مستند الشّيعة - ج ٨

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ٨

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-83-3
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٣٤٨

لاندفاع الأول بأنّه قد عرفت عدم تعيين خصوص معنى للصحيحة ، وأمّا ما انتفى فيه المعنيان فلم يقم فيه ستّة أشهر ولم يقصد إقامتها بعد ذلك أيضا لا يكون البتة وطنا عرفا حتّى يحصل التعارض.

والثاني بمنع عدم صدق أهله على الوطن الشرعي بالمعنى الّذي ذكرنا ، فإنّ أهل كلّ شخص ليس غير عياله وعشيرته ، وكنّي هنا به عن وطنه ، فيمكن أن يراد به الوطن الشرعي أيضا.

ثمَّ لا يخفى أنّه يشترط وجود المنزل على كلّ من الوطنين ، ووجهه ظاهر. ولا يتوهّم كفاية مطلقه من غير اعتبار الوطنية من جهة دلالة أخبار كثيرة على الإتمام في المنزل والبيت والدار ، إذ لا شكّ أنّه يجب تقييدها بالوطن ، لأخباره الّتي هي منها أخصّ ، خصوصا صحيحة ابن يقطين الثالثة (١).

فروع :

أ : اللازم في الموطن العرفي صدق كونه من أهله‌ ، فلو كان قبل ذلك ، كأن يكون أول أمره وأراد حينئذ السكنى فيه دائما ، ولكنّه لم يدخل بعد تحت اسم أهله ، لا يجوز له الإتمام فيه ، بل يرجع إلى قواعد السفر ، للاستصحاب ، وعدم صدق الأهل الّذي هو مناط الوطن العرفي ، ولا ثبوت الوطن الشرعي. نعم لو مضى على ذلك ما يصدق معه الوطن الشرعي أتمّ.

ب : لا تشترط في المنزل الملكية ، لصدق المنزل على المستأجرة والمعارة ونحوهما ، والمنزل أعمّ من المملوك وغيره. نعم في بعض الأخبار قيّد بمنزل له أو منزله أو بيته أو داره ، والمتبادر من هذه اللام والإضافة الاختصاص دون الملكية.

ومنه يظهر عدم الاكتفاء بالوقوف العامّة ، كما صرّح به في الذخيرة (٢) ، لعدم تبادر هذا النوع من الاختصاص. وأمّا الخاصّ به فلا شكّ في دخوله فيه ، كما نقله‌

__________________

(١) المتقدمة في ص ٢٣١.

(٢) الذخيرة : ٤٠٨.

٢٤١

في الذخيرة عن جماعة من الأصحاب (١) ، والظاهر أنّه لا تشترط الخصوصيّة به ، بل إذا كان وقفا على محصور هو منهم كان كافيا أيضا.

ج : هل يجب التتابع والتوالي في الأشهر؟

قال في الذخيرة : الظاهر لا ، ونسبه إلى جماعة (٢) ، وممّن نفاه الفاضل والشهيدان (٣) ، للعموم ، وأصالة عدم الاشتراط.

وعن ظاهر المعتبر اعتباره (٤) ، وقوّاه بعض الأجلّة قال : لأنّه المتبادر ، والعموم الّذي ادّعوه ممنوع.

أقول : وهو الأظهر عندي في تحقّق الوطن الشرعي ، للتبادر الذي ادّعاه كما مرّت إليه الإشارة (٥) ، ولا أقلّ من الشك في صدق ستّة أشهر بالمتفرقة سيّما في خلال السنين المتكثرة ، فلا يعلم ترتّب ما يترتّب عليه من الحكم.

د : اللازم في صدق إقامة الستّة أشهر المتوالية الإقامة العرفية‌ ، فلا يضرّ الخروج في بعض الأيام إلى حدود البلد ، بل لا يبعد عدم الضرر في الخروج إلى أكثر منها مع العود سريعا بحيث لا يضرّ في تحقّق الإقامة ، وتأتي زيادة تحقيق له في بيان معنى إقامة العشرة.

هـ : لا تشترط الإقامة في الستّة أشهر في خصوص المنزل ، بل تكفي الإقامة في بلده‌ ، لأنّه معنى الإقامة في المنزل شرعا ، إلاّ أن لا يدخل المنزل أصلا أو في الأغلب ، فإنّه يشكّ في الصدق حينئذ فيرجع إلى الأصل.

و : هل يشترط في الإقامة في ستّة أشهر كون هذه المدّة كلّها ممّا يتمّ فيه الصلاة‌ لأجل الإقامة؟

__________________

(١) الذخيرة : ٤٠٨.

(٢) الذخيرة : ٤٠٨.

(٣) الفاضل في المنتهى ١ : ٣٩٣ ، الشهيد الأول في الذكرى : ٢٥٧ ، الشهيد الثاني في روض الجنان : ٣٨٦.

(٤) انظر المعتبر ٢ : ٤٦٩.

(٥) راجع ص ٢٣٧.

٢٤٢

أو يكفي الإتمام ولو لأجل البقاء ثلاثون يوما متردّدا أو الإتمام سهوا أو لكونه كثير السفر أو عاصيا بسفره؟

الظاهر الأول ، لا لأجل اشتراط إتمام الصلاة فيه لعدم دليل عليه ، بل لأجل عدم صدق العزم على إقامة ستّة أشهر بدون ذلك.

نعم يشكل ذلك في الستّة أشهر الماضية حيث تصدق إقامتها ولو لم يكن ناويا لها ، والظاهر عدم الاشتراط فيها ، للأصل.

ز : المراد بكون شخص أهل بلد : كونه أهله ومن قاطنيه عرفا في الحال ، فلا تكفي الأهليّة السابقة المسلوبة عرفا حينئذ ، ولا تكفي النسبة المتحقّقة باعتبار التولّد ونشوء الآباء والأجداد.

ح : لا شكّ في إمكان تعدّد الوطن الشرعي‌ ، وكذا الظاهر إمكان تعدّد العرفي أيضا ، فإنّه إذا كان لأحد منزلان في بلدين ، يقيم في كلّ منهما بعض السنة وينوي الاستدامة على ذلك يقال : إنّه من أهلهما ومتوطّن فيهما.

ط : يمكن التوطّن في مكان عرفا‌ وزواله بعد مدة.

المسألة الثانية : في بيان قطع السفر بالوصول إلى موضع ينوي الإقامة فيه عشرة‌ ووجوب الإتمام فيه.

وهو ثابت بإجماعنا ، والضرورة من مذهبنا ، والمتواترة من أخبارنا.

منها : صحيحة زرارة : أرأيت من قدم بلدة إلى متى ينبغي له أن يكون مقصّرا ومتى ينبغي له أن يتمّ؟ فقال : « إذا دخلت أرضا فأيقنت أنّ لك بها مقام عشرة أيام فأتمّ الصلاة ، وإن لم تدر ما مقامك بها تقول : غدا أخرج أو بعد غد ، فقصّر ما بينك وبين أن يمضي شهر ، فإذا تمَّ لك شهر فأتمّ الصلاة وإن أردت أن تخرج من ساعتك » (١).

ومنصور : « إذا أتيت بلدة فأزمعت المقام عشرة أيام فأتمّ الصلاة ، فإن تركه‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٣٥ الصلاة ب ٨٤ ح ١ ، التهذيب ٣ : ٢١٩ ـ ٥٤٦ ، الاستبصار : ٢٣٧ ـ ٨٤٧ ، مستطرفات السرائر : ٧٢ ـ ٥ ، الوسائل ٨ : ٥٠٠ أبواب صلاة المسافر ب ١٥ ح ٩.

٢٤٣

رجل جاهلا فليس عليه شي‌ء » (١).

والخزّاز : عن المسافر إن حدّث نفسه بإقامة عشرة أيام ، قال : « فليتمّ الصلاة ، وإن لم يدر ما يقيم يوما أو أكثر فليعدّ ثلاثين يوما ، ثمَّ ليتمّ وإن كان أقام يوما أو صلاة واحدة » فقال له محمد : بلغني أنّك قلت : خمسا ، فقال : « قد قلت ذاك » (٢).

وابن وهب : « إذا دخلت بلدا وأنت تريد المقام عشرة أيّام فأتمّ الصلاة حين تقدم ، وإن أردت المقام دون العشرة فقصّر ، وإن أقمت تقول : غدا أخرج وبعد غد ، ولم تجمع على عشرة ، فقصّر ما بينك وبين شهر ، فإذا تمَّ الشهر فأتمّ الصلاة » (٣).

وعلي : عن الرجل يدركه شهر رمضان في السفر فيقيم الأيام في المكان أعليه صوم؟ قال : « لا حتّى يجمع على مقام عشرة أيام ، وإذا أجمع على مقام عشرة أيام صام وأتمّ » (٤).

ورواية أبي بصير : « إذا قدمت أرضا وأنت تريد أن تقيم بها عشرة أيام فصم وأتمّ ، وإن كنت تريد أن تقيم أقلّ من عشرة أيام فأفطر ما بينك وبين شهر ، فإذا بلغ الشهر فأتمّ الصلاة والصيام وإن قلت : أرتحل غدوة » (٥) إلى غير ذلك.

ومقتضى صريح الثلاثة الأخيرة ومفهوم البواقي أنّه لو نوى دون العشرة قصّر ولو كان خمسة أيام أو أكثر ، كما هو الأقوى الأشهر ، بل عليه عامّة أصحابنا‌

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٢١ ـ ٥٥٢ ، الوسائل ٨ : ٥٠٦ أبواب صلاة المسافر ب ١٧ ح ٣.

(٢) الكافي ٣ : ٤٣٦ الصلاة ب ٨٤ ح ٣. التهذيب ٣ : ٢١٩ ـ ٥٤٨ ، الاستبصار ١ : ٢٣٨ ـ ٨٤٩ الوسائل ٨ : ٥٠١ أبواب صلاة المسافر ب ١٥ ح ١٢.

(٣) الفقيه ١ : ٢٨٠ ـ ١٢٧٠ ، التهذيب ٣ : ٢٢٠ ـ ٥٥١ ، الوسائل ٨ : ٥٠٣ أبواب صلاة المسافر ب ١٥ ح ١٧.

(٤) الكافي ٤ : ١٣٣ ، الصيام ب ٥٣ ح ٢ ، الوسائل ٨ : ٤٩٨ أبواب صلاة المسافر ب ١٥ ح ١.

(٥) الكافي ٤ : ١٣٣ الصيام ب ٥٣ ح ٢ ، الوسائل ٨ : ٤٩٨ أبواب صلاة المسافر ب ١٥ ح ٣.

٢٤٤

كما عن المنتهى (١).

خلافا للإسكافي ، فيتمّ في خمسة (٢) ، لذيل صحيحة الخزّاز المتقدّمة ، القاصرة عن إفادة الحكم ، لشذوذها ومعارضتها مع ما هو أكثر وأصحّ وأصرح وأشهر منها ، مع ما فيها من الاحتمالات الّتي ذكروها من الحمل على التقية ، أو الاستحباب ، أو التخصيص بالحرمين ، أو إرجاع الإشارة في قوله « ذاك » إلى الإتمام في العشرة.

فروع :

أ : لا فرق في موضع الإقامة بين كونه قرية أو بلدا أو بادية ، ولا بين العازم على السفر بعد المقام وغيره ، لإطلاق الفتاوى والنصوص. نعم يشترط في البادية أن يقصد الإقامة في موضع معيّن منها ممّا يعدّ موضعا واحدا عرفا ، كمجتمع الخيام أو قطعة أرض معيّنة ، ولم يثبت الحكم في أزيد من ذلك ، كما يظهر وجهه ممّا نذكره في بيان معنى إقامة البلد.

ب : المراد بنيّة الإقامة تحقّق قصد المقام في نفسه‌ ، كما دلّت عليه الأخبار المتقدّمة ، وعلى هذا فيدخل من نوى الإقامة اقتراحا ، أو علّقها على قضاء حاجة يعلم عادة توقف انقضائها على العشرة ، أو على شرط فوجد الشرط ، ولكنه يقصّر قبل وجوده.

وبالجملة المناط إرادة الإقامة ، وهي تحصل بأحد الأمرين :

الأول : قصد الإقامة إلى حصول وصف ، بشرط العلم بعدم حصوله قبل العشرة عادة. ولا يكفي الظنّ هنا ، لعدم صدق قصد العشرة.

وثانيهما : قصد الإقامة إلى خصوص العشرة فصاعدا.

ولا بدّ هنا من عدم الالتفات إلى احتمال حصول المانع ، أو الالتفات إليه مع ظنّ عدم حصوله ولو بالاستصحاب ، في المانع الغير الموجود. وأما المانع‌

__________________

(١) المنتهى ١ : ٣٩٦ ، وفيه : ذهب إليه علماؤنا أجمع.

(٢) حكاه عنه في المختلف : ١٦٤.

٢٤٥

الموجود فلا بدّ مع الالتفات إليه من العلم بارتفاعه ، ولا يكفي الظنّ به ، وكذا وجود المقتضي.

كلّ ذلك لدوران الصدق العرفي مداره ، فمن دخل بلدا وأراد إقامة عشرة يتمّ ولو كان بحيث لو بلغ خبر موت والده أو زوجته لا يقيم ، لأنّ أمثال ذلك لا يضرّ في صدق القصد والعزم العرفيين ، وإلاّ لم يكن مقام يتمّ فيه لإقامة العشرة.

ج : لا شكّ في اشتراط التوالي في الأيام العشرة لتحقّق إقامة عشرة أيام ، لأنّه المتبادر ، بل هو اتّفاقي. فلو أقام خمسة ثمَّ خرج وسافر أيّاما ثمَّ أقام خمسة أخرى لم يكن كافيا إجماعا ، ويجب أن تكون أيام الإقامة في بلد متتالية.

نعم اختلفوا في أنّه هل يشترط في تحقّق الإقامة في موضع عدم الخروج منه أصلا ، أو لا بل لا يضرّ فيه الخروج عنه في زمان يسير؟ ولو سلّم اشتراط عدم الخروج منه فهل يشترط عدم الخروج عن حدّ ترخصه ، أو عدم البلوغ حدّ المسافة؟

والحاصل أنّه لا شكّ في تعليق الحكم على إقامة العشرة المتتالية في بلد ، إنّما الكلام في معنى الإقامة في بلد.

فقيل : معناها أن لا يخرج عن محلّ الإقامة إلى حدّ الترخّص فما فوقه ، كما عن الشهيدين (١).

وقيل : أن لا يخرج إلى المسافة فما فوقها ، فلا يضرّ فيها أن يخرج إلى ما دون المسافة مع رجوعه ليومه وليلته ، كما عن فخر المحققين (٢).

وقيل : يناط ذلك إلى العرف ، فيشترط فيه انتفاء ما يضرّ عرفا بإقامة البلد عرفا ، ولا يشترط غير ذلك كما ذهب إليه جمع من أفاضل المتأخرين (٣).

__________________

(١) الشهيد الأول في البيان : ١٦٠ ، والشهيد الثاني في المسالك ١ : ٤٩ ، ونتائج الأفكار ( الرسائل ) : ١٩٠.

(٢) نقله عنه الشهيد الثاني في نتائج الأفكار ( الرسائل ) : ١٩١.

(٣) انظر المدارك ٤ : ٤٦٠ ، والبحار ٨٦ : ٤٣ ، والذخيرة : ٤١١ ، والحدائق ١١ : ٣٤٦ ، والرياض ١ : ٢٥٩.

٢٤٦

دليل الأول : أنّ معنى الإقامة في البلد أن لا يخرج عن حدود ذلك البلد ، والمستفاد من الأخبار أنّ الحدود الشرعية لكلّ بلد منتهى سماع أذانها ورؤية بيوتها وجدرانها ، وهو الّذي يحصل به الترخّص من جميع أطرافها ، فما دام يكون فيما دون حدّ الترخّص يكون في البلد ، وإذا تجاوز عنه يكون خارجا عنه.

أو يقال : ليس المراد بالإقامة معناها اللغوي ، ولم تثبت فيه حقيقة شرعية ، فيقتصر فيه على موضع الإجماع ، وهو ما لم يتجاوز حدّ الترخّص.

أو يقال : معنى الإقامة في البلد الإقامة فيه عرفا ، وعدم الخروج عن حدّ الترخّص عن بلد أقام فيه عرفا ، دون ما تجاوز عنه.

ويرد على الأوّل : منع كون الحدود لبلد هو حدّ الترخص. واعتباره في كلّ من الخروج والدخول من السفر لا يستلزم اعتباره في معنى الإقامة أو البلد أو الموضع ، فإنّه أمر شرعي لا مدخل له في أمر عرفي مستفاد من اللفظ المترتّب عليه الحكم الشرعي. وتقديم الشرع على اللغة أو العرف إنّما هو فيما إذا أفاد الشرع حقيقة شرعية لذلك اللفظ الّذي نيط به الحكم ، دون ما إذا أفاد شرطا شرعيا لحكم في بعض الموارد كما نحن فيه ، فإنّ غاية ما يستفاد من الشرع اعتبار حدّ الترخص حال خروج المسافر ودخوله في القصر والإتمام ، لا صيرورة الإقامة حقيقة شرعية فيما لم يحصل معه الخروج إلى حدّ الترخّص للفظها.

وعلى الثاني : منع عدم إرادة المعنى اللغوي عن الإقامة في موضع ، بل هو المراد ، وهو ما يصدق عليه ذلك عرفا فإنّه لا يعلم للإقامة في موضع لغة معنى سوى ما يفهمه العرف ، وعلى هذا فلا حاجة إلى الاقتصار على موضع الإجماع ، بل يرجع إلى العرف ، مع أنّ أصل الإجماع الذي ادّعاه ممنوع.

وعلى الثالث : أنّ بعد الإناطة إلى العرف لا يتفاوت فيه التجاوز عن حدّ الترخص بقليل أو عدم البلوغ إليه كذلك ، والحاصل أنّه لا وجه لإناطة العرف بخصوص حدّ الترخص.

دليل الثاني : أنّ الإقامة إنّما تنقطع بالسفر الشرعي ، والسفر إلى ما دون‌

٢٤٧

المسافة ليس سفرا شرعيا فلا يقدح في اتّصال الإقامة. وبعبارة أخرى : المراد بالإقامة ترك السفر ، فلا ينافي قصد ما دون المسافة فيه.

ورواية الحضيني : استأمرت أبا جعفر عليه‌السلام في الإتمام والتقصير ، قال : « إذا دخلت الحرمين فانو عشرة أيام وأتمّ الصلاة » فقلت له : إنّي أقدم مكة قبل التروية بيوم أو يومين أو ثلاثة ، قال : « انو مقام عشرة أيام وأتمّ الصلاة » (١).

ولا ريب أنّ القادم بيومين أو ثلاثة قبل التروية من نيّته الخروج إلى عرفة قبل العشرة ، ولا يتمّ معه الحكم بالتمام إلاّ على هذا القول.

وصحيحة ابن مهزيار وفيها : « إذا توجّهت من منى فقصّر الصلاة ، فإذا انصرفت عن عرفات إلى منى وزرت البيت ورجعت إلى منى فأتمّ الصلاة تلك الثلاثة الأيام » (٢).

فإنّ إتمام الصلاة في منى في الأيام الثلاثة لا يتمّ إلاّ على عدم ضرر ما دون المسافة في قصد الإقامة ، لأنّه بعد الثلاثة يقصد مكة.

وصحيحة زرارة : « من قدم قبل التروية بعشرة أيام وجب عليه إتمام الصلاة وهو بمنزلة أهل مكة ، فإذا خرج إلى منى وجب عليه التقصير ، فإذا زار البيت أتمّ الصلاة ، وعليه إتمام الصلاة إذا رجع إلى منى حتّى ينفر » (٣).

فإنّ إتمام الصلاة في منى لا يتمّ إلاّ على القول المذكور ، ولذا قال في الوافي بعد ذكر الرواية والكلام فيها : إلاّ أن يقال إرادة ما دون المسافة لا تنافي عزم الإقامة ، وعليه الاعتماد (٤). انتهى.

وظاهره ـ كما ترى ـ موافقته لهذا القول لأجل هذه الروايات.

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٤٢٧ ـ ١٤٨٤ ، الاستبصار ٢ : ٣٣٢ ـ ١١٨٠ ، الوسائل ٨ : ٥٢٨ أبواب صلاة المسافر ب ٢٥ ح ١٥.

(٢) التهذيب ٥ : ٤٢٨ ـ ١٤٨٧ ، الاستبصار ٢ : ٣٣٣ ـ ١١٨٣ ، الوسائل ٨ : ٥٣٧ أبواب صلاة المسافر ب ٢٧ ح ٣.

(٣) التهذيب ٥ : ٤٨٨ ـ ١٧٤٢ ، الوسائل ٨ : ٤٦٤ أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ٣.

(٤) الوافي ٧ : ١٥٤.

٢٤٨

ويرد على الأول : منع توقّف انقطاع الإقامة بالسفر الشرعي ، بل ينقطع عرفا بغيره أيضا. وحمل الإقامة على ترك السفر الشرعي لا يوافق حقيقة لغوية ولا شرعية ولا عرفية.

وعلى الرواية الأولى : أنّها معارضة مع الصحيحتين الأخيرتين ، فإنّهما تدلاّن على أنّ قصد عرفات يوجب التقصير ويهدم قصد الإقامة ، فهما حجّتان على المستدلّ لو قال بعدم كون أربعة فراسخ مسافة ، ولا تصلح حجّة له لو قال بكونها مسافة. مع أنّ لزوم خروج كلّ من يرد مكة إلى عرفات ممنوع ، ومن أين علم خروج الراوي؟

وعلى الأخيرتين : أنّهما صرّحتا بهدم الإقامة الأولى بقصد عرفة ولم يعلم أنّ الحكم بالتمام فيهما لمن يأتي منى لأجل قصد إقامة مستأنفة قبل الإتيان بمنى ثانيا بمكة ، لخلوهما عن هذا التقييد ، وليس منه فيهما عين ولا أثر ، بل مقتضاهما التمام ولو لم يقصد الإقامة المستأنفة أيضا.

ودعوى أكثريّة عزم الإقامة بمكة بعد الفراغ من الحج ـ كما في الوافي ـ (١) ممنوعة جدا ، سيّما في زمان الإمام لأهل مدينة ونحوهم.

بل الأخيرة صريحة في أنّه ليس لذلك ، لجعلها غاية التمام النفر المستلزم لعدمه بعد النفر ودخول مكة مع أنّه لو كان السبب ذلك لوجب التمام بعد النفر في مكة أيضا ، وحمل النفر على النفر إلى بلده يوجب بطلان الإتمام للقصد في مكة إجماعا.

ومنه يظهر تقييد الصحيحة الأولى بما قبل النفر أيضا وتخرجان بذلك عن مفروض المسألة ، غاية الأمر أنّه لا يكون سرّ الإتمام في منى فيهما معلوما لنا ، فلا تفيدان لنا في المسألة شيئا.

ويمكن أن يكون الإتمام لقصد إقامة مستأنفة بعد النفر من منى في مكة ، حتّى تكون أيام منى محصورة بين قصد إقامتين بأن لا تضرّ مسافة التخيير في‌

__________________

(١) الوافي ٧ : ١٥٤.

٢٤٩

ذلك.

ودليل الثالث : أنّه لم يرد نصّ في معنى إقامة الأرض والبلد ، فيرجع فيه إلى ما تعدّ إقامة البلد عرفا ، لأنّه الحاكم في أمثال ذلك. وفرّعوا عليه أنّه لو نوى ما يقال له في العرف : إنّه إقامة ذلك البلد ، فهو يكفي وإن انضمّ إليه التردّد إلى البساتين المتّصلة بالبلد والمحلاّت الخارجة عن سوره ، الغير المنفصلة عن البلد عرفا ، ما لم يصل إلى موضع بعيد يخرجه عن المقيمين في البلد.

وبالجملة ليس معنى الإقامة ولا البلد ونحوه أمرا تحقيقيّا ، بل هما أمران عرفيان ، فالإقامة هي عدم الخروج عرفا ، وقد لا يضرّ الخروج في دقيقة أو ساعة في إقامة مدّة طويلة ، والبلد ونحوه هو ذلك الموضع عرفا وقد لا يضرّ البعد عن بيوته بنصف ميل ونحوه فالمناط فيهما العرفيان.

والظاهر عدم الخروج عن إقامة بلد بالتردّد إلى بساتينه ومزارعة ، المتّصلة به القريبة منه المعدودة عند أهل البلد من بساتين البلد ومزارعه ، ما لم تعدّ في العرف موضعا على حدة مقابلا لذلك البلد ، فيقال : هذا في البلد ، وهذا في الموضع الفلاني وهذا بستان البلد ، وهذا بستان القرية الفلانية.

أقول ـ ومن الله التوفيق ـ : إنّ لنا لفظين ، أحدهما : الإقامة ، وثانيهما : موضع الإقامة من الأرض أو البيت أو المكان أو البلد أو نحوها ، وليس شي‌ء منهما مبيّنا شرعا ، فيجب في تعيين معناهما الرجوع إلى العرف. ولكن اللفظ الأول واحد في الأخبار وهو لفظ الإقامة ، وأمّا الثاني فيجب أولا تعيين المضاف إليه للإقامة ثمَّ الرجوع في استخراج معناه إلى العرف ، فإنّ إقامة البيت غير إقامة المحلّة ، وهي غير إقامة البلد والقرية ، وهي غير إقامة الرستاق والمملكة وهكذا.

فنقول أولا لبيان ذلك : إنّ أخبار الإقامة منها ما لم يذكر فيه محلّ الإقامة وما يقيم فيه ، بل يتضمّن حكم الإقامة مطلقة كصحيحة الخزّاز ونحوها ، ومنها ما يتضمّن الإقامة بأرض كصحيحة زرارة ورواية أبي بصير ، ومنها ما يتضمّن الإقامة بمكان كصحيحة علي ، ومنها ما يتضمّن الإقامة بالبلدة كصحيحتي منصور وابن‌

٢٥٠

وهب المتقدّمتين (١) ، وصحيحة أبي ولاّد وغيرها الآتية في مسألة الإتمام في المواطن الأربعة (٢) وغير ذلك.

والصنف الأول مجمل من حيث محلّ الإقامة ، والثانيان شاملان لإقامة البيت والمحلّة والبلد والرستاق والمملكة ونحوها ، ولا شكّ في تفاوت حكم الخارج بقصد كلّ منها ، إلاّ أنّ الصنف الأخير أخصّ مطلقا من الجميع ، فيجب الحمل على إقامة البلدة ونحوها من القرية ، لأنّها أيضا بحكمها إجماعا ، حملا للمطلق على المقيّد ، والمجمل على المبيّن.

وحمل الإقامة على ترك السفر حتّى لا يحتاج إلى المضاف إليه لا دليل عليه ، لأنّه ليس معنى الإقامة لغة ولا شرعا ولا عرفا ، مع أنّ ناوي الإقامة مسافر عرفا أيضا ، وأيضا نرى أنّه لو كان يقول : من أقام في بيت عشرة أيام يتمّ ، كان يختلف حكمه مع قوله : من أقام في محلّة أو أقام في بلد ، ولو كان المراد ترك السفر لم يختلف البتة ، ويحصل من ذلك أنّ متعلّق حكم الإتمام هو قصد إقامة البلد أو القرية أو المصر أو المدينة أو نحوها.

وعلى هذا فلا بدّ من الرجوع في معنى المضاف والمضاف إليه إلى العرف.

ومعنى الأول عرفا واضح ، وهو التوقّف في ذلك الموضع وعدم الخروج منه ، وهو يختلف باختلاف المدة ، فلو قال : أقم في البيت الدقيقة الفلانية ، يعصى بالخروج منه بنصف دقيقة ، ولو قال : أقم فيه شهرا ، لا يعصى بالخروج إلى حواليه دقيقة عرفا على الظاهر ، بل ولا ساعة أو ساعات إذا لم يبعد المسافة كثيرا.

وأمّا الثاني فلا شكّ في صدقه على ما أحاط به سور البلدة أو القرية أو ما تجمعه حدود بنيانها ودورها ، ولكن قد يقتصر على ذلك في العرف كما يقال لمن أقام عند درب بغداد : ما دخل بغداد واجتاز منها ، ولذا لو نذر أحد أن لا يدخل بغداد لا يحنث لو ذهب إلى قرب سوره.

__________________

(١) راجع ص ٢٤٣ ، و ٢٤٤.

(٢) انظر ص ٣٠٧.

٢٥١

وقد استعمل ذلك في بعض الأخبار الآتية في بيان حدّ الترخص ، بل هذا هو الاستعمال الأكثري كما يستفاد من الأخبار أيضا ، ولذا اعتبروا ابتداء المسافة من خارج البلد بهذا المعنى ، ولذا يصحّ أن يقال : فلان خرج من البلد ، إذا تجاوز عن دربه وسوره.

وقد يتجاوز عن ذلك فيستعمل فيما ذكر وفي حدوده المتّصلة به وبساتينه ، كما مرّت الإشارة إليه.

وقد يتجاوز عن ذلك أيضا فيستعمل في بلدة وقرأها وقرية ومزارعها البعيدة ، فيقال : فلان ساكن بغداد ، وإن سكن بعض قرأها.

ونحن لا نعلم المراد من البلدة والقرية التي أضيفت إليها الإقامة ، ولا شكّ أنّ ذلك ليس منوطا إلى قصد المقيم حتّى لو نوى المقام بالبلدة بالمعنى الأخير لم يضرّ الخروج إلى قرأها البعيدة التي منها إليها عشرة فراسخ وأكثر ويكون المجموع في حكم الوطن ، بل القدر الثابت أنّ قصد الإقامة في البلدة والقرية موجب للإتمام ، والبلدة تستعمل في معان ، والقدر المعلوم أنّ قصدها بالمعنى الأول ـ وهو ما جمعته الدور والبنيان وحفّته السور والجدران ـ يوجب الإتمام قطعا ، والباقي غير معلوم لنا ، فلا يعلم تعلّق الحكم به أيضا.

فإن قلت : معنى البلدة في إقامة البلدة مركّبة غير معناها مفردة.

قلنا ـ مع أنّه خلاف الأصل للعلم بالمعنى التركيبي لغة ـ : إنّه لو قال : أقم في داخل السور ، فهل يفهم جواز التجاوز عنه؟ بل لا شكّ في عدم جوازه ، فإذا احتمل كون المراد بالبلدة ذلك المعنى كيف يتفاوت معنى إقامة البلدة؟!

نعم في معنى الإقامة عشرة أيام عرفا توسّع لا يضرّ الخروج ساعة أو ساعتين أو ساعات حتّى لو قال : أقم داخل السور عشرة أيام ، لم يضرّ هذا القدر من الخروج إذا لم يبعد المسافة كثيرا ، وهو توسّع في معنى الإقامة مختلف باختلاف مدّته قصرا وطولا أو في معنى عشرة أيام ، لا في معنى البلدة.

ومن هذا يظهر أنّ ما نقله في الحدائق ناسبا له إلى الغفلة ، وهو أنّه اشتهر‌

٢٥٢

في هذه الأزمنة المتأخّرة أنّ من أقام في بلدة أو قرية مثلا فلا يجوز له الخروج من سورها المحيط بها أو عن حدود دورها وبنيانها (١) ، هو الحقّ الحقيق بالاتّباع ، وعليه الفتوى والاعتماد. ولا يتوهّم أنّ ذلك قول مغاير للقول الثالث ، بل هو عينه ، إلاّ أنّا نقول : إنّ هذا هو المعنى العرفي لإقامة البلد.

نعم لا يضرّ خروج ساعة أو ساعتين أو نحو ربع يوم إلى حوالي البلد ، لا لصدق البلد على الحوالي ، بل لعدم منافاته لصدق الإقامة عشرة حتّى لو قال : أقم داخل السور عشرة أيام ، لم يضرّ ذلك أيضا.

وبهذا ينضبط أمر الإقامة ، وإلاّ فيحصل الاضطراب في الرستاق القريبة القرى وفي نحو ذلك.

فاللازم في قصد الإقامة قصد التوقّف في مجتمع البنيان والدور من بلد عرفا ، وعدم الخروج منها خروجا عرفيا لا بنحو عشرة أقدام وعشرين ونحوهما ممّا لا يخلّ بالإقامة من خروج زمان يسير.

وحمل الإقامة على ترك السفر الشرعي كان معنى حسنا منضبطا لو كان على إرادته والحمل عليه دليل ، ولكن لا دليل عليه أصلا.

د : قال في المنتهى : لو عزم على إقامة طويلة في رستاق‌ ينتقل فيه من قرية إلى قرية ، ولم يعزم على الإقامة في واحدة منها المدّة التي يبطل حكم السفر فيها ، لم يبطل حكم السفر ، لأنّه لم ينو الإقامة في بلد بعينه ، فكان كالمنتقل في سفره من منزل إلى منزل (٢).

قال في المدارك : وهو حسن (٣) وتبعه جمع آخر (٤).

وهو كذلك ، ووجهه واضح ، فإنّ الثابت هو تعلّق الإتمام على من قصد‌

__________________

(١) الحدائق ١١ : ٣٤٤.

(٢) المنتهى ١ : ٣٩٨.

(٣) المدارك ٤ : ٤٦١.

(٤) كالمحقق السبزواري في الذخيرة : ٤١٢ ، والعلامة المجلسي في البحار ٨٦ : ٤٣.

٢٥٣

الإقامة في قرية دون رستاق أو مملكة. وعلى هذا فيضرّ في قصد الإقامة قصد الخروج إلى قرية أخرى ولو كانت قريبة جدّا ، ولا يضرّ الخروج عن دورها بقليل أو في زمان يسير.

هـ : لو نوى المسافر الإقامة في بلدة وأقام العشرة أو صلّى فيها صلاة تامّة ، ثمَّ بدا له الخروج‌ ، فإن كان إلى المسافة فحكمه واضح.

وإن كان إلى ما دونها : فإمّا لا يريد العود إلى موضع الإقامة ، أو يريده.

فإن لم يرد : فإمّا يقصد المسافرة من ذلك الموضع بغير قصد إقامة في الموضع الثاني فيقصّر ، أو يقصد فيه الإقامة ، فيتمّ في ذلك الموضع والطريق إن لم يبلغ الأربعة ، ويتخيّر في الطريق إن بلغها ، والكلّ ظاهر.

وإن أراد العود : فإمّا يكون بعد قصد إقامة في ذلك الموضع الثاني أو قبله.

فإن كان بعده يتمّ في الطريق ذهابا وإيابا وجوبا مع عدم كونه أربعة ، وتخييرا مع كونه أربعة ، وفي ذلك الموضع والموضع الأول وجوبا إن أراد قصد إقامة مستأنفة في الموضع الأول ، ويقصّر حين الخروج من ذلك الموضع الثاني في الطريق وفي الموضع الأول إن لم يرده.

وإن كان قبله : فإمّا بلغ المسافة أربعة ، أم لا.

فإن بلغ : فإن أراد العود ليومه يقصّر في الطريق ذهابا وإيابا وفي ذلك الموضع وجوبا وكذا في محلّ الإقامة مع عدم قصد إقامة جديدة فيه.

وإن لم يرد العود ليومه بل عاد بعد يوم ونحوه : فإن قصد إقامة مستأنفة بنى على ضمّ الإياب مع الذهاب في وجوب القصر أو جوازه أو عدم الضم أصلا ، والمشهور هنا الأخير ، وقيل : بلا خلاف ظاهر ، بل قيل : إنّه إجماع (١). والحقّ الثاني ، لما مرّ في المسألة الثالثة من الشرط الأول (٢) ، بل الأول ، لعدم معلوميّة‌

__________________

(١) انظر الرياض ١ : ٢٦٠.

(٢) راجع ص ١٩٠.

٢٥٤

شذوذ القول بالضمّ هنا.

ولو لم يقصد إقامة مستأنفة فالمشهور وجوب القصر بالخروج عن الموضع الأول ، ونسب إلى الشيخ والحلّي والفاضل (١). وقيل باختصاصه بحال الإياب فيتمّ في الذهاب ، حكي عن الشهيدين (٢) ، ونسبه بعضهم إلى الأكثر أيضا ، بل نسب القول بالتمام مطلقا ـ حتى في الإياب ـ إليهم.

وعلى هذا فهو قول ثالث ، وأفتى به الفاضل في جواب المسائل المهنائية (٣).

وهنا قول رابع وهو القصر ذاهبا وجائيا وفي الموضعين ، إلاّ إذا قصد إقامة جديدة أو أراد تكميل الإقامة الاولى ، نسب إلى ظاهر المختلف (٤).

وقد يحكى قول خامس ينسب إلى البيان ، وهو الفرق في العود بين عدم إقامة أصلا وبين الإقامة في الجملة وإن كان دون العشرة ، فيقصّر ذاهبا وجائيا في الأول وعائدا خاصّة في الثاني (٥).

دليل الأولين : ضمّ الذهاب مع الإياب ، وإطلاقات وجوب القصر على المسافر ، خرج موضع الإقامة حال الإقامة فيبقى الباقي.

ودليل الثاني : عدم ضمّه ، وكون الأصل في الصلاة التمام كما يستفاد من الغلبة ، واستصحاب حال المكلف ، خرج حالة الإياب لقصد المسافة ، فبقي الباقي.

ودليل الثالث : ذلك الأصل ، وكون محلّ الإقامة بمنزلة الوطن.

ودليل الأخيرين : اعتبارات ضعيفة.

__________________

(١) الشيخ في المبسوط ١ : ١٣٨ ، الحلي في السرائر ١ : ٣٤٦ ، الفاضل في المنتهى ١ : ٣٩٨ ، والقواعد ١ : ٥٠.

(٢) الشهيد الأول في الدروس ١ : ٢١٤ ، الشهيد الثاني في نتائج الأفكار ( رسائل الشهيد الثاني ) : ١٨٦.

(٣) أجوبة المسائل المهنائية : ١٣١.

(٤) المختلف : ١٧١.

(٥) البيان : ٢٦٦.

٢٥٥

وإذ قد عرفت أنّ الحق الضمّ في جواز القصر تعرف أنّ القوّة مع جواز القصر ذهابا وما دام في الموضع الأول ، له ولجواز القصر في الأربعة مطلقا ، ووجوبه إيابا. بل الظاهر الأقوى الوجوب في الذهاب في هذه المسألة أيضا ، لما عرفت من أنّ رفع اليد عن أدلّة وجوب الضمّ إنّما كان لشذوذها ، وهو في المسألة مفقود ، ولما مرّ من إطلاقات قصر المسافر ، ولما يأتي ممّا يدلّ على القصر فيما دون الأربعة.

وأصالة التمام في كلّ صلاة ممنوعة ، ولو سلّمت فبما مرّ مدفوعة ، وكون محلّ الإقامة بمنزلة الوطن في جميع الأحكام لا دليل عليه ، وعموم المنزلة التي ادّعي مما لا ينبغي الركون إليه.

وإن لم يبلغ المسافة أربعة فمع قصد إقامة مستأنفة في محلّ الإقامة لا يقصّر مطلقا ، إذ لا موجب له.

ومع عدم قصدها فكالأربعة ، فيقصّر ذهابا وإيابا وفي الموضعين ، باعتبار ضمّ الإياب مع الذهاب هنا وجوبا ، وتدلّ عليه بالتصريح صحيحة أبي ولاّد الآتية في حكم الصلاة في المواطن الأربعة (١) ، ورواية الجعفري الآتية في الفرع التاسع (٢).

ولا يخفى أنّ المراد بعدم قصد الإقامة المستأنفة في محلّ الإقامة هنا عدم قصدها في ذلك السفر مطلقا ولو بعد التردّد إلى الموضع الثاني مرّات. فلو قصدها ولو بعد التردّد يتمّ ذهابا وإيابا وفي الموضعين وجوبا ، كمن قصد الإقامة في بغداد ثمَّ أراد الذهاب إلى الكاظمين عليهما‌السلام ، فإن لم يرد إقامة ثانية في بغداد أصلا في هذا السفر يقصّر وجوبا ذهابا وإيابا وفي الموضعين. وإن أراد إقامة ثانية فيها ولو بعد التردّد إلى الكاظمين مكرّرا بأن تكون تلك التردّدات محصورة‌

__________________

(١) انظر ص ٣٠٧.

(٢) انظر ص ٢٥٩.

٢٥٦

بين قصد إقامتين يتمّ في الجميع وجوبا ، لما ذكرنا سابقا من أنّ الثابت ضمّ إياب واحد مع الذهاب لا التردّد مكررا.

هذا إذا لم تكن المسافة بين الموضعين أربعة ، وإلاّ فكما عرفت يجب القصر مع قصد الإقامتين في طرفي التردّدات.

و : اليوم وإن كان حقيقة فيما بين الطلوعين إلاّ أنّه يدخل هنا الليالي إجماعا‌ ، لا بمعنى اشتراط عشرة ليال أيضا ، بل بمعنى أن يقيم في الليالي المتخلّلة بين العشرة أيام ، فلو أقام الأيام وخرج الليالي لم يكن إقامة عشرة إجماعا ، ولكن لو دخل أوّل طلوع الشمس من يوم وخرج أول غروبها من العاشر كفى وإن لم يقم إلاّ تسعة ليال ، للإجماع أيضا وصدق إقامة العشرة.

ز : تجب إقامة عشرة أيام تامة‌ ، لأنّها مقتضى اللفظ ، فلو نقص عنها بعض يوم ولو نصف ساعة لم يكن إقامة العشرة.

ويظهر من بعضهم احتساب يوم الدخول والخروج منها ولو كانا بعض يوم (١).

ولا وجه له ، والصدق العرفي الذي ادّعاه ممنوع.

ولو دخل في أثناء يوم وخرج في أثناء يوم آخر ففي احتسابهما أربعة أوجه بل أقوال :

الأول : عدم احتسابهما مطلقا لا يوما ولا يومين واشتراط عشرة تامّة غيرهما ، اختاره في المدارك (٢).

والثاني : احتسابهما يوما واحدا بالتلفيق ، استقر به في الذكرى وروض الجنان والبحار (٣) ، وبعض مشايخنا (٤).

__________________

(١) نقله في الحدائق ١١ : ٣٤٧ عن بعض مشايخه المحققين.

(٢) المدارك ٤ : ٤٦٠.

(٣) الذكرى : ٢٥٦ ، روض الجنان : ٣٨٦ ، البحار ٨٦ : ٤٣.

(٤) الرياض ١ : ٢٥٩.

٢٥٧

والثالث : احتسابهما يومين مطلقا ، فيتمّ العشرة بهما وبثمانية أخرى ، يظهر من بعضهم القول به.

والرابع : احتسابهما يومين إن دخل قبل الزوال كثيرا وخرج بعده كذلك ، ولو عكس أو دخل وخرج عند الزوال فيسقطهما أو يلفق (١).

والحق هو الأول ، لأنّ اليوم حقيقة في ذلك الزمان الممتدّ المتصل تاما ، ولا يصدق على نصف من يوم ونصف من آخر أو غير معلوم صدقه عليه ، فما لم يتحقّق هذا الزمان الممتدّ عشر مرّات لم يعلم صدق عشرة أيام. والتلفيق مطلقا أو احتساب الناقص كذلك خلاف الأصل والحقيقة ، فيحتاج إلى دليل.

ومستند المخالفين ودفعه ظاهر ، وأقوى اعتمادهم على الصدق العرفي الممنوع جدّا.

ح : لو حصل له قصد الإقامة عشرة في أثناء صلاة مقصورة يتمّ الصلاة ، بلا خلاف ظاهر ، بل من بعضهم الإجماع عليه (٢) ، وتدلّ عليه صحيحة ابن يقطين : عن رجل خرج في سفر ثمَّ تبدو له الإقامة وهو في صلاته ، قال : « يتمّ إذا بدت له الإقامة » (٣).

ونحوها حسنة سهل بن اليسع (٤).

ط : إن رجع ناوي الإقامة عن قصده فإن لم يصلّ صلاة تامّة رجع إلى التقصير‌ ، وإن صلّى صلاة تامّة ولو واحدة أتمّ سائر ما يصلي في ذلك المقام ولو صلاة واحدة ، بلا خلاف في شي‌ء من الحكمين ، بل عن جماعة الإجماع عليه (٥).

__________________

(١) كما يظهر ذلك من بعض مشايخ صاحب الحدائق ، انظر الحدائق ١١ : ٣٤٧.

(٢) التذكرة : ١٩٣.

(٣) الكافي ٣ : ٤٣٥ الصلاة ب ٨٣ ح ٨ ، الفقيه ١ : ٢٨٥ ـ ١٢٩٩ ، التهذيب ٣ : ٢٢٤ ـ ٥٦٤ ، الوسائل ٨ : ٥١١ أبواب صلاة المسافر ب ٢٠ ح ١.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٢٤ ـ ٥٦٥ ، الوسائل ٨ : ٥١١ أبواب صلاة المسافر ب ٢٠ ح ٢.

(٥) منهم صاحب المدارك ٤ : ٤٦٣ والوحيد البهبهاني في شرح المفاتيح ( المخطوط ).

٢٥٨

وتدل عليه صريحا صحيحة أبي ولاّد الآتية في حكم الصلاة في المواطن الأربعة (١) ، والرضوي المنجبر (٢) ، وهو أيضا بمعناها.

وأما رواية الجعفري : لمّا أن نفرت من منى نويت المقام بمكة ، فأتممت الصلاة حتى جاءني خبر من المنزل ، فلم أجد بدّا من المصير إلى المنزل ، ولم أدر أتمّ أم أقصّر ، وأبو الحسن عليه‌السلام يومئذ بمكة ، فأتيته فقصصت عليه القصة ، فقال : « ارجع إلى التقصير » (٣).

فهي غير منافية لما ذكر ، لأنّ المراد الرجوع إلى التقصير بعد الخروج من مكة ، وهو كذلك ما لم يقصد إقامة جديدة.

وظاهر قوله في الصحيحة : « حتى بدا لك أن لا تقيم » أنّ الموجب للرجوع إلى التقصير قبل الصلاة هو قصد عدم الإقامة. فلو حصل له التردّد بعد القصد لا يقصّر ، لعمومات التمام في موضع قصد فيه الإقامة ، واستصحاب وجوب التمام. ولا تعارضها عمومات قصر المتردّد ، لظهورها فيمن كان كذلك ابتداء.

وكذا ظاهرها أنّ الموجب للرجوع هو قصد عدم الإقامة سواء قصد المسافة أو ما دونها ، فيقصّر لو كان رجوعه قبل الصلاة إلى قصد ما دون المسافة ، وفاقا لجماعة (٤) ، وخلافا لآخرين لوجه ضعيف (٥).

ثمَّ إنّ الحكم بالإتمام فيها وقع معلّقا بالصلاة ، فلا يكفي الصوم الواجب ولو أتمّه قبل الرجوع ، لعموم الصحيحة.

وقيل : يكفي إن رجع بعد الزوال (٦) ، لما دلّ من العمومات على وجوب‌

__________________

(١) انظر ص ٣٠٧.

(٢) فقه الرضا عليه‌السلام : ١٦١ ، مستدرك الوسائل ٦ : ٥٤٠ أبواب صلاة المسافر ب ١٣ ح ١.

(٣) الفقيه ١ : ٢٨٣ ـ ١٢٨٦ ، التهذيب ٣ : ٢٢١ ـ ٥٥٤ ، الاستبصار ١ : ٢٣٩ ـ ٨٥٢ ، الوسائل ٨ : ٥٠٩ أبواب صلاة المسافر ب ١٨ ح ٢.

(٤) كالعلاّمة المجلسي في البحار ٦٨ : ٤٤ ، وصاحبي الرياض ١ : ٢٦٠ ، والحدائق ١١ : ٤٠٥.

(٥) كالشهيد الثاني في الروض : ٣١٤ ، والمحقق السبزواري في الذخيرة : ٤١٢.

(٦) التنقيح ١ : ٢٩٤ ، روض الجنان : ٣٩٥.

٢٥٩

المضيّ في الصوم إذا سافر بعد الزوال (١) ، فإذا صحّ فلا بدّ أن لا تبطل إقامته ، وإلاّ فيلزم وقوع الصوم في السفر.

وفيه أولا : أنّ شمول العمومات لما نحن فيه ممنوع ، لأنّها الظاهرة فيمن سافر من المكان الذي يتحتّم فيه الصوم. وثانيا : أنّ بطلان وقوع الصوم مطلقا في السفر أيضا ممنوع ، إنّما هو إذا كان مجموعه حاصلا في السفر.

وقيل : يكفي مطلقا ، لصحة الصوم قبل الزوال ، فتكون إقامته صحيحة ، وإلاّ لزم جواز الصوم في السفر (٢).

وفيه : أنّه مراعى بعدم الرجوع أو بإتمام فريضة تامة للصحيحة ، وذلك واسطة بين الصحة الحتمية والبطلان الحتمي ، فالصوم صحيح ما لم يرجع أو يصلّي فريضة تامة.

وكذا علّق الحكم على وقوع الصلاة ، فلا يكفي مضيّ زمانها مع تركها عمدا أو سهوا أو لإغماء أو جنون.

وعلى إتمامها ، فلا يكفي بعض الصلاة ، فلو رجع عن العزم في أثناء الصلاة يقصّرها ، وفاقا لجماعة (٣).

وقيل : لا يرجع لأنّ الصلاة على ما افتتحت عليه (٤).

وقيل : يرجع إن لم يتجاوز محلّ القصر ، وإن تجاوز لم يرجع ، لاستلزامه إبطال العمل ـ المنهي عنه ـ لو رجع ، فيتمّ ثمَّ يصدق أنّه صلّى صلاة تامة (٥).

وفيه : منع إنّه إبطال ، بل هو بطلان. سلّمنا ولكن لا نسلّم النهي عن الإبطال هنا.

__________________

(١) انظر الوسائل ١ : ١٨٥ ، أبواب من يصح منه الصوم ب ٥.

(٢) العلامة في التذكرة ١ : ١٩٣ ، والتحرير ١ : ٥٦ ، القواعد ١ : ٥٠ ، ونهاية الأحكام ٢ : ١٨٥.

(٣) انظر المنتهى ١ : ٤٩٨ ، والمدارك ٤ : ٤٨٣ ، والذخيرة : ٤١٢ ، والحدائق ١١ : ٤٢٥.

(٤) كما في المبسوط ١ : ١٣٩ ، والمهذب ١ : ١٠٨ ، وعن ابن الجنيد في المختلف : ١٦٩.

(٥) كما في نهاية الأحكام ٢ : ١٨٥ ، والمختلف : ١٦٩ ، والتذكرة ١ : ١٩٣ ، والتحرير ١ : ٥٦ ، والدروس ١ : ٢١١ ، والبيان : ٢٦١.

٢٦٠