مستند الشّيعة - ج ٨

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ٨

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-83-3
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٣٤٨

ويستفاد من رواية البجلي المتقدّمة اتّحاد بياض اليوم مع الأميال والفراسخ ، المتحدتين مع البريدين ، فتكون لفظة ، « أو » في صحيحة خزاز لبيان أفراد كيفية التقدير.

بل يستفاد منها أنّ بياض اليوم هو مسيرة يوم التي حدّ التقصير بها في كثير من الأخبار. فتكون هي أيضا متّحدة مع ثمانية ، لذلك ولمعتبرة الفضل ، وموثقة سماعة ، وصحيحة زرارة ومحمد ، المتقدّمة جميعا.

وعلى هذا فيدلّ على المطلوب أيضا ما حدّ التقصير بمسيرة اليوم ، كبعض ما مرّ ، وصحيحة ابن يقطين : عن الرجل يخرج في سفره وهو مسيرة يوم ، قال : « يجب عليه التقصير إذا كان مسيرة يوم وإن كان يدور في عمله » (١).

وقد ظهر من جميع ذلك اتّحاد جميع هذه التقديرات وأنّ مرجعها إلى ثمانية فراسخ.

وأمّا ما يخالفها ممّا دلّ على أنّه مسيرة يوم وليلة ، أو ثلاثة برد ، أو مسيرة يومين (٢).

فمع قصوره عن المقاومة لما مرّ من وجوه منها الشذوذ فتوى ورواية ، بل المخالفة للإجماع ، محمولة على التقية ، فإنّ لكلّ منها قائلا من العامّة (٣).

ثمَّ إنّه يظهر من ذلك ما في كلام بعض المتأخّرين ـ كالروض والمدارك (٤) ، وغيرهما (٥) ـ من اعتبار المسافة بمسيرة يوم والتقدير بالفراسخ معا ، ثمَّ نفي الإشكال عن الاكتفاء بالسير والتقدير مع موافقتهما ، والاستشكال فيما لو اختلفا ، وترجيح التخيير تارة بالتقصير ببلوغ المسافة بأحدهما ، وتقديم السير أخرى ، لأنّه‌

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٠٩ ـ ٥٠٣ ، الاستبصار ١ : ٢٢٥ ـ ٧٩٩ ، الوسائل ٨ : ٤٥٥ أبواب صلاة المسافر ب ١ ح ١٦.

(٢) انظر الوسائل ٨ : ٤٥٣ أبواب صلاة المسافر ١ : ح ٥ و ٩ و ١٠.

(٣) بدائع الصنائع ١ : ٩٣.

(٤) الروض : ٣٨٣ ، المدارك ٤ : ٤٣٠.

(٥) كالذخيرة : ٤٠٧.

١٨١

أضبط ودلالة النص عليه أقوى ، والتقدير ثالثة ، لكونه تحقيقا ، والاحتياط بالقصر والإتمام في مقام الاختلاف رابعة.

وذلك لأنّ مسيرة يوم أمر مطلق ، مختلفة الأفراد قطعا ، لتفاوتها باعتبار اختلاف السير في كيفية السير ، ونفس سير المراكب ، والأمكنة ، والأزمنة ، والراكب ، والأثقال ، واختلاف الأيام. والأخبار المقيدة بثمانية فراسخ مقيدة. وحمل المطلق على المقيّد واجب ، فيتعين الحمل على الفراسخ. وأضبطيّة السير ممنوعة. مع أنّ الوارد في الأخبار المتقدّمة ضبط مسيرة يوم أيضا بالفراسخ ، فيعلم أنها المراد منها ، وإن كان ذلك لأجل علمهم بأنّها الأغلب للعامّة في مسيرة اليوم.ألا ترى أنّه إذا أمر الشارع بالإطعام بقدر تشبع عامة الناس ، ثمَّ عيّنه بالمدّ يحمل عليه؟!

ولقد أجاد بعض بعض الأجلّة في شرحه على الروضة (١) ، حيث قال ـ بعد ذكر ما نقلنا عن بعض المتأخّرين ـ : لا مجال لاعتبار السير إذا خالف التقدير ، فإنّ الأخبار الناطقة بالتقدير ممّا لا تحصى كثرة ، والناطقة بالسير لا شكّ أنّها مطلقة بالنسبة إلى الأوّلة ، ولا بدّ من حمل المطلق على المقيّد ، لا سيّما وبعضها مصرّح بتقييد ذلك المطلق بذلك القيد. هذا ، مع أنّ تعليق الحكم الشرعي بالأمر المنضبط أولى من تعليقه بأمر مضطرب ، وأنّ التقصير في أقلّ ذلك مخالف للأصل من وجهين ، فإنّ الأصل بقاء حكم الإتمام وعدم التقصير ، والأصل عدم تحقّق الشرط. فالتقدير بثمانية فراسخ مما لا ينبغي الشك فيه. انتهى.

وعلى هذا فاللازم الرجوع إلى تعيين معنى الفرسخ بالفحص في الأخبار ، فإن تعيّن [ وإلاّ ] (٢) فالرجوع إلى اللغة أو العرف.

فإن قلت : التقدير كما ورد بالفراسخ ورد بالبريد والأميال أيضا ، ومع ذلك يظهر من الأخبار اتحاد الثلاثة ، فهلاّ جعلت الحدّ أحد الأخيرين ، والرجوع إلى‌

__________________

(١) الظاهر هو « المناهج السّوية في شرح الروضة البهية » للفاضل الهندي ( مخطوط ).

(٢) أضفناه لاستقامة العبارة.

١٨٢

الأخبار أو العرف أو اللغة في تعيين معناه؟

قلنا : لأنّ الوارد في الأخبار تفسيرهما بالفراسخ ، وتعيين معناهما بها ، فيعلم أنّ الفراسخ هي المرجع.

ومن ذلك يعلم أنّ بعد تعيين معنى الفرسخ لا يضرّ إجمال معنى الآخرين أو الخلاف فيه ، بل ولا مخالفته لغة للمعنى المعلوم للفرسخ ، إذ بعد دلالة الأخبار على أنّ البريدين وأربعة وعشرين ميلا هو ثمانية فراسخ ، ومعلومية معنى الفرسخ ، يعلم مراد الشارع من البريد والميل ، وإن كان مخالفا للمعنى اللغوي لهما ، غاية الأمر كونه مجازا شرعيا.

نعم ، لو لم يعلم معنى الفرسخ ، وعلم معنى لهما أو لأحدهما ، يجب حمل الجميع عليه.

فاللازم الرجوع في وجوب التقصير إلى ثمانية فراسخ.

ثمَّ الفرسخ ثلاثة أميال ، إجماعا محققا ، ومنقولا مستفيضا (١) ، لغة وشرعا ، كما دلّت عليه الأخبار المتقدمة.

والميل يقدّر تارة بمدّ البصر من الأرض ، واخرى بالذراع.

ولا يمكن أن يكون المراد به في المقام المعنى الأوّل ، لعدم انضباطه البتة ، لاختلاف مدّ البصر باختلاف المبصر ، والباصرة ، والأرض ، ورقّة الهواء وغلظته ، بل لا يكاد يوجد عشرة أشخاص لم يختلف مدّ أبصارهم غاية الاختلاف ، بل يختلف في ثمانية فراسخ بقدر ضعفها.

مع أنّ المراد بمدّ البصر غير ثابت. وما قيل من أنّه ما يمتاز فيه الراجل عن الراكب لا دليل عليه أصلا ، وقد جرّبنا كثيرا من الناس ، فمنهم من يميز بينهما في فرسخ ، سيّما إذا كان في أرض لها انحدار ، ومنهم من لا يميّز في ألف ذراع. ومثل ذلك يستحيل أن يكون مناطا للأحكام الشرعية.

فتعيّن الثاني.

__________________

(١) انظر الانتصار : ٥١ ، والخلاف ١ : ٥٦٨ ، والرياض ١ : ٢٤٨.

١٨٣

وعدده أربعة آلاف ذراع بذراع اليد ، لأنه المشهور المعروف بين اللغويين ، والفقهاء ، والعرف ، كما صرّح به غير واحد (١) ، بلا معارض أصلا ، إذ ليس إلاّ بعض الأخبار المحدّدة له بألف وخمسمائة ذراع (٢) ، أو ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع (٣) ، أو بعض كلمات أهل اللغة القائلة بأنّه ثلاثة آلاف ذراع (٤) ، وليس الذراع في شي‌ء منها مقيّدا بذراع اليد ، وللذراع إطلاقات كثيرة عند اللغويين ، ولها اختلافات ، كذراع القدماء ، وذراع المحدّثين ، والذراع الأسود ، وبعضها اثنان وثلاثون إصبعا ، وبعضها أربعة وعشرون ، ويحتمل أن يكون بعضها غير ذلك.

وبالجملة : لا يعلم مغايرة التحديد بالذراع المطلق للتحديد بذراع اليد ، فيمكن أن يكون العدد الّذي حدّدوه به مطلقا هو بعينه أربعة آلاف ذراع اليد ، فلا يعلم معارض للمشهور استعماله فيه. فيحمل عليه ، لأصالة عدم التعدد في المستعمل فيه ، وعدم استعمال الميل ـ المراد منه الذراع ـ في الأقلّ من أربعة آلاف ذراع اليد أو الأكثر.

مع أنّ استعمال الفرسخ في اثني عشر ألف ذراع بذراع اليد مقطوع به ، مشهور بين الفقهاء واللغويين. بل الأزهري ـ بعد ما صرّح بأنّ الميل عند كلّ من القدماء والمحدّثين أربعة آلاف ذراع بذراع اليد ، وأنّ الاختلاف في الذراع لفظي ـ قال : والكلّ متفقون على أنّ الفرسخ ثلاثة أميال (٥). ومقتضاه الاتفاق على أنّ الفرسخ اثني عشر ألف ذراع بذراع اليد.

فهذا الاستعمال مما لا ريب فيه ، والاستعمال في غيره غير معلوم ، والأصل في الاستعمال الحقيقة ، فيكون الفرسخ حقيقة في ذلك.

__________________

(١) كالسيد بحر العلوم في رسالة صلاة المسافر المنقولة في مفتاح الكرامة ٣ : ٥٠٧.

(٢) انظر الوسائل ٨ : ٤٦٠ أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ١٣.

(٣) انظر الوسائل ٨ : ٤٦١ أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ١٦.

(٤) المصباح المنير : ٥٨٨ نقلا عن قدماء أهل الهيئة.

(٥) نقله عن الأزهري في المغرب ٢ : ١٩٥.

١٨٤

مع أنّه لو قطع النظر عن ذلك ، وقلنا بعدم معلوميّة المراد من الميل ، وعدم تعيّنه ، يجب الرجوع في معنى الفرسخ ـ الذي به فسّر البريد والأميال في الأخبار ـ إلى العرف ، فيراد به ما يطلق عليه الفرسخ عرفا ، وهو موافق لاثني عشر ألف ذراع ، فإنّا قد سمعنا التقدير كثيرا ، والتطابق بين ما يطلق عليه الفرسخ عرفا ـ أي المسافة المشهورة بالفرسخ ـ وبين هذا العدد تقريبا ، ولم يوجد اختلاف أكثر ممّا يتحقّق بواسطة تفاوت الأذرع والتقريب (١) الحاصل باعتبار تفاوت مبادئ الذراع أو يسير انحراف في الطريق حين المساحة. فلا شكّ في لزوم تحديد الفرسخ بذلك.

ثمَّ إنّهم حدّدوا الذراع بالأصابع ، وهي بالشعيرات ، وهي بالشعرات.

وهو ـ مع أنّه ليس مستندا إلى دليل ـ لا فائدة فيه ، إذ الاختلاف المتحقّق من جهة اختلاف الشعيرات والشعرات والأصابع ليس بأقلّ من الحاصل بواسطة الأذرع ، فلا يحصل بذلك تحقيق وانضباط أكثر.

فائدة : اعلم أنّه لا شكّ في أنّه لا حدّ حقيقيا للفرسخ لا يزيد عنه ولا ينقص ، سواء يرجع فيه إلى العرف أو الأذرع ، إذ إطلاق العرف لا يختلف باختلاف عشرة أذرع أو عشرين ، بل بنحو من ألف ذراع في ثمانية فراسخ.

وكذا الأذرع ، فإنّه وإن كان المرجع في تحديد الذرع إلى مستوى الخلقة ، ولكن من ضروريات الحسّ والعيان تفاوت أذرع أكثر الناس ، ولو بنصف إصبع أو إصبع ، ومن اجتماع التفاوت في أربعة فراسخ أو ثمانية ربما بلغ الاختلاف إلى نحو من ألف ذراع. ولا شكّ أيضا في صدق الفرسخ على كلّ من المختلفين.

وعلى هذا فيكفي في لزوم القصر أو جوازه تحقّق الأقلّ ، للصدق. فكلّ ما علم صدق ثمانية فراسخ عليه عرفا ، أو صدق ستة وتسعين ألف ذراع عليه يكون محلّ الحكم ، وكذا في الأربعة ، ولو كان القدر الأقلّ ، إذا لم يختلف العرف فيه ،

__________________

(١) كذا في النسخ ، والظاهر أنّ الأنسب : التقدير.

١٨٥

أو كان من أذرع المتعارف من أفراد الناس.

المسألة الثانية : هل هذه الثمانية الموجبة للقصر ثمانية ممتدّة ذهابية ، أو أعمّ منها ومن الملفّقة من الذهابية والإيابيّة؟

المشهور بين القدماء والمتأخّرين الأول ، بل ادّعى جماعة نفي القول بخلافه ، والأخرى الإجماع على بطلان خلافه كما يأتي (١).

وعن العماني الثاني (٢) ، واختاره شرذمة من متأخّري المتأخرين (٣).

والحقّ هو الأول ، للأصل ، والإجماع كما يأتي بيانه ، وظهور أخبار الثمانية والبريدين واثني عشر ميلا ومسيرة يوم ونحوها في الممتدّة ، بل كونها حقيقة فيه ، إذ لا شكّ أنّ الفرسخ والبريد وثمانية فراسخ والأربعة والبريدين ونحوها ألفاظ موضوعة لغة وعرفا لمسافة معينة ممتدّة امتدادا متّصلا في جهة واحدة ، فالفرسخ اسم لاثني عشر ألف ذراع مبتدأة من مبدإ منتهية إلى موضع ، حقيقة فيه ، للتبادر ، وصحة السلب ، فإنه لو سمع الفرسخ يتبادر منه مسافة ممتدة ، وكذا ثمانية فراسخ ، ولا يسبق إلى الذهن من الأول ربع فرسخ متكرر أربع مرّات ، ولا من الثاني فرسخ متكرر ثمان مرات ، ويصحّ سلب الفرسخ من الأوّل وثمانية فراسخ عن الثاني. وكذا بياض يوم وأربع وعشرون ميلا والبريدان وغيرها ، ولا يقال لألف ذراع إنّه فرسخ ، حيث يمكن الذهاب والإياب فيه اثني عشر مرة ، وكذا لا يقال له بريد من هذه الجهة ، ولذا قال جماعة : إنّ المتبادر هو المسافة الذهابية (٤).

وتدل عليه أيضا رواية المروزي المتقدّمة (٥) ، العاطفة « بريد ذاهبا وبريد جائيا » على البريدين ، المقتضي لتغايرهما.

__________________

(١) انظر ، ص ٢٠٦.

(٢) نقله عنه في المختلف : ١٦٢.

(٣) كالذخيرة : ٤٠٦ ، ومفاتيح الشرائع ١ : ٢٥ ، والحدائق ١١ : ٣٢٥.

(٤) المدارك ٤ : ٤٣٨ ، الذخيرة : ٤٠٧ ، الرياض ١ : ٢٤٩.

(٥) في ص ١٨٠.

١٨٦

احتجّ من عمّها بوجوه :

الأوّل : صدق الثمانية والبريدين ونحوهما على الملفّقة.

الثاني : أنّ المراد سير ثمانية فراسخ ، وهو أعمّ من سيرها ممتدّة أو ملفّقة ، بل صرّح في بعض الروايات بالسير ، كموثّقة الساباطي المتقدمة (١) ، وقوله في صحيحة أبي ولاّد الآتية : « فإن كنت سرت في يومك الذي خرجت منه بريدا فكان عليك حين رجعت أن تصلّي بالتقصير » (٢).

الثالث : الأخبار الآتية الدالة على تحتّم القصر في الأربعة ، فهي قرينة على إرادة الملفّقة.

الرابع : صحيحة زرارة المتقدّمة (٣) ، المصدّرة بقوله : عن التقصير ، فقال : « بريد ذاهب وبريد جائي ».

وهي تدل من وجهين : أحدهما قوله : « بريد ذاهب وبريد جائي » فإنه يدلّ على أنّ الثمانية ملفقة. وثانيهما : تعليله تقصير الرسول في البريد بأنه إذا رجع كان بريدين.

وصحيحة معاوية بن وهب : أدنى ما يقصّر فيه الصلاة؟ قال : « بريد ذاهبا وبريد جائيا » (٤).

ورواية المروزي السابقة.

الخامس : رواية صفوان : عن رجل خرج من بغداد يريد أن يلحق رجلا على رأس ميل ، فلم يزل يتبعه حتّى بلغ النهروان ، وهي أربعة فراسخ من بغداد ، أيفطر إذا أراد الرجوع ويقصر؟ قال : « لا يقصر ولا يفطر ، لأنّه خرج من منزله ،

__________________

(١) في ص ١٧٨.

(٢) التهذيب ٣ : ٢٩٨ ـ ٩٠٩ ، الوسائل ٨ : ٤٦٩ أبواب صلاة المسافر ب ٥ ح ١.

(٣) في ص ١٨٠.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٠٨ ـ ٤٩٦ ، ٤ : ٢٢٤ ـ ٦٥٧ ، الاستبصار ١ : ٢٢٣ ـ ٧٩٢ ، الوسائل ٨ : ٤٥٦ أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ٢.

١٨٧

وليس يريد السفر ثمانية فراسخ ، إنّما خرج يريد أن يلحق صاحبه ، فتمادى به السير إلى الموضع الذي بلغه ، ولو أنّه خرج من منزله يريد النهروان ذاهبا وجائيا لكان عليه أن ينوي من الليل سفرا والإفطار » (١).

دلّت على وجوب التقصير بالأربعة الذهابية والإيابية ، بل يدلّ قوله : « ولو أنّه خرج » بعد قوله : « لأنّه ليس يريد السفر ثمانية فراسخ » على أنّ الأربعة فراسخ ذاهبا وجائيا من أفراد السفر ثمانية فراسخ ، فتكون الثمانية أعمّ من الملفقة.

السادس : تعليل وجوب القصر في البريد والأربعة بأنّه إذا رجع كان سفره ثمانية في حديث العلل والمحاسن ، وفيها بعد الأمر بالتقصير في الأربعة : « هل تدري كيف صار هكذا؟ » قلت : لا أدري ، قال : « لأنّ التقصير في البريدين ، ولا يكون التقصير في أقلّ من ذلك ، فلمّا كانوا قد ساروا بريدا وأرادوا أن ينصرفوا بريدا كانوا قد ساروا سفر التقصير » (٢).

وهذا صريح في إرادة الأعمّ من الملفقة.

والجواب أما عن الأول : فبمنع الصدق كما مرّ.

وأما عن الثاني : فبمنع أعمية سير الثمانية ، فإنّ لفظ الثمانية إذا كانت حقيقة في الممتدّة يكون سيرها حقيقة في سير الممتدّة ، لأصالة عدم وضع آخر للهيئة التركيبيّة ، ولذا لا يتبادر من قولك : أعطيته ألف درهم ، إلاّ إعطاء ألف متعدّدة دون المكرّرة ، وكذا : رأيت ألف شخص ، وقرأت ألف بيت.

مضافا إلى أنّ الأخبار المتضمّنة لمثل قوله : « التقصير في بريدين أو ثمانية فراسخ » لا يشتمل على لفظ « سير » فكما يمكن أن يكون المراد سير هذه المسافة يمكن أن يكون ذهابها ، بل هو المتبادر الظاهر.

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٢٥ ـ ٦٦٢ ، الاستبصار ١ : ٢٢٧ ـ ٨٠٦ ، الوسائل ٨ : ٤٦٨ أبواب صلاة المسافر ب ٤ ح ١.

(٢) العلل : ٣٦٧ ب ٨٩ ح ١ ، المحاسن : ٣١٢ ـ ٢٩. الوسائل ٨ : ٤٦٦ أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ١١ ( بتفاوت يسير ).

١٨٨

والموثّقة صريحة في الممتدّة ، إذ لو أراد الملفّقة أيضا لوجب الحكم بالتمام في خمسة فراسخ الثانية ، لقصده الذهاب إليها والإياب ، بخصوصه كما هو الظاهر ، أو بالعموم الحاصل من ترك استفصال أنّ الخمسة الثانية هل كانت مقصودة بتمامها أوّلا أو لا. مع أنّ مقتضاها حصول السفر بسير ثمانية فراسخ ، ولا دلالة لها على وجوب التقصير به ، بل غايته أنّ بدونه لا يقصر ، فيمكن أن يكون للقصر شرط غيره أيضا ككون السفر ذهابيا.

والصحيحة صريحة في أنّ سير البريد ذهابي لقوله بعده « حين رجعت » فلا دلالة لها من حيث إطلاق السير ، وأمّا من حيث إيجاب التقصير في البريد فيأتي جوابه.

وأمّا عن الثالث : فبعدم دلالة أكثر أخبار الأربعة على التحتم ، ويعارض ما دلّ منها عليه مع الأقوى منها ، كما يأتي مفصلا ، مع انّها لو تمّت دلالتها لدلّت على التقصير في الأربعة مطلقا وإن لم يكن فيها إياب قبل قطع السفر ، فلا تكون قرينة على تلفيق الثمانية ، بل تكون معارضة لأخبارها.

وأما عن الرابع : فبأنّه لا يدل على الأزيد من مشروعيّة التقصير وجوازه في بريد ذاهب وبريد جائي ، وأنّ علّة المشروعية صيرورتها ثمانية ملفّقة كما يأتي ، ولا دلالة فيه على أنّ الثمانية الموجبة أيضا هي أعمّ من الملفّقة ، ويمكن أن تكون الثمانية الملفّقة صالحة لعليّة الجواز لا الوجوب.

وأمّا عن الخامس والسادس : فبأنّ الاستناد إليهما إنّما كان صحيحا لو لا ضعفهما بالشذوذ والمعارض ، ولكن حكمهما عموما شاذّ ، ومع ذلك يعارضان الرضوي الآتي المنجبر بالعموم المطلق ، فيجب تخصيصهما بغير محلّ التعارض ، كما يأتي في المسألة الرابعة.

فائدة : الفرق بين هذه المسألة ، ومسألة تحتّم القصر في الأربعة وعدمه بالعموم من وجه‌ ، فتفترق هذه المسألة عن الآتية فيما إذا لم يكن الذهاب أربعة ، كمن يقصد السير من طريق مسافته ثلاثة فراسخ ، والعود ممّا مسافته خمسة ، وفيما‌

١٨٩

إذا سافر غير ناو للمسافة حتّى إذا بلغ سبعة فراسخ مثلا ، فنوى ذهاب فرسخ والعود ، وفيما إذا تردّد في ثلاثة فراسخ ثلاث مرّات ، فيقصّر بناء على هذه المسألة دون الآتية. وتفترق الآتية فيما إذا قصد الأربعة ، وتعقبها قاطع السفر ، فيقصر على المسألة الآتية دون تلك المسألة.

المسألة الثالثة : الحقّ ضمّ الإياب مع الذهاب في الثمانية المجوّزة للقصر ، سواء بلغ ذهابه أربعة أم لا ، بل ذهب فرسخا ورجع سبعة ، فيجوز القصر في الثمانية الملفقة وإن لم يجب ، للأدلّة الثلاثة الأخيرة من أدلة القائلين بالتلفيق في المسألة المتقدّمة ، أمّا أوّلها فلما مرّ من أنّه يدلّ على علّية الضمّ للجواز ، وأما الأخيران فلاختصاص شذوذهما وتعارضهما بما في دلالتهما على وجوب القصر دون جوازه.

المسألة الرابعة : ما مرّ كان حكم الثمانية الممتدّة‌ ، وقد عرفت أنّ حكمها وجوب التقصير.

وأمّا الأربعة الممتدّة فإمّا يريد الرجوع عنها ليومه ، أم لا.

فإن أراد الرجوع ليومه قصّر وجوبا أيضا ، على الأصح الموافق للعماني والسيّد والمفيد والصدوقين والتهذيب والنهاية والمبسوط والحلّي والديلمي (١) ، وكافّة المتأخّرين ، بل هو المشهور كما به صرّح جماعة (٢) ، بل وفاقا لغير من شذّ وندر ، كما ذكر جمع آخر (٣) ، بل عن ظاهر الأمالي : أنّه من دين الإماميّة (٤).

__________________

(١) حكاه عن العماني والصدوقين في المختلف : ١٦٢ ، والسيد في جمل العلم والعمل ( رسائل المرتضى ٣ ) : ٤٧ ، والمفيد في المقنعة : ٣٤٩ ، وانظر الهداية : ٣٣ ، والأمالي : ٥١٤ ، والفقيه ١ : ٢٨٠ ذيل الحديث ١٢٦٩ ، التهذيب ٣ : ٢٠٧ ذيل الحديث ٤٩٥ ، النهاية : ١٢٢ ، المبسوط ١ : ١٤١ ، الحلي في السرائر ١ : ٣٢٩ ، الديلمي في المراسم : ٧٥.

(٢) منهم الشهيد الثاني في الروضة ١ : ٣٧٠ ، والبحراني في الحدائق ١١ : ٣١٣.

(٣) انظر الرياض ١ : ٢٤٩.

(٤) أمالي الصدوق : ٥١٤.

١٩٠

لعموم خبر صفوان المتقدّم (١) ، وموثقتي ابني عمّار وبكير ، الاولى : في كم أقصّر الصلاة؟ فقال : « في بريد ، ألا ترى أنّ أهل مكة إذا خرجوا إلى عرفات كان عليهم التقصير؟! » (٢).

والثانية : عن القادسية أخرج إليها أتمّ أم أقصّر؟ قال : « وكم هي؟ » قال : هي الّتي رأيت. قال : « قصّر » (٣).

قال في المغرب : القادسية موضع بينه وبين الكوفة خمسة عشر ميلا (٤).

دلّت بعمومها على وجوب التقصير في الأربعة الممتدّة ، لم يعمل بها في غير الراجع ليومه لأجل المعارض والمضعف ـ كما يأتي ـ فبقي الباقي.

وخصوص الرضوي المنجبر ضعفه بما سبق ، حيث قال : « فإن كان سفرك بريدا واحدا وأردت أن ترجع من يومك قصّرت ، لأنّ ذهابك ومجيئك بريدان » إلى أن قال : « فإن سافرت إلى موضع مقدار أربعة فراسخ ، ولم ترد الرجوع من يومك ، فأنت بالخيار إن شئت أتممت وإن شئت قصرت » (٥).

ولا يضرّ عدم صراحة قوله « قصرت » في الوجوب ، لأنّه يصير صريحا بعد تذييله بما ذيّل به من إثبات الخيار لو لم يرجع ، لأنّ التفصيل قاطع للشركة ، بل مفهوم الذيل أيضا كاف في نفي الخيار وإثبات الوجوب مع الرجوع في اليوم.

وبذلك يدفع استصحاب وجوب التمام ، ويخصّص عموم ما دلّ على أنّه لا قصر في أقلّ من الثمانية.

وقد يستدلّ أيضا بموثقة محمد : عن التقصير ، فقال : « في بريد » قلت :

__________________

(١) في ص ١٨٧.

(٢) التهذيب ٣ : ٢٠٨ ـ ٤٩٩ ، الاستبصار ١ : ٢٢٤ ـ ٧٩٥ ، الوسائل ٨ : ٤٦٤ أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ٥.

(٣) التهذيب ٣ : ٢٠٨ ـ ٤٩٧ ، الاستبصار ١ : ٢٢٤ ـ ٧٩٣ ، قرب الإسناد ١٧٠ ـ ٦٢٥ بتفاوت ، الوسائل ٨ : ٤٥٨ أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ٧.

(٤) المغرب ٢ : ١١٠.

(٥) فقه الرضا عليه‌السلام : ١٦١ ، مستدرك الوسائل ٦ : ٥٢٩ أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ٢.

١٩١

بريد؟! قال : « إنّه إذا ذهب بريدا وجاء بريدا شغل يومه » (١).

دلّت على أنّ كلّ بريد ذاهبا وبريد جائيا شاغل لليوم ، وأنّ كلّ شاغل لليوم يوجب التقصير ، فكلّ بريد ذاهبا وبريد جائيا يوجبه ، وظاهر أنّ البريد الذاهب والبريد الجائي الشاغل ما كان في يوم واحد.

وذلك حسن ، إلاّ أنّه لا يدلّ على أزيد من مشروعية التقصير ، كما يأتي بيانه.

خلافا للمحكي في الذكرى عن الصدوق في كتابه الكبير ، وعن التهذيب والمبسوط ، وقواه نفسه (٢) ، فأثبتوا التخيير بين القصر والإتمام لمن رجع من يومه في الأربعة ، والإتمام لمن كان غير راجع ، جمعا بين روايات الثمانية والأربعة ، وتضعيفا للرضوي المتقدّم ذكره.

وفيه : أنّ وجه الجمع لا ينحصر بالتخيير ، بل يمكن بإيجاب القصر مع العود والتخيير بدونه في الأربعة أيضا ، وضعف الرضوي مجبور بما مرّ.

مع أنّ في نسبة ما ذكر إلى المبسوط والتهذيب نظرا ، بل الأول صريح في وجوب الإتمام في الأربعة مع العود (٣) ، والثاني محتمل له (٤) ، كما يظهر من كلامه ـ طاب ثراه ـ فيهما.

فروع :

أ : مفاد الرضوي وإن كان وجوب التقصير إذا كان العود في اليوم خاصة ، إلاّ أنّ مقتضى العمومات عموم وجوبه‌ ، سواء كان العود في اليوم أو الليلة ، أو الذهاب في الليلة والعود فيها ، أو في اليوم ، أو كان الذهاب في يوم والعود في آخر ، خرج الأخير بما سيأتي من المعارض والشذوذ ، فيبقى الباقي ، فيجب التقصير في‌

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٢٤ ـ ٦٥٨ ، الوسائل ٨ : ٤٥٩ أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ٩.

(٢) الذكرى : ٢٥٦.

(٣) المبسوط ١ : ١٤١.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٠٧ ذيل الحديث ٤٩٥.

١٩٢

الذهاب والإياب ليلا ، أو الذهاب في أحدهما والرجوع في الآخر ، سواء ذهب في آخر أحدهما وآب في أول الآخر ، أو بالعكس.

ويدلّ عليه الإجماع المركّب وتنقيح المناط في بعض هذه الأقسام أيضا ، ولا يضرّ مفهوم ذيل الرضوي السابق في هذه الأقسام ، لعدم ثبوت انجباره فيه.

ب : مقتضى الأدلّة التي ذكرنا للمسألة اشتراط ذهاب الأربعة ، والعود مطلقا‌ ، فلو ذهب إلى موضع من طريق مسافته ثلاثة فراسخ ، وعاد من طريق آخر مسافته خمسة لم يقصر ، ولو عكس قصر ، وكذا لو ذهب من طريق الأربعة ، وعاد من طريق ثلاثة فراسخ.

ومن يبني هذه المسألة على ضمّ الإياب مع الذهاب في الثمانية الموجبة يلزمه وجوب القصر في الأولين ، وعدم جواز القصر في الأخير.

ج : يشترط في صدق العود والرجوع أمران : أحدهما : قصد المنزل الأول ، والثاني عدم البعد عنه حين الإياب بعدا معتدّا به عرفا ولو محرّفا ، لعدم صدق الإياب بدون الأمرين ، وصحة السلب.

وعلى هذا فلو ذهب أربعة فراسخ وعاد منه فرسخا غير مريد للرجوع إلى موضعه الأول ، بل أراد الإقامة عشرة في رأس الفرسخ ، أو العود منه إلى الموضع الثاني ، أو الذهاب إلى موضع ثالث لم يكن عود. وكذا لو رجع عن طريق آخر مبعد عن المنزل الأول بعدا معتدّا به غير متقرّب إليه في ذلك اليوم والليلة.

د : يصدق الرجوع بعد تحقّق الأمرين ولم يدخل في هذا اليوم والليلة إلى منزله الأول‌ ، بل مكث في رأس فرسخ مثلا ثمَّ دخل في غده ، فيقصر حينئذ وجوبا أيضا ، سواء أراد الرجوع إلى الأول في هذا اليوم ولم يتيسر ، أو أراد الرجوع من الثاني فيه ودخول الأول في الغد.

المسألة الخامسة : إن لم يرد الرجوع ليومه في الأربعة‌ ، ففي المنع من التقصير وتحتّم الإتمام مطلقا ، أو عكسه كذلك فيجب التقصير ويمنع عن الإتمام مطلقا ، أو التخيير كذلك ، أو التفصيل بين ما إذا لم يتخلّل بينها وبين العود إقامة العشرة‌

١٩٣

أو غيرها من القواطع ، وبين ما إذا تخلّل ، فالتخيير أو تحتم التقصير على الأول وتحتّم الإتمام على الثاني ، خمسة أقوال.

الأول للسيد والحلّي (١) ، ونسب إلى المشهور بين المتأخّرين (٢) ، وهو كذلك.

والثاني لبعض فضلاء متأخري المتأخرين ناسبا له إلى الكليني (٣).

والثالث للشيخ في النهاية والمبسوط والتهذيب (٤) ، والمفيد والصدوقين (٥) ، ونسب إلى الكليني أيضا (٦).

والرابع للقاضي والديلمي وظاهر الوسيلة (٧).

والخامس للعماني (٨) وجمع ممّن يقارب عهده عصرنا (٩).

دليل الأولين :

أخبار إناطة وجوب التقصير بالثمانية وما بمعناها ، الحقيقة في الممتدّة الذهابية‌ كما مرّ.

ويجيبون عمّا يأتي من أخبار الأربعة بالحمل على مريد العود في اليوم ، فبه يجمعون بين الصنفين ، مستشهدا له بموثقة محمد المتقدّمة في المسألة السابقة (١٠) ، دلّ التعليل فيها على أنّ القصر في البريد إنّما هو إذا شغل اليوم ، وليس هو إلاّ إذا‌

__________________

(١) حكاه عن السيد في المعتبر ٢ : ٤٦٨ ، الحلي في السرائر ١ : ٣٢٩.

(٢) انظر الحدائق ١١ : ٣١٣.

(٣) الحدائق ١١ : ٣١٦ نقله عن بعض مشايخه المحققين عن الفاضل المشار إليه.

(٤) النهاية : ١٢٢ ، المبسوط ١ : ١٤١ ، التهذيب ٢ : ٢٠٧ ذيل الحديث ٤٩٥.

(٥) المفيد في المقنعة : ٣٤٩ ، المختلف : ١٦٢ عن الصدوقين ، وانظر الفقيه ١ : ٢٨٠ ، والهداية : ٣٣ والأمالي : ٥١٤.

(٦) الحدائق ١١ : ٣١٦ نقلا عن بعض مشايخه المحققين.

(٧) القاضي في المهذب ١ : ١٠٦ ، والديلمي في المراسم : ٧٥ ، الوسيلة : ١٠٨.

(٨) حكاه عنه في المختلف : ١٦٢.

(٩) منهم الذخيرة : ٤٠٦ ، ومفاتيح الشرائع ١ : ٢٥ ، والحدائق ١١ : ٣٢٦ ، والرياض ١ : ٢٥٧.

(١٠) راجع ص ١٩١.

١٩٤

رجع في يومه. وبما دلّ على أنّ القصر في مسيرة يوم أو بياض يوم ، حيث إنّ المستفاد منه أنّ القصر إنّما هو إذا كان يومه سائرا ، وهو يتحقّق بأحد الأمرين : مسير ثمانية فراسخ ، أو أربعة مع الرجوع في اليوم.

أقول : في كلّ من الاستدلال بأكثر أخبار الثمانية وما بمعناها ، والجمع والاستشهاد نظر.

أمّا الأوّل فلأنّ من الأخبار المذكورة ما أناط تحتّم القصر على الثمانية وما بمعناها كمعتبرة الفضل (١) ، وصحيحة زرارة ومحمد (٢) ، وصحيحة ابن يقطين (٣) ، ومنها ما يحتمل ذلك حيث يبيّن الحكم بالجملة الخبرية المحتملة للوجوب ، كموثقة سماعة ورواية البجلي (٤). وشي‌ء منهما لا ينافي جواز التقصير في الأقلّ من ذلك فلا ينافي التخيير.

ومنها ما يحتاج إلى تقدير ، وهو كلّ ما جعل التقصير في البريدين أو مسيرة يوم ، أو نحوهما ، كحسنة الكاهلي (٥) ، وصحيحتي الخزاز وأبي بصير (٦) ، وموثقة العيص (٧) ، وغيرها ، فإنّه لا شك في أنّها لا يستقيم إلاّ بتقدير نحو قوله : شرعيّة التقصير ، أو جوازه ، أو وجوبه ، أو حدّ أحدها ، فيحتمل أن يكون بيانا لحدّ الوجوب ، فلا ينافي التخيير.

نعم يتمّ استدلالهم بموثّقة الساباطي ومرسلة ابن بكير المتقدّمتين (٨).

أمّا الأولى فلدلالتها على انتفاء المسافرة ـ المراد منها ما يشرع معه التقصير ـ

__________________

(١) المتقدمة في ص ١٧٧.

(٢) المتقدمة في ص ١٧٩.

(٣) المتقدمة في ص ١٨١.

(٤) المتقدمتين في ص ١٧٧ و ١٧٨.

(٥) المتقدمة في ص ١٧٩.

(٦) المتقدمتين في ص ١٨٠.

(٧) المتقدمة في ص ١٧٩.

(٨) في ص ١٧٨ ، و ١٨٠.

١٩٥

ما لم يسر من منزله ثمانية فراسخ الّتي هي ـ كما مرّ ـ حقيقة في الممتدة ، وعلى وجوب الإتمام على السائر ذهابا خمسة أو ستّة ، الشامل لمن قصد تلك المسافة أو لا ، لترك الاستفصال.

وأما الثانية فلأنّ قوله فيها : « وإن كان دون ذلك أتم » وإن كان متضمّنا للإخبار المحتمل بنفسه للجواز ، إلاّ أنّ الظاهر من ذكره بعد قوله « قصر » الذي هو للوجوب البتّة أنّ المراد منه الوجوب أيضا. وحمل أحدهما على الوجوب والآخر على الجواز بعيد. وحملهما على الجواز ـ حيث إنّه جنس للوجوب أيضا ـ ينفيه التفصيل القاطع للشركة.

ويدلّ عليه أيضا صدر رواية البجلي السابقة (١) ، وهو : إنّ لي ضيعة قريبة من الكوفة ، وهي بمنزلة القادسية من الكوفة ، فربما عرضت لي الحاجة أنتفع بها ، أو يضرّني القعود عنها في رمضان ، فأكره الخروج إليها ، لأنّي لا أدري أصوم أم أفطر. فقال لي : « فاخرج وأتمّ الصلاة وصم ، فإنّي قد رأيت القادسية ».

وأما وجه النظر في الجمع فلإباء بعض أخبار الأربعة عنه ، وصراحته في غير الراجع ليومه كما يأتي.

وأما في الاستشهاد فلأنّ التعليل يمكن أن يكون للقصر في البريد ذاهبا خاصّة ، فيكون معناه أنّه يقصّر في البريد ، لأنّه إذا ذهب بريدا وجاء بريدا في يوم شغل يومه ، وكلّما كان كذلك يجوز القصر في ذهابه خاصّة أيضا ، حيث إنّه لو رجع لكان شاغلا. وأمّا ما دلّ على أنّ القصر في مسيرة يوم ونحوها ، فلا يدل إلاّ على أنّ قصد هذه المسافة أو سيرها يوجب القصر ، لا أنّه يجب أن يكون في يوم واحد.

حجة القول الثاني ، وهو تحتّم التقصير مطلقا وجهان :

أحدهما : وجوب القصر في الثمانية الملفّقة ، ولزوم ضمّ الإياب مع الذهاب كما مرّت أدلته.

__________________

(١) في ص ١٧٨.

١٩٦

وثانيهما : الأخبار الدالّة على أنّ حدّ التقصير أربعة فراسخ ، وهي مع كثرتها على قسمين.

القسم الأول : ما يدلّ على التقصير في أربعة فراسخ ، الظاهر في الوجوب عند جماعة ، والقاصر عن إفادته على الأظهر ، بل لا يدلّ على الأزيد من المشروعية والجواز ، وهو مرسلة الفقيه ، وصحيحتا زرارة ، ورواية المروزي ، المتقدمة كلها في صدر المسألة الاولى (١) ، وصحيحة ابن وهب المتقدمة في المسألة الثانية (٢) ، وموثقة محمّد السالفة في المسألة الرابعة (٣) ، ومرسلة الخزاز (٤) ، وهي مثل مرسلة الفقيه ، وصحيحته : أدنى ما يقصر فيه المسافر؟ فقال : « بريد » (٥).

وصحيحة الشحام : « يقصر الرجل الصلاة في مسيرة اثني عشر ميلا » (٦).

وصحيحة زرارة الطويلة ، الواردة في تقصير النبي بمنى ، حين أقام فيه ثلاثا ، ثمَّ الخلفاء بعده إلى زمن عثمان وإتمامه ، وأمره عليا عليه‌السلام بالإتمام واستنكافه منه (٧). ولا يتوهّم دلالة استنكافه على وجوب التقصير ، لجواز أن يكون ذلك لاعتقادهم وجوب الإتمام.

ورواية الهاشمي : عن التقصير ، فقال : « في أربعة فراسخ » (٨).

__________________

(١) راجع ص ١٧٩.

(٢) راجع ص ١٨٧.

(٣) راجع ص ١٩١.

(٤) الكافي ٣ : ٤٣٢ الصلاة ب ٢ ح ٣ ، الوسائل ٨ : ٤٦٠ أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ١٣.

(٥) الكافي ٣ : ٤٣٢ أبواب السفر ب ٨٢ ح ٢ ، التهذيب ٣ : ٢٠٧ ـ ٤٩٥ ، و ٤ : ٢٢٣ ـ ٦٥٤ الاستبصار ١ : ٢٢٣ ـ ٧٩١ ، الوسائل ٨ : ٤٦٠ أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ١١.

(٦) التهذيب ٣ : ٢٠٨ ـ ٤٩٨ ، و ٤ : ٢٢٣ ـ ٦٥٥ ، الاستبصار ١ : ٢٢٤ ـ ٧٩٤ ، الوسائل ٨ : ٤٥٦ أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ٣.

(٧) الكافي ٤ : ٥١٨ الحج ب ٩٢ ح ٣ ، الوسائل ٨ : ٤٥٦ أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ٩.

(٨) التهذيب ٣ : ٢٠٨ ـ ٥٠٠ ، الاستبصار ١ : ٢٢٤ ـ ٧٩٦ ، الوسائل ٨ : ٤٥٧ أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ٥.

١٩٧

وأبي الجارود : في كم التقصير؟ فقال : « في بريد » (١).

والقسم الثاني : ما يدلّ بظاهره على التحتّم ، وهو رواية صفوان المذكورة في المسألة الثانية (٢) ، وموثّقتا ابني عمار وبكير ، المتقدّمتان في المسألة الرابعة (٣).

ومرسله ابن أبي عمير : عن حدّ الأميال الّتي يجب فيها التقصير ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حدّ الأميال من ظلّ عير إلى ظلّ وعير » (٤).

وصحيحة معاوية بن عمار : إنّ أهل مكة يتمّون الصلاة بعرفات ، قال : « ويلهم ، أو : ويحهم ، وأيّ سفر أشدّ منه؟! لا تتمّ » (٥).

ورواية إسحاق بن عمار : في كم التقصير؟ فقال : « في بريد ، ويحهم كأنّهم لم يحجّوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقصّروا » (٦).

واخرى : عن قوم خرجوا في سفر ، فلما انتهوا إلى الموضع الّذي يجب عليهم فيه التقصير قصّروا من الصلاة ، فلمّا صاروا على فرسخين أو على ثلاثة فراسخ أو أربعة تخلّف عنهم رجل لا يستقيم لهم سفرهم إلاّ به ، وأقاموا ينتظرون مجيئه إليهم ، وأقاموا على ذلك أيّاما لا يدرون هل يمضون في سفرهم أو ينصرفون ، هل ينبغي لهم أن يتمّوا الصلاة أو يقيموا على تقصيرهم؟ قال : « إن كانوا بلغوا مسيرة أربعة فراسخ فليقيموا على تقصيرهم ، أقاموا أم انصرفوا ، وإن كانوا ساروا‌

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٠٩ ـ ٥٠١ ، الاستبصار ١ : ٢٢٤ ـ ٧٩٧ ، الوسائل ٨ : ٤٥٨ أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ٦.

(٢) راجع ص ١٨٧.

(٣) راجع ص ١٩١.

(٤) الكافي ٣ : ٤٣٣ أبواب السفر ب ٨٢ ح ٤ ، الوسائل ٨ : ٤٦٠ أبواب صلاة المسافر ب ٢ ح ١٢.

(٥) الكافي ٤ : ٥١٩ الحج ب ٩٢ ح ٥ ، الفقيه ١ : ٢٨٦ ـ ١٣٠٢ ، التهذيب ٣ : ٢١٠ ـ ٥٠٧ و ٥ : ٤٨٧ ـ ١٧٤٠ ، الوسائل ٨ : ٤٦٣ أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ١.

(٦) التهذيب ٣ : ٢٠٩ ـ ٥٠٢ ، الاستبصار ١ : ٢٢٥ ـ ٧٩٨ ، الوسائل ٨ : ٤٦٤ أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ٦.

١٩٨

أقلّ من أربعة فراسخ فليتمّوا الصلاة أقاموا أم انصرفوا ، فإذا مضوا فليقصروا » (١).

ورواها في العلل والمحاسن ، وزاد فيها : « هل تدري كيف صار هكذا؟ » إلى آخر ما مرّ في المسألة الثانية (٢).

وصحيحة أبي ولاّد : إني كنت خرجت من الكوفة في سفينة إلى قصر ابن هبيرة ، وهو من الكوفة على نحو من عشرين فرسخا في الماء ، فسرت في يومي ذلك ، أقصر الصلاة ، ثمَّ بدا لي في الليل الرجوع إلى الكوفة ، فلم أدر أصلّي في رجوعي بتقصير أم بتمام ـ إلى أن قال ـ : فقال : « فإن كنت سرت في يومك الّذي خرجت فيه بريدا لكان عليك حين رجعت أن تصلّي بالتقصير ، لأنّك كنت مسافرا إلى أن تصير إلى منزلك ، وإن كنت لم تسر بريدا فإنّ عليك أن تقضي كلّ صلاة صليتها في يومك بالتقصير من قبل أن تريم من مكانك ذلك » (٣).

وصحيحة [ عمران بن محمد ] (٤) : إنّ لي ضيعة على خمسة عشر ميلا ، خمسة فراسخ ، ربما خرجت إليها فأقيم فيها ثلاثة أيام أو خمسة أيام أو سبعة أيام ، فأتمّ الصلاة أو أقصّر؟ قال : « قصّر في الطريق ، وأتمّ في الضيعة » (٥).

بحملها على كون الضيعة وطنا للسائل ، أو حمل جزئها الأخير على التقية بمعنى حمل الأمر بالإتمام في الضيعة عليها ، لكون الملك مطلقا من القواطع عند جماعة من العامة.

أقول : يظهر ما في الوجه الأول مما مرّ في المسألة الثانية.

وأمّا الوجه الثاني ، أي أخبار الأربعة ، فيرد عليه أنّ القسم الأول منها غير‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٣٣ أبواب السفر ب ٨٢ ح ٥ ، الوسائل ٨ : ٤٦٦ ، أبواب صلاة المسافر ب ٣ ح ١٠.

(٢) راجع ص ١٨٨.

(٣) التهذيب ٣ : ٢٩٨ ـ ٩٠٩ ، الوسائل ٨ : ٤٦٩ أبواب صلاة المسافر ب ٥ ح ١.

(٤) في النسخ : محمد بن عمران ، والصحيح ما أثبتناه ، كما يظهر من المصادر وكتب الرجال.

(٥) التهذيب ٣ : ٢١٠ ـ ٥٠٩ ، الاستبصار ١ : ٢٢٩ ـ ٨١١ ، الوسائل ٨ : ٤٩٦ أبواب صلاة المسافر ب ١٤ ح ١٤.

١٩٩

دالّ على الوجوب ، قاصر عن إفادته. نعم يدلّ على مشروعيّة التقصير في الأربعة.

وأمّا القسم الثاني منها فكثير من أخباره غير صالح للاستدلال أيضا ، كرواية إسحاق بن عمار الأولى ، فإنّها قاصرة عن إفادة الوجوب أيضا ، لعدم معلومية سبب الويح ، فهو كما يمكن أن يكون إنكارا على الإتمام ، يمكن أن يكون على اعتقاد وجوبه ، فيكون المعنى : في كم يجوز التقصير؟ فقال : في بريد ، ويح لمن لا يجوز فيه. نعم ظاهر صحيحة ابن عمار كون الويح على الإتمام.

ومرسلة ابن أبي عمير ، فإنّها وإن كانت دالة على الوجوب إلاّ أنّ غايتها وجوب التقصير في الأربعة في الجملة ، ولا يدلّ على الوجوب مطلقا وبلا شرط. ألا ترى أنه يصحّ أن يقال : حدّ السنّ الّذي يجب فيه الصيام سنّ البلوغ ، مع أنّ وجوب الصوم فيه مشروط بدخول الوقت ، والخلوّ عن الحيض والمرض والسفر ، وغيرهما. فيصحّ القول بأنّ حدّ وجوب التقصير الأربعة ، وإن كان مشروطا بشرط كالرجوع في اليوم ، أو المسبوقيّة بقصد الثمانية الممتدّة.

والحاصل أنّها تدلّ على أنّ كلّ اثني عشر ميلا حدّ يجب فيه التقصير ، ويصدق ذلك بوجوبه فيه عند الرجوع ليومه. مع أنّه لا بدّ فيها من تقدير ، فكما يمكن أن يكون المعنى : يجب في سيرها التقصير ، يمكن أن يكون : في سير خاصّ فيها التقصير ، ولا إطلاق في السير فيها حتّى يحكم به.

ورواية إسحاق بن عمار الثانية ، وصحيحة أبي ولاّد ، فإنّهما أخصّان من المدّعى ، لاختصاصهما بسير الأربعة ، المسبوق بقصد الثمانية الممتدّة ، الراجع عن قصدها بعد سير الأربعة ، والوجوب حينئذ مسلّم ، ولا يدلّ على الوجوب في غير ذلك الفرد ، ولذا قال بالوجوب فيه من لا يقول به في غيره ، كما يأتي.

نعم تبقى خمسة أخرى من أخبار القسم الثاني ـ وهي : رواية صفوان ، والموثّقتان ، والتعليل الوارد في رواية العلل ، وصحيحة عمران بن محمد ـ دالّة على الوجوب ظاهرا.

مستند القول الثالث ، وهو التخيير مطلقا‌ ، بعد إبقاء ما دلّ على جواز‌

٢٠٠