مستند الشّيعة - ج ٨

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ٨

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-83-3
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٣٤٨

جالسا ، فلمّا فرغ قال : لا يؤمّن أحدكم بعدي جالسا » (١).

واحتمالها الجملة المنفية يمنع عن الاستدلال به. ولعلّه لذلك وعدم اعتبار الإجماع يظهر من الشيخ الحرّ في الوسائل الكراهة (٢). وهو غير جيّد.

وإطلاق المرسلة ـ لو تمّت دلالتها ـ وإن اقتضى المنع عن إمامة القاعد بمثله أيضا ، إلاّ أنّه قد عرفت عدم تماميّتها. مع أنّ منهم من ادّعى الإجماع على التقييد بما إذا أمّ قائما ، ويدل عليه ما ورد في جماعة العراة من صحيح الروايات المعمول به بين الأصحاب (٣).

الثامن : عدم كونه أمّيا‌ ، أي من لا يحسن قراءة الحمد أو السورة أو أبعاضهما ولو حرفا أو تشديدا أو صفة ، ولا مؤوف اللسان كالألثغ بالمثلّثة (٤) ، والأليغ بالمثناة التحتانية (٥) ، والأرتّ (٦) ، والتمتام والفأفاء ، بأحد تفسيريهما (٧) ، إذا أمّ القارئ والسليم.

وهو في الأوّل مع إمكان التصحيح والتقصير ظاهر ؛ لبطلان صلاته. وكذا فيهما مع إمكان المتابعة للقارئ أو الايتمام والقول بوجوبه عليهما لعدم جواز صلاته فرادى فكيف بالإمامة.

وأمّا بدون الأمرين فقد يستدلّ له تارة بالإجماع المنقول عن الذكرى (٨).

واخرى بالمروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يتقدّم القوم أقرؤهم » (٩).

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٤٩ ـ ١١١٩ ، الوسائل ٨ : ٣٤٥ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٥ ح ١.

(٢) الوسائل ٨ : ٣٤٥ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٥ عنوان الباب.

(٣) الوسائل ٤ : ٤٥٠ أبواب لباس المصلّي ب ٥١.

(٤) اللّثغة في اللسان هو أن يصيّر الراء لاما.

(٥) الليغ : أن لا يبيّن الكلام.

(٦) الرتّة : حبسة في لسان الرجل.

(٧) وهو : من يبدّل التاء والفاء بغيرهما ، كما قال في الحدائق ١١ : ١٩٥. والتفسير الآخر هو : من يتردّد في التاء والفاء. انظر فقه اللغة للثعالبي : ١٠٦.

(٨) الذكرى : ٢٦٨.

(٩) الكافي ٣ : ٣٧٦ الصلاة ب ٥٦ ح ٥ ، التهذيب ٣ : ٣١ ـ ١١٣ ، الوسائل ٨ : ٣٥١ أبواب صلاة

٤١

وثالثة بإخلاله بالقراءة فتكون صلاته عنها خالية ، ولا صلاة إلاّ بالفاتحة ، فكيف يضمن قراءة المأموم ، مع أنّ الأصل عدم سقوطها.

ورابعة بعدم تبادر مثله ، ولا معهوديّته من الشريعة.

والأوّل إن ثبت فهو ، وإلاّ فمنقولة ليس بحجّة.

والثاني قاصر في الدلالة بوجوه كثيرة.

والثالث مردود بعدم إخلاله بما يجب عليه من القراءة ، وما قرأه هو في حقّه الفاتحة ، فلا تكون صلاته عنها خالية. ولو سلّم فتوقّف الضمان على الأزيد من ذلك في شأنه ممنوع ، والأصل بالعمومات والمطلقات مدفوع.

والرابع بمنع تبادر الغير أيضا ، وعدم المعهودية غير مسلّمة ، كيف؟! مع أنّ صلاة الجماعة بين الصحابة والتابعين وأصحاب الأئمّة وأهل أعصارهم كانت في غاية الشيوع ولا نعلم حال جميع أئمّتهم. ولو كان الأمر كما قالوه فكيف يجوّزونها للمثل كما صرّح به الأكثر (١)؟. وبالجملة لو لم يثبت الإجماع لكان القول بالجواز متّجها.

ومنه يظهر الجواز في اللاحن الغير المقصّر مطلقا كما عن الشيخ (٢) ، أو إذا لم يغيّر اللحن المعنى كما عن الحلّي بطريق أولى (٣) ، وكذا في التمتام وألفا فاء بالتفسير الآخر وهو من لا يحسن تأدية التاء والفاء إلاّ بترديدهما مرّتين فصاعدا ، كما صرّح غير واحد بجواز إمامتهما أيضا (٤) ، نعم كرهها بعض الأصحاب (٥) ولا بأس به.

__________________

الجماعة ب ٢٨ ح ١.

(١) منهم الحلي في السرائر ١ : ٢٨١ ، والمحقق في المعتبر ٢ : ٤٣٨ ، والعلاّمة في التذكرة ١ : ١٧٨ ، والشهيد في الذكرى : ٢٦٨.

(٢) المبسوط ١ : ١٥٣.

(٣) السرائر ١ : ٢٨١.

(٤) منهم المحقّق في المعتبر ٢ : ٤٣٨ ، والعلامة في المنتهى ١ : ٣٧٢.

(٥) كالعلاّمة في نهاية الاحكام ٢ : ١٤٩.

٤٢

المقام الثاني :

في الشروط المستحبّة للإمام ، وهي أيضا أمور :

منها : أن لا يكون أجذم ولا أبرص‌ ؛ إذ تكره إمامتها.

أمّا مرجوحيّتها فممّا لا خلاف فيه أعرفه ، بل عن الانتصار والخلاف الإجماع عليها (١) ، وهو الحجّة فيها ، لكفايته في مثلها سيّما مع انضمامها بالشهرة المحقّقة المعلومة ، مضافا إلى الصحيحتين والمرسلة المتقدّمة في صدر المقام الأوّل (٢).

وأمّا الجواز ـ كما هو الأظهر الأشهر سيّما بين من تأخّر ـ فللأصل الخالي عن معارضة ما يصلح حجّة للمنع ؛ إذ ليس إلاّ ما مرّ وهي عن الدال على التحريم خالية ، لكونها متضمّنة للجملة الخبريّة أو مالها محتملة.

واشتمالها على من تحرم إمامته إجماعا ، فيكون المراد من الجملة التحريم ، لئلاّ يستعمل اللفظ في المجازين أو الحقيقة والمجاز على القول بإفادة الجملة الخبريّة للتحريم ، غير مفيد ؛ إذ الحمل على مطلق المرجوحيّة ممكن وهو من باب عموم المجاز الشائع.

إلاّ أن يقال بأنّ المرجوحيّة المتصوّرة هنا هي الإضافية وبمعنى أقلّية الثواب ، وليس قدر مشترك بينها وبين الحرمة ، فيتعيّن حمل الجملة فيها على الحرمة لا غيرها ، وتكون عليها حجّة.

إلاّ أنّها معارضة مع ما دلّ على الجواز ، كرواية عبد الله بن يزيد : عن‌

__________________

(١) الانتصار : ٥٠ ، الخلاف ١ : ٥٦١.

(٢) راجع ص ٢٥.

٤٣

المجذوم والأبرص يؤمّان المسلمين؟ فقال : « نعم » (١).

ونحوها المروي في محاسن البرقي (٢).

وضعفهما سندا غير ضائر ؛ لانجبارهما بالشهرة المحكية ولو كانت من المتأخّرين. مع أنّ الأولى نفسها عندنا حجة.

وبعد تعارضهما إمّا يرجع إلى التخيير المثبت للجواز ، أو التساقط الموجب للرجوع إلى مجوّزات إمامتهما من إطلاقات الكتاب والسنّة بل مرغّباتها ، فتكون مستحبة ، إلاّ أنّه يحكم بالمرجوحيّة الإضافيّة للإجماع المتقدّم.

خلافا فيه للمحكي عن الجمل والمصباح للسيّد (٣) ، وغير التهذيبين للشيخ (٤) ، والحلبي وابني حمزة وزهرة (٥) ، بل عن الخلاف والغنية الإجماع عليه ، فنفوا الجواز بل حرّموها.

للأخبار المذكورة إمّا بالتقريب الّذي ذكرنا ، أو بجعل الجمل الخبرية مفيدة للحرمة ، مع ردّ المعارض بالضعف في السند وعدم معلوميّة الجابر له ، إذ ليس سوى شهرة متأخّرة ، وكونها صالحة للجبران سيّما مع معارضتها لشهرة القدماء والإجماعات المحكيّة غير معلوم. وأمّا دعوى الانتصار الإجماع على الكراهة (٦) ، فاحتمال الحرمة منها ممكن بل فيه ما تظهر منه إرادتها.

وهو حسن عند من يلاحظ السند في أخبار الكتب المعتبرة.

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٧ ـ ٩٣ ، الاستبصار ١ : ٤٢٢ ـ ١٦٢٧ ، الوسائل ٨ : ٣٢٣ أبواب صلاة الجماعة ب ١٥ ح ١.

(٢) المحاسن : ٣٢٦ ـ ٧٦ ، الوسائل ٨ : ٣٢٤ أبواب صلاة الجماعة ب ١٥ ح ٤.

(٣) جمل العلم والعمل ( رسائل الشريف المرتضى ٣ ) : ٣٩ ، وحكاه عن المصباح في المعتبر ٢ : ٤٤٢.

(٤) الخلاف ١ : ٥٦١ ، المبسوط ١ : ١٥٥ ، النهاية : ١١٢ ، الجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : ١٩١ ، الاقتصاد : ٢٦٩.

(٥) الحلبي في الكافي : ١٤٣ ، قال ابن حمزة في الوسيلة : ١٠٥ : تكره إمامة .. المجذوم والأبرص ؛ ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) ٥٦٠.

(٦) الانتصار : ٥٠.

٤٤

وللمحكي عن المقنعة والحلّي ، فمنعا عن إمامتهما في الجماعة الواجبة خاصة (١).

ولبعض آخر ، فمنع عنها للأصحّاء (٢).

ولا أعرف مستندهما ، إلاّ أن يستند في الثاني إلى تبادر ذلك من أدلّة المنع.

ولا بأس به.

ومنها : أن لا يكون محدودا بعد توبته.

أمّا مرجوحيّة إمامته فللأخبار المتقدّمة في الشرط الأوّل الواجب بالتقريب المذكور في المجذوم والمبروص ، والإجماع.

وأمّا جوازها فللأصل ، وعموم نحو : « يؤمّكم أقرؤكم » (٣) ومفهوم بعض الأخبار المصرّحة بأنّ خمسة لا يؤمّون (٤) وليس منهم المحدود ، وكونه أحسن حالا من الكافر بعد إسلامه فيدلّ على الجواز هنا بالأولويّة.

خلافا للمحكي عن السيّد والحلبي وابن زهرة وظاهر الشيخ (٥) ، بل عليه الإجماع عن الأخيرين ، فحرّموها لتلك الأخبار (٦) ، لدلالتها على الحرمة إمّا بنفسها أو بالتقريب الّذي ذكرناه.

وهو قويّ ، والأصل والعموم مدفوع ومخصّص بما مرّ ، والمفهوم عددي لا حجيّة فيه ، والأولويّة ممنوعة سيّما مع أنّهم لا يقولون بها لعدم قولهم بالكراهة ظاهرا في الكافر والقول بها في المحدود.

__________________

(١) المقنعة : ١٦٣ ، الحلّي في السرائر ١ : ٢٨٠.

(٢) كما في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٦٠.

(٣) الفقيه ١ : ١٨٥ ـ ٨٨٠ ، الوسائل ٥ : ٤١٠ أبواب الأذان والإقامة ب ١٦ ح ٣ وأيضا ٨ : ٣٥١ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٨ ، كنز العمّال ٧ : ٥٨٧.

(٤) الوسائل ٨ : ٣٢١ أبواب صلاة الجماعة ب ١٤.

(٥) السيد في جمل العلم والعمل ( رسائل الشريف المرتضى ٣ ) : ٣٩ ، والحلبي في الكافي : ١٤٤ ، وابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٦٠ ، الشيخ في النهاية : ١١٢.

(٦) وهي الأخبار التي تقدمت في ص ٢٥.

٤٥

ومنها : الأغلف الغير المقصّر في تأخير الختان‌ ؛ للإجماع على مرجوحيّته ، والأخبار القاصرة عن إفادة الحرمة إمّا دلالة أو سندا (١).

إلاّ أنّ بعض رواياته معتبرة والتقريب المتقدّم فيها جار ، فالقول بالحرمة كما عن بعض القدماء قوي (٢).

ولا تبطل صلاته ؛ للأصل ، والاتّفاق إلاّ عن شاذّ (٣).

ومنها : أن لا يكون ممّن يكرهه المأمومون‌

على الأظهر الأشهر ؛ لمرسلة الفقيه : « ثمانية لا يقبل الله لهم صلاة » إلى أن قال : « وإمام قوم صلّى بهم وهم له كارهون » (٤).

ورواية الحسين بن زيد في حديث المناهي قال : « ونهى أن يؤمّ الرجل قوما إلاّ بإذنهم وهم به راضون » (٥).

والمروي في الخصال : « أربعة لا تقبل لهم صلاة » إلى أن قال : « والرجل يؤمّ القوم وهم له كارهون » (٦).

وفي الأمالي : « ثلاثة لا تقبل لهم صلاة » إلى أن قال : « ورجل أمّ قوما وهم له كارهون » (٧).

وعن المنتهى نفي الكراهة (٨) ؛ لوجه اعتباري لا اعتبار له في مقابلة النصّ.

وعن التذكرة التفصيل بعدم الكراهة إن كان كراهة المأمومين لتديّنه وتصلّبه‌

__________________

(١) انظر : الوسائل ٨ : ٣٢٠ أبواب صلاة الجماعة ب ١٣. وأيضا : ب ١٤ ح ٦.

(٢) كالسيد في جمل العلم والعمل ( رسائل الشريف المرتضى ٣ ) : ٣٩ ، والحلبي في الكافي : ١٤٤.

(٣) قال الشهيد الثاني في روض الجنان : ٣٦٨ : ولو قدر وأهمل فهو فاسق ، ولا تصحّ صلاته بدونه وان كان منفردا.

(٤) الفقيه ١ : ٣٦ ـ ١٣١ ، الوسائل ٨ : ٣٤٨ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٧ ح ١.

(٥) الفقيه ٤ : ٩ ـ ١ ، الوسائل ٨ : ٣٤٩ من صلاة الجماعة ب ٢٧ ح ٢ ؛ بتفاوت يسير.

(٦) الخصال : ٢٤٢ ـ ٩٤ ، الوسائل ٨ : ٣٤٩ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٧ ح ٣.

(٧) أمالي الطوسي : ١٩٦ ، الوسائل ٨ : ٣٥٠ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٧ ح ٦.

(٨) المنتهى ١ : ٣٧٤.

٤٦

في الدين ، والكراهة إن كان لغير ذلك (١).

وهو حسن ؛ لأنّ المتبادر الظاهر من الأخبار الثاني ، فتختصّ الكراهة بمن لم يكن للمأمومين فيه مزيد اعتقاد ويرجّحون غيره عليه ويريدون الايتمام بغيره ، وهو مع ذلك يحملهم على الايتمام به ويمنعهم من غيره.

وهاهنا ثلاث مسائل ينبغي الإشارة إليها.

المسألة الأولى : قد صرّح الأصحاب بأنّ صاحب المسجد ـ أي الراتب فيه ـ وصاحب المنزل مع اجتماع شرائط الإمامة فيه ، أولى‌

بالإمامة فيه من غيره مطلقا ولو كان غيره أفضل ، ونفى بعضهم خلاف الأصحاب فيه (٢) ، وفي المنتهى : إنّه لا نعرف فيه خلافا (٣).

ويدل على الأوّل : الرضوي ، وفيه : « صاحب المسجد أحقّ بمسجده » (٤).

وفي موضع آخر منه : « أولى الناس بالتقدّم في الجماعة أقرؤهم » إلى أن قال : « وصاحب المسجد أولى بمسجده » (٥).

والدعائمي : « يؤمّكم أكثركم نورا ، والنور القرآن ، وكلّ أهل مسجد أحقّ بالصلاة في مسجدهم ، إلاّ أن يكون أمير حضر فإنّه أحقّ بالإمامة من أهل المسجد » (٦).

وفيه أيضا : « صاحب المسجد أحقّ بمسجده » (٧).

ثمَّ إنّ ضعفها بالشهرة منجبر ، مع أنّه في مقام المسامحة غير ضائر.

إلاّ أنّ في استفادة الراتب من لفظ الصاحب نظرا ، لاحتمال أن يكون‌

__________________

(١) التذكرة ١ : ١٧٩.

(٢) كصاحب الحدائق ١١ : ١٩٨.

(٣) المنتهى ١ : ٣٧٤.

(٤) فقه الرضا عليه‌السلام : ١٢٤ ، مستدرك الوسائل ٦ : ٤٧٥ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٥ ح ٥.

(٥) فقه الرضا عليه‌السلام : ١٤٣ ، مستدرك الوسائل ٦ : ٤٧٥ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٥ ح ٤.

(٦) الدعائم ١ : ١٥٢ ، مستدرك الوسائل ٦ : ٤٧٤ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٥ ح ١.

(٧) الدعائم ١ : ١٥٢ ، مستدرك الوسائل ٦ : ٤٧٥ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٥ ح ٢.

٤٧

المراد : المالك ـ إذ لا يلزم كون كلّ مسجد وقفا ـ أو الواقف. نعم ، الظاهر صدق أهل المسجد ـ الوارد في الدعائمي ـ على راتبة ، فيتمّ الاستناد إليه.

وعلى الثاني : رواية الحذّاء الواردة في الأولى بالتقديم في الجماعة ، وفيها : « ولا يتقدّمنّ أحدكم الرجل في منزله » (١).

وذكروا أيضا أنّ الهاشمي الجامع لشرائط جماعة الصلاة أولى من غيره.

وهو كذلك ؛ لفتوى العظماء ، ولأنّ فيه إكرام ذريّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولما روي من قوله عليه‌السلام : « قدّموا قريشا ولا تتقدّموهم » (٢).

وتحمّل ذلك المقام للمسامحة يجبر ما في هذه الوجوه من الضعف.

وأولويّته ـ كما صرّح به بعضهم (٣) ـ إنّما هي بالنسبة إلى غير راتب المسجد وصاحب المنزل ، وأمّا هما فيقدّمان عليه لأخصّية دليلهما.

وأيضا الأولى تقديم الأقرأ للقرآن أي الأكثر قراءة وأفصحها والأكثر إتقانا للحروف وأحسن إخراجا لها من مخارجها ، لا الأعرف بالأصول والقواعد المقرّرة عند القرّاء.

والأكبر سنّا وأعلمهم بالسنّة وأفقههم في الدين ؛ لرواية الحذّاء الواردة في صلاة الجماعة : « يتقدّم القوم أقرؤهم للقرآن ، فإن كانوا في القراءة سواء فأقدمهم في الهجرة ، فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سنّا ، فإن كانوا في السنّ سواء فأعلمهم بالسنّة وأفقههم في الدين ، ولا يتقدّمنّ أحدكم الرجل في منزله ولا صاحب سلطان في سلطانه ».

ومقتضى هذه الرواية تقديم صاحب المنزل على الثلاثة ؛ لأنّه المتبادر من الأمر بتقديمه بعد ذكر الثلاثة ، وقد عرفت تقديمه على الهاشمي أيضا. ولا يجتمع‌

_________________

(١) الكافي ٣ : ٣٧٦ الصلاة ب ٥٦ ح ٥ ، التهذيب ٣ : ٣١ ـ ١١٣ ، الوسائل ٨ : ٣٥١ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٨ ح ١.

(٢) رواها الشهيد في الذكرى : ٢٧٠ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصرّح بأنّها مرسلة أو مسندة بطريق غير معلوم ، ونقلها السيوطي في الجامع الصغير ٢ : ٢٥٣ ـ ٦١٠٨.

(٣) كالشهيد الثاني في المسالك ١ : ٤٥.

٤٨

مع راتب المسجد ، لاختلاف المحلّ ، فهو مقدّم على الجميع ثمَّ الثلاثة.

نعم يشكل الترجيح بين الراتب وأحد الثلاثة ، والظاهر عدم الترجيح لتعارض روايتهما.

وأمّا الثلاثة فمقتضى الرواية تقديم الأقرأ ثمَّ الأسنّ ثمَّ الأفقه ، إلاّ أنّه قد ورد في الرضوي (١) والدعائمي (٢) تقديم الأقرأ ثمَّ الأفقه ثمَّ الأسنّ ، فتتعارض الروايات حينئذ في الأفقه والأسنّ ، ولا يبعد ترجيح الروايتين الأخيرتين فيقدّم الأفقه ، إذ توافقان الاعتبارات العقلية والعمومات القرآنية والخبرية ، كقوله عزّ شأنه ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (٣). والنبوي : « من صلّى خلف عالم فكأنّما صلّى خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٤) إلى غير ذلك.

ولأجل أمثال ذلك قد ذهب جمع من المتأخّرين ، كصاحبي المدارك والذخيرة والمحدّثين الكاشاني والعاملي (٥) ، تبعا للفاضل ـ قدس‌سره ـ في المختلف (٦) ، إلى تقديم الأفقه على الأقرأ أيضا.

إلاّ أنّ الروايات المذكورة متّفقة طرّأ على خلافه ، وهي أخصّ مطلقا ممّا مرّ ، ومع ذلك على مدلولها الشهرة القديمة والجديدة ، بل عليه الإجماع في كلمات طائفة‌

__________________

(١) المتقدم في ص : ٤٧.

(٢) المتقدم في ص ٤٧.

(٣) الزمر : ١٢.

(٤) رواها الشهيد ـ مرسلا ـ في الذكرى : ٢٦٥ ، وروى عنه في الوسائل ٨ : ٣٤٨ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٦ ح ٥ ، ورواها عن لبّ اللباب في المستدرك ٦ : ٤٧٣ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٣ ح ٨ ( بتفاوت يسير ).

(٥) المدارك ٤ : ٣٥٩ ، الذخيرة : ٣٩١ ، الكاشاني في المفاتيح ١ : ١٦٤ ، وأما العاملي فقال في عنوان الباب ٢٦ من صلاة الجماعة : استحباب تقديم الأفضل الأعلم الأفقه ، ولكنه اختار في الباب ٢٨ تقديم الأقرأ على الأفقه.

(٦) الظاهر من عبارة المختلف : ١٥٥ تقديم الأقرأ على الأفقه ، كما صرّح به صاحب مفتاح الكرامة ٣ : ٤٧٨.

٤٩

من الأصحاب (١) ، فالعمل عليها لازم.

مع أنّ في دلالة كثير ممّا ذكروه نظرا ظاهرا ، كقبح تقديم المفضول ؛ فإنّه لو سلّم فلا نسلّم في مثل ذلك ، إذ يمكن أن يكون الأقرأ أفضل في الإمامة من الأفقه بعد تساويهما في فقه ما يلزم من أحكام الصلاة كما هو المفروض.

ونحو قولهم عليهم‌السلام : « من أمّ قوما وفيهم من هو أعلم منهم لم يزل أمرهم إلى سفال إلى يوم القيامة » (٢).

إذ ظاهره أنّ المراد إمام الدين لا الصلاة ولا أقلّ من الاحتمال ، وصدقه لغة عليه غير معلوم ، كما مرّ في بحث صلاة الجمعة.

ونحو ما مرّ في كراهة إمامة العبد من نفي البأس إذا لم يكن أفقه منه. ولا شكّ أنّه أخصّ من المدّعى.

ونحو قوله : « أئمتكم وفدكم فانظروا من توفدون في دينكم وصلاتكم » (٣).

فإنّه لم يعيّن الوافد فلعلّه الأقرأ.

إلى غير ذلك ممّا ذكره بعض المتأخّرين ويظهر ما في الجميع ممّا ذكرنا ، هذا.

ويستفاد من الرواية المتقدّمة تقديم صاحب السلطان في سلطانه أيضا. ولا يبعد شموله لكلّ من له إنفاذ الأحكام الشرعيّة والرئاسة الدينيّة في محلّ ، لصدق السلطنة اللغوية.

فروع :

أ : لا يخفى أنّ مرجع هذه الأدلّة إلى الاستحباب‌ والأفضليّة ، فهل متعلّق ذلك الاستحباب هو الإمام الراجح بمعنى أنّه يستحبّ له التقدّم لو لا المانع ، أو غيره من الأئمّة بمعنى أنّه يستحبّ له تقديم الراجح ، أو المأمومون بمعنى أنّه‌

__________________

(١) انظر الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٦٠ ، والمنتهى ١ : ٣٧٥ ، والرياض ١ : ٢٣٧.

(٢) الفقيه ١ : ٢٤٧ ـ ١١٠٢ ، التهذيب ٣ : ٥٦ ـ ١٩٤ ، الوسائل ٨ : ٣٤٦ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٦ ح ١.

(٣) قرب الاسناد : ٧٧ ـ ٢٥٠ ، الوسائل ٨ : ٣٤٧ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٦ ح ٤.

٥٠

يستحبّ لهم الايتمام بالراجح ، أو الجميع؟

الظاهر أنّه الإمام الراجح وغيره من الأئمّة ، فيستحبّ له التقدّم ويستحبّ لهم تقديمه. وأمّا المأمومون فلا يستحبّ شي‌ء لهم إلاّ من قبل الأمر بالمعروف.

ويظهر من بعض متأخّري المتأخّرين أنّ الخطاب متوجّه إلى غير الإمام الراجح فيستحبّ للغير تقديمه.

ولا يخفى ما فيه ؛ فإنّ ما يتضمّن قوله : « أهل المسجد أحقّ » يشمل ذلك الإمام أيضا ، بل قوله : « يتقدّم أقرؤهم » خطاب إليه خاصة ، نعم يستلزم ذلك خطاب غيره من الأئمة أيضا.

ب : هل الأفضل للراجح تقدّمه من غير أن يأذن لغيره‌ ، ولغيره تقديم الراجح ولو أذن له الراجح ، أو ينتفي الرجحان والأولوية بإذن الأولى؟

الظاهر : الأوّل ؛ لإطلاق الأخبار. مع أنّ التقدّم على صاحب المنزل بدون إذنه صريحا أو فحوى غير جائز مبطل للصلاة ، فما ذكروه من الاستحباب فيه لا بدّ وأن يكون مع إذنه.

ج : أولوية تقديم من ذكر إنّما هي في صورة حضوره‌ ، أمّا الثلاثة الأخيرة فلأنّه مورد الرواية إذ صدرها هكذا : عن القوم من أصحابنا يجتمعون فتحضر الصلاة.

وأمّا الراتب فلأنّ دليل تقديمه وإن كان مطلقا إلاّ أنّه ورد في بعض الروايات الآتية في مسألة استحباب قيام المأمومين عند قول المؤذّن : « قد قامت الصلاة » ما يعارض ذلك (١).

د : إذا حضر الراجح فهل المستحب لغيره من الأئمة تقديمه‌ والايتمام به ، أو عدم التقدّم عليه ، حتّى لو تقدّم غير الراجح لطائفة أخرى ولم يتقدّم على الراجح ولم يتأخّر عنه ترك الأفضل أم لا؟

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٤٥٠ أبواب الأذان والإقامة ب ٤١ وج ٨ : ٣٧٩ أبواب صلاة الجماعة ب ٤٢.

٥١

ظاهر الأخبار : الأوّل.

المسألة الثانية : إذا تشاحّ الأئمة‌ فأراد كلّ تقديم الآخر أو تقدّم نفسه على وجه لا ينافي العدالة يقدّم منهم الأولى بتقديمه على الترتيب المتقدّم ؛ لإطلاق أخباره بالنسبة إلى صورة التشاحّ وغيرها.

وقد ذكر جماعة (١) أنّ مراعاة ذلك الترتيب إنّما هي في صورة اختلاف المأمومين ، وأمّا في صورة اتفاقهم على واحد فيقدّم مختارهم ، استنادا إلى ما مرّ من كراهة إمامة شخص لقوم وهم له كارهون. وهو جيّد.

ويستفاد من الرضوي (٢) تقديم الأصبح وجها على غيره أيضا مع التساوي في المرجّحات المذكورة. ولا بأس به.

الثالثة : قد استفاضت الروايات بل تواترت معنى على استحباب الاقتداء بالمخالفين‌ بل وجوبه إذا اقتضته التقيّة ، على أحد الوجهين :

أحدهما : أن يصلّي في منزله لنفسه ويخرج إلى الصلاة معهم ، كما في رواية عمر بن يزيد : « ما منكم أحد يصلّي صلاة فريضة في وقتها ثمَّ يصلّي معهم صلاة تقيّة وهو متوضّئ لها إلاّ كتب الله تعالى له بها خمسا وعشرين درجة » (٣).

وقريبة منها رواية ابن سنان (٤).

ورواية الأرجاني : « من صلّى في منزله ثمَّ أتى مسجدا من مساجدهم يصلّي معهم خرج بحسناتهم » (٥).

__________________

(١) منهم المحقق في الشرائع ١ : ١٢٥ ، والعلاّمة في النهاية ٢ : ١٥٢ ، والشهيد الثاني في روض الجنان : ٣٦٦.

(٢) المتقدم في ص ٤٧ الرقم (٥).

(٣) الفقيه ١ : ٢٥٠ ـ ١١٢٥ ، الوسائل ٨ : ٣٠٢ أبواب صلاة الجماعة ب ٦ ح ١.

(٤) الفقيه ١ : ٢٦٥ ـ ١٢١٠ ، الوسائل ٨ : ٣٠٢ أبواب صلاة الجماعة ب ٦ ح ٢.

(٥) الكافي ٣ : ٣٨٠ الصلاة ب ٦٠ ح ٨ ، الفقيه ١ : ٢٦٥ ـ ١٢٠٩ ، التهذيب ٣ : ٢٧٠ ـ ٧٧٨ بتفاوت يسير ، الوسائل ٨ : ٣٠٤ أبواب صلاة الجماعة ب ٦ ح ٩.

٥٢

وكذا روايات نشيط بن صالح (١) وناصح (٢) ، والحضرمي (٣) وأبي الربيع (٤) ، وغير ذلك.

الثاني : أن يصلّي معهم ابتداء صلاة منفردة يؤذّن ويقيم ويقرأ لنفسه مع الإمكان.

ولا شك في الاجتزاء بتلك الصلاة مع الضرورة ، وبدونها إذا تمكّن من الإتيان بجميع الواجبات بنفسه ، وكذا مع عدم التمكّن إذا لم تكن له مندوحة عن تلك الصلاة ولم يمكنه الصلاة منفردا ، كالمصاحب في سفر مع جماعة المخالفين.

وإنّما الإشكال فيما إذا لم يتمكّن من الواجبات بأسرها وكانت له مندوحة من الصلاة معهم ، أو لم تكن ولكن أمكن له الانفراد أيضا قبلها أو بعدها.

والظاهر الاجتزاء أيضا ؛ لصحيحة أبي بصير (٥) ، وروايات البزنطي (٦) ، وأحمد بن عائذ (٧) ، وابن أسباط (٨) ، وابن عذافر (٩) ، وإسحاق بن عمّار (١٠) ، وغيرها.

ولكن الظاهر أنّ ذلك إنّما هو فيما كان لذلك جهة رجحان ، ولا أقلّ من أن‌

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٧٣ ـ ٧٨٩ ، الوسائل ٨ : ٣٠٣ أبواب صلاة الجماعة ب ٦ ح ٦.

(٢) التهذيب ٣ : ٢٧٠ ـ ٧٧٥ ، الوسائل ٨ : ٣٠٤ أبواب صلاة الجماعة ب ٦ ح ٧.

(٣) التهذيب ٣ : ٢٤٦ ـ ٦٧١ ، الوسائل ٧ : ٣٥٠ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٩ ح ٣.

(٤) التهذيب ٣ : ٣٣ ـ ١٢٠ ، الوسائل ٨ : ٣٠٣ أبواب صلاة الجماعة ب ٦ ح ٥.

(٥) التهذيب ٣ : ٢٧٥ ـ ٨٠١ ، الوسائل ٨ : ٣٦٧ أبواب صلاة الجماعة ب ٣٤ ح ١.

(٦) التهذيب ٣ : ٣٧ ـ ١٣٢ ، الاستبصار ١ : ٤٣١ ـ ١٦٦٥ ، الوسائل ٨ : ٣٦٥ أبواب صلاة الجماعة ب ٣٣ ح ٦.

(٧) التهذيب ٣ : ٣٧ ـ ١٣١ ، الاستبصار ١ : ٤٣١ ـ ١٦٦٤.

(٨) التهذيب ٣ : ٣٦ ـ ١٣٠ ، الاستبصار ١ : ٤٣٠ ـ ١٦٥٩ ، الوسائل ٨ : ٣٦٤ أبواب صلاة الجماعة ب ٣٣ ح ٥.

(٩) التهذيب ٢ : ٢٩٦ ـ ١١٩٤ ، علل الشرائع : ٣٤٠ ـ ٢ ، الوسائل ٨ : ٣٦٣ أبواب صلاة الجماعة ب ٣٣ ح ٣.

(١٠) التهذيب ٣ : ٣٨ ـ ١٣٣ ، الاستبصار ١ : ٤٣١ ـ ١٦٦٦ ، الوسائل ٨ : ٣٦٨ أبواب صلاة الجماعة ب ٣٤ ح ٤.

٥٣

يكون في ولاية المخالف ، أو موجبا لتأليف قلوبهم أو لرفع التهمة عن نفسه فيما تترتب عليهما فائدة ، كما هو مورد تلك الأخبار ، فلا يجزي في غير ذلك.

فلا يجوز الاجتزاء وترك الواجب فيما إذا وجد مخالف ذليل في بلاد الشيعة ، فاقتدى به شيعي لا مخالطة بينهما ولا يريد رفع تهمة عن نفسه ، لأنّ مثل ذلك غير مورد تلك الأخبار.

* * *

٥٤

البحث الثاني : في سائر شرائط الجماعة ولوازمها.

وهي أيضا إمّا واجبة أو مستحبة ، فهاهنا أيضا مقامان.

المقام الأوّل : في سائر الشرائط الواجبة للجماعة ولوازمها ، وهي أمور :

منها : عدم وجود حائل أو جدار بين الإمام والمأموم‌ ، فلا تصحّ صلاة المأموم مع وجود الحائل ، بالإجماع المصرّح به في كلمات جمع من الأواخر والأوائل.

لصحيحة زرارة المرويّة في الكافي والفقيه : « إن صلّى قوم وبينهم وبين الإمام ما لا يتخطّى فليس ذلك الإمام لهم إمام ، وأيّ صفّ كان أهله يصلّون بصلاة إمام وبينهم وبين الصفّ الّذي يتقدّمهم قدر ما لا يتخطّى فليس ذلك لهم بصلاة ، فإن كان بينهم ستر أو جدار فليس تلك لهم بصلاة إلاّ من كان بحيال الباب » قال : « وهذه المقاصير لم تكن في زمن أحد من الناس ، وإنّما أحدثها الجبّارون ، وليست لمن صلّى خلفها مقتديا بصلاة من فيها صلاة » قال أبو جعفر عليه‌السلام : « ينبغي أن تكون الصفوف تامّة متواصلة بعضها إلى بعض لا يكون بين الصفين ما لا يتخطّى ، ويكون قدر ذلك مسقط جسد الإنسان » (١). وزاد في الفقيه : « .. إذا سجد. قال ، وقال : أيّما امرأة صلّت خلف إمام وبينها وبينه ما لا يتخطّى فليس لها تلك بصلاة ».

ثمَّ المتبادر من الستر والجدار ما كان جسما ـ كما صرّح به جماعة (٢) ـ فلا ضير في حيلولة الظلمة وامتناع المشاهدة بالعمى ، إذ لم يتعلّق الحكم بعدم المشاهدة.

واللازم في المانع صدق الساتر أو الجدار ، فلا بأس بغيره ، ومنه : الثوب‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٨٥ الصلاة ب ٦٢ ح ٤ ، الفقيه ١ : ٢٥٣ ـ ١١٤٣ ، ١١٤٤ ، الوسائل ٨ : ٤٠٧ أبواب صلاة الجماعة ب ٥٩ ح ١ ، وص ٤١٠ ب ٦٢ ح ١ و ٢.

(٢) كالشهيد الثاني في الروضة ١ : ٣٨٠ ، والأردبيلي في مجمع الفائدة ٣ : ٢٧٧ ، والسبزواري في الذخيرة : ٣٩٣ ، والبهبهاني في شرح المفاتيح ( المخطوط ).

٥٥

الرقيق الحاكي للّون بل الشبح ، لعدم صدق الستر.

وأيضا منه : الشبابيك المانعة عن الاستطراق دون المشاهدة.

خلافا للمحكي عن الشيخ في بعض كتبه (١) ، فقال بعدم جواز الصلاة وراءها ، مستدلا عليه بالإجماع والصحيحة المذكورة.

والإجماع ممنوع سيّما مع أنّ الأكثر على خلافه.

والصحيح غير دالّ ؛ لأنّ موضع دلالتها إمّا النهي عن الصلاة خلف المقاصير ، أو نفي الصلاة مع توسّط ما لا يتخطّى.

ويضعّف الأوّل : بمنع كون المقاصير مشبّكة ، كما يستفاد من ذكر حكم المقاصير بعد اشتراط عدم حيلولة الستر والجدار.

والثاني : بأنّ المراد بما لا يتخطّى في الصحيحة ما كان كذلك بحسب البعد لا باعتبار الحائل ، ولا أقلّ من الاحتمال المانع من الاستدلال. وليس من باب الإطلاق أو العموم حتّى يكتفي به ، كما يجي‌ء بيانه.

ويمكن أن يكون مراده من الشبابيك ما يمنع من المشاهدة ، حيث إنّها في اللغة بمعنى ما يعمل من القصب ونحوه على نحو عمل الحصر والبواري ، من تشبيك القصبان ونحوها بعضها في بعض ، سواء منعت المشاهدة أم لا ، فيحمل كلامه على الأوّل كما هو صريح المبسوط (٢).

ثمَّ المصرّح به في كلام جماعة (٣) انتفاء البأس عن الحائل القصير الّذي لا يمنع المشاهدة في جميع الأحوال وإن كان مانعا في بعضها ، كالمانع حال الجلوس دون القيام أو بالعكس.

ولا يخفى أنّ مقتضى إطلاق قوله : « فإن كان بينهم ستر » إلى آخره مانعيّة الستر بينهم مطلقا سواء كان في تمام الصلاة أو في بعضها ، والتخصيص بالمستمرّ‌

__________________

(١) الخلاف ١ : ٥٥٧.

(٢) المبسوط ١ : ١٥٦.

(٣) منهم الشهيد في البيان : ٢٣٦ ، والسبزواري في الذخيرة : ٣٩٤ ، وصاحب الحدائق ١١ : ٩٦.

٥٦

في تمام الصلاة لا وجه له. ومقتضاه بطلان الصلاة بوجود الساتر في بعض الأحوال ، فهو الأجود.

نعم ، يشترط في مانعيّته ستره لجميع أجزاء الإمام ، فلو لم يستر بعضه بحيث يصدق عرفا عدم ستره لم يضرّ وإن كان في جميع الأحوال. وتلزمه كفاية إمكان مشاهدة جزء معتدّ به من الإمام دائما ، كما صرّح بكفايته بعض الأجلّة.

ويستفاد من بعض الكلمات عدم البأس بوجود الحائل التامّ في بعض الأحوال دون بعض (١).

ومن بعض آخر عدم البأس بما يمكن معه شهود جزء من الإمام مطلقا ، لعدم معلوميّة صدق الساتر مع مشاهدة جزء.

والأوّل غير سديد ؛ لأنّه تقييد للإطلاق المذكور بلا مقيّد. نعم ، يصحّ ذلك إذا كان بحيث لم يكن له استمرار أصلا كشخص عبر ما بينهما. ومنع صدق الساتر على الساتر في بعض الأحوال فاسد جدّا.

والثاني صحيح لو شوهد جزء معتدّ به ، فلا تكفي مشاهدة إحدى يديه أو جزء يسير من رأسه ، لصدق الساتر عرفا معه.

مع أنّ الوارد في الصحيحة هو الساتر أو الجدار. وعلى هذا ، فلو نسلّم عدم معلوميّة صدق الساتر على الساتر في بعض الأحيان أو [ لبعض ] (٢) الأجزاء ، ولكنّه قد يصدق عليه الجدار ، كما إذا كان بقدر لا يرى وراءه إلاّ رأس الإمام أو مع شي‌ء من جسده حال القيام ، فإنّه يصدق عليه الجدار الممنوع عنه في الصحيحة قطعا ، والإجماع على تجويز مثل ذلك [ غير ] (٣) معلوم.

نعم لو كان يسيرا بحيث يشكّ في صدق الجدار عليه كذراع بل أزيد منه بقليل ، انتفى البأس من جهته وإن ثبت من جهة الستر حال الجلوس. وكأنّهم‌

__________________

(١) كما في نهاية الاحكام ٢ : ١٢٢ ، والذكرى : ٢٧٢.

(٢) في النسخ : لجميع ، غيّرناه لتصحيح المتن.

(٣) أضفناه لتصحيح المتن.

٥٧

بنوا الحكم على الساتر والحائل وظنّوا انتفاءه مع المشاهدة في الجملة ، وغفلوا عن لفظ الجدار.

وأشكل منه ما لو كانت الواسطة جدارا رفيعا فيه ثقبة أو ثقبتان يرى منها بعض الإمام دائما أو في بعض الأحيان ، لصدق الجدار. ولا يفيد إمكان المشاهدة ، لعدم تعليق حكم عليها.

وأمّا على ما ذكرنا من مانعيّة الستر في بعض الأحيان أيضا واشتراط شهود جزء معتدّ به في انتفاء الستر فلا يختلف حكم الساتر والجدار ، إذ ما يمنع من المشاهدة في جميع الأحيان مانع جدارا كان أو غيره ، وما لا يمنع عن مشاهدة الجزء المعتدّ به حتّى في حال الجلوس لا يصدق عليه الجدار. وكذا لو كانت فيه ثقبة يشاهد فيها المعتدّ به من الإمام في جميع الأحيان لم يكن جدار بينهما أيضا ، إذ موضع الثقبة ليس جدار. ولو كانت فيه ثقبات صغيرة كثيرة تجعله شباكا.

فروع مهمّة :

أ : المانع عن الصحة هو الحائل بين المأموم وبين الإمام والمأمومين جميعا ، فلو لم يشاهد المأموم الإمام لحيلولة المأمومين ولكن لم يكن حائل بينه وبين بعض المأمومين صحّت صلاته إجماعا بل ضرورة ، وإلاّ لم تحصل جماعة للصفوف المتعدّدة.

وتدلّ عليه أيضا العمومات والإطلاقات الخالية عن المعارض ، حيث إنّ الصحيحة لم تدلّ إلاّ على وجوب انتفاء الستر بين المأموم والصفّ الّذي يتقدّمه ، حيث إنّ مرجع ضمير الجمع هو قوله : « أهله » فيكون الطرف الآخر الصفّ الذي يتقدّمهم كما في سابقة ولا أقلّ من احتماله الكافي لنا في المقام.

ب : مقتضى الصحيحة هو تحقق الصحة بانتفاء الحائل بين المأموم وبين من يتقدّمه‌ من الإمام أو الصفّ الّذي يتقدّمه ، بل بعض المأمومين من أهل الصفّ المتقدّم ؛ لصدق الصفّ ، وعدم الفصل. سواء كان حائل بينه وبين بعض آخر من أهل هذا الصفّ أو لا ، وسواء أمكن له مشاهدة من لا حائل بينه وبينه من‌

٥٨

أهل الصفّ بدون الالتفات بالرأس أو معه أو لم يمكن له للبعد ونحوه. وهذا هو الضابط الصحيح الثابت من الصحيحة في المسألة.

وعلى هذا فلو كان هناك جدار قدّامه إمام ووراءه صفّ ، فإن لم يتجاوز أحد طرفي الصفّ عن محاذاة الجدار إلى حيث يتمكّن من في هذا الطرف من مشاهدة الإمام بطلت صلاتهم جميعا ، وإن تجاوز أحد الطرفين أو كلاهما إلى حدّ لم يمنع الجدار من مشاهدة الإمام ، صحّت صلاة كلّ من يمكنه المشاهدة من هذه الجهة وإن بطلت من حيث التباعد في بعض الصور ، وبطلت صلاة من يحاذي الجدار أو يمنعه عن مشاهدة الإمام وإن لم يكن محاذيا له ، لصدق توسّط الجدار بينهما.

ولو كان قدّام الجدار صفّ يتجاوز عن طرفيه أو عن أحدهما ووراءه أيضا كذلك صحّت صلاة الجميع ، لأنّ من يحاذي الجدار من أهل صفّ الوراء يشاهد أهل طرف الصفّ القدّام ، إلاّ مع حيلولة الجدار عن مشاهدته إيّاهم.

ويلزمه لو كان هناك باب يحاذي المسجد وصفّ جماعة خارجه فإن لم يحاذ الباب أحد وصفّوا عن يمينه وشماله بطلت صلاة الجميع إلاّ إذا تباعد الصفّ عن جدار المسجد بحيث يرى من في طرفيه بعض أهل المسجد.

ولو صفّوا في محاذاة الباب وطرفيه صحّت صلاة المحاذي ومن يليه ممّن يتمكّن من المشاهدة وتبطل صلاة الباقين. ولو صفّ بعد هؤلاء جماعة أخرى صحّت صلاة الجميع. هذا مقتضى الصحيحة ، ويؤكّده قوله في ذيلها : « إلاّ من كان بحيال الباب » بل هو صريح في ذلك.

ومن الأصحاب جماعة (١) صرّحوا بصحة صلاة كلّ من في الصفّ الخارج الواقف حذاء الباب وطرفيه ، واحتجّوا له بأنّ من تجاوز الباب وإن لم يشاهد من الصفّ المتقدّم أحدا ولكنّه يشاهد من بحذاء الباب عن يمينه أو عن يساره والمشاهدة المطلقة كافية.

وفيه : أنّه إنّما يصحّ لو ثبت تعليق الحكم على المشاهدة ، وليس كذلك ، بل‌

__________________

(١) منهم الشيخ في المبسوط ١ : ١٥٦ ، والعلاّمة في المنتهى ١ : ٣٦٥ ، وصاحب الحدائق ١١ : ٩٨.

٥٩

هو معلّق بعدم الحائل بينه وبين الصفّ المتقدّم ، فلا وجه للاحتجاج بكفاية المشاهدة المطلقة سيّما مع تصريح الصحيحة بعدم صحة صلاة غير من بحيال الباب.

والعجب من شيخنا صاحب الحدائق ، حيث إنّه بعد ما نقل الاستشكال في صحّة صلاة من على يمين الباب ويساره عن الذخيرة استنادا إلى ظاهر الصحيحة ، قال ما خلاصته : إنّ منشأ الشبهة تخصيص المشاهدة الّتي هي شرط صحّة القدوة بمشاهدة من يكون قدّامه دون من على يمينه ويساره ، ولازمه أنّه لو استطال الصفّ الأوّل على وجه لا يرى من في طرفيه الإمام تبطل صلاتهم حيث إنّهم لا يشاهدون الإمام ولا تكفي مشاهدة من على اليمين واليسار. وكذلك لو استطال الصفّ الثاني أو الثالث زيادة على ما تقدّمه وكان في مقابل الزيادة جدار دون المأموم يلزم بطلان صلاة الزيادة لعدم وجود المأموم قدّامهم ولعلّه لا يقول به. والظاهر من قوله : « إلاّ من كان بحيال الباب » يعني من الصفوف لا من المأمومين بقرينة قوله : « وأيّ صف كان أهله » إلى آخره. ومثل الصورتين وقوف بعض المأمومين خلف الأساطين بحيث كانت الأسطوانة في قبلته فهو لا يرى من قدّامة من المأمومين وإنّما يرى من على يمينه ويساره ، مع أنّ صحيحة الحلبي (١) دلّت على أنّه لا بأس بالصلاة بين الأساطين (٢). انتهى.

وفيه : أنّه لم يثبت اشتراط صحّة القدوة بالمشاهدة من دليل ، بل الثابت اشتراط انتفاء الحائل بين أهل صفّ وأهل الصفّ المتقدّم ، فليس المنشأ تخصيصا في المشاهدة بل صدق الحائل.

ومنه يظهر عدم لزوم بطلان الصلاة في الصفّ المستطيل الأوّل ؛ لعدم الحائل. وعدم المشاهدة باعتبار طول المسافة غير ضائر كالظلمة.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٨٦ الصلاة ب ٦٢ ح ٦ ، الفقيه ١ : ٢٥٣ ـ ١١٤١ ، التهذيب ٣ : ٥٢ ـ ١٨٠ ، الوسائل ٨ : ٤٠٨ أبواب صلاة الجماعة ب ٥٩ ح ٢.

(٢) الحدائق ١١ : ٩٩.

٦٠