضا عليه‌السلام مجموعة قيمة من التعاليم والوصايا التربوية والحضارية لكي تنير لنا الطريق ، وتصنع في النفوس المؤمنة صنيع الغيث في التربة الكريمة ، وتساعد الإنسان المسلم عند مراعاتها على إرتقاء سلَّم القيم أو على الأقل ترميم ماتهدم منها.

ارتأينا تقسيم التعاليم التربوية والحضارية التي وردت عن الإمام عليه‌السلام إلى أربعة دوائر كل دائرة منها تنظم علاقة الإنسان بنفسه وبربّه ونبيه أو إمامه وأبناء جنسه كالآتي :

١٢٨

أولاً : علاقة الإنسان بنفسه

للإمام عليه‌السلام تعاليم تربوية وحضارية تساعد الإنسان المسلم على السيطرة على نفسه وكبح جماحها ، وإيقاظ خير ما في النفس البشرية من قيم ومشاعر وأحاسيس ، وتسعى إلى استئصال كل جذور الشرّ في نفوس البشر.

ومن مجموعها يستفاد أن الإمام عليه‌السلام يريد للإنسان من خلال السيطرة على نفسه الارتفاع إلى مستوى إيماني أعلى ، إنطلاقاً من تعدّد مراتب الإيمان كما جاء في أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام بأن الإيمان : يزيد وينقص ويشتدّ ويضعف.

عن أبي عمر الزبيدي : قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « الإيمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل ، فمنه التامّ المنتهي ، ومنه الناقص البيّن نقصانه ، ومنه الراجح الزائد » قلت : إنَّ الإيمان ليتم وينقص ويزيد ؟ قال : « نعم » (١).

وقد نسج الإمام الرضا عليه‌السلام على منوال جده الصادق عليه‌السلام فحثّ الإنسان المسلم على الارتقاء إلى مراحل إيمانية عالية والتحليق في مدارات روحية أسمى..

روى الفضيل بن يسار عن الإمام الرضا عليه‌السلام قوله : « إنَّ الإيمان أفضل من الإسلام بدرجة ، والتقوى أفضل من الإيمان بدرجةٍ ، ولم يُعط بنو آدم أفضل من اليقين » (٢).

________________

(١) اُصول الكافي ٢ : ٣٣ ، ح ١ ، كتاب الإيمان والكفر.

(٢) اُصول الكافي ٢ : ١٦ ، ح ٦ ، باب : فضل الإيمان على الإسلام واليقين على الإيمان.

١٢٩

فإمامنا عليه‌السلام يريد للمؤشر الإيماني أن يرتفع لدينا وأن نصل إلى حقيقة اليقين المتمثل بالصبر عند البلاء ، والشكر عند الرخاء ، والرضا بالقضاء..

عن سليمان الجعفري ، عن أبي الحسن الرّضا ، عن أبيه عليهما‌السلام قال : « رفع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوم في بعض غزواته فقال : من القوم ؟ فقالوا : مؤمنون يا رسول الله ، قال : وما بلغ من إيمانكم ؟ قالوا : الصبر عند البلاء ، والشكر عند الرّخاء ، والرضا بالقضاء ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حلماء علماء ، كادوا من الفقه أن يكونوا أنبياء ، إن كنتم كما تصفون ، فلا تبنوا ما لا تسكنون ، ولا تجمعوا ما لا تأكلون ، واتّقوا الله الذي إليه ترجعون » (١).

من جانب آخر نجد أن الإمام الرضا عليه‌السلام يدعو الإنسان إلى أن يضع نصب عينه دائماً حقائق أساسية في الحياة ، هي : الموت وأنه لابدّ منه ، والقدر وتحكّمه فيه ، والحياة وتحولها من حال إلى حال ، فمن تيقن بالموت فسوف يحسب ألف حساب لما بعده من البعث والجزاء ، وعندها سيسيطر على سلوكه ويهذبه خوفاً من الحساب المرتقب.

ومن يدرك قوة القدر الجبارة التي تتحكم فيه ، لايحزن لما يصيبه من مصائب ونوازل ، ولا يفقد توازنه إزاءها.

ومن يعي بأنَّ الدنيا متقلبة الأحوال لا يركن إليها ، ويوطن نفسه مسبقاً على ما يصيبه منها من خيرٍ أو شرٍ ، وحينئذ لا يبطر عند السرَّاء ولا يجزع في الضَّراء.

وللإمام وصايا وإرشادات تربوية وحضارية تسلك بالإنسان المسلم قصد السبيل ، وتستأصل شأفة الشر من نفسه الأمّارة بالسوء ، وتساهم

________________

(١) اُصول الكافي ٢ : ٤٨ ، ح ٤ ، باب : خصال المؤمن ، كتاب الإيمان والكفر.

١٣٠

في طهارة نفسه وبدنه يمكننا الإشارة إليها بالفقرات التالية :

١ ـ إلتزام الصمت :

لا يخفى بأن أكثر مشاكلنا تتأتى من اطلاقنا العنان لألسنتنا بدون ضابط ، وأن الكثير منا يرغب في الكلام أكثر من الاستماع ، وهنا تستدعي الضرورة في أحيان كثيرة أن نتربى على الاعتصام بالصمت في حالات الانفعال أو المواقف الحرجة ، أو من أجل الحفاظ على الأسرار ، من هنا يشيد إمامنا عليه‌السلام بالصمت ، فهو عنده من علامات الفقه ، وباب من أبواب الحكمة ، ويرى بأن له معطيات اجتماعية عديدة.

عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، قال : قال أبو الحسن الرّضا عليه‌السلام : « من علامات الفقه : الحلم والعلم والصمت ، إنَّ الصمت باب من أبواب الحكمة ، إنَّ الصمت يكسب المحبة ، إنه دليل على كل خير » (١).

ومن المفيد التذكير أن هناك علاقة وثيقة بين العبادة والصمت ، فالعبادة عادةً تحتاج إلىٰ صفاء وتفرغ عن المشاكل ، واللسان المهذار أحد الأسباب التي تكدر صفو العبادة ، وقد تسهم في إبطالها كما إذا تفوّه الإنسان بكلمات كبيرة كالقذف والسّباب والفسوق وما إلىٰ ذلك.

وعموماً فإطلاق العنان للِّسان ، وهو المعروف بعثراته وزلاته ، يوقع الإنسان في شرك الشيطان الذي يوحي له بالسوء والفحشاء ، الأمر الذي ينعكس سلباً على العبادة. من هنا ينبه الإمام عليه‌السلام إلى حقيقة منطقية ، هي : أن السيطرة على النفس لا تتمّ إلّا من خلال عقل اللِّسان عن عبارات

________________

(١) اُصول الكافي ٢ : ١١٣ ، ح ١ باب : الصمت وحفظ اللسان ، وكشف الغمة ٣ : ٨٥ ، باب : ذكر طرف من دلائله وأخباره.

١٣١

السوء والفحشاء :

عن الوشّاء ، قال : سمعت الرضا عليه‌السلام يقول : « كان الرجَّل من بني إسرائيل إذا أراد العبادة صمت قبل ذلك عشر سنين » (١).

٢ ـ الحلم :

يحثّ الإمام عليه‌السلام على الحلم ويعتبره من علامات الفقه كالعلم والصمت ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : قال أبو الحسن الرّضا عليه‌السلام : « من علامات الفقه الحلم والعلم والصمت.. » (٢).

ويحدّد لنا قاعدتين تربويتين ، هما : السكوت عن الجاهل ، وعدم عتاب الصديق ، فكثيراً ما تكون البيئة التي تربّىٰ فيها والتربية الخاطئة التي تلقاها ، هي السبب في بعض تصرفاته غير السليمة ، وهنا لابدّ من السكوت وغضّ النظر عن الهفوات غير المهمة التي تصدر منه بصورة عفوية ، وعدم معاتبته عليها ، لأن العتاب قد يتطوّر إلىٰ جدال بالباطل ، الأمر الذي قد يتسبّب في قطع عروق العلائق بين الجانبين. وهنا يصبّ إمامنا عليه‌السلام هذه القواعد التربوية في قالب جميل من الشعر ، قال له المأمون (٣) : هل رويت من الشعر شيئاً ، فقال عليه‌السلام : قد رويت منه الكثير ، فقال : أنشدني أحسن ما رويته في الحلم ، فقال عليه‌السلام :

إذا كان دوني من بليت بجهله

أبيت لنفسي أن تقابل بالجهل

وإن كان مثلي في محلي من النهى

أخذت بحلمي كي اجل عن المثل

________________

(١) اُصول الكافي ٢ : ١١٦ ، ح ١٩ ، باب : الصمت وحفظ اللِّسان.

(٢) اُصول الكافي ٢ : ١١٣ ، ح ١ ، باب : الصمت وحفظ اللِّسان.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٨٧ ، ح ١ ، باب (٤٣).

١٣٢

وإن كنت أدنى منه في الفضل والنهى

عرفت له حق التقـدم والفضل

فقال له المأمون : ما أحسن هذا ، من قاله ؟! فقال بعض فتياننا ، قال : فأنشدني أحسن ما رويته في السكوت عن الجاهل وترك عتاب الصديق ، فقال عليه‌السلام :

إني ليهجرني الصديق تجنّباً

فأريه أنَّ لهجره أسبابا

وأراه إن عاتبته أغريته

فأرى له ترك العتاب عتابا

وإذا بليت بجاهل مستحكم

يجد المحال من الأمور صوابا

أوليته مني السكوت وربما

كان السكوت عن الجواب عتابا

ثمّ قال المأمون : أنشدني أحسن ما رويته في استجلاب العدو حتىٰ يكون صديقاً ، فقال عليه‌السلام :

ومن لايدافع سيئات عدوه

بإحسانه لم يأخذ الطَول من عَلِ

ولم أرَ في الأشياء أسرع مهلكا

لغمر (١) قديم من وداد معجّلِ

فالإمام هنا ونتيجة للأفق الاجتماعي الرّحب الذي يتمتع به يدعو ليس فقط إلىٰ السكوت عن الصديق وإنما إلى أبعد من ذلك بكثير إلى استجلاب العدو حتى يكون صديقاً !.. إنها النفس الكبيرة.

٣ ـ الحياء :

وهو رأس الخصال الكريمة ، وأصل المروءة وسبب العفّة. والعلاقة وثيقة بين الإيمان والحياء ، فكلما زاد حياء الإنسان دل علىٰ مدىٰ عمق إيمانه ، وأما من خلع ثوب الحياء فلا إيمان له ، يقول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الحياء والإيمان مقرونان في قرن ، فإذا ذهب أحدهما تبعه

________________

(١) الغمر : الحقد.

١٣٣

صاحبه » (١).

وقد أكّد الإمام الرضا عليه‌السلام علىٰ هذه الحقيقة المهمة ، حقيقة التلازم بين الإيمان والحياء ، فقال عليه‌السلام : « الحياء من الإيمان » (٢). ومن هنا فمن يخلع حزام العفة وينطلق مع شهواته ولا يبالي بما قيل له أو فيه لا إيمان له واقعاً ؛ لأن الإيمان التزام وشعور متغلغل في أعماق النفس يحكي عنه الحياء بجلاء.

٤ ـ التواضع :

وهو خصلة أخلاقية جميلة احتلت مكاناً واضحاً في فكر وسلوك إمامنا الرضا عليه‌السلام ؛ فعلىٰ صعيد الفكر كشف عن المفهوم العميق للتواضع ، وبيّن حدَّه ودرجاته ، ومن يتمعّن في الرواية التالية يكتشف نفاذ رؤية الإمام عليه‌السلام وشمول نظرته وعمق تناوله.

عن الحسن بن الجهم ، عن أبي الحسن الرِّضا عليه‌السلام قال : « التواضع أن تعطي النّاس ما تحبُ أن تُعطاه ».

وفي حديث آخر قال : « التواضع درجات ؛ منها أن يعرف المرء قدر نفسه فينزلها منزلتها بقلب سليم ، لا يحبّ أن يأتي إلىٰ أحد إلّا مثل ما يؤتى إليه ، إن رأىٰ سيئة درأها بالحسنة ، كاظم الغيظ عافٍ عن الناس ، والله يحب المحسنين » (٣).

فهو يقدم لنا قراءة عظيمة لمفهوم التواضع ، تنطلق من رؤيا دقيقة

________________

(١) كنز العمال / المتقي الهندي ٣ : ١٢١ / ٥٧٥٥.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٥٦ ، ح ٢٣ ، باب (٢٦) حول الحياء.

(٣) اُصول الكافي ٢ : ١٢٤ ، ٧ باب التواضع.

١٣٤

وموضوعية مفادها أن يعرف المرء أولاً وقبل كل شيء قدر نفسه ومنزلتها ، ولا يرتفع بها فوق مقامها ، كي لا يلام على ذلك ، وقد يكون عِرضةً للسخرية والاستهزاء. وأن لا يحبّ لنفسه ما لا يحبّ لغيره ، بل عليه أن يعامل الناس كما يحب أن يعاملوه ، إضافة إلى ذلك يشير إمامنا إلى بُعد أبعد للتواضع فيه جنبة اجتماعية ، ويتمثّل بدرأ السيئة بالحسنة ، وكظم الغيظ والعفو عن الناس.

هذا على صعيد الفكر أمّا على صعيد العمل فنجده في سلوكه عليه‌السلام يتواضع إلى الدرجة القصوى في تعامله مع الناس ، ومن الأمثلة الحية على مقدار تواضعه ، أنه دخل الحمام ، فقال له بعض الناس : دلّكني يا رجل ، فجعل يدلّكه ، فعرّفوه ، فجعل الرجل يستعذر منه وهو عليه‌السلام يُطيب قلبه ويدلكه (١).

فهو يرى أن الشرف والكرامة تتحقّق من خلال القيم والمقاييس المعنوية المتمثلة بالتقوى والطاعة لله تعالى وليس من خلال القيم والمقاييس المادية المتمثلة بالحسب والنسب ، أو المال والقدرة وما إلىٰ ذلك.

وكان عندما يكيلون له أو لآبائه عليهم‌السلام المديح والثناء يتواضع جداً ويكشف لهم عن المفهوم القرآني للشرف والخيرية المتمثّل بالتقوىٰ :

عن محمد بن موسى بن نصر الرازي ، قال (٢) : سمعت أبي ، يقول : قال رجل للرضا عليه‌السلام : والله ما على وجه الأرض أشرف منك أبا ، فقال عليه‌السلام : « التقوىٰ شرفتهم ، وطاعة الله أحظتهم » ، فقال له آخر : أنت والله خير

________________

(١) المناقب ٤ : ٣٩.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٦١ ، ح ١٠ ، باب (٥٨).

١٣٥

الناس ، فقال له : « لا تحلف يا هذا ، خير مني من كان أتقى لله تعالى وأطوع له ، والله ما نسخت هذه الآية : ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (١) ».

حاول بذلك التنبيه على أن الاعتماد على محض القرابة ليس يستحسن في العقول ، وإنما الشرف في الكمال العلمي والعملي ورأسهما التقوىٰ.

وعن ابن ذكوان قال : سمعت إبراهيم بن العباس يقول : سمعت عليَّ بن موسى الرضا عليه‌السلام يقول : « حلفت بالعتق ولا أحلف بالعتق إلّا أعتقت رقبة ، وأعتقت بعدها جميع ما أملك إن كان يرى أنه خير من هذا ـ وأومأ إلىٰ عبد أسود من غلمانه ـ بقرابتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أن يكون لي عمل صالح فأكون أفضل به منه » (٢).

٥ ـ العمل لوجه الله تعالى :

العمل شعار المؤمن ، وهو الذي يسهم في إيصاله إلى أعلى الدرجات ، قال تعالى : « ومن يأته مؤمناً قد عَمِلَ الصّالحاتِ فأُولئِكَ لهمُ الدَّرجات العُلى » (٣) والعمل هو الذي يفجّر طاقات النفس الإبداعية ، فتنطلق في آفاق أرحب وتحيى حياة طيبة ، يقول عزَّوجلَّ : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً .. ) (١).

ومعلومٌ أن مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام تركز على « الثنائي الحضاري »

________________

(١) سورة الحجرات : ٤٩ / ١٣.

(٢) بحار الأنوار ٤٩ : ٩٥ ، باب (٧).

(٣) سورة طه : ٢٠ / ٧٥.

(٤) سورة النحل : ١٦ / ٩٧.

١٣٦

المتمثل بالإيمان المقترن بالعمل ، يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير عمل » (١).

والإمام الرضا عليه‌السلام يدعو المؤمن إلى سبر أغوار نفسه ومعرفة دافع العمل الذي يقوم به هل هو خالص لله أم لا ؟ فليس العمل المجرّد في الإسلام هو المطلوب ، وإنما العمل المقترن بدوافع نبيلة ونية خالصة ، والبعيد عن الرياء والسمعة ، بتعبير آخر أن يكون خالصا لله. وفي هذا الصدد يصوغ لنا إمامنا قاعدة عبادية ، هي : « من عمل لغير الله وكله الله إلىٰ ما عمل ».

عن محمد بن عرفة قال : قال لي الإمام الرضا عليه‌السلام : « ويحك يا بن عرفة ، اعملوا لغير رياء ولا سُمعة ، فإنّه من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل ، ويحك ! ما عمل أحد عملاً إلّا ردّاه الله ، إن خيراً فخيرٌ ، وإن شرّاً فشر » (٣).

ثمّ ان الاستتار بالعمل يبعده عن الرياء والسمعة ، ويوجب مضاعفة الثواب :

عن العباس مولى الرضا عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « المستتر بالحسنة يعدل سبعين حسنة ، والمذيع بالسيئة مخذول ، والمستتر بها مغفور له » (٤).

وفي جانب آخر يصوغ لنا إمامنا قاعدة تتعلّق بالقناعة بالرزق وعلاقته بالعمل ، ومفادها : « من يقتنع بالقليل من الرزق يكفيه القليل من العمل ».

________________

(١) نهج البلاغة : ٤٩٧ ، حكمة رقم / ١٥٠.

(٢) اُصول الكافي ٢ : ٢٩٤ باب الرياء.

(٣) اُصول الكافي ٢ : ٤٢٨ / ١ باب ستر الذنوب.

١٣٧

قال عليه‌السلام : « من لم يقنعه من الرّزق إلّا الكثير لم يكفه من العمل إلّا الكثير ومن كفاه من الرّزق القليل فإنه يكفيه من العمل القليل » (١).

فالإمام يذمّ ـ بصورة ضمنية ـ التكالب على الدنيا ، ويرىٰ بأن القناعة كتربة خصبة ينمو فيها العمل ولو كان قليلاً ما دام خالصاً لله تعالىٰ. أما حرص الإنسان على الحصول علىٰ فوق ما يكفيه من الرزق فقد يشغله بملذّات ومغريات الدنيا ، فيحتاج ـ والحال هذه ـ إلىٰ عمل عبادي أكثر يتناسب وحجم ما يسعىٰ لتحصيله كما هو مفاد الحديث.

٦ ـ الاستغناء عن الناس :

يدعو الإمام عليه‌السلام في تعاليمه التربوية على الاعتماد على النفس والامتناع عن طلب الحوائج من الآخرين وخاصة إذا كانوا مخالفين ، صيانة لماء الوجه ، وتنزيهاً للنفس عما يشينها :

عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : جعلت فداك اكتب لي إلى إسماعيل بن داود الكاتب لعلّي اُصيب منه ، قال : « أنا أضنّ بك أن تطلب مثل هذا وشبهه ، ولكن عوّل على مالي » (٢). فالإمام يريد العزة والكرامة للمسلم ، وأن لا يكون كلّاً علىٰ غيره ، وإن كان ولابُد من الطلب فينبغي أن تُطلب الحاجة من الأفراد الصالحين ، وأن لاتكون الحاجة خسيسة وغير ذات قيمة.

٧ ـ الاهتمام بالمظهر :

وهو أمر حضاري يعبّر عن درجة الرّقي لأفراد أي أمة. علماً بأن

________________

(١) اُصول الكافي ٢ : ١٣٨ / ٥ باب القناعة.

(٢) اُصول الكافي ٢ : ١٤٩ / ٥ باب الاستغناء عن الناس.

١٣٨

الإسلام قد حثّ من اعتنقه على الاهتمام بالنظافة عموماً ، كما حثّ على الاهتمام بالاناقة ، وكان الرضا عليه‌السلام يلفت النظر إلى أهمية الطيب ، وفي هذا المجال يقول : « لا ينبغي للرجل أن يدَع الطيب في كل يوم ، فإن لم يقدر عليه فيوم ويوم لا ، فإن لم يقدر ففي كل جمعة ، ولا يدع ذلك » (١).

وعن الحسن بن الجهم ، قال : قال أبو الحسن عليه‌السلام : « كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : لا يأبى الكرامة إلّا حمار ، قلت : مامعنى ذلك ؟ قال : « التوسعة في المجلس والطيب يُعرض عليه » (٢).

نخلص من هذا كله إلى القول بأن الإمام الرضا عليه‌السلام قد ترك لنا ثروة معنوية لا تقدر بثمن ، هي مجموع التعاليم التربوية والحضارية الرائعة التي ينبغي أن نضعها نصب أعيننا من أجل الصعود الحضاري بأفراد أمتنا إلى مدارج الكمال والرفعة.

ثانياً : علاقة الإنسان بخالقه

يدعو الإمام الرضا عليه‌السلام إلىٰ بناء وتوثيق علاقة المسلم بخالقه ، ويوقظ في نفسه العاطفة الدينية ، ويزرع في وعيه المفهوم السليم للعبادة ، وضرورة الإخلاص فيها ، كما يبين الأساليب المؤدية إلى تعزيز العلاقة مع الرَّب ، ويكشف عن النتائج الايجابية لمن أطاع ربَّه والعواقب الوخيمة لمن عصاه. والحديث التالي يقدم لنا مفهوماً عميقاً للعبادة يعطي فيه للفكر الأولوية ، بينما يأتي العمل العبادي من صلاة وصوم وما إلىٰ ذلك في المرتبة

________________

(١) كشف الغمة ٣ : ٨٦ ، باب : ذكر طرف من دلائله وأخباره.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٧٨ ، ح ٧٧ ، باب (٢٨).

١٣٩

الثانية :

عن معمر بن خلّاد قال : سمعت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام يقول : « ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم ، إنّما العبادة التفكّر في أمر الله عزَّوجلَّ » (١) ، فإمامنا يقدم في مفهومه للعبادة الفكر والعقل لكونه أصل في الاعتقاد السليم ، أما الشعائر وأعمال الجوارح فهي تابع للعقل والاعتقاد ومتفرعة عليه. ومن هنا كانت عبادة أكثر المقربين إلىٰ أهل البيت عليهم‌السلام كأبي ذرّ وعمّار وسلمان وغيرهم (رضي الله عنهم) مقرونة بالتفكّر والاعتبار ، وقد سألوا أم ذرّ يوماً عن عبادته ، فقالت : « كان نهاره أجمع يتفكّر في ناحية من الناس » (٢).

من جانب آخر يركز إمامنا عليه‌السلام على الإخلاص في العبادة لكونها تنطلق من بواعث ذاتية ، كالنية ، وبدونها يفسد العمل العبادي كما تُفسد قطرة الخل العسل. وفي هذا الخصوص يروي الرضا عليه‌السلام عن جده أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : « طوبى لمن أخلص لله العبادة والدُّعاء ، ولم يشغل قلبه بما تراه عيناه ، ولم ينسَ ذكر الله بما تسمع أذناه ، ولم يحزن صدره بما اُعطي غيره » (١).

ضمن هذا السياق يعرض لنا إمامنا عليه‌السلام أسلوبين لتقوية العلاقة مع الخالق ، هما :

________________

(١) اُصول الكافي ٢ : ٥٥ / ٤ باب التفكّر.

(٢) تنبيه الخواطر / الأمير ورّام ١ : ٢٥٠ باب التفكّر.

(٣) اُصول الكافي ٢ : ١٣ / ٣ باب الاخلاص ، كتاب الإيمان والكفر.

١٤٠