مستند الشّيعة - ج ٨

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ٨

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-83-3
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٣٤٨

الأربعة (١) ، الخالية في المورد عن الشذوذ ومخالفة الإجماع ومعارضة الرضوي (٢) ، فيجب اتّباعها.

و : هل اللازم في قصد المسافة العلم العادي والجزم ، أو يكفي الظنّ‌ مطلقا ، أو إذا كان قويا؟

الأول للأكثر ، للأصل. واستقوى في الروضة الأخير (٣).

واللازم الرجوع إلى العرف في القصد والإرادة المذكورتين في الأخبار ، كمرسلة ابن بكير ورواية صفوان وغيرهما ، وسيأتي بيانه عند تحقيق قصد إقامة العشرة.

ز : التابع للمسافر ـ كالعبد والزوجة والخادم والأجير والأسير ـ في حكم المتبوع‌ إذا علموا غرضه ، فيقصّرون إن جزموا على المتابعة وعلموا جزم متبوعهم المسافة ، لاستلزامه قصدهم المسافة الموجب للتقصير وفقد المعارض.

وإن لم يكونوا عازمين على المتابعة ، بل قصدوا الرجوع لو تمكّنوا منه بالعتق أو الطلاق ، أو ولّوا بالنشوز والإباق ، فظاهر جماعة التقصير مطلقا ، بل كلام المنتهى يشعر بكونه اتفاقيا عند الفريقين في الأولين ، وعند الإمامية في الأسير (٤).

وقال في نهاية الإحكام بالإتمام ، لعدم القصد (٥).

وفصّل الشهيد فقال : إن لم يحتمل التمكّن منه قبل المسافة عادة ولم تظهر أمارة التمكّن لهم قصّروا وجوبا أيضا ، لكونهم قاصدين للمسافة بالعلم العادي ، ولو احتمل ذلك بظهور أماراته أتّموا (٦). وهو الصحيح.

أمّا القصر في الأوّل فلما مرّ. ولو كان ذلك منافيا للقصد لكان عزم كلّ‌

__________________

(١) راجع ص ١٩٨.

(٢) المتقدم في ص ١٩١.

(٣) الروضة : ١ : ٣٧١.

(٤) المنتهى ١ : ٣٩١.

(٥) نهاية الأحكام ٢ : ١٧١.

(٦) الذكرى : ٢٥٦.

٢٢١

مسافر للرجوع قبل المسافة لو مرض أو قطع الطريق أو نحو ذلك مخلا للقصد ولو لم تظهر أماراته ، فلا يقصّر أحد لكون كلّ أحد عازما على ذلك. وبالجملة هو يعزم جزما عاديا على المسافة وهو المناط للتقصير.

وأما الإتمام في الثاني فلعدم القصد. وأصالة عدم التمكّن وبقاء الاستيلاء لا تفيد ، لأنّ الحكم منوط بالقصد وهو لا يختلف بالأصل والاستصحاب ، ولذا [ يتم ] (١) طالب الآبق ومستقبل المسافر إذا احتمل الوصول قبل المسافة مع أنّ الأصل عدم الوصول.

ح : المكره في السفر كالتابع إذا لم يسلب الإكراه الاختيار. ولو سلبه كأن تشدّ يداه ورجلاه وحمل إلى السفر وعلم حمله إلى المسافة فقد يختلج بالبال فيه الإشكال ، إذ القصد إنّما يكون على العمل ولا يصدر عنه عمل حتّى يكون قاصدا له ، ولعدم شمول كثير من أخبار القصر لمثله ، وعدم تبادره من شي‌ء من أخباره ، وإجمال نحو قلوه « التقصير في بريدين » لاحتمال إرادة قصد بريدين أو سيره ، ومثل ذلك لا يقصد ولا يسير ، إلاّ أنّ الظاهر الإجماع على وجوب القصر عليه.

ويمكن الاستدلال له أيضا بقوله سبحانه ( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ ) (٢) فإنّ ذلك كائن في السفر وإن لم يكن مقصودا له ، ولا معارض له ، فيجب عليه التقصير أيضا.

الشرط الثالث : أن لا ينقطع سفره في أثناء الطريق‌ بأحد القواطع ، فلو انقطع أتمّ.

وهذا الشرط تارة يكون لأصل شرعيّة التقصير ، والأخرى لاستمراره.

فعلى الأول يكون المراد أنّه يشترط في شرعيّة التقصير أن ينوي مسافة لا ينقطع سفره في أثنائها قبل وصوله حدّ مسافة التقصير. فلو نوى مسافة منقطعة في الأثناء بأحد القواطع لا يجوز له التقصير لا في الطريق ولا في المنزل.

__________________

(١) في جميع النسخ : لا يتمّ ، وهو سهو كما يظهر بالتأمل.

(٢) البقرة : ١٨٥.

٢٢٢

وعلى الثاني يكون المراد : أنّه يشترط في استمرار التقصير أن لا ينقطع سفره في أثنائه بعد بلوغ المسافة بأحد القواطع. فلو انقطع يتمّ حين الانقطاع هذه إلى أن يستأنف قصد مسافة جديدة ، ويقصّر قبله.

ومراد الأكثر في هذا المقام حيث ذكروا هذا الشرط هو المعنى الأول ، ولذا لم يذكروا في القواطع هنا تردّد ثلاثين يوما ، لأنّه في الأول غير متصوّر ، إذ لا معنى لعزم التردّد في الأثناء ثلاثين يوما ، بل اقتصروا على عدم عزم دخوله الوطن أو موضعا يعزم فيه إقامة العشرة.

وامّا المعنى الثاني فقد ذكروه في مطاوي أحكام السفر ، لأنّه ليس حقيقة من شروط التقصير بل شرط استمراره.

ونحن نذكر هنا الأمرين في مقامين :

المقام الأول : في بيان ما يتعلّق بهذا الشرط بالمعنى الأول.

فنقول : إنّه يشترط في شرعيّة التقصير ـ جوازا أو وجوبا ـ أن لا يقصد الدخول في وطن له في أثناء المسافة الشرعية ، ولا يعزم على إقامة العشرة في موضع في أثنائها. فلو قصد أحد الأمرين لم يجز له القصر في الطريق إن كان الوطن أو الموضع في خلال الأربعة ، ولم يجب إن كان ما بينها وبين الثمانية ، وكذا في نفس الوطن أو ذلك الموضع ، ولا في ما بعد ذلك الموضع ما لم ينو مسافة جديدة بعده ، ولا يكفي في القصر انضمام ما بقي من المسافة بعد الانقطاع إليها قبله ، وكذا لا يقصّر في المسافة ، بلا خلاف في الجميع كما صرّح به غير واحد (١) ، بل بالإجماع كما نقله جماعة (٢).

واستدلّ له بالأخبار المستفيضة الآتية المصرّحة بانقطاع السفر بوصول أحد الموضعين ووجوب الإتمام فيه. وهو غير واف بتمام المدّعى ، لأنّه لا يثبت إلاّ وجوب التمام في نفس أحد الموضعين ، أمّا قبله وبعده فلا.

__________________

(١) كصاحبي المدارك ٤ : ٤٤١ ، والرياض ١ : ٢٥٠.

(٢) منهم العلامة في التذكرة ١ : ١٩٠ ، والشهيد الثاني في روض الجنان : ٣٨٦.

٢٢٣

ولذا استدلّ لهما بعضهم (١) بالإجماعات المنقولة.

وبأنّ ما دلّ على القصر في المسافة يدل عليه إذا كانت المسافة سفرا واحدا ، وهي هنا تسار في سفرين.

وباستصحاب وجوب التمام الثابت في البلد في الأول وفي أحد الموضعين في الثاني ، مدّعيا أنّه ليس في إطلاق ما دلّ على وجوب القصر في المسافة عموم يشمل نحو هذه المسافة المنقطعة بالتمام في أثنائها ، لاختصاصه ـ بحكم التبادر ـ بغيرها.

أقول : يضعّف الأول : بعدم حجية الإجماع المنقول.

والثاني : بمنع تعدّد السفر عرفا ، فإنّه لا وجه لكون المسافة المتخلّلة في أثنائها إقامة تسعة أيام ونصف سفرا واحدا وإقامة عشرة أيام سفرين عرفا ، وكذا لا يفرّق العرف بين ما إذا مرّ بمنزلة الّذي يتوطّنه سيّما إذا مرّ راكبا سيما عن حواليه ، وبين ما إذا لم يمرّ.

والثالث : بعدم إمكان منع شمول أكثر أخبار التقصير لمثل ذلك ، بل الظاهر شمول الأكثر ، سيّما على القول بكون مطلق الملك وطنا حيث إنّه يكثر أفراده أيضا. وتسليم شمولها للمقيم في الأثناء تسعة أيام ومنعه للمقيم عشرة لا وجه له.

ولذا قال في الذخيرة ـ بعد ذكر هذا الحكم وقوله : لا أعرف فيه خلافا ـ لكن إقامة حجّة واضحة عليه لا تخلو عن إشكال (٢) ، وهو كذلك.

إلاّ أن يستدلّ للإتمام في المسافة التي بعد المنزل بعموم التعليل بقوله : « لأنّه خرج من منزله لا يريد السفر ثمانية فراسخ » في رواية صفوان السابقة (٣) ، وله في الّتي قبل ما يريد الإقامة فيه عشرة أيام بعموم نحو صحيحة الخزّاز : « إن حدث‌

__________________

(١) انظر الرياض ١ : ٢٥٠.

(٢) الذخيرة : ٤٠٨.

(٣) في ص ١٨٧.

٢٢٤

نفسه بإقامة عشرة أيام فليتمّ الصلاة » (١) خرج عنه ما خرج فيبقى الباقي ومنه المورد ، ولتمام المطلوب بالإجماع المركب.

فروع :

أ : لو لم يقصد أولا الوطن المتخلّل أو إقامة العشرة وعزم عليه في الأثناء ، كأن يقصد سفرا له طريقان يشتركان في بعض الطريق ، أحدهما مارّ بوطنه دون الآخر ، فعزم أولا الآخر وسلك الطريق المشترك ، ثمَّ رجع عن قصده وسلك في الباقي ما يمرّ بالوطن ، أو لم يكن قاصدا لإقامة العشرة في رأس ثلاثة فراسخ مثلا ، ثمَّ عزم عليها بعد الوصول إلى رأس الثلاثة ، فلا شكّ في لزوم القصر ما لم يقصد الطريق المارّ بالوطن ولا الإقامة ، ووجهه ظاهر. وكذا في لزوم الإتمام فيما بعد الوطن أو موضع الإقامة لو لم يكن مسافة مستأنفة ، لما مرّ.

وأما فيما بعد قصد الوطن أو الإقامة وقبل دخول الوطن أو موضع الإقامة لو حصل القصد قبل الوصول إليهما ففيه إشكال.

والظاهر هو الإتمام ، لعموم صحيحة ابن يقطين : عن رجل خرج في سفر ، ثمَّ تبدو له الإقامة وهو في صلاته ، قال : « يتمّ إذا بدت له الإقامة » (٢).

ونحوها رواية سهل (٣) ، إلاّ أنّها خالية عن قوله « وهو في صلاته » فتأمّل.

ب : لو تردّد أولا في سلوك الطريق المارّ إلى الوطن‌

أو إقامة العشرة في موضع من أثناء المسافة واحتملهما احتمالا غير بعيد ، لا يقصّر أصلا ، لعدم قصد المسافة الموجبة للتقصير وهي الغير المتخلّلة للإقامة.

ج : حكم التوقّف مع التردّد ثلاثين يوما عند احتماله في أول السفر‌ أو‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٣٦ الصلاة ب ٨٤ ح ٣ ، التهذيب ٣ : ٢١٩ ـ ٥٤٨ ، الاستبصار ١ : ٢٣٨ ـ ٨٤٩ ، الوسائل ٨ : ٥٠١ أبواب صلاة المسافر ب ١٥ ح ١٢.

(٢) الكافي ٣ : ٤٣٥ الصلاة ب ٨٣ ح ٨ ، الفقيه ١ : ٢٨٥ ـ ١٢٩٩ ، التهذيب ٣ : ٢٢٤ ـ ٥٦٤ ، الوسائل ٨ : ٥١١ أبواب صلاة المسافر ب ٢٠ ح ١.

(٣) التهذيب ٣ : ٢٢٤ ـ ٥٦٥ ، الوسائل ٨ : ٥١١ أبواب صلاة المسافر ب ٢٠ ح ٢.

٢٢٥

حصوله من غير قصد في أثناء المسافة حكم إقامة العشرة وتخلّل الوطن في الأثناء ، فيتمّ في الأول مطلقا ، وفي الثاني فيما بعد موضع التوقّف لو لم يكن مسافة ، بل الإتمام فيه أظهر من الأولين ، لكون ذلك من الأفراد النادرة كثيرا ، فيشكّ في شمول إطلاقات التقصير له.

ثمَّ إنّه لا ينافي ما ذكرناه هنا ما تقدّم في صدر المقام من عدم تصوّر قطع السفر بتردّد ثلاثين يوما في هذا الشرط ، لأنّ ما مرّ إنّما هو في عزم تخليل القاطع في بدء السفر ، وما ذكرناه إنّما هو في احتماله فيه أو حصوله في الأثناء.

المقام الثاني : في بيان ما يتعلّق بهذا الشرط بالمعنى الثاني.

فنقول : إنّه يشترط في جواز التقصير ـ جوازا أو وجوبا ـ أن لا ينقطع سفره بوصوله إلى الوطن ، ولا إلى موضع ينوي فيه الإقامة عشرة أيام ، وأن لا يبقى متردّدا في بلد في الأثناء ثلاثين يوما.

فهذه ثلاثة قواطع للسفر ، يجب على المسافر الإتمام بحصول كلّ واحد منها ، نذكرها في ثلاث مسائل :

المسألة الأولى : في بيان الوصول إلى الوطن.

فنقول : إنّ انقطاع السفر به ووجوب الإتمام معه في الجملة مجمع عليه ، وفي الأخبار المستفيضة بل المتواترة معنى ـ الآتية طائفة منها ـ تصريح به. ومقتضى إطلاق بعضها ـ كصحيحة ابن بزيع الآتية في بيان الوطن (١) ، وموثّقة إسحاق ورواية المحاسن الآتيتين في حدّ الترخص للعائد من السفر (٢) ـ شمول الحكم للواصل إلى البلد مطلقا ، مجتازا كان أم غير مجتاز ، نزل منزلة أم لم ينزل.

خلافا للإسكافي والحلبي ، فأوجبا القصر على المجتاز.

قال الأول : من وجب عليه التقصير في سفره ، فنزل منزلا أو قرية ملكها‌

__________________

(١) انظر ص ٢٣٢.

(٢) انظر ص ٢٩٩.

٢٢٦

أو بعضها ، أتمّ وإن لم يقم المدة التي توجب التمام على المسافر. وإن كان مجتازا بها غير نازل لم يتمّ (١).

وقال الثاني : وإن دخل مصرا له فيه وطن فنزل فيه فعليه التمام (٢). حيث شرط النزول في المصر فيتمّ غير النازل.

والعمومات المذكورة تردّهما ، مع أنّه يمكن أن يكون خلاف الإسكافي فيما له ملك من غير أن يكون وطنا شرعيّا أو عرفيا ، فيكون موافقا للمشهور في المجتاز عن الملك مخالفا له في غير المجتاز.

ومنهم من جعل قول الحلبي قولا غير قولي الإسكافي والمشهور ، فأرجع الضمير في قوله : « فيه » إلى الوطن ، وحمل الوطن على داره في المصر ، فعزا إليه أنّه لو لم يكن مجتازا ودخل دارا غير داره في المصر يقصّر.

وفيه : أنّ رجوع الضمير إلى المصر هو الظاهر ، مع أنّ المراد من الوطن يمكن أن يكون التوطّن فينحصر المرجع بالمصر.

وكيف كان فالقولان شاذّان مردودان بما ذكر ، وينقطع السفر بالوصول إلى الوطن مطلقا.

واللازم هنا تحقيق الوطن القاطع للسفر وأنّه ما هو؟

فنقول : اختلفوا في الوطن أي الموضع الّذي يجب الإتمام والصيام بمجرّد الوصول إليه ولو لم ينو فيه إقامة العشرة على أقوال :

الأول : أنّه ما له فيه ملك مطلقا. وهذا القول ظاهر الإسكافي ، قال : من وجب عليه التقصير في سفره ، فنزل منزلا أو قرية ملكها أو بعضها ، أتمّ وإن لم يقم المدة الّتي توجب التمام على المسافر. وإن كان مجتازا بها غير نازل لم يتمّ.

الثاني : أنه ما له فيه ملك مطلقا مع استيطان ستّة أشهر مطلقا. وهو‌

__________________

(١) نقله عنه في المختلف : ١٧٠.

(٢) الكافي في الفقه : ١١٧.

٢٢٧

صريح المبسوط والسرائر والشرائع والإرشاد (١) ، بل سائر كتب الفاضل ومن تأخّر عنه كما في المدارك (٢) ، بل هو المشهور بين المتأخّرين كما في الذخيرة والحدائق (٣) ، بل عن روض الجنان والتذكرة : الإجماع على كفاية الستّة أشهر مطلقا (٤). وقال بعض الأجلّة : لا أعرف فيه خلافا إلاّ من الصدوق على وجه.

ومراد هؤلاء إن كان من الاستيطان الإقامة والإسكان ـ كما هو الظاهر ـ يكون شرط الوطن عندهم أمرين : الملك وإقامة ستة أشهر. وإن كان إسكانا يعدّ وطنا عرفا يكون الشرط أمورا ثلاثة : الأمران ، مع التوطّن العرفي في ستّة أشهر.

ثمَّ مقتضى ذلك القول اشتراط دوام الملك في حال الصلاة ، وحصول الاستيطان المذكور ولو في وقت.

الثالث : أنّه ما يكون له فيه منزل مع استيطانه ستّة أشهر ، فهو أخصّ من سابقة باعتبار المنزل دون مطلق الملك إن قلنا إنّ مرادهم بالمنزل المملوك ، وإلاّ فيكون أعمّ من وجه منه من هذه الجهة. اختاره في النافع والروضة (٥).

الرابع : أنه ما يكون له فيه منزل مع استيطانه فيه ستّة أشهر في السنة.وهو مذهب الصدوق في الفقيه (٦). وهو أخصّ من سابقة باعتبار الستّة أشهر ، فإنّها في السابق مطلقة ، وفي ذلك مقيّدة بالسنة ، وظاهره أن تكون الستّة أشهر من سنة ، فلا تكفي الستّة من سنين متعدّدة ، بخلاف الأول. وقد فهم بعضهم منه ستّة أشهر من كلّ سنة (٧) ، وهو بعيد من ظاهره ، بل هو غير مستقيم.

الخامس : أنّه ما يكون له فيه منزل مع استيطانه فيه فعلا ، فهو أعمّ من‌

__________________

(١) المبسوط ١ : ١٣٦ ، السرائر ١ : ٣٣١ ، الشرائع ١ : ١٣٣ ، الإرشاد ١ : ٢٧٤.

(٢) المدارك ٤ : ٤٤٣.

(٣) الذخيرة : ٤٠٨ ، الحدائق ١١ : ٣٥٩.

(٤) روض الجنان : ٣٨٦ ، التذكرة ١ : ١٩٠.

(٥) المختصر النافع : ٥١ ، الروضة ١ : ٣٧٢.

(٦) الفقيه ١ : ٢٨٨.

(٧) انظر الذخيرة : ٤٠٨ ، والحدائق ١١ : ٣٧٢.

٢٢٨

سابقيه باعتبار الاستيطان ، فإنّه فيه مطلق ، وفيهما مقيّد بستة أشهر ، ويحتمل الاتّحاد باعتبار تفسير الاستيطان في بعض الصحاح الآتية بذلك ، وأخصّ منه من جهة فعلية الاستيطان. وهو ظاهر الشيخ في النهاية (١) ، والقاضي في الكامل ، حيث عبّرا بقولهما : كان له فيها موضع يستوطنه وينزل فيه. ولا شكّ أنّ ظاهره الفعلية.

السادس : ما يكون له فيه وطن مطلقا. وهو مذهب الحلبي (٢) ، وظاهره أنّه ما كان وطنا له فعلا ، والظاهر اتحاده مع السابق ، لعدم انفكاك الوطن عن المنزل ، سيّما إذا لم يشترط في المنزل الملكية.

السابع : ما يكون له فيه منزل مع استيطانه فيه عرفا. اختاره في الذخيرة والكفاية (٣) ، وبعض آخر من متأخّري المتأخّرين (٤) ، فإن كان مراد سابقة من الوطن العرفي يتّحد معه ، كما يتّحدان مع سابقهما إن كان مراده من الاستيطان ذلك ، وإن كان سكنى ستّة أشهر حصل الاختلاف.

الثامن : أن يكون له فيه ملك أقام فيه ستّة أشهر ، أو يكون وطنا له عرفا ، وحاصله كفاية أحد الوطنين الشرعي أو العرفي. اختاره بعض متأخّري أصحابنا ، وصرّح بعض مشايخنا بعدم الخلاف نصّا وفتوى في كفاية الأخير.

ومحصّل الأقوال : أنّ بناء الأقوال الأربعة الأولى على الوطن الشرعي وإن اختلفوا فيما يتحقّق به ، وبناء الخامس والسادس يحتمل أن يكون على الشرعي وعلى العرفي ، وبناء السابع على العرفي ، وبناء الثامن على كلّ منهما.

حجة الأول : المستفيضة من الأخبار ، مثل صحيحة عمران بن محمد‌

__________________

(١) النهاية : ١٢٤.

(٢) الكافي في الفقه : ١١٧.

(٣) الذخيرة : ٤٠٨ ، الكفاية : ٣٤.

(٤) كالعلامة المجلسي (ره) في البحار ٨٦ : ٣٧ ونقله في الحدائق ١١ : ٣٧١ عن بعض مشايخه المحققين.

٢٢٩

المتقدمة (١) ، وصحيحة الهاشمي : عن رجل سافر من أرض إلى أرض وإنما نزل قراه وضيعته ، قال : « إذا نزلت قراك وضيعتك فأتمّ الصلاة ، وإن كنت في غير أرضك فقصّر » (٢).

وموثقة الساباطي : في الرجل يخرج في سفر فيمرّ بقرية له أو دار ، فينزل فيها ، قال : « يتمّ الصلاة ولو لم يكن له إلاّ نخلة واحدة ، ولا يقصّر وليصم إذا حضره الصوم وهو فيها » (٣).

ورواية البزنطي : عن الرجل يخرج إلى ضيعته ويقيم اليوم واليومين والثلاثة ، أيقصّر أو يتمّ؟ قال : « يتمّ الصلاة كلّما أتى ضيعة من ضياعه » (٤).

ورواية موسى بن الخزرج : أخرج إلى ضيعتي ، ومن منزلي إليها اثنا عشر فرسخا ، أتمّ الصلاة أم أقصّر؟ قال : « أتمّ » (٥) يعني في الضيعة.

أقول : كانت الحجة تامة لو لا تعارضها مع غيرها ، ولكنّه تعارضها مستفيضة أخرى ، كرواية موسى بن حمزة : إنّ لي ضيعة دون بغداد ، فأخرج من الكوفة أريد بغداد ، فأقيم في تلك الضيعة ، أقصّر أم أتمّ؟ قال : « إن لم تنو المقام عشرا فقصّر » (٦).

ورواية ابن سنان : « من أتى ضيعته ثمَّ لم يرد المقام عشرة أيّام قصّر ، وإن‌

__________________

(١) في ص ١٩٩.

(٢) الفقيه ١ : ٢٨٧ ـ ١٣٠٩ ، التهذيب ٣ : ٢١٠ ـ ٥٠٨ ، الاستبصار ١ : ٢٢٨ ـ ٨١٠ ، الوسائل ٨ : ٤٩٢ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ٢.

(٣) التهذيب ٣ : ٢١١ ـ ٥١٢ ، الاستبصار ١ : ٢٢٩ ـ ٨١٤ ، الوسائل ٨ : ٤٩٣ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ٥.

(٤) الكافي ٣ : ٤٣٧ الصلاة ب ٨٥ ح ٣ ، التهذيب ٣ : ٢١٤ ـ ٥٢٣ ، الاستبصار ١ : ٢٣١ ـ ٨٢٣ ، الوسائل ٨ : ٤٩٧ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ١٧.

(٥) التهذيب ٣ : ٢١٠ ـ ٥١٠ ، الاستبصار ١ : ٢٢٩ ـ ٨١٢ ، الوسائل ٨ : ٤٩٦ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ١٥.

(٦) التهذيب ٣ : ٢١١ ـ ٥١٤ الاستبصار ١ : ٢٣٠ ـ ٨١٦ ، المحاسن ٣٧١ ـ ١٣١ ، الوسائل ٨ : ٤٩٩ أبواب صلاة المسافر ب ١٥ ح ٧.

٢٣٠

أراد المقام عشرة أيام أتمّ الصلاة » (١).

ومرسلة التهذيب : « إنّه صلّى في ضيعته فقصّر في صلاته » (٢).

والصحاح الثلاث لابن يقطين :

الاولى : عن الرجل يمرّ ببعض الأمصار ، له بالمصر دار ، وليس المصر وطنه ، أيتمّ الصلاة أم يقصّر؟ قال : « يقصّر الصلاة ، والضياع مثل ذلك إذا مرّ بها » (٣).

والثانية : إنّ لي ضياعا ومنازل بين القرية والقرية الفرسخان والثلاثة ، قال : « كلّ منزل من منازلك لا تستوطنه فعليك فيه التقصير » (٤).

والثالثة : الرجل يتّخذ المنزل فيمرّ به أيتمّ أم يقصّر؟ فقال : « كلّ منزل لا تستوطنه فليس لك بمنزل ، فليس لك أن تتمّ فيه » (٥).

وصحيحة سعد : عن الدار تكون للرجل بمصر أو الضيعة فيمرّ بها ، قال : « إن كان ممّا سكنه أتمّ الصلاة فيه ، وإن كان ممّا لم يسكنه فليقصّر » (٦).

وصحيحة الحلبي : في الرجل يسافر فيمرّ بالمنزل [ له ] في الطريق ، يتمّ الصلاة أم يقصّر؟ قال : « يقصّر ، إنّما هو المنزل الذي توطّنه » (٧).

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢١١ ـ ٥١٣ ، الاستبصار ١ : ٢٢٩ ـ ٨١٥ ، الوسائل ٨ : ٤٩٩ أبواب صلاة المسافر ب ١٥ ح ٦.

(٢) التهذيب ٣ : ٢١٣ ـ ملحقة بحديث ٥٢٠ ، الوسائل ٨ : ٤٩٤ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ذ ح ١١.

(٣) التهذيب ٣ : ٢١٢ ـ ٥١٦ ، الوسائل ٨ : ٤٩٣ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ٧.

(٤) التهذيب ٣ : ٢١٣ ـ ٥١٩ ، الاستبصار ١ : ٢٣٠ ـ ٨٢٠. الوسائل ٨ : ٤٩٤ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ١٠.

(٥) التهذيب ٣ : ٢١٢ ـ ٥١٥ ، الاستبصار ١ : ٢٣٠ ـ ٨١٧ ، الوسائل ٨ : ٤٩٣ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ٦.

(٦) التهذيب ٣ : ٢١٢ ـ ٥١٨ ، الاستبصار ١ : ٢٣٠ ـ ٨١٩ ، الوسائل ٨ : ٤٩٤ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ٩.

(٧) التهذيب ٣ : ٢١٢ ـ ٥١٧ ، الاستبصار ١ : ٢٣٠ ـ ٨١٨ ، الوسائل ٨ : ٤٩٣ أبواب صلاة المسافر

٢٣١

وصحيحة ابن بزيع : عن الرجل يقصّر في ضيعته ، قال : « لا بأس ما لم ينو مقام عشرة أيّام إلاّ أن يكون له فيها منزل يستوطنه » فقلت : وما الاستيطان؟ فقال : « أن يكون له فيها منزل يقيم فيه ستة أشهر ، فإذا كان كذلك يتمّ فيها متى يدخلها » (١).

وهذه الأخبار أكثر من الأولى. وطائفة منها تعارضها بالتباين كالروايتين الأوليين والمرسلة الأخيرة. وأكثرها أخصّ منها مطلقا من جهة اشتراط الاستيطان والسكنى. مضافا في صحيحتي الحلبي وابن بزيع من جهة اشتراط المنزل أيضا.

هذا إذا حمل مطلق المنزل على المملوك ، وإلاّ فيكون التعارض مع الصحيحتين بالعموم من وجه ، ومع البواقي ـ كما مرّ ـ بالعموم المطلق ، فيجب تخصيص الأخبار الأولى بما نوى فيه العشرة ، كما هو مقتضى الروايات الثلاث المعارضة للأولى ، وبما فيه منزل يستوطنه ، كما هو مقتضى البواقي ، سيّما مع ندرة القائل بمضمونها وموافقته لمذهب جمع من العامة.

ومنه يظهر سقوط ذلك القول جدّا.

دليل القول الثاني على اعتبار الملك : صحيحة الهاشمي ، ومفهوم رواية البزنطي.

وعلى كفاية مطلقه من غير حاجة إلى المنزل : جميع الروايات الأربع الاولى ، وصحيحة سعد المكتفية بالضيعة والسكنى فيها.

وعلى اعتبار الاستيطان : الصحاح الستّ الأخيرة.

وعلى اعتبار ستّة أشهر : اعتبارها في تحقّق الاستيطان شرعا ، للصحيحة الأخيرة.

أقول : ما استدلّوا به للجزء الأول وإن لم تعارضه الروايات التسع الأخيرة ،

__________________

ب ١٤ ح ٨ ، وما بين المعقوفين من المصادر.

(١) الفقيه ١ : ٢٨٨ ـ ١٣١٠ ، التهذيب ٣ : ٢١٣ ـ ٥٢٠ ، الاستبصار ١ : ٢٣١ ـ ٨٢١ ، الوسائل ٨ : ٤٩٤ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ١١.

٢٣٢

إذ لا تدلّ الأربع الأولى منها إلاّ على عدم كفاية مطلق الملك وهو لا ينافي اعتباره ، وكذا السابعة.

وأمّا الخامسة فهي أيضا كذلك ، إلاّ أن يعتبر مفهوم الوصف في قوله : « كلّ منزل من منازلك لا تستوطنه » وجعل المنزل أعمّ من المملوك وغيره ، والأول ممنوع ، والثاني محلّ خدشة وكلام.

والمستفاد من قوله : « فليس لك أن تتمّ فيه » تفريعا على قوله : « فليس لك بمنزل » في السادسة انتفاء الإتمام بانتفاء المنزل ، لا وجوده مع وجوده مطلقا حتّى إذا لم يكن المنزل مملوكا ، فلا ينافي اعتبار الملك أيضا.

وأمّا الثامنة فإنّما تفيد عدم اعتبار الملك إذا جعل المنزل أعمّ من المملوك ، وجعلنا مرجع ضمير « هو » ما يتمّ الصلاة فيه. والأول قد عرفت أنه محلّ كلام ، والثاني ممنوع ، لاحتمال أن يكون المرجع ما يتوقف عليه الإتمام ، فيدلّ على اشتراط منزل وهو لا ينافي اشتراط الملك أيضا.

مع أنّ فيها احتمالا آخر بعيدا ، لجواز أن يكون المرجع المنزل الّذي في الطريق ، فيكون المعنى : قال : يقصّر في ذلك المنزل ، لأنّه المنزل الّذي يسكنه ، لا الّذي يتمّ فيه الصلاة.

وأمّا التاسعة فموضوعها ما فيه الملك ، حيث إنّ السؤال فيها عن الضيعة ، وقيّدها في الجواب أيضا بقوله « فيها » أي في الضيعة في موضعين.

ولا يضرّه أيضا ما قيل من أنّ المذكور في الصحيحة والرواية « أرضك » و « ضيعته » ويكفي في تحقّق الإضافة مطلق الانتساب والاختصاص ولو بالاستئجار أو الاستيعار أو الاستيداع ، فلا يفيدان اعتبار الملكية.

لأنّا نقول : إنّ المتبادر من أرض الشخص وضيعته وقريته ما يكون ملكا له ، ولا يصحّ السلب عن المملوك ، وهما أمارتان للحقيقة. ولا يتبادر غيره من الأرض المستأجرة ونحوها ، ويصحّ السلب عنها ، وهما أمارتان للمجاز ، ويجب حمل اللفظ على حقيقته.

٢٣٣

ولا ما قيل من أنّ ما فسّره اللغويون به الوطن لا يتضمّن الملك أصلا ، ولا يعتبره أهل العرف أيضا (١).

لأنّا نقول : ليس المراد اعتباره في معنى الوطن عرفا أو لغة بل ولا شرعا بل نقول : إنّ المستفاد من الأخبار اعتبار الملك في إتمام الصلاة وإن اعتبر غيره فيه أيضا.

إلاّ أنّه تعارضه الأخبار المستفيضة من الصحاح وغير الصحاح الآتية ، المصرّحة بوجوب الإتمام في الدار والبيت والمنزل والأهل وأنّ أهل كلّ بلد يتمّون فيه ، بالعموم من وجه ، والترجيح للأخبار الآتية من جهة الأكثريّة والمخالفة للعامّة ، لأنّهم يقولون بالإتمام في الملك دون غيره فعندهم يشترط الملك ، والموافقة لمفهوم قوله سبحانه ( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ ) (٢) إذ من يدخل وطنه العرفي الّذي لا ملك له فيه ليس على سفر.

هذا كلّه مع أنّ قوله « وإن كنت في غير أرضك » في الصحيحة لا يمكن إبقاؤه على حقيقته ، وإلاّ لوجب كونه في نفس الموضع المملوك دون غيره كالمسجد ، وهو باطل إجماعا غير مراد قطعا ، فلا بدّ من تجوّز إمّا في الكون في الأرض بأن يراد القرب منها ، أو الكون في حواليها ونحوهما ، أو في لفظ « أرضك » بأن يراد ماله علاقة فيها من نحو ملك أو توطّن أو منزل ، كما يقال : أرض العدوّ وأرض الحبيب ، ولم يتعيّن المجاز ، فلا يمكن الاستناد إليه في الاشتراط.

ومنه يظهر ما في الاستناد إلى مفهوم رواية البزنطي أيضا ، مع أنّ اعتبار مفهومها أيضا محلّ نظر ، إذ ليس من المفاهيم المعتبرة.

ومنه يظهر سقوط الجزء الأوّل من ذلك القول وعدم اشتراط الملك أصلا.

وأمّا ما استدلّوا به للجزء الثاني فيرد عليه : أنّه تعارضه صحيحة ابن بزيع المشترطة للمنزل ، بل صحيحة الحلبي الدالّة على اشتراطه ، بالخصوص المطلق ،

__________________

(١) شرح المفاتيح للوحيد البهبهاني ( المخطوط ).

(٢) البقرة : ١٨٥.

٢٣٤

فيجب تخصيصه بهما قطعا. بل يعارضه كلّ ما دلّ على اشتراط الاستيطان والأهل ، لعدم انفكاك صدقهما عن وجود المنزل ، سواء أريد الوطن العرفي أو الشرعي. بل وكذلك الّتي اشترطها في صحيحة سعد. فهي أيضا من أدلّة المخالفين في ذلك الجزء.

ومنه يظهر سقوط ذلك الجزء أيضا وأنّه لا مناص عن اعتبار المنزل أيضا.

وأمّا ما استدلّوا به على الجزء الثالث من اعتبار الاستيطان فهو كذلك ، لدلالة أكثر الأخبار المذكورة عليه.

وأمّا ما استدلّوا به على الجزء الرابع ، وهو كفاية استيطان ستّة أشهر واحدة ولو ماضية في سوالف الأيام وتحقّق الاستيطان به ، فيتمّ الصلاة مع تحقّق ذلك ولو ترك المنزل والاستيطان فيه حينئذ للصحيحة الأخيرة ، فيرد عليه : أنّ قوله « أن يكون له فيها منزل يقيم فيه ستّة أشهر » ليس باقيا على معناه الحقيقي الاستقبالي مجرّدا ، لعدم العلم بالمستقبل ، إلاّ أن يضمّ معه القصد والعزم ، فيكون إمّا بمعنى أقام ، أو يعزم ويريد أن يقيم.

فهو على ذلك يحتمل معنيين :

الأول : أن يكون المعنى : منزل أقام فيه ستّة أشهر.

والثاني : أن يكون المعنى : يعزم على إقامة ستّة أشهر.

وكلّ من المعنيين ممّا يصلح إرادته منه ، بل الثاني أوفق بقوله « يستوطنه » المتبادر منه الفعلية ، أي فعلية القصد وإن لم تكن الإقامة فعلية حتّى يلائم قوله « ما لم ينو .. ».

وليس الثاني مخالفا للإجماع ، لاحتمال كونه مراد أرباب القولين الرابع والخامس ، وإن كان حمله على المعنى الاستقبالي مطلقا من غير تفسيره بالعزم أي عزمه بأن يقيم في الزمان المستقبل ولو في برهة من الأزمنة الآتية ـ كما قيل ـ مخالفا له.

وعلى هذا فتكون الصحيحة مجملة غير صريحة في كفاية الماضي.

٢٣٥

وقد يقال بدلالة قوله « توطّنه » و « سكنه » في الصحيحة بضميمة هذه الصحيحة عليه.

أو يقال : دلّتا على كفاية التوطّن والسكنى الماضيين مطلقا ، خرج ما دون ستّة أشهر بالإجماع ، فيبقى الباقي.

ويرد على الأول : أنّ لفظ « توطّنه » يمكن أن يكون بصيغة المضارع من باب التفعل محذوفة منها إحدى التاءين ، أو من باب التفعيل من دون حذف.

وعلى الثاني : أنه ليس المراد بقوله : « سكنه » معناه اللغوي قطعا ، ومجازه يمكن أن يكون جعله مسكنا عرفا أو وطنه أو نحو ذلك ، فلا يفيد شيئا.

وتوهّم استدلالهم في كفاية الماضي بعدم اشتراط مبدأ الاشتقاق في صدق المشتق ونحوه خطأ ، إذ الخلاف في المشتقات ليس في صيغ الماضي والمضارع ، والألفاظ الدالّة على اشتراط الوطن هنا منهما ، ولم يذكر الوطن إلاّ في لفظ بعض السائلين فيما لا يترتّب عليه حكم.

ومن ذلك يظهر سقوط هذا القول كسابقه أيضا.

دليل الثالث أمّا على لزوم المنزل : فدلالة الأخبار عليه ، واشتراط صدق الاستيطان به.

وأمّا على لزوم الاستيطان وتحقّقه بستّة أشهر فما مرّ.

والجزء الأوّل تامّ لا بحث عليه ، وكذا اشتراط الاستيطان.

وأمّا الاكتفاء بستّة أشهر ولو ماضية فقد عرفت ما فيه.

حجة الرابع أمّا على اعتبار المنزل والاستيطان ستّة أشهر فما مرّ.

وأمّا على اعتباره في السنة ، فإن أريد به اشتراط كون الستّة في سنة ، ولا تفيد الستّة المتفرقة في السنين المتعدّدة بأن يقيم في كلّ سنة شهرا أو أقلّ ، وكان مرادهم ستّة أشهر في سنة ولو من السنين الماضية ، فدليلهم على اعتبار كونها في السنة : أنّ المتعارف في ذكر الشهور كونها منسوبة إلى السنين ، فيقال : إنّه أقام شهرا أي من السنة. وعلى كفاية الماضي : ما مرّ.

٢٣٦

وإن أريد إقامة ستّة أشهر من كلّ سنة فدليلهم : ورود اعتباره بصيغة المضارع المفيدة للتجدّد الاستمراري ، فلا بدّ من استمرارها في كلّ سنة.

فإن كان مرادهم الأول ، فاكتفاؤهم بالسنة الماضية وإن كان مردودا بما مرّ ، ولكن اشتراطهم كون الستّة في السنة صحيح ، بل الظاهر اعتبار كونها فيما دون السنة أيضا ، إذ الستّة أشهر وإن صدقت على المتحققة في السنة أو الأكثر إلاّ أنّ الظاهر من استيطان ستّة أشهر وسكون ستّة أشهر ونحوهما كونها متوالية ، ولذا لو قال أحد : كنت ستّة أشهر في البلد الفلاني ، وأقمت فيه كذا ، تتبادر منه المتوالية.

وإن كان مرادهم الثاني ، ففيه أولا : أنّ تقييد التجدّد بكلّ سنة أي بتجدّد إقامة ستّة أشهر في كلّ سنة تقييد بلا دليل ، وإرادة تجدّد إقامة كلّ ستّة أشهر تفيد دوام الإقامة ، ولا يقول به أحد.

وثانيا : أنّه إن أريد من التجدّد الاستمراري تجدّدها مستمرّا دائما ، فدلالة المضارع عليه غير مسلّمة ، وإن أريد حصوله كذلك متكررا عرفا ، فهو مسلّم ولكنّه غير التكرر كلّ سنة.

وثالثا : أنّ المسلّم لزوم تكرّر المبدأ خاصّة دون متعلّقه ، ولذا لو قال أحد : فلان يكرم العلماء ، يستفاد منه تكرّر الإكرام ولو بواسطة تعدّد العلماء ، لا تكرّر إكرام العلماء حتّى يلزم إكرام كلّ عالم متكرّرا ، فاللازم هنا تكرّر الإقامة ولو بتوسّط تعدّد أيّام ستّة أشهر أو شهورها ، ولا يلزم تكرّر إقامة ستّة أشهر.

ورابعا : يمنع كون مطلق صيغة المضارع مفيدا للتجدّد الاستمراري ، ولذا لو قال أحد : إذا جاءك من يبيع حنطة فاشتر منه ، يجب الاشتراء إذا تراه يبيع ولو مرّة ، وهو أمر يختلف باختلاف القرائن والموارد.

والتحقيق أنّه استعمل في المعنيين ، وكونه حقيقة في التجدّد الاستمراري غير مسلّم جدّا.

حجة الخامس والسادس على اعتبار المنزل : ما تقدّم ذكره.

وعلى اعتبار الاستيطان بمعنى أن يقيم فيه ستّة أشهر أي يعزم على ذلك‌

٢٣٧

صحيحة ابن بزيع بأحد معنييها ، إن كان مرادهم من الاستيطان ذلك ، وسائر الأخبار المتقدّمة المتضمّنة للاستيطان ، وما يأتي من الأخبار الدالّة على الإتمام في الأهل مع ضميمة رفع اليد عن الصحيحة لإجمالها ، أو حملها على ما لا ينافي ذلك ، إن كان مرادهم بالاستيطان العرفي.

وهو كان صحيحا لو لا إيجابه لطرح الصحيحة رأسا أو حملها على ما يوجب إخراجها عن ظاهرها.

حجة السابع : ما مرّ من الأخبار المتضمّنة للاستيطان ، المحمولة على المعنى العرفي بعد عدم ثبوت معنى له شرعا أمّا لإجمال الصحيحة أو حملها على ما لا ينافيه ، والأخبار الدالة على إتمام أهل كلّ بلد فيه أو في الأهل ، كصحيحة زرارة : « من قدم قبل يوم التروية بعشرة أيّام وجب عليه إتمام الصلاة ، وهو بمنزلة أهل مكة » (١).

وموثّقة إسحاق : عن أهل مكة إذا زاروا عليهم إتمام الصلاة؟ قال : « نعم » (٢).

واخرى فيها : « بل يكون مقصرا حتى يدخل أهله » (٣).

وصحيحة إسماعيل بن جابر : يدخل عليّ وقت الصلاة وأنا في السفر فلا أصلّي حتّى أدخل أهلي ، فقال : « صلّ وأتمّ الصلاة » (٤) الحديث.

ومعنى أهل بلد : المتوطّن فيه ، كما أنّ الظاهر من أهله : وطنه الذي فيه أهله.

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٤٨٨ ـ ١٧٤٢ ، الوسائل ٨ : ٤٦٤ أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ٣.

(٢) التهذيب ٥ : ٤٨٧ ـ ١٧٤١ ، الوسائل ٨ : ٤٧٢ أبواب صلاة المسافر ب ٦ ح ٦.

(٣) الكافي ٣ : ٤٣٤ الصلاة ب ٨٣ ح ٥ ، الفقيه ١ : ٢٨٤ ـ ١٢٩١ ، التهذيب ٣ : ٢٢٢ ـ ٥٥٥ ، الاستبصار ١ : ٢٤٢ ـ ٨٦٣ ، الوسائل ٨ : ٤٧٤ أبواب صلاة المسافر ب ٧ ح ٣.

(٤) الفقيه ١ : ٢٨٣ ـ ١٢٨٨ ، التهذيب ٣ : ١٦٣ ـ ٣٥٣ ، ٣ : ٢٢٢ ـ ٥٥٨ ، الاستبصار ١ : ٢٤٠ ـ ٨٥٦ ، الوسائل ٨ : ٥١٣ أبواب صلاة المسافر ب ٢١ ح ٣.

٢٣٨

أقول : هذا القول كان حسنا لو لا ما ذكر من رفع اليد عن الحسنة (١) ، أو حملها على خلاف ظاهرها.

حجة الثامن أمّا على اعتبار الوطن العرفي وكفايته : فهذه الأخبار الأخيرة.

وأمّا على اعتبار الوطن الشرعي وهو ما أقام فيه ستّة أشهر : فالصحيحة المذكورة مع عدم تعارض بينهما كما يأتي.

وهو كان حسنا لو لا احتمال الصحيحة للمعنى الثاني المتقدّم.

ومن هذا ظهر أدلّة جميع الأقوال وما يرد عليها.

ثمَّ أقول لتحقيق الحال وبيان الحقّ من الأقوال :

إنّه قد ظهر لك مما مرّ ذكره بطلان كفاية الملك أو اشتراطه ، وكذا ظهر عدم وضوح دليل على الاكتفاء بإقامة ستّة أشهر ماضية مطلقا ، أو في السنة ، أو اشتراط استيطانها في كلّ سنة مع الملك أو المنزل.

ومنه ظهر سقوط جميع الأقوال الأربعة الاولى ، بل الخامس والسادس على إرادتهما إقامة ستّة أشهر ولو فعلا بمعنى قصدها والعزم عليها.

وأمّا إن أرادا الاستيطان العرفي فقد عرفت دلالة أخبار الأهل على كفايته ، بل سائر أخبار الاستيطان لو لا الصحيحة ، فلا مناص عن القول بكفايته ، فهما يتمّان من هذه الجهة ، إلاّ أنّ عدم اعتبار غيره وعدم كفايته محلّ نظر ، لأنّ الصحيحة وإن كانت مجملة باعتبار احتمال المعنيين ، ولكنّه لا إجمال فيها من جهة القدر المتيقّن منهما وهو المعنيان معا ، فإنّه تثبت منهما كفاية إقامة ستّة أشهر في الزمان الماضي ، وقصدها والعزم عليه في المستقبل ، سواء صدق معه التوطّن العرفي أم لا ، فتركها وعدم اعتبارها أصلا ممّا لا وجه له.

ومنه يظهر سقوط هذين القولين على ذلك المعنى ، وكذا القول السابع من جهة عدم اعتبار الاستيطان بهذا المعنى أي المعنى الشرعي ، وإن كانت الثلاثة صحيحة باعتبار الاكتفاء بالوطن العرفي.

__________________

(١) كذا في النسخ الأربع ، والظاهر أن الصحيح : الصحيحة ، وهي صحيحة ابن بزيع المذكورة آنفا.

٢٣٩

فبقي القول الثامن المعتبر للوطنين العرفي والشرعي ، وهو الحقّ المطابق للجمع بين الأخبار ، إلاّ أنّ في تفسيره الوطن الشرعي بما أقام فيه ستّة أشهر ولو ماضية ما عرفت من عدم صراحة الصحيحة فيها ، وأنّ القدر الثابت منها تحقّق الاستيطان الشرعي بتحقّق المعنيين جميعا بأن أقام ستّة أشهر في الزمان المتقدّم على حال الصلاة ، والعزم على إقامتها بعد حال الصلاة أيضا متّصلة بها ، أو غير متّصلة بشرط تحقّق العزم في الحال.

فالحقّ أن يقال بكفاية أحد الأمرين في انقطاع السفر :

أوّلهما : ما كان أهلا ووطنا عرفا ، والمراد بالوطن العرفي مكان اتّخذه مسكنا ، وهو يحصل بقطع العلاقة عن غير ذلك المكان وإرادة الاستقرار والاستمرار والكون في ذلك المكان ، والشروع في الاستقرار والتمكن وإن لم يستمرّ بعد إلاّ زمان قليل ، بل لا يشترط قطع العلاقة الكليّة عن الغير أيضا.

واعتبار ذلك المعنى ليس لأخبار الاستيطان المتقدّمة ، لاحتمال إرادة الاستيطان الشرعي منها بل هو الظاهر ، بل لأخبار الأهل الأخيرة ، فإنّ كلّ ما كان وطنا ومسكنا عرفا ويعدّ وطن شخص ، يصدق على هذا الشخص أنّه أهله وأنّه دخل على أهله.

والثاني : ما كان وطنا شرعيا ، والقدر المتيقّن منه ما تحقّق معه إقامة الستّة أشهر الماضية والعزم على إقامتها في الآتية ، فيكفي كلّ من هذين المعنيين.

ولا تعارض بين أخبار الأهل والصحيحة ، لعدم المنافاة والتعارض بين كفاية كلّ من الأمرين.

ولا يتوهّم معارضة مفهوم الحصر في الصحيحة مع أحاديث الأهل ، حتّى يدلّ على أنّه لا يقصّر فيما لم يكن له فيه منزل يقيم فيه ستّة أشهر وإن كان وطنا عرفا.

ومعارضة مفهوم الغاية في موثّقة إسحاق الثانية من أخبار الأهل مع الصحيحة ، لدلالته على أنّه ما لم يدخل أهله يقصّر وإن دخل الوطن الشرعي.

٢٤٠