مستند الشّيعة - ج ٨

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ٨

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-83-3
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٣٤٨

التقصير أو وجوبه في الثمانية ، والقسم الأول من أخبار الأربعة الدالّ على الجواز فيها ، على ظواهرها ، لعدم المنافاة : إمّا حمل ما أمر بالإتمام فيما دون الثمانية ، وهي الأخبار الثلاثة المتقدّمة أعني موثّقة الساباطي ، ومرسلة ابن بكير ، ورواية البجلي (١) ، وما أمر بالتقصير في الأربعة ، وهي الخمسة المذكورة ، على الجواز جمعا ، لصلاحيّة كلّ منهما قرينة لذلك الحمل في الآخر.

أو جعل هذين الصنفين متعارضين خاليين عن المرجّح ، فيجب المصير إلى التخيير ، لذلك.

مضافا إلى الرضوي المتقدّم في المسألة الرابعة (٢).

أقول : يرد على وجه استدلالهم الأول : أنّ الجمع الّذي ذكروه إنّما يحسن مع وجود الشاهد عليه ، ولا شاهد. وصلاحيّة كلّ منهما قرينة لحمل الآخر على الجواز ممنوع. نعم ، يصلح تجويز الترك قرينة لحمل الدالّ على الوجوب على الاستحباب ، وتجويز الفعل قرينة لحمل الدالّ على الحرمة على الكراهة ، وأمّا تحتم الطرفين فليس بينهما إلاّ التعارض.

وعلى وجه استدلالهم الثاني أولا : أنّ الرجوع إلى التخيير عند التعارض إنّما هو إذا كان بالتباين أو العموم من وجه ، وأمّا إذا كان بالعموم المطلق ، فيجب حمل العامّ على الخاصّ قطعا. وما نحن فيه كذلك ، لأنّ موثّقة الساباطي من الأخبار الثلاثة عامّة بالنسبة إلى قصد المسافة وعدمه ، وأكثر الأخبار الخمسة خاصّة من هذه الجهة سيّما رواية صفوان ، ولا جهة خصوصيّة أخرى للموثقة بالنسبة إليها. ومرسلة ابن بكير أعمّ مطلقا من جميع الخمسة من جهة شمولها لما دون الأربعة أيضا. مضافا إلى إمكان الخدش في صراحتها في الوجوب ، ورواية البجلي عامّة من جهة كون الضيعة وطنا للراوي ، وكثير من الأخبار الخمسة خاصّة من‌

__________________

(١) راجع ص ١٧٨ ، و ١٨٠ ، و ١٩٦.

(٢) راجع ص ١٩١.

٢٠١

الجهتين ، وكذا قوله في معتبرة الفضل : ولا يجب في أقلّ من ذلك (١) ، فإنّه أعمّ مما دون الأربعة أيضا.

وثانيا : أنّا سلّمنا التعارض ، ولكن الترجيح مع أخبار الأربعة الخمسة ، لموافقتها لعموم الكتاب (٢) ، فإنّ مقتضاه نفي الجناح عن التقصير فيما يصدق عليه الضرب في الأرض مطلقا ، والمورد منه ، وأخبار التمام يوجب الجناح فيه ، ومخالفتها للعامّة ، لأنّ غير شاذّ منهم يوجبون التمام في المورد (٣).

وعلى وجه استدلالهم الثالث وهو الرضوي : بضعفة المانع عن حجيّته.

دليل القولين الآخرين ـ وهما التفصيل في تحتم القصر أو التخيير ، بين ما إذا تخلّل القاطع وبين ما إذا لم يتخلّل ـ وجوه :

أحدها : انصراف إطلاق ما دلّ على التقصير في الأربعة نصّا وفتوى إلى مريد الرجوع قبل القاطع ، لأنّه الغالب.

وتؤيّده موثّقة محمد المتقدّمة (٤) ، حيث إنّ فيها ـ بعد الحكم بالتقصير في بريد بقول مطلق ، وتعجّب الراوي عنه ـ علّل الحكم بأنّه إذا رجع شغل يومه ، وهو ظاهر في أنّ الأربعة حيث تطلق يراد بها ما يتعقّبه الرجوع. ونحوها الأخبار الأخرى الدالّة على اعتبار الإياب بنحو قوله : « ذاهبا وجائيا » ومثل ذلك.

وثانيها : أنّ مع عدم الرجوع يكون ذلك سفرين ، كلّ منهما أربعة فراسخ ، لا سفر واحد ، فالتقصير في كلّ منهما يوجب طرح أخبار الثمانية. بل المتبادر من الثمانية لو لم يكن الذهابية فقط فلا شك في لزوم كونها في سفر واحد ، غير متخلّل في أثنائه القاطع.

__________________

(١) راجع ص ١٧٧ ، وعبارة الرواية : « وإنما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقل من ذلك ولا أكثر ».

(٢) ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) .. النساء ١٠١.

(٣) بداية المجتهد ١ : ١٦٨.

(٤) في ص ١٩١.

٢٠٢

وتنافيه التعليلات الناصّة للتقصير في الأربعة بأنّها تصير مع الرجوع ثمانية ، سيّما قوله في رواية العلل : « وأرادوا أن ينصرفوا » (١).

وثالثها : الرضوي ، حيث قال ـ بعد الحكم بوجوب التقصير في الأربعة مع إرادة الرجوع ليومه كما مر ـ : « وإن عزمت على المقام ، وكان سفرك بريدا واحدا ، ثمَّ تجدّد لك فيه الرجوع من يومك ، فلا تقصّر » (٢).

هذا ، مع أنّ كثيرا من الأخبار التامّة الدلالة على وجوب التقصير في الأربعة ، أو المستدلّ به له ، غير شاملة أو غير ظاهرة الشمول لما إذا تخلّل القاطع.

كما دلّ على وجوب تقصير الحاجّ أو أهل مكة في عرفة ، لعدم وقوفهم فيها عشرة قطعية ، أو ثلاثين متردّدة ، إلاّ نادرا لا يحمل الكلام عليه.

وكرواية إسحاق بن عمار الأخيرة ، لندرة انتظارهم الرجل المذكور متردّدين بأزيد من ثلاثين يوما ، بل استبعاده ، بل القطع عادة بخلافه ، بل المتيقّن إمّا مجيئه أو يأسهم عن مجيئه قبلها.

وكرواية العلل المتضمّنة لإرادة الانصراف ، ورواية صفوان المشتملة على قوله « ذاهبا وجائيا » وصحيحة أبي ولاّد المصرّحة بإرادة الرجوع من الطريق.

أقول : يمكن القدح في بعض هذه الوجوه ، كمنع الانصراف والغلبة المذكورتين ، ومنع إشعار الموثّقة ، وكمنع تعدّد السفر بتخلّل القاطع مطلقا ، فإنّه لا وجه لتعدّد السفر عرفا بتخلّل العشرة مع نيّة الإقامة دون العشرين بدون النية ، أو التسعة مع النية أيضا ، وتضعيف الرضوي بعدم ثبوته ، مع أنّ في صحيحة عمران دلالة على التقصير في الأربعة مع تخلّل القاطع (٣).

ثمَّ أقول : إنّ بما ذكرنا ظهرت أدلّة جميع الأقوال الخمسة ، وما يرد على كلّ‌

__________________

(١) راجع ص ١٨٨.

(٢) فقه الرضا عليه‌السلام : ١٥٩ ، مستدرك الوسائل ٦ : ٥٢٨ أبواب صلاة المسافر ٢ : ح ١ ، وفيه صدر الحديث.

(٣) راجع ص ١٩٩.

٢٠٣

منها ، فيلزم علينا الآن المحاكمة بينها وترجيح الراجح منها.

فنقول : قد عرفت أنّ ما يدلّ على تحتّم الإتمام فيما دون الثمانية الممتدّة دلالة تامة ينحصر في أخبار ثلاثة معارضة مع جميع أخبار القسمين من أخبار الأربعة ، وهي راجحة بالأشهرية رواية جدّا ، والأصحية سندا ، فيجب ترجيحها ، مضافا إلى ما عرفت من أعمّية الثلاثة مطلقا عن كثير من أخبار الأربعة ، فيجب تخصيصها بها بالحمل على غير قاصد المسافة أو الأربعة ، أو المتخلّل له دخول الوطن ، ومع ذلك يصرّح الرضوي المنجبر بخلافها. ولو قطع النظر عن جميع ذلك فبعد حصول التعارض يجب الرجوع إلى التخيير.

ومنه يظهر ضعف القول بالتمام وجوبا جدّا ، وكذا القول بتحتّم القصر مطلقا ، لما عرفت من أنّ ما تتمّ دلالته عليه منحصر في روايات خمس ، وروايتا صفوان والعلل. وموثّقة ابن عمار ـ كما عرفت ـ غير شاملة لما لم يتخلّل القاطع ، أو غير ظاهرة فيه.

فلم يبق إلاّ عموم موثّقة ابن بكير ، وخصوص صحيحة عمران ، ولكنّهما غير صالحتين لإثبات الوجوب ، لشذوذه جدا ، فإنّه لم ينقل قائل به من القدماء والمتأخّرين مطلقا ، ولا معروف من متأخّري المتأخّرين ، وإنّما نسبه بعض مشايخنا إلى واحد منهم ، وأمّا نسبته إلى الكليني فغير واضحة ، بل نسب إليه القول المشهور كما مرّ (١) ، فالخبر الدالّ عليه شاذّ نادر ، بل للإجماع البتّة مخالف.

ومع هذا كلّه لا دلالة في الصحيحة على كون الأمر بالإتمام في الضيعة لأجل تخلّل القاطع ، فلعله لأجل التقيّة ، حيث كان في الضيعة من المخالفين جماعة ، بخلاف الطريق.

فلم يبق إلاّ عموم الموثّقة المعارضة بالرضوي المذكور ، المخصوص ، النافي لوجوب التقصير مع عزم المقام ، المنجبر بالشهرة القديمة والجديدة العظيمة بل الإجماع ، فتخصيصها به لازم ، ورفع اليد عن ذلك القول أيضا متحتّم ، فبقيت‌

__________________

(١) راجع ص ١٩٤.

٢٠٤

ثلاثة أخرى.

وقد عرفت ضعف ما استدلّوا به للتخيير بعد معارضته لأخبار التحتّم ، وقوة أخبار التحتم ، فلو خلّيا وأنفسهما لكان الترجيح للأخير ، وكان جدّا قويا ، إلاّ أنّ القول بالتخيير يتقوّى بالرضوي المتقدّم في المسألة الرابعة المصرّح بالخيار (١) ، وهو وإن كان ضعيفا بنفسه ، إلاّ أنه منجبر بفتوى جماعة من فحول القدماء كالصدوقين والشيخين وأتباعهما (٢) ، بل بالشهرة القديمة ، كما صرّح به بعض مشايخنا (٣) ، بل بنقل الإجماع عن أمالي الصدوق عليه (٤) ، بل به تشعر عبارة التهذيب حيث قال : على أنّ الّذي نقوله في ذلك : إنّما يجب التقصير إذا كان مقدار المسافة ثمانية فراسخ ، وإذا كان أربعة فراسخ كان بالخيار (٥).

والقول بالتحتّم يوهن بندور القول به وشذوذه ، كما صرّح به جماعة (٦) ، ولم ينقل القول به عن الطبقتين الاولى والثانية إلاّ عن العماني (٧) ، وإنّما هو شي‌ء ذهب إليه طائفة ممن يقاربنا عهده (٨) ، ونفى المحقق الأردبيلي القول بتحتّم القصر فيما دون الثمانية لغير مريد الرجوع في يومه (٩) ، بل في السرائر : الإجماع على جواز التمام ، ونفي الخلاف عن حصول البراءة به (١٠) ، وهو المستفاد من المختلف أيضا (١١) ، وعن شيخنا الشهيد الثاني في رسالته : بطلان لزوم القصر في الأربعة‌

__________________

(١) راجع ص ١٩١.

(٢) راجع ص ١٩٤.

(٣) انظر الرياض ١ : ٢٥٧.

(٤) أمالي الصدوق : ٥١٤.

(٥) التهذيب ٢ : ٢٠٧.

(٦) منهم صاحب الرياض ١ : ٢٥٧ ، وانظر مفتاح الكرامة ٣ : ٥٠٣.

(٧) حكاه عنه في المختلف : ١٦٢.

(٨) راجع ص ١٩٤.

(٩) مجمع الفائدة والبرهان ٣ : ٣٦١.

(١٠) السرائر ١ : ١٣٠.

(١١) المختلف : ١٦٢.

٢٠٥

لغير مريد الرجوع في يومه إجماعا (١) ، وكذا صرّح بالإجماع على عدم تحتّم التقصير في الأربعة بعض الأجلة في شرح الروضة ، وصرّح بعض مشايخنا بإجماع من عدا العماني على عدم التحتم أولا ، وبالإجماع المطلق ثانيا (٢).

ولا شك أنّ بذلك يضعّف أخبار التحتّم جدّا ، فإنّ كلا من شهرة القدماء على خلاف خبر ، وشذوذ القول بمضمونه ممّا يخرجه عن الحجّية ، بل المخرج هنا حقيقة الإجماع ، إذ لو لم يثبت الإجماع هنا لم يثبت إجماع لم يقدح فيه مخالفة معروف النسب ولا الشاذّ.

وعلى هذا فيبقى القول بالتحتّم بلا دليل صالح للحجية ، مع أنّه على فرض وجوده يكون في إزائه الرضوي المذكور الّذي بما مرّ مجبور ، وهو مع أنّه كاف في نفسه لإثبات التخيير يصلح قرينة لحمل الأوامر فيها على الجواز ، سيّما مع ما في دلالة هذه الأوامر على الوجوب من الكلام ، من جهة كونها في مقام توهّم الحظر بل مسبوقيّتها به.

مضافا إلى ما عرفت من ظهور أخبار الثمانية والبريدين ونحوهما في الممتدّة ، وإلى عدم رجحان أخبار الأربعة عن الرضوي باعتبار موافقة الكتاب ، ولا مخالفة العامة ، لأنّ التخيير أيضا كذلك ، مع أنّ في رجحانها عن أخبار تحتّم الإتمام بالأول أيضا نظرا ، لأنّ الضرب في الأرض حقيقة في معنى لا يراد هنا قطعا ، ويمكن أن يكون مجازه السفر ، وصدقه على السير في الأربعة مطلقا محلّ نظر.

مع أنّ الرضوي أخصّ من الجميع باعتبار اختصاصه بغير مريد الرجوع ليومه ، فيجب التخصيص به. وهذا هو وجه ردّ الدليلين الأخيرين لضمّ الإياب مع الذهاب المشار إليه في المسألة الثانية (٣).

هذا كلّه مع دلالة جميع أخبار القسم الأول من أخبار الأربعة على جواز‌

__________________

(١) نتائج الأفكار ( رسائل الشهيد الثاني ) : ١٧٢.

(٢) انظر الرياض ١ : ٢٥٧.

(٣) راجع ص ١٨٧ ، و ١٨٨.

٢٠٦

القصر من غير ثبوت التحتّم منها (١) ، وهي مع كثرتها تشتمل على الصحاح ، ويدلّ عليه ما مرّ في المسألة الثالثة من ضمّ الإياب في الجواز (٢).

وعلى هذا فيكون الترجيح للتخيير البتة ، فعليه العمل ، وبه الفتوى ، وهو الأصحّ.

وهل هو ثابت على الإطلاق كما هو ظاهر أكثر القدماء ، أو مشروط بعدم تخلّل القاطع؟

الحق هو الأول ، لإطلاق أكثر أخبار القسم الأول من أخبار الأربعة ، وبعض أخبار القسم الثاني ، من غير معارض سوى الرضوي الدالّ على عدم التقصير مع العزم على المقام (٣). وهو ـ مع ضعفه الغير المجبور في المورد ـ لا يدلّ على حرمة القصر ، فلا ينافي المطلوب ، وإن نافى إطلاق تحتّم القصر ، وكان منجبرا فيه.

فروع :

أ : وإذا عرفت التخيير فيما دون الثمانية ، فهل يتساوى الأمران فيه ، أو الأفضل القصر ، أو الإتمام؟

الظاهر هو الثاني مع عدم تخلّل القاطع ، للأخبار الدالّة على تقصير الرسول في عرفة وذباب ، وعدم رضاء الولي فيها بالإتمام (٤) ، وظهور أخبار القسم الأول من أخبار الأربعة في الرجحان (٥) ، ولا ينافيه الخيار المثبت في الرضوي (٦). والثالث‌

__________________

(١) راجع ص ١٩٧.

(٢) راجع ص ١٩٠.

(٣) المتقدم في ص ٢٠٣.

(٤) انظر الوسائل ٨ : ٤٦١ أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ١٥ ، وص ٤٦٣ ب ٣ من تلك الأبواب ح ١ و ٥ و ٦.

(٥) راجع ص ١٩٧.

(٦) المتقدم في ص ١٩١.

٢٠٧

مع تخلّل القاطع ، للرضوي الذي هو أخصّ مما ذكر (١) ، وضعفه في مقام السنن غير ضائر.

ب : ذكر جماعة (٢) أنّ مبدأ تقدير المسافة من آخر خطّة البلد في جهة المسافة‌ في الصغير والمعتدل ، وآخر محلّته في المتّسع.

واستدل للأول بأنّه المتبادر من إطلاق النصّ والفتوى. وللثاني بعدم تبادره من الإطلاق ، فيرجع إلى المتبادر ، كما يرجع في إطلاق الوجه إلى مستوي الخلقة.

أقول : إنّ ما ورد من أنّ التقصير في بريد أو بريدين أو مسيرة يوم أو ثمانية فراسخ أو نحو ذلك ، يحتمل أن يكون المراد مبتدأ من البيت أو مبدأ السير أو آخر خطّة البلد ، وبالجملة في مبدإ المسافة إجمال.

فإن أراد المستدلّ أنّ المتبادر من ذلك الاستعمال إرادة آخر البلد مطلقا ، فلو سلّم فينبغي أن لا يتفاوت حكمه في المعتدل والمتّسع ، ولا بلد مذكورا حتّى يقال بانصراف إطلاقه إلى الشائع.

وإن أراد أنّ المتبادر منه إرادة ذلك في المعتدل خاصّة ، فهو ممنوع غايته.

نعم الحكم الذي ذكروه في المعتدل من اعتبار البلد موافق للأصل ، فيجب اتّباعه قطعا ، ولكنّه جار في المتّسع أيضا.

والتحقيق أن يقال : إنّ التقصير في كثير من الأخبار وإن كان معلّقا على البريد أو البريدين أو نحوهما مجملا ، إلاّ أنّه في بعض الروايات نحو صحيحة أبي ولاّد (٣) ، وموثّقة الساباطي (٤) ، ورواية العلل (٥) ، معلّق على السير ، ومعناه معلوم‌

__________________

(١) راجع ص ٢٠٣.

(٢) منهم الشهيد في الذكرى : ٢٥٧ ، وابن فهد في المهذب البارع ١ : ٤٨٢. والشهيد الثاني في الروض : ٢٨٣.

(٣) المتقدّمة في ص ١٩٩.

(٤) المتقدّمة في ص ١٧٨.

(٥) المتقدّمة في ص ١٨٨.

٢٠٨

لا إجمال فيه ، فاللازم منه اعتبار مبدأ السير ، كما ذهب إليه بعضهم ، وتحمل المجملات أيضا على المبيّن ، فهو المعتبر لا غير ، سيّما فيما إذا كان المسافر من أهل البوادي والخيام.

نعم قد ظهر لك في المسألة الاولى أنّ الفرسخ ونحوه أمر تقريبي ، سواء رجع فيه إلى العرف أو الأذرع ، ولا يتفاوت في صدقه ـ سيّما في صدق أربعة فراسخ أو الثمانية ـ اختلاف نحو ألف ذراع بل أكثر ، وعلى هذا فلا يختلف الحكم في البلاد الصغيرة أو المعتدلة ، سواء اعتبر المبدأ من البيت الّذي هو مبدأ السير ، أو البلد ، لصدق المسافة المعتبرة على التقديرين.

وهذا هو السرّ في شيوع اعتبار البلد وتبادره ، لا من جهة مدخليّة نفس آخره ، وهو السرّ فيما ورد في الأخبار المتقدّمة من نسبة المسافة إلى المدينة في صحيحة زرارة ومحمد (١) ، وإلى الكوفة وبغداد في روايات أخر ، فإنّ مسافة عشرين فرسخا أو بياض يوم لا تختلف في هذه البلاد باختلاف المبدأ لو اعتبر من آخر البلد أو الوسط ، ولذا لو علّق حكم على مسافة قليلة كألف ذراع لا يتبادر آخر البلد.

نعم قد يختلف إذا اتّسع البلد كثيرا ، وحينئذ فيكون المرجع هو مبدأ السير ، كما هو مقتضى الأخبار المثبتة.

فالتحقيق أن يقال : إنّ المعتبر مبدأ السير تقريبا مطلقا ، لكنّه لمّا كان لا يختلف الحكم باعتباره في البلاد المعتدلة يكفي اعتبار مبدأ البلد ، وأمّا في المتّسعة فلإمكان الاختلاف يناط حكمها بمبدإ السير.

ج : قال في الذكرى : لو قصد المسافة في زمان يخرج عن اسم المسافر ، كشهرين أو ثلاثة أشهر ، فالأقرب عدم القصر‌ لزوال التسمية. ومن هذا الباب ما لو قارب المسافر بلده ، فتعمّد ترك الدخول فيه للتقصير ، فلبث في قرى متقاربة‌

__________________

(١) المتقدّمة في ص ١٧٩.

٢٠٩

بحيث خرج بها عن اسم المسافر ، وظاهر [ النظر ] (١) يقتضي عدم الترخّص بحال (٢).

قال في المدارك بعد ذكر ذلك : ويمكن المناقشة في عدم الترخص في الصورة الثانية بأنّ السفر بعد استمراره ينقطع بأحد القواطع ، وبدونه يجب البقاء على حكم القصر. وأمّا ما ذكره من عدم الترخّص في الصورة الأولى فجيّد ، لأنّ القصر إنّما يثبت في السفر الجامع لشرائط القصر ، فمتى انتفى السفر أو بعض شرائطه قبل انتهاء السفر انتفى التقصير (٣). انتهى.

أقول : مبنى كلام الشهيد على اشتراط صدق المسافر في جواز تقصيره ، وعدم الصدق في الصورتين. ومبنى كلام صاحب المدارك على الشك في الصدق وعدمه في الصورتين ، فيجب استصحاب الحالة السابقة.

وقد يقال في تأييد كلام الشهيد قدس‌سره : إنّ تعلّق الحكم بالمسافر إنّما هو بالأفراد المتعارفة الشائعة ، ومثل ذلك ليس منها (٤).

ثمَّ أقول : مقتضى بعض الظواهر وإن كان اشتراط السفر ، كمفهوم قوله سبحانه ( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ ) (٥) ومفهوم ما في بعض الأخبار : « ومن سافر قصّر » وتعليق الأمر بالتمام على عدم كونه مسافرا في موثّقة الساباطي ، وقوله في رواية صفوان : « لأنّه لا يريد السفر ثمانية فراسخ » ورواية العلل (٦) ونحو ذلك ، إلاّ‌

__________________

(١) في النسخ : النصّ ، وما أثبتناه موافق للمصدر.

(٢) الذكرى : ٢٥٧.

(٣) المدارك ٤ : ٤٣٢.

(٤) انظر الحدائق ١١ : ٣٠٦.

(٥) الظاهر أنه سهو من قلمه الشريف ، لأن الآية المذكورة لم ترد في مسألة القصر ، بل وردت في مسألة الرهن ( البقرة : ٢٨٣ ) وفي مسألة التيمّم ( النساء : ٤٣ ، والمائدة : ٦ ). وكأنّ مراده (ره) قوله سبحانه ( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ ) البقرة : ١٨٥ ، الوارد في الصوم ، ويدلّ على جواز القصر أيضا كما ثبت في محله.

(٦) لا يخفى أنّه علّق الحكم فيها على السير لا على السفر ، فراجع ص ١٨٨.

٢١٠

أنّه علّق الحكم في بعض روايات أخر بالسير الذي هو أعمّ من صدق السفر.

ومنه ينقدح الإشكال في اشتراطه ، مع أنّه على فرض اشتراطه فانتفاء صدقه في الصورتين محل نظر ، فيحصل الشك في دخولهما تحت الحكم. ولكن ندرة هذين الفردين من أفراد سير المسافة توجب الشك فيه أيضا ، فإنّ القرائن الحالية الموجودة حال الخطاب تصرفه عن ظاهره ، كما أنّها توجب الشك في دخولهما تحت حكم الحاضر أيضا ، فالأظهر فيهما العمل بمقتضى اليقين السابق ، كما ذكره في المدارك.

د : البحر كالبرّ في جواز القصر أو وجوبه مع بلوغ المسافة أحد النصابين ، وإن قطعت في ساعة ، كما به صرّح جماعة ، منهم المنتهى قائلا إنّه لا نعرف في ذلك خلافا (١).

وهو كذلك ، لترتّب وجوب القصر على قصد المسافة المتحقّق في المورد. ولا يضرّ قطع المسافة في زمان قليل ، لتعارفه في البحر.

هـ : إنّما يجب القصر مع العلم ببلوغ المسافة‌ بالاعتبار ، أو الشياع ، أو القرائن.

ومع الشك يتمّ بلا خلاف ، عملا بالأصل ، لا أصل عدم بلوغ المسافة ، لأنّ القصر تابع لقصدها ، والمسافة المقصودة لا يعلم مقدارها ، ولا يجري فيها أصل. بل أصل وجوب الإتمام واستصحابه حتّى يعلم وجوب القصر أو جوازه ، واستصحاب مشروعيّة الإتمام لو شكّ في بلوغ حدّ مسافة الوجوب.

وفي وجوب الاعتبار حين الشك وعدمه وجهان ، نظرا إلى وجوب تحصيل البراءة اليقينية الموقوف عليه ، وإلى أنّ الواجب عليه التقصير بشرط العلم لا مطلقا ، فيكون الواجب عليه مشروطا ، ولا يجب تحصيل مقدّمة الواجب المشروط ، والحاصل : أنّ الذمّة مشغولة قبل العلم بالتمام ، وقد حصلت البراءة به.

__________________

(١) المنتهى ١ : ٣٩٠.

٢١١

والحق هو الأول مع الإمكان ، لشهادة العرف بإرادة الفحص في مثل ذلك ، كما مرّ بيانه في مسألة الاجتناب عن الاستقبال ، في آداب الخلوة.

ولو عصى وترك الاعتبار لم تجز له الصلاة ، لأنّ المفهوم عرفا وجوب تأخير الصلاة عن الفحص ، إلاّ أن تركه حتّى ضاق الوقت عنه فيصلّي تماما ، للأصل المذكور.

ولو ظهر بلوغ المسافة بعد الاعتبار حينئذ لم تجب الإعادة ، للإتيان بالمأمور به المقتضي للإجزاء.

ولو صلّى قصرا أعاد مطلقا ، وإن ظهر أنّه مسافة ، لأنّ فرضه التمام ولم يأت به ، وما أتى به لم يؤمر به.

ولو سافر مع ظنّ عدم بلوغ المسافة ، ثمَّ ظهر في الأثناء أنّ المقصد مسافة ، يجب التقصير حينئذ وإن قصر الباقي عن المسافة ، لظهور كونه قاصدا للمسافة أولا ، لأنّه كان قاصدا لمسافة معيّنة ، غايته عدم علمه بكونه مسافة وعلمه حينئذ ، فيعلم كونه قاصدا للمسافة أولا. وأمّا اشتراط علمه أولا بأنّ مقصوده مسافة أيضا فلا دليل عليه ، والأصل ينفيه. مع أنّ في مرسلة ابن بكير : « إن كان بينه وبين منزله أو ضيعته التي يؤمّ بريدان قصّر » (١) وهو صادق في المورد.

ولا تجب إعادة ما صلّى تماما قبل ذلك ، لأنّه صلّى صلاة مأمورا بها ، والأحوط الإعادة مع بقاء الوقت ، بل هو الأظهر فيه.

وهل يقوم الظنّ ببلوغ المسافة مقام العلم؟

ظاهر الدليل : لا ، ولو كان حاصلا من شهادة العدل بل العدلين ، لأنّ الأصل حرمة العمل بالظنّ وعدم حجيّته إلاّ ما قام عليه دليل ، ولا دليل على اعتبار العدل أو العدلين في خصوص المورد أو كليا.

و : لا يضمّ الذهاب مع الإياب في الأربعة ، كما كان يضمّ في الثمانية‌ وجوبا عند جماعة ، وجوازا على الأقوى ، للأصل ، واختصاص الدليل بالثمانية ، ولصريح‌

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٢١ ـ ٦٤٨ ، الوسائل ٨ : ٤٩٢ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ٣.

٢١٢

صحيحة أبي ولاّد ، ورواية إسحاق بن عمار المتقدّمتين (١) ، فلا يتخيّر في الثلاثة فما دونها وإن رجع.

ز : لو كان لبلد طريقان أحدهما مسافة دون الآخر ، فإن سلك الأقرب أتمّ‌ ذهابا وإيابا.

وإن سلك الأبعد لعلّة غير الترخّص قصّر إجماعا ، كما صرّح به غير واحد (٢).

وكذا إن كان للترخّص ، على الأظهر الأشهر ، بل عن ظاهر البعض كونه إجماعيا (٣) ، لصدق قصد المسافة.

خلافا للمحكي عن القاضي فيتمّ (٤) ، لأنّه كاللاهي بصيده.

وهو ضعيف ، لأنّ السفر بقصد الترخّص غير محرّم ، للأصل ، والقياس فاسد.

ولو ذهب من الأقرب قاصدا للرجوع من الأبعد قصّر في الذهاب على الجواز ، وفي الرجوع على الوجوب. أمّا الثاني فظاهر. وأمّا الأول فلما مرّ من ضمّ الإياب مع الذهاب جوازا.

ولو عكس قصّر فيهما وجوبا.

ولو كان أبعد المسافتين مسافة جواز التقصير ـ أي الأربعة إلى ما دون الثمانية ـ والأقرب أقلّ من الأربعة ، فإن سلك من الأبعد جاز التقصير سواء رجع منه أو من الأقرب ، وإن سلك الأقرب أتمّ ذهابا وجوبا إن عاد منه أو من الأبعد مع عدم بلوغ المجموع الثمانية ، وجوازا إن بلغ المجموع ثمانية.

ح : لو تردّد يوما في ثلاثة فراسخ ذاهبا وجائيا‌ ، فإن بلغ في الرجوع موضع‌

__________________

(١) في ص ١٩٩.

(٢) كالتذكرة ١ : ١٨٨ ، والذخيرة : ٤٠٧ ، والرياض ١ : ٢٤٩.

(٣) يظهر ذلك من التذكرة ١ : ١٨٨.

(٤) المهذب ١ : ١٠٧.

٢١٣

سماع الأذان ومشاهدة الجدران فالظاهر ـ كما صرّح به جماعة (١) ـ عدم الخلاف في عدم القصر ، ويدلّ عليه الأصل.

وإن لم يبلغ فالمقطوع به في كلام الأكثر عدم جواز القصر أيضا ، لأنّ من هذا شأنه ينقطع سفره بالرجوع ، وإلاّ لزم القصر لو تردّد في فرسخ ثمان مرّات ، ولعدم صدق المسافر عليه شرعا ولا عرفا.

وللتأمّل في الوجهين مجال.

والأولى أن يقال في الدليل : إنّ الأصل لزوم الإتمام خرج منه قاصد الثمانية أو الأربعة الّتي لا تكون ملفّقة من الذهاب والإياب أو تكون ملفّقة منهما فقط من غير أن يضمّ معهما عود ثالث ، فيبقى الباقي ، ولعموم قوله في مرسلة ابن بكير : « وإن كان دون ذلك أتمّ » (٢).

فالحكم بالتمام فيه لازم ، والخلاف فيه ـ كما عن التحرير (٣) ـ ضعيف غايته.

والاحتجاج بثبوت التلفيق باطل ، لأنّ الثابت منه ـ وجوبا كما قيل ، أو جوازا كما هو الأصح ـ تلفيق إياب مع ذهاب كما هو مورد دليله ، لا تلفيق التكرار ثلاثا أو أربعا. وهو السرّ في عدم القصر في الفرسخ المتكرر فيه ثمان مرّات ، لا عدم صدق السفر كما قيل (٤) ، وإلاّ لما جاز في فرسخ حول بلده يدور في عمله أيضا ، لعدم التفاوت.

ط : لو قصد المسافة عرضا لا طولا ، كأن يقصد البعد عن بلده فرسخا يدور عليه حول بلده حتى بلغ المسافة ، يقصر‌ ، لصدق المسافة ، ولقوله في صحيحة ابن يقطين : « وإن كان يدور في عمله » (٥) قال في الوافي : معناه : وإن كان‌

__________________

(١) منهم المحقق السبزواري في الذخيرة : ٤٠٧.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٢١ ـ ٦٤٨ ، الوسائل ٨ : ٤٩٢ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ٣.

(٣) التحرير ١ : ٥٥.

(٤) انظر الذكرى : ٢٥٧ ، والحدائق ١١ : ٣١١.

(٥) التهذيب ٣ : ٢٠٩ ـ ٥٠٣ ، الاستبصار ١ : ٢٢٥ ـ ٧٩٩ ، الوسائل ٨ : ٤٥٥ أبواب صلاة المسافر ب ١ ح ١٦.

٢١٤

مسيره يكون في عرض المسافة (١).

ي : لو ذهب إلى منزل من طريق وقصد الرجوع من طريق آخر شبه قوس ، لم يقصّر ما لم يبلغ قدر المسافة‌ الّتي تعدّ في العرف ذهابا من البلد مسافة موجبة أو مجوّزة ، إلاّ أن يبلغ المجموع ثمانية ملفّقة ، فيقصر على الجواز. والوجه ظاهر مما مرّ.

الشرط الثاني : قصد إحدى المسافتين المذكورتين‌ للوجوب أو الجواز ولو في أثناء الطريق.

فلو قصد الأقلّ أو لم يقصد مسافة لم يجب التقصير أو لم يجز ، وإن ذهب أضعاف المسافة. وإن قصدها يجب أو يجوز ، ولو لم يقطع بعد المسافة بالإجماع المحقّق والمحكي مستفيضا في الحكمين (٢). له ، ولرواية صفوان المتقدّمة (٣) ، فيهما. ولا يضرّ الإتيان بالجملة الخبرية ، لعدم الفصل. ولموثّقة الساباطي وذيل مرسلة ابن بكير السالفتين (٤) ، في الحكم الأوّل. ولصدر الثانية ، في الثاني ، مضافا إلى الإجماع على اعتبار المسافة ، وليس المراد قطعها إجماعا ونصّا ، كما يظهر من أخبار حدّ الترخص وغيرها ، واستلزام إرادته عدم القصر في الثمانية الّتي بين الوطنين ، وبطلانه ظاهر.

نعم يقصّر في الرجوع إذا بلغ المسافة وقصد الرجوع إلى أولها ، إجماعا ، لحصول الشرط ، وموثّقة الساباطي : عن الرجل يخرج في حاجة له وهو لا يريد السفر ، فيمضي في ذلك فيتمادى به المضيّ حتى يمضي به ثمانية فراسخ ، كيف‌

__________________

(١) الوافي ٧ : ١٣١.

(٢) انظر المعتبر ٢ : ٤٦٨ ، والمنتهى ١ : ٣٩٠ ، والمدارك ٤ : ٤٣٩ ، والذخيرة : ٤٠٧ ، والرياض ١ : ٢٥٠.

(٣) في ص ١٨٧.

(٤) في ص ١٧٨ و ١٨٠.

٢١٥

يصنع في صلاته؟ قال : « يقصّر ولا يتمّ الصلاة حتى يرجع إلى منزله » (١).

دلّت على وجوب التقصير بعد مضيّ ثمانية فراسخ سواء كان بعد في الذهاب أو العود أو البقاء ، خرج الأخير بالإجماع ، فيبقى الباقي. كما أنّه يخصّ الأمر بالإتمام في موثّقته الأخرى المتقدّمة (٢) بالانتهاء أو مع الذهاب ، على الخلاف.

وكذلك إرادة الرجوع في رواية صفوان تخصّ بحال البقاء ، أو يبقى على حاله ، لعدم دلالة على حرمة القصر وعدم وجوبه في الأربعة.

وفي ضمّ بقية الذهاب مع الإياب ممّا هو أقلّ من المسافة احتمالات :

أولها : عدم الضمّ ، فلا يقصر إلاّ عند الشروع في الرجوع دون هذه البقية ، حكي عن الأكثر (٣) ، بل ادّعي عليه الإجماع.

وثانيها : الضمّ ، فيقصّر إذا بلغ مجموع البقية والإياب مسافة ، فإذا ذهب ستّة فراسخ بغير قصد ، ثمَّ قصد فرسخا ثمَّ الرجوع ، يقصّر وجوبا في ذلك الفرسخ الباقي أيضا ، وظاهر الحدائق الميل إليه (٤).

وثالثها : الضمّ بشرط بلوغ الإياب وحده حدّ المسافة ، كأن يذهب سبعة فراسخ بغير قصد ، ثمَّ قصد فرسخا ثمَّ الرجوع ، نقله في الحدائق عن بعض مشايخه المحققين (٥).

دليل الأول : عدم ضمّ الإياب مع الذهاب.

ودليل الثاني : لزوم ضمّه معه.

وحجّة الثالث : أنّ مع بلوغ الرجوع حدّ المسافة وقصده الرجوع يصدق قصد المسافة من غير تلفيق ، فإنّ التلفيق الباطل إنّما هو ما حصل به نفس المسافة‌

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٢٦ ـ ٦٦٣ ، الاستبصار ١ : ٢٢٧ ـ ٨٠٧ ، الوسائل ٨ : ٤٦٩ أبواب صلاة المسافر ب ٤ ح ٣.

(٢) في ص ١٧٨.

(٣) الرياض ١ : ٢٥٠ ، وحكى فيه الإجماع عليه.

(٤) الحدائق ١١ : ٣٣٢.

(٥) الحدائق ١١ : ٣٣٠.

٢١٦

لا مطلقا ، وهي في المقام من دونه حاصلة.

أقول : يرد على الأول : منع عدم الضمّ في جواز القصر.

وعلى الثاني : منع لزومه.

وعلى الثالث : أنّ اللازم فيما إذا قصد المسافة القصر عند الشروع في تلك المسافة المقصودة لا مطلقا.

ومنه يظهر أنّ الحقّ جواز القصر في البقية إن بلغت مع الإياب ثمانية فصاعدا ، ووجوبه في الإياب خاصّة إن بلغ بنفسه الثمانية.

وتدلّ على الأول أيضا موثّقة الساباطي المذكورة في هذا الشرط ، حيث دلّت على جواز القصر حين مضت ثمانية فراسخ وإن بقيت بقيّة. ولا يضرّ اختصاصها بالثمانية ، لأنها كانت في السؤال. ولا تعارضها موثّقته المتقدّمة (١) ، لما عرفت من إجمال معناها.

فروع :

أ : إذا تمَّ الذهاب ثمانية فراسخ ولم يشرع بعد في الرجوع ، لا يجب القصر ، للأصل ، وعدم دليل على الوجوب. ولا يجوز أيضا إذا لم يكن قاصدا لمسافة ذهابية قبله لعدم قصد مسافة قبله ولا الشروع فيها بعد ، لظاهر الإجماع ، ورواية صفوان. وبها يخصّ عموم الموثّقة المذكورة هنا ، لاختصاص النهي فيها بحال إرادة الرجوع أي حال البقاء ، وعموم الموثّقة له وللعود.

ولو ضمّت بقية معه جاز القصر حينئذ ، كما مرّ.

ب : يعتبر في هذا الشرط استمراره إلى حدّ المسافة‌ ، بمعنى أن لا يرجع عن قصده المسافة ولا يتردّد فيه قبل بلوغ المسافة ، فلو رجع قبله أو تردّد لم يقصّر ، بلا خلاف فيه كما قيل (٢) ، بل قيل : إنّه إجماع (٣).

__________________

(١) في ص ١٧٨.

(٢) الرياض ١ : ٢٥٠.

(٣) الذخيرة : ٤٠٧.

٢١٧

لرواية إسحاق بن عمار في منتظر الرفقة ، وصحيحة أبي ولاّد المتقدّمتين (١) ، ورواية المروزي وفيها : « فإذا خرج الرجل من منزله يريد اثني عشر ميلا ، وذلك أربعة فراسخ ، ثمَّ بلغ فرسخين ، ونيّته الرجوع أو فرسخين آخرين قصّر ، وإن رجع عمّا نوى عند ما بلغ فرسخين وأراد المقام فعليه التمام ، وإن كان قصّر ثمَّ رجع عن نيّته أعاد الصلاة » (٢).

قيل : في دلالة الأخيرتين نظر :

أمّا الأولى فلعدم تصريح فيها بالقصر بعد نيّة الرجوع قبل بلوغ المسافة ، وإنّما صرّح فيها بقضاء ما صلاّه بالتقصير لو رجع عن النية قبل بلوغها ، وذلك وإن استلزم الحكم الأول إلاّ أنّ الملزوم ـ وهو وجوب قضاء ما صلاّه مطلقا ـ باطل إجماعا ، مخالف لصريح صحيحة زرارة المتضمّنة لقوله « تمّت صلاته ولا يعيد » (٣) فيبطل اللازم ، إذ لا بقاء للدلالة التبعية بعد فساد متبوعها. ولا يتوهّم دلالة قوله « فإن كنت سرت .. » بالمفهوم على المطلوب ، لأنّ مع تعقيبه بقوله « وإن كنت لم تسر .. » لم يبق له مفهوم غيره عرفا.

وأمّا الثانية فلأنّ محلّ دلالتها إمّا قوله « فعليه التمام » أو أمره بعده بإعادة الصلاة ، والأول لا يفيد ، لأنّ الإتمام لعلّه لقصد المقام دون نيّة الرجوع ، وكذا الثاني ، لما مرّ في السابقة.

أقول : وجوب قضاء الصلاة مطلقا وإن كان مخالفا للإجماع ، إلاّ أنّ وجوبه في الوقت خاصّة ذكره الشيخ في الاستبصار (٤) ، واستحبابه مطلقا ممّا اختاره‌

__________________

(١) في ص ١٩٨ ، و ١٩٩.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٢٦ ـ ٦٦٤ ، الاستبصار ١ : ٢٢٧ ـ ٨٠٨ ، الوسائل ٨ : ٤٥٧ أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ٤.

(٣) الفقيه ١ : ٢٨١ ـ ١٢٧٢ ، التهذيب ٤ : ٢٢٧ ـ ٦٦٥ ، ٣ : ٢٣٠ ـ ٥٩٣ ، الاستبصار ١ : ٢٢٨ ـ ٨٠٩ ، الوسائل ٨ : ٥٢١ أبواب صلاة المسافر ب ٢٣ ح ١.

(٤) الاستبصار ١ : ٢٢٨.

٢١٨

بعضهم (١) ، وليس ببعيد كما يأتي ، وكلّ منهما أيضا يستلزم المطلوب. مع أنّ في آخر الصحيحة الاولى : « وعليك إذا رجعت أن تتمّ الصلاة حتّى تصير إلى منزلك » وهو أيضا مثبت للمطلوب.

ج : لو صلّى قبل نيّة الرجوع قصرا ، ثمَّ رجع عن قصد المسافة قبل بلوغها ، تستحبّ إعادة الصلاة المقصورة‌ ، لصحيحة أبي ولاّد ، ورواية المروزي. ولا تجب ، لمعارضتهما مع صحيحة زرارة السابقة ، الموجبة لحمل الأوليين على الاستحباب لأجل كونها قرينة له ، أو حملهما على التخيير المستلزم للرجحان في العبادات ، مع أنّ الرواية عن إفادة الوجوب قاصرة.

د : المعتبر ـ كما صرّح به في روض الجنان (٢) ، وغيره (٣) ـ قصد المسافة النوعيّة لا الشخصية‌. فلو نوى السفر إلى أحد البلدين أو البلدان مع بلوغ كلّ مقدار المسافة كفى ، بشرط اتّحاد أصل الطريق الخارج من بلده ، لصدق قصد المسافة ، وصدق أنّ بينه وبين ما يؤمّ بريدان ، كما صرّح به في مرسلة ابن بكير (٤).

وكذا لو قصد مسافة معيّنة ، فسلك بعضها ، ثمَّ رجع إلى قصد موضع آخر تكون نهايته إلى محلّ الرجوع عن القصد مسافة إجماعا.

وكذا لو كان بحيث تكون نهايته مع ما مضى مسافة ، على الأظهر ، فإنّه يمضي على التقصير أيضا ، للاستصحاب ، وصدق السفر إلى المسافة المقصودة وإن تغيّر شخصها الّذي لا دليل على اعتباره أصلا ، مع اختصاص ما دلّ من النصّ والفتوى على التمام إذا لم يقصد المسافة أو رجع عن قصده ـ بحكم التبادر بل في بعضه التصريح ـ بغير محلّ البحث ، وهو ما لم يقصد فيه المسافة أصلا أو قصد الرجوع في أثنائها إلى منزله.

__________________

(١) كصاحب المدارك ٤ : ٤٤٠ ، الوحيد البهبهاني في شرح المفاتيح ( مخطوط ).

(٢) روض الجنان : ٣٨٥.

(٣) كالرياض ١ : ٢٥٠.

(٤) المتقدّمة في ص ١٨٠.

٢١٩

واحتمل بعضهم (١) عدم التقصير في الأخير ، لبطلان المسافة الأولى بالرجوع عنها ، وعدم بلوغ المقصود الثاني مسافة.

ويردّ : بمنع بطلان الاولى إن أريد مطلق المسافة ، إذ لا دليل على بطلانها بمجرد الرجوع عن شخصها مع بقاء نوعها ، فيرجع إلى استصحاب وجوب القصر ، ومنع مدخليّة الشخص في الحكم إن أريد بطلان الشخص.

هـ : قد عرفت وجوب التمام لو رجع عن عزم السفر قبل بلوغ المسافة ، والمراد بها مسافة جواز التقصير وهي الأربعة. أمّا لو بلغ الأربعة فلا يجب الإتمام ـ على ما اخترناه من التخيير ـ قطعا ، لبلوغه المسافة التخييرية ، ولاختصاص الإجماع والأخبار المتقدّمة الآمرة بالإتمام لو نوى الرجوع بما قبل الأربعة.

وهل يتخيّر في هذه الصورة أيضا ، أو يجب القصر ولو في الإياب أيضا ما لم يقطع سفره في الأربعة؟

اختار الشيخ في النهاية الثاني (٢) ، ونفى عنه البعد بعض مشايخنا (٣) ، مع أنّ مذهبهما في الأربعة إذا قصدت في مبدأ السفر من غير إتمام الثمانية عدم وجوب القصر ما لم يرجع ليومه ، بل جوازه.

ووجه الفرق بينهما عدم ثبوت ما يوجب تحتّم القصر في الثاني ، من ثبوته واستصحاب وجوبه ، بخلاف الأول ، فإنّه حصل موجب القصر الاتفاقي ـ وهو قصد الثمانية الذهابية في مبدأ السفر ـ في الأول دون الثاني ، إذ المسافة المقصودة فيه أولا إنّما هي الثمانية الملفّقة من الذهاب والإياب.

وهو قوي جدّا ، للاستصحاب المتقدّم ، والأمر في رواية إسحاق وصحيحة أبي ولاّد بالقصر مع بلوغ الأربعة في المورد (٤) ، وسائر أخبار تحتّم القصر في‌

__________________

(١) الشهيد الثاني في روض الجنان : ٣٨٥.

(٢) النهاية : ١٢٥.

(٣) انظر الرياض ١ : ٢٥٠.

(٤) راجع ص ١٩٨ ، و ١٩٩.

٢٢٠