مستند الشّيعة - ج ٨

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ٨

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-83-3
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٣٤٨

ويكون له مقام عشرة أيام أو أكثر » (١).

ولا يضرّ ضعف الأوليين سندا لو سلّم.

لكونه مجبورا بالشهرة العظيمة وموافقة عمل الأصحاب ونفي الخلاف فيه في كثير من العبارات.

ولا تعارض مفهوم الشرطية الاولى في حكم العشرة التامة مع مفهوم الثانية فيه ، حيث يدل الأول على التقصير والثاني على التمام.

لعدم اعتبار المفهومين من وجهين : أحدهما : أنّ مع ذكر المقدّمتين كلّ في مقابل الآخر يكون مفهوم كلّ هو الآخر عرفا دون غيره. وثانيهما : أنّ إقامة العشرة التامة بحيث لا يزيد عليها ولا ينقص نادرة جدا فلا يلاحظ في المفاهيم. وعلى هذا فيكون حكم التامة غير معلوم من هذه الرواية فيستنبط من الإجماع المركّب أو من الروايتين الأخيرتين.

ولا ما قيل من أنّ المراد بالإقامة عشرة فيها إن كان المنوية يكون الحكم في بلده مخالفا لفتوى الأصحاب لعدم اشتراط النية فيه ، وإن كان الأعم يكون الحكم في غير البلد كذلك لاشتراط النية فيه (٢).

إذ نختار الأوّل أوّلا غير كون حكم الإقامة المنوية في البلد ذلك ليس مخالفا لفتواهم ، بل عدم كون حكم غير المنوية كذلك مخالف لها والرواية غير دالّة عليه ، فلا تكون الرواية مخالفة ويستفاد حكم غير المنوية في بلده من الخارج ، والثاني ثانيا ويكون حكم العشرة الغير المنوية في غير البلد مغايرا ـ لو سلّم ـ من باب تخصيص العام ، والعام المخصّص حجّة في الباقي.

ولا اشتمال الثانيتين على ما لم يفت به أصحابنا كما قال في الوافي (٣).

إذ خروج جزء من الخبر عن الحجيّة بدليل لا يقدح في حجّية باقيه ، مع أنّ‌

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٨١ ـ ١٢٧٨ ، الوسائل ٨ : ٤٨٩ أبواب صلاة المسافر ب ١٢ ح ٥.

(٢) الرياض ١ : ٢٥٣.

(٣) الوافي ٧ : ١٧١.

٢٨١

عدم فتواهم به ممنوع كما يأتي.

ولا اشتمال الثالثة على تعليق القصر على إقامتين : إقامة في البلد الّذي يذهب إليه ، وإقامة في منزله الّذي ينصرف إليه ، وهو ممّا لم يقل به أحد.

لأنّ لفظة الواو في قوله : « وينصرف » إمّا بمعنى أو ، أو للجمع في الحكم بقرينة الإجماع والروايتين المتقدّمتين. مع أنّ عدم قول أحد به ممنوع ، كيف؟! ونفى عنه البعد في الذخيرة وقال : استوجهه بعض أفاضل المتأخّرين (١). ولكنّه لا يقدح في انعقاد الإجماع ولأجله يجب حمل الرواية على ما ذكرنا ، ولا يتطرق الخدش في الاستدلال بالصحيحة ، كما أنّه لا يتطرق باحتمال أن يراد منها القصر في السفر المتقدّم على الإقامة أيضا ، فإنّه يتوقّف على حمل قوله : « كان له مقام » على إرادة المقام وهو تجوّز ، ومع ذلك مخالف لفهم الأصحاب وإجماعهم.

فروع :

أ : ليس اشتراط هذا الشرط لإيجاب إقامة العشرة سلب العنوان ، لعدم إيجابه له أصلا حتّى لو جعل العنوان كثير السفر ، إذ لا يتفاوت ذلك في إقامة تسعة أيام أو عشرة ، بل هو تعبّد محض يتعبّد به لأجل الروايات ، إلاّ أن يجعل كثير السفر اصطلاحا فيمن يجب عليه الإتمام في سفره فعلا.

ب : قالوا : إن كانت إقامة العشرة في بلده لم يحتج إلى نيّتها‌ ، وإن كان في بلد آخر يشترط فيها النية.

ولم أقف في هذه الأخبار على ما يدلّ على الفرق بين بلده وغير بلده في كون العشرة منوية وغير منوية ، فإنّا لو حملنا مقام عشرة وإقامة عشرة الواردين في الروايات على المنوية فالكلام فيهما سواء وإخراج بلده يحتاج إلى دليل ، وإن أبقيناهما على الإطلاق فيحتاج إقحام النية في غير البلد إلى دليل.

وقد يستند في ذلك إلى دعوى روض الجنان الإجماع على عدم اعتبار العشرة‌

__________________

(١) الذخيرة : ٤١٠.

٢٨٢

المتردّدة في غير البلد (١) ، وكذا ادّعاه العلاّمة المجلسي كما حكي عنه (٢).

وإلى أنّ اعتبار هذه الإقامة للإخراج عن كثير السفر وهو يحصل بقطع السفر ، والعشرة الغير المنوية في بلده سفر أيضا.

ويضعف الأوّل : بعدم حجيّة الإجماع المنقول.

والثاني : بمنع كون الاعتبار لما ذكر بل هو تعبّدي.

نعم لو ثبت الإجماع على ذلك لكان متّبعا ، وفي ثبوته كلام ، كيف؟! وظاهر إطلاق كلام النافع (٣) تساوي البلدين وعدم اشتراط النية في شي‌ء من الإقامتين ، ونسب بعضهم (٤) إلحاق العشرة المنوية بالعشرة البلدية إلى الفاضلين ومن تأخّر عنهما المشعر بعدم ذكر لها فيما تقدم عليهم فكيف يثبت الإجماع؟! فالقول بكفاية إقامة العشرة مطلقا ولو في غير بلده قويّ غايته.

ومنه يظهر إلحاق الثلاثين المتردّدة والعشرة بعدها بطريق أولى ، كما اختاره ابن فهد في المهذّب وجعله المشهور (٥) ، وقوّاه المحقّق الشيخ علي (٦). بل وكذلك لو قلنا باشتراط النية في العشرة ، إذ لو قلنا به لكان للإجماع المنتفي في الثلاثين والعشرة الملحقة بها ، سيّما مع ما ورد في بعض الروايات من تنزيل الثلاثين المتردّدة منزلة الإقامة في الوطن (٧).

ج : يشترط في العشرة التوالي‌ بمعنى عدم الخروج في أثنائها إلى المسافة ، إجماعا. ولا يشترط التوالي بمعنى عدم الخروج إلى حدود البلد بحيث يعدّ جزءا منه عرفا وهو ما دون حدّ الترخص ، بل ما لا يخرج عن حدود مجتمع حيطان البلد‌

__________________

(١) روض الجنان : ٣٩١.

(٢) حكاه عنه في الرياض ١ : ٢٥٣.

(٣) النافع : ٥١.

(٤) كالمحقّق السبزواري في الذخيرة : ٤١٠ ، وصاحب الحدائق ١١ : ٣٩٥.

(٥) المهذب البارع ١ : ٤٨٦.

(٦) جامع المقاصد ٢ : ٥١٣.

(٧) الوسائل ٨ : ٤٩٨ أبواب صلاة المسافر ب ١٥.

٢٨٣

كذلك.

وفي اشتراطه بمعنى عدم الخروج إلى ما يخرج عن حوالي البلد ويقصر عن المسافة خلاف.

فمنهم من اشتراطه مطلقا (١).

ومنهم من لم يشترطه كذلك (٢).

ومنهم من فصّل ، فقال بالأوّل في غير بلده وبالثاني في بلده (٣).

ومنهم من فرّق بين الخروج في جزء يسير من اليوم بحيث لم يكن منافيا لصدق الإقامة عرفا وفي الأكثر المنافي له.

ثمَّ من يقول بعدم اشتراطه إمّا يقول بكون المدة الّتي يكون خارجا محسوبا من العشرة ، أو يلفّق فيجمع ما قبلها مع ما بعدها ويسقط الزائد.

والحقّ الاشتراط مطلقا ، لتعليق الحكم في الأخبار والفتاوي على إقامة العشرة ، والمتبادر منها المتتالية ، ولا أقلّ من احتمالها الموجب لبقاء الحكم الثابت بالعمومات إلى أن يعلم المخصّص. ولا أعرف وجها لكون الخروج إلى ثمانية فراسخ منافيا للتتالي العرفي دون سبعة ونصف. وصدق اسم العشرة على غير المتتالية غير كاف ، لأنّ المناط صدق إقامة العشرة وهو في غير المتتالية غير معلوم.

ومنه يظهر دفع النقض بنذر صوم عشرة حيث لا يشترط فيه التتابع.

وأمّا الاحتجاج بأصالة البراءة عن التتالي فضعيف غايته ومعارض بالاستصحاب.

د : اعلم أنّ الروايات المتضمنة للتقصير بعد إقامة العشرة‌ مختصّة‌

__________________

(١) كما في البيان : ٢٦٦ ، والروضة ١ : ٣٧٣ ، والمدارك ٤ : ٤٥٢.

(٢) كما في الوافي ٧ : ١٥٤ ، وشرح المفاتيح للبهبهاني ( المخطوط ). وحكاه في الرياض عن فخر المحققين ١ : ٢٥٩.

(٣) كما يستفاد من مجمع الفائدة والبرهان ٣ : ٤٠٩ ، والبحار ٨٦ : ٤٢ ، والحدائق ١١ : ٣٤٦ ، والرياض ١ : ٢٥٩.

٢٨٤

بالمكاري ، ونقل في الشرائع والنافع قولا بالاختصاص به أيضا (١) ، وقوّاه بعض الأجلّة (٢) اقتصارا في تخصيص العمومات بمورد النصّ.

والمشهور التعدّي إلى كلّ من العنوانات السابقة ، واستدلّ له بأنّه قد عرفت أنّ المناط في الإتمام اتّخاذ السفر عملا من غير خصوصية للمكاري ، وسبب التقصير هنا انقطاع المناط بإقامة العشرة ، وهو متحقّق في الجميع.

وفيه : منع كون ما ذكر سببا كما مرّ.

وقد يستند فيه إلى الاتّفاق. وهو ممنوع جدّا.

فالأقوى الاختصاص به. بل لا يتعدّى إلى الملاّح والأجير أيضا ، لعدم إطلاق المكاري عليهما.

هـ : إذا وجب التقصير والإفطار على المكاري بإقامة العشرة فلا شكّ في وجوبه في السفر الأوّل‌ لأنّه أقلّ ما يحصل به الامتثال ، ولا في العود إلى التمام في الثالث للإجماع ، وإنّما وقع الخلاف في الثاني.

فذهب الحلّي وجماعة (٣) إلى الإتمام فيه ، ولعلّه الأشهر ، وهو الأظهر ، اقتصارا فيما خالف العمومات الدالّة على وجوب التمام ـ المقيّد بالتأبيد والعموم بمثل قوله : سواء كانوا في الحضر أو السفر ، وبالتعليل بأنّه عملهم ، وبالنكرة المنفية مثل : ليس عليهم تقصير ، ونحو ذلك ـ على هؤلاء على المتيقّن ، وليس إلاّ السفر الأوّل.

لا يقال : إطلاق النص بالتقصير يقتضيه مطلقا ، خرج الثابت بالإجماع فيبقى الباقي.

لأنّا نقول : لا إطلاق هنا مفيد للعموم ، بل حكم بوجوب التقصير المتحقّق امتثاله بالتقصير مرّة واحدة كما في قولك : تجب الصلاة ، فإنّ إيجاب الماهية يقتضي‌

__________________

(١) الشرائع ١ : ١٣٤ ، النافع : ٥١.

(٢) الرياض ١ : ٢٥٣.

(٣) السرائر ١ : ٣٤٠ ، وانظر المختلف : ١٦٣ ، والمدارك ٤ : ٤٥٣ ، والذخيرة : ٤١٠.

٢٨٥

إيجاب فرد منها لا جميع الأفراد. مع أنّه لو كان كذلك لم يجز التقييد بهذا القدر حتّى لا يبقى إلاّ اثنان للإجماع على التمام في الثالث.

خلافا للمحكي عن الشهيد فحكم [ بالقصر ] (١) إلى الثالث ، لزوال الاسم بالإقامة فيكون كالمبتدئ. (٢).

ويضعّف بمنع الزوال.

ثمَّ المراد بالسفر الثاني الذي يتمّ فيه هل هو ما ينشئه بعد ذهابه إلى مقصوده في الأوّل سواء كان عودا إلى مبدئه للسفر الأوّل أو إنشاء لسفر آخر ، أو الثاني خاصة ، أو ما ينشئه بعد العود إلى المبدأ؟

الظاهر : الأوّل ، لما مرّ من الاقتصار على المتيقّن.

المسألة الثالثة : لو أقام من السفر عمله في أحد البلدان أقلّ من عشرة كان باقيا على حكم الصيام والتمام في الليل والنهار‌ ، على المشهور سيّما بين المتأخّرين ، وعن السرائر دعوى الإجماع عليه (٣) ، للعمومات المتقدّمة المتضمّنة لأنّ كثير السفر يجب عليه الإتمام ، خرج من أقام العشرة بالإجماع والنص فبقي غيره.

خلافا للمحكي عن الإسكافي (٤) ، فجعل الخمسة كالعشرة مطلقا. ولا دليل عليه ظاهرا.

وللمحكي عن المبسوط والنهاية والقاضي وابن حمزة (٥) ، فجعلوها كالعشرة في تقصير صلاة النهار خاصة دون الليلية والصيام ، لصحيحة ابن سنان وروايته المتقدّمتين (٦).

__________________

(١) في النسخ بالإتمام ، والصحيح ما أثبتناه.

(٢) الذكرى : ٢٥٨.

(٣) السرائر ١ : ٣٤١.

(٤) حكاه عنه في الذكرى : ٢٦٠.

(٥) المبسوط ١ : ١٤١ ، النهاية : ١٢٢ ، القاضي في المهذب ١ : ١٠٦ ، ابن حمزة في الوسيلة : ١٠٨.

(٦) في ص ٢٨٠.

٢٨٦

وردّ بكون الروايتين متروكتين ، لتضمنّهما ثبوت الحكم في الأقلّ من الخمسة أيضا الصادق على ثلاثة وأربعة بل يوم أو بعض يوم ، ولم يقل به هؤلاء الجماعة.

ومعارضتين مع النصوص المتقدّمة ومع ما ورد في بعض الصحاح من أنّه « إذا قصّرت أفطرت وإذا أفطرت قصّرت » (١).

ويجاب عن الأوّل : بأنّ ذلك غير ضائر في الحجيّة ، لأنّه يكون كالعام المخصّص ، مع أنّه نفى في الذخيرة البعد عن القول بمضمونها وقال : إنّ ظاهر الإقامة يقتضي قدرا معتدّا به ، فلا يصدق على يوم واحد أو بعض يوم والمتيقّن منه المساواة بين الخمسة وما قاربها ، والعمل به غير بعيد ـ إلى أن قال طاب ثراه ـ : وبالجملة فالمتّجه عندي العمل بمضمون الخبر كما قاله بعض أفاضل المتأخّرين. ثمَّ ذكر ـ في بيان انتفاء الشهرة القديمة على خلافه ـ أنّ مخالفة من تقدّم على الشيخ بمضمون الرواية غير واضح ، بل إيراد الصدوق لها يقتضي عمله بها (٢).

وعن الثاني : بأنّ التعارض بالعموم والخصوص المطلقين ، وحمل العام على الخاص لازم.

ومن ذلك تظهر قوّة قول الشيخ وتابعيه ، بل ما نفى عنه البعد في الذخيرة.

إلاّ أن دليلهم عن إفادة وجوب التقصير بالنهار قاصر لمكان الجملة الخبرية ، وإثبات الوجوب بالإجماع المركب مشكل ، وعلى هذا فلو أتمّ في النهارية أيضا ما لم يقم العشرة كان أحوط.

المسألة الرابعة : استفاضت الروايات على وجوب التقصير على المكاري والجمّال‌ إذا جدّ بهما السير.

ففي صحيحة محمّد : « المكاري والجمّال إذا جدّ بهما فليقصرا » (٣).

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٨٠ ـ ١٢٧٠ ، التهذيب ٣ : ٢٢٠ ـ ٥٥١ ، الوسائل ٨ : ٥٠٣ أبواب صلاة المسافر ب ١٥ ح ١٧.

(٢) الذخيرة : ٤١٠.

(٣) التهذيب ٣ : ٢١٥ ـ ٥٢٨ ، الاستبصار ١ : ٢٣٣ ـ ٨٣٠ ، الوسائل ٨ : ٤٩٠ أبواب صلاة المسافر ب ١٣ ح ١.

٢٨٧

وفي صحيحة البقباق : عن المكارين الّذين يختلفون ، فقال : « إذا جدّوا السير فليقصروا » (١).

وفي مرسلة الكافي : « المكاري إذا جدّ به السير فليقصر » ثمَّ قال : ومعنى جدّ به السير يجعل منزلين منزلا (٢).

وفي مرسلة عمران : « الجمّال والمكاري إذا جدّ بهما السير فليقصرا فيما بين المنزلين ويتمّا في المنزل » (٣).

وفي المروي في كتاب عليّ بن جعفر : عن المكارين الّذين يختلفون إلى النيل هل عليهم إتمام الصلاة؟ قال : « إذا كان مختلفهم فليصوموا وليتمّوا الصلاة ، إلاّ أن يجدّ بهم السير فليقصروا وليفطروا » (٤).

ومعنى الجدّ بالسير الإسراع فيه والاهتمام بشأنه ، يقال : جدّ بسيرة إذا اجتهد فيه ، كذا في مجمع البحرين (٥) ، وهو المعنى المتفاهم عرفا ، وإليه ينظر تفسير الكليني له بأنّ معناه أن يجعل منزلين منزلا ، وهو الموافق لما ذكره بعض آخر من أنّ أظهر معانيه إرادة المشقة الشديدة الخارجة عن معتادهم.

وأمّا تفسيره بأنّ يستمرّ بهم السير مثل سفر الحج والزيارة ، أو حصل لهم السفر بعد الإقامة مأخوذا من التجديد فهما مخالفان للظاهر جدّا كسائر ما قيل في تفسيره ، والظاهر ما ذكرنا في معناه.

وعمل بها الكليني والشيخ في التهذيب على الظاهر (٦) ، وجماعة من‌

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢١٥ ـ ٥٢٩ ، ٤ : ٢١٩ ـ ٦٣٨ ، الاستبصار ١ : ٢٣٣ ـ ٨٣١ ، الوسائل ٨ : ٤٩٠ أبواب صلاة المسافر ب ١٣ ح ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٤٣٧ الصلاة ب ٨٥ ح ٢ ، الوسائل ٨ : ٤٩١ أبواب صلاة المسافر ب ١٣ ح ٤.

(٣) الفقيه ١ : ٢٨٢ ـ ١٢٧٩ ، التهذيب ٣ : ٢١٥ ـ ٥٣٠ ، الاستبصار ١ : ٢٣٣ ـ ٨٣٢. الوسائل ٨ : ٤٩١ أبواب صلاة المسافر ب ١٣ ح ٣.

(٤) مسائل علي بن جعفر : ١١٥ ـ ٤٦ ، الوسائل ٨ : ٤٩١ أبواب صلاة المسافر ب ١٣ ح ٥.

(٥) مجمع البحرين ٣ : ٢١.

(٦) الكليني في الكافي ٣ : ٤٣٧ ذيل الحديث ٢ ، الشيخ في التهذيب ٣ : ٢١٥.

٢٨٨

المتأخّرين منهم المدارك والمنتقى والمحدّث الكاشاني والفاضل الهندي وصاحبا الذخيرة والحدائق (١) ، وأفتى بها بعض أفاضل معاصرينا.

وهو الصحيح ، إذا لا مجال في ترك روايات معتبرة ظاهرة المعنى بلا معارض مساو أو أخصّ ، فبها العمومات تخصّص. وجعلها مجملة لاختلاف الأصحاب في تنزيلها بعد تفسير اللغوي والمحدّث والفقيه والفهم العرفي باطل جدّا.

وهل التقصير عليهم في الطريق والمنزل معا كما هو مقتضى إطلاق أكثر الروايات المذكورة ، أو في الطريق خاصة كما تدل عليه المرسلة؟

الأظهر الثاني ، لكون المرسلة مقيّدة ، ويجب حمل المطلق على المقيّد.

وقيل بالأوّل ، لضعف المرسلة ، وإجمالها لاحتمال أن يكون المراد من : « ما بين المنزلين » المنزل الذي يخرج منه والمنزل الذي يذهب إليه يعني مبدإ سفره ومنتهاه (٢).

وكلاهما ممنوعان ، بل الرواية معتبرة ومفادها واضح وما ذكره تقييد بلا مقيد.

فرعان :

أ : هذا الحكم أيضا كالحكم بالتقصير بعد إقامة العشرة مختصّ بالمكاري والجمّال‌ ، لاختصاص الأخبار.

ب : تقصيرهما إنّما هو في منزل جدّ به السير‌ ، فإذا انتفى وعادا إلى السير المعتاد في منزل آخر يتمّان.

المسألة الخامسة : لو أنشأ من عمله السفر سفرا آخر‌ غير ما هو صنعته كسفر الحج أو الزيارة أو صلة الرحم قبل إقامة العشرة في منزل ، فهل يقصر أو يتمّ؟

__________________

(١) المدارك ٤ : ٤٥٦ ، المنتقى ٢ : ١٧٧ ، المحدث الكاشاني في مفاتيح الشرائع ١ : ٢٤ ، الذخيرة : ٤١٠ ، الحدائق ١١ : ٣٩٣.

(٢) الذخيرة : ٤١٠.

٢٨٩

قيل بالأوّل (١) ، لأنّ الظاهر أنّ المراد بالسفر الذي يتم هؤلاء هو السفر الّذي كان عملهم ، ويشعر به التعليل بذلك.

ولروايتي إسحاق بن عمّار ، إحداهما : عن الّذين يكرون الدواب يختلفون كلّ الأيام ، أعليهم التقصير إذا كانوا في سفر؟ قال : « نعم » (٢).

والأخرى : عن المكارين الّذين يكرون الدواب وقلت : يختلفون كلّ أيام ، كلّما جاءهم شي‌ء اختلفوا ، فقال : « عليهم التقصير إذا سافروا » (٣).

وجه الاستدلال : إمّا أنّ الظاهر من السفر في الروايتين غير السفر الّذي يعملون فيه ، أو أنهما دلّتا على وجوب التقصير في كلّ سفر ، خرج ما كان صنعتهم بما مرّ فيبقى الباقي.

وقيل بالثاني ، لعدم دليل صالح للخروج عن مقتضى الأدلّة العامة (٤).

وهو الأقوى ، لذلك.

ويضعّف الظهور الّذي ادعاه الأوّلون بالمنع. ولا إشعار للتعليل به أيضا ، لأنّ عليّة كون السفر عملا للإتمام في السفر لا تدلّ على أنّه فيما كان يعمل به أصلا ، لجواز أن تكون عمليّته علّة للإتمام في كلّ سفر.

والروايتان أمّا على التقريب الأوّل فبأنّ ظهورهما في السفر الّذي ادّعوه لا وجه له أصلا.

وأمّا على التقريب الثاني فبأنّه إنّما يتمّ لو كانت أخبار إتمامهم في السفر مخصوصة بالسفر الّذي يعملون فيه ، ولكنّها عامة كهاتين الروايتين ، فتتعارضان بالتساوي ، ولا شاهد على ذلك الجمع ، فترجّح عليهما ، لكونها أشهر رواية‌

__________________

(١) الذكرى : ٢٥٨.

(٢) التهذيب ٣ : ٢١٦ ـ ٥٣٢ ، الاستبصار ١ : ٢٣٣ ـ ٨٣٣ ، الوسائل ٨ : ٤٨٨ أبواب صلاة المسافر ب ١٢ ح ٢.

(٣) التهذيب ٣ : ٢١٦ ـ ٥٣٣ ، ٤ : ٢١٩ ـ ٦٣٧ ، الاستبصار ١ : ٢٣٤ ـ ٨٣٤ ، الوسائل ٨ : ٤٨٨ أبواب صلاة المسافر ب ١٢ ح ٣.

(٤) الرياض ١ : ٢٥٤.

٢٩٠

واعتضادها بالإجماع ، وشذوذ الروايتين جدّا.

الشرط السادس : الخروج إلى حدّ الترخّص‌ وفيه مسألتان.

المسألة الأولى : يشترط في التقصير البلوغ إلى حدّ الترخص‌ ، وفاقا للأكثر ، بل بلا خلاف إلاّ عن شاذّ ، بل بالإجماع المحكي (١) بل المحقّق ، له ، وللمعتبرة المستفيضة الآتية.

خلافا للمحكي عن والد الصدوق (٢) ، فلم يعتبر هذا الشرط بالكلية بل اكتفى بنفس الخروج من البلد ، لمرسلة الفقيه : « إذا خرجت من منزلك فقصّر إلى أن تعود إليه » (٣).

ونحوه الرضوي (٤).

والموثّق : « أفطر إذا خرج من منزله » (٥).

ويردّ ـ مع شذوذ الجميع وضعف سند الثاني ـ بكونه أعمّ مطلقا ممّا يأتي ، فيجب تخصيصه به ، بل الظاهر أنّ المخصّص هو المراد ، وأنّ إطلاق الرضوي مسبوق بما يأتي من التخصيص.

ثمَّ إنّهم اختلفوا في حدّ الترخص ، فالمشهور بين القدماء ـ وقيل : مطلقا (٦) ـ أنّه أحد الأمرين من خفاء جدران البلد أو أذانه ، بمعنى كفاية أحد الأمرين في لزوم القصر ، ولزومه بتحقّق أحدهما كما هو المحتمل. أو بمعنى التخيير بينهما أي جواز القصر بتحقّق كلّ واحد منهما كما صرّح به بعضهم بقوله‌

__________________

(١) الرياض ١ : ٢٥٤.

(٢) حكاه عنه في المختلف : ١٦٣.

(٣) الفقيه ١ : ٢٧٩ ـ ١٢٦٨ ، الوسائل ٨ : ٤٧٥ أبواب صلاة المسافر ب ٧ ح ٥.

(٤) فقه الرضا عليه‌السلام : ١٦٢ ، مستدرك الوسائل ٦ : ٥٣٠ أبواب صلاة المسافر ب ٥ ح ١.

(٥) التهذيب ٤ : ٢٢٨ ـ ٦٦٩ ، الاستبصار ٢ : ٩٨ ـ ٣١٩ ، الوسائل ١ : ١٨٧ ، أبواب من يصح منه الصوم ب ٥ ح ١٠.

(٦) الحدائق ١١ : ٤٠٥.

٢٩١

بعد ذكر الأمرين : مخيّرا بينهما (١) وعليه يدلّ كلام صاحب الذخيرة حيث عبّر عن هذا القول بالقول بالتخيير (٢).

وأكثر المتأخّرين تبعا للسيّد والشيخ في الخلاف (٣) على أنّه الأمران معا ، فلا يجوز القصر إلاّ بتحققهما معا.

وعن المقنع أنّه الأوّل (٤).

وعن المفيد والديلمي والحلّي أنّه الثاني (٥).

ومنشأ الاختلاف اختلاف الأخبار الواردة في المورد ، وهي صحيحة محمّد : الرجل يريد السفر متى يقصّر؟ قال : « إذا توارى من البيوت » (٦).

وابن سنان : « إذا كنت في الموضع الّذي تسمع الأذان فأتمّ ، وإذا كنت في الموضع الّذي لا تسمع الأذان فقصّر ، وإذا قدمت من سفر فمثل ذلك » (٧).

وموثقة إسحاق بن عمّار المروية في العلل ، وفيها : « أليس قد بلغوا الموضع الّذي لا يسمعون فيه أذان مصرهم؟ » (٨).

والرضوي : « وإن كان أكثر من بريد فالتقصير واجب إذا غاب عنك أذان مصرك ، وإن كنت في شهر رمضان فخرجت من منزلك قبل طلوع الفجر إلى السفر أفطرت إذا غاب عنك أذان مصرك » (٩).

__________________

(١) الرياض ١ : ٢٥٤.

(٢) الذخيرة : ٤١١.

(٣) السيد في جمل العلم والعمل ( رسائل المرتضى ٣ ) : ٤٧ ، الخلاف ١ : ٥٧٢.

(٤) المقنع : ٣٧.

(٥) المفيد في المقنعة : ٣٥٠ ، الديلمي في المراسم : ٧٥ ، الحلي في السرائر ١ : ٣٣١.

(٦) الكافي ٣ : ٤٣٤ الصلاة ب ٨٣ ح ١ ، الفقيه ١ : ٢٧٩ ـ ١٢٧٦ ، التهذيب ٢ : ١٢ ـ ٢٧ ، ٣ : ٢٢٤ ـ ٥٦٦ ، ٤ : ٢٣٠ ـ ٦٧٦ ، الوسائل ٨ : ٤٧٠ أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ١.

(٧) التهذيب ٤ : ٢٣٠ ـ ٦٧٥ ، الاستبصار ١ : ٢٤٢ ـ ٨٦٢ ، الوسائل ٨ : ٤٧٢ أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ٣.

(٨) علل الشرائع : ٣٦٧ ـ ١ الوسائل ٨ : ٤٦٦ أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ١١.

(٩) فقه الرضا عليه‌السلام : ١٥٩ ، مستدرك الوسائل ٦ : ٥٢٩ أبواب صلاة المسافر ب ٤ ح ١.

٢٩٢

والمروي في المحاسن : « إذا سمع الأذان أتمّ المسافر » (١).

فتعارض منطوق الصحيحة الاولى مع منطوق الشرطية الاولى في الثانية ومنطوق الرواية الأخيرة ومفهوم الرضوي بالعموم من وجه ، ومفهومها مع منطوق الشرطية الثانية في الثانية ومنطوق الرضوي ومفهوم الرواية الأخيرة كذلك.

فبناء القول الأوّل بالمعنى الأوّل على العمل بالإتمام فيما أجمعت عليه الروايات وهو ما لم يختف الجدران ولا الأذان ، وبالتقصير فيما أجمعت عليه أيضا وهو ما اختفى الجدران والأذان معا ، ورفع اليد عن الروايات في موضع التعارض وهو ما اختفى فيه أحدهما والرجوع إلى العمومات الدالّة على التقصير الغير المعلوم خروج المورد عنه كالعمومات المتقدّمة في دليل والد الصدوق وغيرها ممّا يدلّ على وجوب التقصير على المسافر بقول مطلق.

وبناء هذا القول بالمعنى الثاني الرجوع في مورد التعارض وعدم المرجّح إلى التخيير كما هو القاعدة في المتعارضين.

وبناء القول الثاني على الجمع بين المتعارضين بتخصيص كلّ منهما بالآخر ، أو على رفع اليد عنهما في موضع التعارض والرجوع فيه إلى مقتضى الأصل واستصحاب بقاء وجوب التمام إلى ثبوت الترخيص ، وليس بثابت بأحدهما.

وبناء القولين الآخرين ـ كما قيل (٢) ـ على ترجيح أحد المتعارضين وطرح الآخر من البين.

أقول : لا يخفى أنّ تخصيص كلّ منهما بالآخر كما هو مبنى القول الثاني لا وجه له أصلا ، ولذا لا يعملون بذلك في مواقع التعارض مع أنّه ممكن في جميع ما إذا كان بالعموم من وجه ، وليس هو من مقتضى متفاهم العرف ، ولا شاهد آخر عليه أيضا ، وكذا [ المبنى ] (٣) الآخر من الرجوع إلى الاستصحاب فإنّه إنّما هو لو لا‌

__________________

(١) المحاسن : ٣٧١ ـ ١٢٧ ، الوسائل ٨ : ٤٧٣ أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ٧.

(٢) الرياض ١ : ٢٥٤.

(٣) في النسخ : المعنى ، والصحيح ما أثبتناه.

٢٩٣

اندفاعه بالعمومات والإطلاقات المذكورة وإلاّ فاللازم الرجوع إليها.

ومنه يظهر سقوط ذلك القول البتة.

وكذا القولان الآخران ، إذا لا وجه لردّ أحد المتعارضين مع تساويهما في استجماع شرائط الحجيّة.

فلم يبق إلاّ القول الأوّل وهو الصحيح المعقول ، لأنّه إن قلنا بأنّ مراد القائلين به هو المعنى الأوّل وليس في المسألة قول بالتخيير بالمعنى الّذي ذكرناه ـ أي كون المسافر مخيّرا في جعل حدّ الترخص كلا منهما شاء ـ فيتّجه هذا القول البتّة ، إذ بعد الاتّفاق على انتفاء التخيير في موضع التعارض يرفع اليد عن المتعارضين ويرجع إلى العمومات.

وإن كان مرادهم المعنى الثاني ولم يكن التخيير منافيا للإجماع اتّجه ذلك القول جدّا أيضا ، لأنّه المناص عند التعارض.

فإن قيل : هذا إنّما يتمّ على ما ادّعيت من تساوي المتعارضين في شرائط الحجية ، وليس كذلك ، لأنّ من جملة الشرائط عدم الإجمال ، والصحيحة الأولى مجملة من وجهين :

أحدهما : أنّ المذكور فيها : « توارى عن البيوت » ولا معنى للتواري عن البيت إلاّ بتقدير الأهل حتى يكون من باب مجاز الحذف ، أو المراد تواريه عن البيوت كما فهمه الأصحاب وهذا أيضا مجاز ، وليس أحد المجازين أولى من الآخر وبين مقتضاهما بون بعيد ، فإنّ الإنسان يتوارى عن أهل البيت ببعد ميل ولا يتوارى البيت عنه بفرسخ.

وثانيهما : أنّه على التقديرين يمكن أن يراد تواري الشبح كما قيل (١) ، أو الهيئة بأن يتميّز هذا البيت أنّه بيت فلان وجداره من الطين أو اللبنة أو الحجر أو الجصّ ، وهذا الشخص أنّه راكب أو راجل قصير أو طويل زيد أو عمرو ، ولا دليل‌

__________________

(١) الرياض ١ : ٢٥٤.

٢٩٤

على تعيين أحدهما ، وبينهما أيضا تفاوت فاحش ، وليس كذلك روايات الأذان ، إذ ليس المراد به مجرّد الصوت لأنّه ليس أذانا بل تمييز الكلمات بحيث يفهم أنّه يؤذّن وهو أمر لا يتفاوت.

وعلى هذا فتخرج الاولى عن الحجيّة وتبقى أخبار الأذان كما هو القول الأخير.

قلنا : أمّا الوجه الأول ففيه : منع التفاحش بين المقتضيين ، لأنّ المراد بتواري البيوت كما صرّحوا به تواريها من حيث إنّها بيوت ولا اعتبار بظهور المنارات والقباب والسور وأمثالها ، وتواري البيت لا يتفاوت كثيرا مع تواري الشخص سواء أريد فيهما الشبح أو الهيئة ، لأنّ شبح الشخص يرى من فرسخ بل فرسخين كشبح البيت ، وكذا الهيئة فإنّ كل موضع يمتاز البيت أنّه من لبنة أو حجر أو بيت زيد أو عمرو يمتاز الشخص أيضا ، فلا إجمال من هذه الجهة ، ولو كان تفاوت فليس بأكثر من التفاوت الحاصل بتفاوت سماع الأذان.

وأمّا الوجه الثاني ففيه : أنّه وإن احتمل التواري كلا من الأمرين إلاّ أنّه مع احتمالهما وعدم المعيّن يجب الأخذ بالقدر المشترك وهو تواري الصورة والهيئة عملا بعمومات القصر في السفر ، ولأنّ الشبح ممّا لا يتوارى في بعض المواضع الخالية عن الموانع في أزيد من فرسخين أو ثلاثة فراسخ ، والإتمام في مثله خلاف الإجماع وتنافيه أخبار الأذان أيضا بل يعلم منها عدم إرادته قطعا فلا إجمال من هذه الجهة أيضا.

بل منه يعلم وجه آخر لرفع الإجمال الأوّل ، إذ بعد الحمل على الهيئة يتقارب المعنيان كما أشرنا إليه.

ومن ذلك يعلم ضعف ما قيل في وجه ترجيح مجاز الحذف من أنه أقرب إلى أخبار الأذان ، بل يظهر عدم الاختلاف بين أخبار البيوت والأذان أيضا ، ولا يضرّ التفاوت اليسير فإنّه حاصل على كلّ من الأمرين بخصوصه أيضا ، ومع ذلك مدار أمثال هذه الأمور في الشرع على التقريب كما هو كذلك عرفا أيضا ، وعلى هذا قلنا‌

٢٩٥

الاكتفاء بأحد الأمرين من هذه الجهة أيضا.

وقد تلخّص ممّا ذكرنا جواز الاكتفاء بكلّ من الأمرين كما هو مقتضى القول الأوّل بالمعنى الثاني إمّا لأجل أنّ التخيير هو المرجع عند التعارض أو التقارب الأمرين. والأحوط القصر مع تحقّق أحدهما حذرا عن مخالفة المعنى الأوّل للقول الأوّل.

فروع :

أ : المراد بالتواري عن البيوت أو تواريها عنه التواري من جهة البعد‌ والسير في الأرض ، لا التواري كيف اتّفق ولو لأجل حائل أو وهدة وإن ترى بعده كما توهّم ، لأنّه المتبادر منه في المقام ، لأنّ المراد بيان قاعدة كليّة ووضع ضابطة جلية يترتب عليها حكم التقصير والتمام ، والحائل الّذي قد يكون وقد لا يكون وقد يقرب وقد يبعد فلا يصلح لأن يكون ضابطا كليّا ، وكذا خفاء الأذان.

ب : يكفي سماع الأذان في آخر البلد ورؤية آخر البيوت من البلد في عدم لزوم التقصير‌ ، فالواجب خفاء أذان آخر البلد وتواري آخر بيوتها ، لأنّ الحكم في الأذان معلّق على أذان المصر فيجب أن لا يسمع شي‌ء من أذانه ، وأذان آخر البلد أذان مصر أيضا ، وفي البيوت معلّق على الجمع المحلّى المفيد للاستغراق فيجب خفاء جميع البيوت الذي لا يتحقّق إلاّ بخفاء آخر بيت منه ، سواء في ذلك القرية والبلد الصغير والمعتدل والكبير.

وأمّا ما قيل من أنّه إذا اتّسع خطّة البلد حيث خرجت عن العادة فيعتبر بيوت محلّتها وكذا أذانها (١) ، فلا أعرف له وجها وليس له عندي وقعا ، لإطلاق المصر والبيوت ، مع أنّ المصر يطلق غالبا على البلاد المتّسعة ولذا يقال للبصرة والكوفة المصرين. وأمّا القول بأنّ إرادة المحلّة موافقة في البلاد المتّسعة لإطلاق الأدلّة وفهم العرف فممنوع غايته.

ج : قد أشرنا أنّ المراد خفاء البيت من حيث إنّه بيت ، والمتبادر منه خفاء‌

__________________

(١) كما في روض الجنان : ٣٩٢ ، والمدارك ٤ : ٤٥٨.

٢٩٦

الهيئة والصورة وعدم تمييز البيوت وأوصافها بعضها عن بعض ، وأنّه مقتضى الأصل. وكذا المراد خفاء الأذان من حيث إنّه أذان وعدم تمييز فصول الأذان. فلا عبرة بسواد المدينة وشبحها ولا بأعلام البلد ومناراتها وقبابها وبساتينها وأشجارها.

د : قالوا : المعتبر الأذان المتوسّط أي المتعارف في الإعلامي والأرض المتوسّطة والحاسّتان المتوسّطتان‌ ولو احتاج إلى التقدير في البلد المنخفض والمرتفع ومختلف الأرض وعادم الأذان والأعمى والأصمّ.

وهو كذلك ، لأنّها المتبادر من الإطلاق والمحمول عليها الألفاظ عند الاستعمال الإطلاقي.

هـ : اعلم أنّ هذا الشرط إنّما يعتبر فيمن خرج عن نحو بلده مسافرا‌ ، دون نحو الهائم والعاصي بسفره إذا زال مانعهما ، فإنّهما يقصّران متى زال المانع وشرعا بعده في السير ، للعمومات ، مع اختصاص ما دلّ على هذا الشرط بمن ذكرناه ، مضافا إلى خصوص المعتبرة المتضمّنة لأنّهما يقصران حين زوال المانع.

وهل البلد الّذي أقام فيه عشرة أو ثلاثين متردّدا في حكم بلده أم لا؟

فيه وجهان ـ كما قيل (١) ـ من جهة كونه بمنزلة الوطن في الأحكام ، ومن جهة عدم الدليل بالخصوص. وربما يقال : إنّ التواري من البيوت في صحيحة محمّد (٢) يشملهما أيضا.

ولا يخفى أنّ كونه بمنزلة الوطن في جميع الأحكام غير ثابت وعموم المنزلة ممنوع ، وشمول الصحيحة غير واضح لأنّها تبيّن حكم من يريد السفر وهو ظاهر فيمن لم يكن مسافرا قبله وذلك مسافر. ولا يفيد استصحاب الإتمام للأوّل ، لأنّ إطلاقات قصر المسافر تدفعه. ولا يتوهّم معارضتها مع إطلاقات الإتمام في محلّ الإقامة ، لعدم كون الخارج فيه ، كما مرّ في بحث إقامة العشرة.

__________________

(١) الحدائق ١١ : ٣٥٤.

(٢) المتقدمة في ص ٢٩٢.

٢٩٧

و : قد ورد في روايتي الخدري (١) وعمرو بن سعيد (٢) أنّ النبيّ والوليّ كانا إذا سافرا يقصّران في فرسخ‌

. وهو لا ينافي ما مرّ من حدّ الترخص لأنّه فعل ، فلعلّهما أخّرا الصلاة استحبابا أو لجهة أخرى.

المسألة الثانية : المشهور ـ بل عن الذكرى أنّه يكاد أن يكون إجماعا (٣) ـ أنّه كما يعتبر هذا الشرط أي الوصول إلى حدّ الترخّص في بدء السفر والذهاب كذا يعتبر في آخره‌ والإياب ، فيقصّر في العود من السفر إلى أن ينتهي إلى أحد الأمرين المتقدمين ، فإذا انتهى يتمّ ولو لم يدخل البلد فضلا عن المنزل ، لذيل صحيحة ابن سنان المتقدّمة (٤) ، مضافا إلى إطلاق ما دلّ على وجوب التمام على من كان في الوطن ، واشتراط القصر بالسفر ولا يصدق عرفا على من بلغ هذا الحدّ.

وذهب والد الصدوق والسيّد والإسكافي (٥) إلى عدم اعتبار هذا الشرط في الإياب فيقصّر حتى يدخل منزله ، واختاره بعض مشايخنا الأخباريين (٦) ، وهو محتمل المقنعة والنهاية والجمل والمبسوط والخلاف وابن حمزة وسلاّر (٧) حيث لم يتعرّضوا لحال العود ، وفي المعتبر (٨) نسبة القول بموافقة الإياب للذهاب إلى المبسوط والنهاية ، وليس فيهما ما يدلّ عليه.

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٢٤ ـ ٦٥٩ ، الاستبصار ١ : ٢٢٦ ـ ٨٠٣ ، الوسائل ٨ : ٤٧٢ أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ٤.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٢٤ ـ ٦٦٠ ، الاستبصار ١ : ٢٢٦ ـ ٨٠٤ ، الوسائل ٨ : ٤٧١ أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ٢.

(٣) الذكرى : ٢٥٨.

(٤) في ص ٢٩٢.

(٥) المختلف : ١٦٤ عن والد الصدوق والإسكافي ، السيد في جمل العلم والعمل : ٧٧.

(٦) الحدائق ١١ : ٤١٢.

(٧) المقنعة : ٥٥ ، النهاية : ١٢٣ ، الجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : ٢٢١ ، المبسوط ١ : ١٣٦ ، الخلاف ١ : ٢٢٢ ، ابن حمزة في الوسيلة : ١٤٩ ، سلار في المراسم : ٧٥.

(٨) المعتبر ٢ : ٤٧٤.

٢٩٨

لصحيحة العيص : « لا يزال المسافر مقصّرا حتّى يدخل بيته » (١).

والأخرى : وفيها : « لا يزال يقصّر حتّى يدخل بيته » (٢).

وصحيحة معاوية بن عمّار : « أهل مكّة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم أتمّوا ، وإذا لم يدخلوا منازلهم قصّروا » (٣).

وفي صحيحة أخرى في أهل مكة : « وإذا زاروا ورجعوا إلى منازلهم أتمّوا » (٤).

والصحيح المروي في المحاسن : « المسافر يقصّر حتى يدخل المصر » (٥).

وموثقة الساباطي وفيها : « ولا يتمّ الصلاة حتى يرجع إلى منزله » (٦).

وإسحاق : عن الرجل يكون مسافرا ثمَّ يقدم فيدخل بيوت الكوفة أيتمّ الصلاة أم يكون مقصّرا حتى يدخل أهله؟ قال : « بل يكون مقصّرا حتى يدخل أهله » (٧).

وابن بكير : عن الرجل يكون بالبصرة وهو من أهل الكوفة له بها دار ومنزل ، فيمرّ بالكوفة وإنّما هو مجتاز لا يريد المقام إلاّ بقدر ما يتجهز يوما أو يومين ، قال : « يقيم في جانب المصر ويقصّر » قلت : فإن دخل؟ قال : « فعليه التمام » (٨).

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٢٢ ـ ٥٥٦ ، الاستبصار ١ : ٢٤٢ ـ ٨٦٤ ، الوسائل ٨ : ٤٧٥ أبواب صلاة المسافر ب ٧ ح ٤.

(٢) التهذيب ٣ : ١٦٢ ـ ٣٥٢ ، الوسائل ٨ : ٥١٣ أبواب صلاة المسافر ب ٢١ ح ٤.

(٣) الكافي ٤ : ٥١٨ الحج ب ٩٢ ح ١ ، الوسائل ٨ : ٤٦٤ أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ٧.

(٤) التهذيب ٥ : ٤٨٨ ـ ١٧٤٣ ، بتفاوت فراجع ، الوسائل ٨ : ٤٦٤ أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ٤.

(٥) المحاسن : ٣٧١ ـ ١٢٦ ، الوسائل ٨ : ٤٧٣ أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ٨.

(٦) التهذيب ٤ : ٢٢٦ ـ ٦٦٣ ، الوسائل ٨ : ٤٦٩ أبواب صلاة المسافر ب ٤ ح ٢.

(٧) الكافي ٣ : ٤٣٤ الصلاة ب ٨٣ ح ٥ ، الفقيه ١ : ٢٨٤ ـ ١٢٩١ ، التهذيب ٣ : ٢٢٢ ـ ٥٥٥ ، الاستبصار ١ : ٢٤٢ ـ ٨٦٣ ، الوسائل ٨ : ٤٧٤ أبواب صلاة المسافر ب ٧ ح ٣.

(٨) الكافي ٣ : ٤٣٥ الصلاة ب ٨٤ ح ٢ ، التهذيب ٣ : ٢٢٠ ـ ٥٥٠ ، قرب الإسناد : ١٧٢ ـ ٦٣٠ بتفاوت يسير ، الوسائل ٨ : ٤٧٤ أبواب صلاة المسافر ب ٧ ح ٢.

٢٩٩

والإيراد على بعض هذه الأخبار بأنّه حكم بالقصر للمسافر ، ونحن لا نسلّم أنّ الداخل في موضع سماع الأذان مسافر ، باطل جدّا ، لأنّه قبل دخوله فيه مسافر قطعا فحكم له بالقصر حتى دخل البيت أو المنزل.

وحمل البيت والمنزل في بعض هذه الأخبار على ما بحكمهما وهو ما دون الترخّص ، بعيد جدّا بل خلاف الأصل ، مع أنّه لا يمكن حمل غير الصحيحتين الأوليين والموثقة الأولى على ذلك أصلا سيّما في الموثقة الثانية المتضمنة لدخول البلد والحكم فيها مع ذلك بالقصر إلى دخول الأهل.

وحملها على أنّ الحكم به معه إنّما هو لسعة الكوفة يومئذ ، فلعلّ البيوت الّتي دخلها لم يبلغ حدّ الترخيص المعتبر في مثلها وهو آخر محلّته.

مردود أوّلا : بما مرّ من عدم التفرقة بين البلد الكبير والمعتدل.

وثانيا : بعموم الجواب الناشئ عن ترك الاستفصال خصوصا مع قوله بعد الحكم بالتقصير : « حتّى يدخل أهله ».

وثالثا : بأنّه ورد في موثّقة غياث بن إبراهيم : أنّ مولانا الباقر عليه‌السلام كان يقصّر الصلاة حين يخرج من الكوفة في أوّل صلاة تحضره (١) ، دلّت على أنّ قصر الصلاة كان بعد الخروج من الكوفة ، إلاّ أنّ ذلك إنّما يتمّ لو جعل الحين ظرفا للتقصير ، ويحتمل أن يكون ظرفا للخروج فلا يتمّ التقريب فيها ، مضافا إلى أنه يمكن أن يكون بيته عليه‌السلام في أواخر البلد.

والخدش فيها بورودها مورد الغالب من أنّ المسافر إذا بلغ حدّ الترخّص يسارع إلى أهله من غير مكث للصلاة كما هو المشاهد غالبا من العادة ، فلا يطمئن بشمول إطلاق الحكم بالقصر إلى دخول الأهل لمحلّ البحث ، كلام شعري لا ينبغي الإصغاء إليه.

أقول : هذه الأخبار وإن كانت مستفيضة مشتملة على عدّة من الصحاح ،

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٣٥ ـ ٦١٧ ، الوسائل ٨ : ٤٧٢ أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ٥.

٣٠٠