مستند الشّيعة - ج ٧

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ٧

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-82-5
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٣٦٢

ولو قطع النظر عن ذلك أيضا لحصل التعارض بين الفريقين ، فيجب الرجوع إلى المرجّح ، ولا شكّ أنّ أخبار عدم الترتّب أرجح من جميع وجوه المرجّحات المنصوصة : فإنّها موافقة لعموم الكتاب الدالّ على جواز إقامة الصلاة في أول أوقاتها ، والدالّ على انتفاء العسر والحرج ، ومطابقة للسنة النبوية من كونه مبعوثا بالملّة السهلة السمحة ، ومخالفة لروايات العامة وفتواهم ، إذ ـ كما صرّح به جمع من علمائنا منهم صاحب الذخيرة وبعض مشايخنا المحققين وغيرهما ، وتدل عليه رواياتهم ـ القول بالمضايقة والترتّب فتوى أكثر العامة.

بل من جهة بعض المرجّحات الغير المنصوصة أيضا ، كموافقة الأصل ، وأوفقية العمومات الكثيرة الغير العديدة ، وعمل الناس من الصدر الأول إلى زماننا هذا.

وترجيح أخبار المضايقة والترتّب بالأكثرية والأصحية غلط واضح.

نعم ، قد تترجّح بموافقة شهرة القدماء والإجماعات المنقولة.

ويعارضه ما مرّ من شهرة المتأخرين المستفيضة حكايتها ودعوى الإجماع من بعضهم على خلافه.

مع أنّه يستفاد من كلام الحلّي الوهن في دعوى إجماعه بل إجماع غيره جدا ، حيث إنه في الرسالة الّتي عملها للمسألة قال : أطبقت عليه الإمامية خلفا عن سلف ـ إلى أن قال ـ : لأنّ ابني بابويه والأشعريين كسعد بن عبد الله وسعد بن سعد ومحمد بن علي بن محبوب ، والقميين كعلي بن إبراهيم ومحمد بن الحسن بن الوليد عاملون بالأخبار المتضمنة للمضايقة ، لأنّهم ذكروا أنّه لا يحلّ ردّ الخبر الموثوق روايته. انتهى.

ولا يخفى ما في تعليله لعمل هؤلاء بأخبار المضايقة ، فإنّه بعينه يجري في أخبار المواسعة أيضا.

ثمَّ لو سلّمت مكافاة الترجيحين فالعمل إمّا بالأصل أو التخيير ، ومقتضاهما أيضا عدم الترتّب.

ومما ذكرنا ظهر أنّ المسألة واضحة جدا وإن توهّم بعض مشايخنا الأخباريين‌

٣٠١

الأمر بالعكس ، وجعل الوضوح للمضايقة ، وأطال في المسألة بما أكثره استعجابات وخطابيات لا تسمن ولا تغني من جوع (١).

احتجّ كلّ من المخالفين الآخرين : بالأمر بتقديم الفائتة الواحدة أو فائتة اليوم في بعض الأخبار ، وتجويز تأخيرها في المتعددة أو من غير اليوم في بعض آخر.

وضعفهما ظاهر ممّا مرّ ، فإنّ كلاّ من الأمر بالتقديم وتجويز التأخير ورد في كلّ من الواحدة والمتعدّدة وفائتة اليوم وغيرها ، فإنّ صحيحة زرارة الطويلة تتضمّن الأمر بتقديم الواحدة والمتعدّدة من غير يوم الفوات (٢) ، كما أنّ موثّقة الساباطي وما بعدها من روايتي قرب الإسناد وكتاب الحسين تتضمّن تجويز التأخير في الفائتة الواحدة (٣) ، ومرسلة جميل وغيرها تتضمّن تجويز التأخير في يوم الفوات أيضا (٤).

والانصاف أنّه لا مناص عن القول بالتفصيل بين الواحدة والمتعدّدة على طريقة صاحب المدارك ومن يحذو حذوه من عدم العمل بالموثّقات وأخبار غير الكتب الأربعة ، إذ ليس ما يصرّح بتجويز تقديم الفائتة الواحدة إلاّ العمومات والموثّقة وما بعدها ، والصحيحة الآمرة بتقديمها خاصّة ، فعلى أصله لا تقاومها الموثقة وما يتعقبها ، ويجب تخصيص العمومات بها.

نعم ، على أصلنا من العمل بالموثقات ـ سيّما على ما اخترنا من انتهاء وقت المغرب بزوال الحمرة ـ لا يكون للتفصيل دليل تامّ ، لدلالة الموثقة على تقديم العشاء على المغرب مع انتهاء وقتها ، مع العمومات وسائر ما مر.

فروع :

أ : إذ قد عرفت أنّ الحق عدم ترتّب الفوائت على الحواضر‌(٥) ، فهل الراجح‌

__________________

(١) انظر : الحدائق ٦ : ٣٣٨ الى ٣٦٨.

(٢) راجع ص ٢٩٦.

(٣) راجع ص ٢٩٤.

(٤) راجع ص ٢٩٤.

(٥) الظاهر أنّ التعبير بترتّب الفائتة على الحاضرة من باب صناعة القلب ، والأصل : ترتّب الحاضرة‌

٣٠٢

تقديم الفائتة كما اختاره أكثر المتأخرين القائلين بعدم الترتب (١)؟ أو الحاضرة كما عن الصدوقين (٢) ، ومال إليه بعض المتأخرين (٣)؟.

والتحقيق أنّه قد ورد الأمر بكلا الأمرين في الفريقين من الروايات ، ويشتركان في عمومات الأمر بالاستباق والمسارعة إلى الخيرات.

ومزية تقديم الحاضرة بالأخبار الغير العديدة من الصحاح وغيرها الدالّة على أفضلية أول الوقت ، والمرغّبة للتعجيل إلى الصلاة في أوائل أوقاتها وأنّها رضوان الله ، إنّما كانت مفيدة لو لا معارضتها مع ما مرّ من تقديم الفائتة من الظواهر في الرجحان أو الوجوب ، وأدلّة الاحتياط. واشتهار رجحان تقديم الفائتة ـ لو كانت ـ شهرة في الفتوى ، وهي ليست من المرجّحات المنصوصة.

فلو لا موافقة أخبار تقديم الفائتة لروايات العامة وفتاوى أكثرهم ـ التي هي من موجبات مرجوحيّة الخبر نصا وفتوى ـ لكانت وظيفتنا الحكم بتساوي الأمرين ، لا بمعنى أنّه الحكم واقعا ، بل لكونه حكم من لم يظهر له ترجيح أحد الطرفين. ولكن الموافقة المذكورة تمنعنا عن الحكم المذكور ، ويترجّح عندنا رجحان تقديم الحاضرة لأجل ذلك.

وأمّا ما يستفاد من كلام بعض مشايخنا من توهّم الإجماع على رجحان تقديم الفائتة (٤).

فليس بشي‌ء ، إذ مذهب أكثر من تقدّم من القائلين بعدم الترتب لنا غير معلوم ، فكيف يمكن دعوى الإجماع فيه ، سيّما مع مخالفة مثل الصدوقين صراحة؟!.

ب : لو قلنا بفورية القضاء يحرم تركها قطعا‌ ، ويكون جميع أضداد القضاء‌

__________________

على الفائتة ، كما نبّه عليه الشهيد الثاني (ره) في روض الجنان : ١٨٩.

(١) كالعلامة في المنتهى ١ : ٤٢١ ، والشهيدين في اللمعة والروضة ١ : ٣٤٥.

(٢) المقنع : ٣٢ ، الفقيه ١ : ٢٣٢ ، وحكاه عن والده في المختلف : ١٤٤.

(٣) المحقق السبزواري في الذخيرة : ٢١٣.

(٤) انظر : الرياض ١ : ٢٢٦.

٣٠٣

الخاصة منهيا عنها على المختار ، فيحرم كلّ ما ليس على جوازه أو استحبابه أو وجوبه دليل عامّ يعارض ذلك النهي ، ويرجع إلى حكم التعارض فيما كان فيه عامّ كذائي ، كما بيّناه في الأصول.

ج : لو قدّم الحاضرة مع سعة وقتها حال كونه ذاكرا للفائتة ، فعلى القول بوجوب تقديم الفائتة تجب إعادتها‌ ، لكونها باطلة ، لأنّ النهي عن ضدّ الأمر بالابتداء بالفائتة مطلقا أو فوائت مخصوصة كالمغرب والعشاء ونحوهما أخصّ مطلقا عمّا يتضمّنه الأمر بالحاضرة في جميع أوقاتها أو الترغيب بها في أوائل أوقاتها ، فيخصّ بها ، وتبطل به الحاضرة.

ولو فعل ذلك سهوا لم يعد الحاضرة قولا واحدا ، لعدم تعلّق النهي بالساهي.

د : لو تذكر من عليه فائتة في أثناء الحاضرة عدل إلى الفائتة‌ ـ على القول بالترتب ـ مع الإمكان ، وهو حيث لا تتحقق زيادة ركوع ، بلا خلاف من القائلين بالترتب ، وتدل عليه الصحيحة الطويلة وموثقة البصري (١). ومقتضى الأولى جواز العدول مع الفراغ من الفريضة ، ولم نعثر على قائل به.

المسألة الثالثة :

من فاتته فريضة واحدة حضرا من يوم ، ولم يعلمها بعينها ، صلّى ثنائية وثلاثية ورباعية بنية قضاء ما في ذمته‌ ، على الأقوى الأشهر ، كما صرّح به جماعة (٢) ، وعن الخلاف والسرائر : الإجماع عليه (٣).

لأصالة عدم اشتغال الذمة بالزائد عن ذلك. ولا تعارضها أصالة الاشتغال ، لعدم تيقّن الشغل بالأزيد ، وما علم الشغل به فقد حصل.

__________________

(١) المتقدمتان في ص ٢٨٤ و ٢٩٦.

(٢) كالعلامة في التذكرة ١ : ٨٢ ، والسبزواري في الكفاية : ٢٧ ، وصاحب الرياض ١ : ٢٢٧.

(٣) الخلاف ١ : ٣٠٩ ، السرائر ١ : ٢٧٥.

٣٠٤

فإن قلت : اشتغلت الذمة بشي‌ء معين ، والحاصل أمر غير معين.

قلنا : لا معنى لحصول غير المعيّن ، إذ الشي‌ء ما لم يتعيّن لم يوجد. نعم لا يتعيّن في القصد ، ولم يثبت اشتغال الذمة بالمعيّن في القصد هنا ، والتعيّن الذي كان واجبا في الفائت ـ من الأدائية والظهرية مثلا ـ غير ممكن التحقق فيما نحن فيه ، فلا يكون مكلفا به قطعا.

ومنه يظهر عدم اندفاع الأصل بعموم المماثلة الواردة في بعض الأخبار (١) لو سلّم العموم.

فإن قلت : إن كان الفائت الظهر مثلا فقد اشتغلت الذمة بقضاء الظهر ، والحاصل ليس ذلك.

قلت : إن أردت اشتغال الذمة بقضاء صلاة بنية كونها ظهرا فهو باطل قطعا ، وإن أردت اشتغالها بقضاء صلاة بقصد كونها قضاء ظهر فلا نسلّم الاشتغال به ، بل المسلّم اشتغالها بقضاء أربع ركعات للأربع الفائتة.

والقول بأنّ العبادات توقيفية ، ولم يثبت من الشارع الاكتفاء بواحدة.

مردود بأنّه لم يثبت من الشارع أزيد من وجوب ركعات.

وأضعف منه تأيّد التعدد في الأربع بأصالة عدم التداخل كما في الحدائق (٢) ، فإنّ الاكتفاء بالواحدة لأجل عدم ثبوت الزائد ، لا لتداخل أكثر من الواحدة.

وتدلّ على المطلوب أيضا مرسلة ابن أسباط : « من نسي صلاة من صلاة يومه واحدة ولم يدر أيّ صلاة هي صلّى ركعتين وثلاثا وأربعا » (٣).

والمروي في محاسن البرقي : عن رجل نسي صلاة من الصلوات ما يدري أيها هي ، قال : « يصلّي ثلاثا وأربعا وركعتين ، فإن كانت الظهر أو العصر أو‌

__________________

(١) انظر : الوسائل ٨ : ٢٦٨ أبواب قضاء الصلوات ب ٦ ح ١ ، عوالي اللئالي ٢ : ٥٤ ـ ١٤٣.

(٢) الحدائق ١١ : ١٩.

(٣) التهذيب ٢ : ١٩٧ ـ ٧٧٤ ، الوسائل ٨ : ٢٧٥ أبواب قضاء الصلاة ب ١١ ح ١.

٣٠٥

العشاء فقد صلّى أربعا ، وإن كانت المغرب أو الغداة فقد صلّى » (١).

وإرسالهما غير ضائر ، للانجبار بما مرّ.

خلافا للمحكي عن الحلبي وابن حمزة ، فأوجبا الخمس (٢) ، ويستنبط ذلك من باب الوضوء من المبسوط أيضا حيث حكم بأنّ من توضّأ وصلّى الظهر ، ثمَّ توضّأ وصلّى العصر ، ثمَّ ذكر انه أحدث عقيب إحدى الطهارتين قبل أن يصلّي توضّأ وأعاد الصلاتين معا (٣).

لتحصيل نية التعيين الواجبة إجماعا مع الإمكان ، ولوجوب الجهر أو الإخفات الغير الممكن جمعهما في صلاة واحدة.

ويردّان : بأنّهما اجتهاد في مقابلة النصّ.

مضافا في الأول إلى أنه إن أراد الإجماع على وجوبها إذا كان معيّنا عند المكلّف فلا يفيد هنا ، وإن أراد الإجماع عليه مع عدم التعيين عند المكلّف فهو أوّل المسألة.

وفي الثاني إلى أنّ مقتضاه الاكتفاء بالأربع بزيادة رباعية يجهر في إحداهما ويخفت في الأخرى. مع أنّ ثبوت وجوب الجهر أو الإخفات في المورد ممنوع ، إذ قد عرفت أنّ إيجابه في القضاء بالإجماع الغير المتحقّق هنا.

ومن ذلك يظهر تخيّر المكلف في الرباعية الواحدة بين الجهر والإخفات ، للأصل ، واستحالة التكليف بهما ، وعدم الترجيح.

ولو كان في وقت العشاء ، يردّد بين الأداء والقضاء إن أوجبنا نيتهما.

ولو فاتته الواحدة سفرا يصلّي مغربا وثنائية مطلقة بين الثنائيات الأربع ، وفاقا لجماعة (٤) ، للأصل المذكور.

__________________

(١) المحاسن : ٣٢٥ ـ ٦٨ ، الوسائل ٨ : ٢٧٦ أبواب قضاء الصلاة ب ١١ ح ٢.

(٢) الحلبي في الكافي : ١٥٠ ، ولم نعثر عليه في الوسيلة وحكاه عن ابن زهرة في المختلف : ١٤٨ وهو موجود في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٦٢.

(٣) المبسوط ١ : ٢٥.

(٤) كالعلامة في التذكرة ١ : ٨٢ ، والشهيد الأول في الذكرى : ٩٩ ، والشهيد الثاني في الروض : ٣٥٨.

٣٠٦

لا لفحوى النصّين المتقدّمين ، لعدم انفهام الأولوية أصلا.

ولا لظهور قوله في رواية المحاسن : « فإن كانت الظهر والعصر .. » في العموم ، لأنه ـ لو سلّم ـ لم يفد هنا ، لضعف الرواية وعدم ظهور الجابر في المسألة ، لاختصاص الشهرة الجابرة بغيره ، وجبره بالاعتبار وفتوى طائفة لا اعتبار به.

خلافا للمحكي عن الحلّي (١) ، فأوجب هنا الخمس اقتصارا فيما خالف الأصل على مورد النصّ المنجبر بالعمل.

فرعان :

أ : لا ترتيب هنا بين الثلاث قطعا‌ ، للأصل ، وعدم المقتضي.

ب : لو تعدّدت الفائتة المجهولة شخصا مع العلم بالعدد ، يقضيها على الوجه المذكور. فلو علم فوات صلاتين من يوم ولم يعلمهما ، صلّى ثنائية وثلاثية ورباعيتين. ولو كانت ثلاثة أو أربعة ثلّث الرباعية. ولو كان مسافرا صلّى ثلاثية مع ثنائيتين في الأول ومع ثلاث ثنائيات في الأخيرتين. ولو كانت الفائتتان من يومين صلّى ثنائيتين وثلاثيتين ورباعيتين ، وهكذا.

المسألة الرابعة :

لو فاتته من الفرائض ما لم يحصه عددا فالمشهور أنّه يجب عليه القضاء حتى يغلب على ظنّه الوفاء‌ ، بل في المدارك : أنّه المقطوع به في كلام الأصحاب (٢) ، مشعرا بالإجماع.

لصحيحة مرازم : عليّ نوافل كثيرة ، فقال : « اقضها » فقلت : لا أحصيها ،

__________________

(١) السرائر ١ : ٢٧٥‌

(٢) المدارك ٤ : ٣٠٦.

٣٠٧

فقال : « توخّ » (١).

ورواية ابن سنان : في رجل فاته من النوافل ما لا يحصى ، لا يدري ما هو من كثرته ، كيف يصنع؟ قال : « يصلّي حتى لا يدري كم صلّى من كثرته » (٢).

دلّتا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى على وجوب ذلك في الفرائض أيضا. بل يحتمل وجوب الأزيد منه من تحصيل العلم بالبراءة ، ولكنّه نفي بعدم إمكان تحصيل العلم ، واستلزامه العسر والحرج عادة ، فبقيت المساواة.

ولاستصحاب شغل الذمّة ، فلا تحصل البراءة إلاّ مع العلم بها الموجب للإتيان بأكثر ما يحتمل فواته. إلاّ أنه لما مرّ من عدم إمكان تحصيل العلم يكتفي بالظنّ ، لوجوب الرجوع إلى الظنّ بعد سدّ باب العلم ، ولنحو قوله عليه‌السلام : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » (٣).

ويرد على الروايتين ـ بعد تسليم الأولوية ـ : أنّ الحكم فيهما على الاستحباب قطعا ، فغايته استحباب التوخّي ولا كلام فيه.

وعلى الاستصحاب : بأنّ ما علم الشغل به يقينا ـ وهو ما تيقّن بفواته أي الأقلّ ـ تحصل البراءة عنه بالأقلّ ، فلا معنى لاستصحاب الاشتغال به ، والزائد لم يعلم به شغل أولا حتى يصحّ استصحابه. واستصحاب نفس اشتغال الذمة مطلقا لا معنى له ، لأنّ الاشتغال لا بدّ له من متعلّق.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا المحقّقين في توجيه الاستصحاب بأنّ المكلّف حينما علم الفوات صار مكلّفا بقضاء هذه الفائتة قطعا وكذلك الحال في الفائتة الثانية والثالثة وهكذا. ومجرّد عروض النسيان بعد ذلك لا يرفع الحكم الثابت من الإطلاقات والاستصحاب ، ولا تأمّل في التكليف بالقضاء قبل النسيان (٤).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٥١ الصلاة ب ٩٠ ح ٤ ، التهذيب ٢ : ١٩٩ ـ ٧٧٩ ، علل الشرائع ٣٦٢ ـ ٢ ، الوسائل ٤ : ٧٨ أبواب أعداد الفرائض ب ١٩ ح ١.

(٢) الكافي ٣ : ٤٥٣ الصلاة ب ٩٠ ح ١٣ ، الفقيه ١ : ٣٥٩ ـ ١٥٧٧ ، التهذيب ٢ : ١١ ـ ٢٥ ، الوسائل ٤ : ٧٥ أبواب أعداد الفرائض ب ١٨ ح ٢.

(٣) عوالي اللئالي ٤ : ٥٨ ـ ٢٠٧.

(٤) شرح المفاتيح للوحيد البهبهاني ( المخطوط ).

٣٠٨

فمن أغرب الغرائب ، إذ بعد ما أتى بما تيقّن فواته لم يبق شي‌ء علم فواته أوّلا ونسيه بعد ذلك حتى يستصحب ، وكيف يعلم الفائت أوّلا؟!.

وكذا ما ذكره أيضا من أنّ ردّ صاحب الذخيرة وبعض آخر دليل استصحاب الاشتغال هنا مبني على عدم حجية الاستصحاب عنده مع أنّه يقول بحجيته فيما يتحقّق فيه الإطلاق.

فإنّ ردّهم ليس لذلك أصلا ، بل لعدم كونه موضع جريان الاستصحاب كما عرفت.

وكذا ما ذكره أيضا من أنّهم يسلّمون استدعاء الشغل اليقيني بأمر واقعي البراءة اليقينية مهما أمكن وإن وقع الإجمال وتعدّد الاحتمال في ذلك الواقعي ، فلم لا يقولون به هنا؟!.

وذلك لأنّه إنّما هو فيما إذا لم يعلم المكلّف به اليقيني ، أي كان ما علم التكليف به يقينا مجملا كالصلاة الواحدة الفائتة المترددة بين الخمس ، فإنّه لا صلاة هنا يحكم بالتكليف بها يقينا.

وما نحن فيه ليس كذلك ، إذ ما علم التكليف به يقينا معلوم وهو الأقلّ ، ولا إجمال فيه ، والزائد لا علم به ، فيجري فيه أصل البراءة الثابت بالشرع والعقل والإجماع.

وعدم التفرقة في جريان أصل الاشتغال بين هذه المسألة ومسألة الصلاة الواحدة المترددة ـ كما ذكره بعض الأجلّة ـ ناشئ من عدم التأمّل.

ثمَّ إنّا لو سلّمنا جريان أصل الاشتغال والاستصحاب هنا فمقتضاهما وجوب تحصيل العلم ، كما عن روض الجنان في بعض الصور (١) ، وبعض آخر (٢) ، فالاكتفاء بالظنّ لا وجه له.

والقول بعدم إمكان تحصيل العلم فاسد جدّا ، إذ كيف لا يمكن مع أنّ مبدأ زمان التكليف معلوم ، ومنتهاه ـ وهو زمان إرادة القضاء ـ أيضا كذلك ،

__________________

(١) روض الجنان : ٣٥٩.

(٢) كصاحب الرياض ١ : ٢٢٨.

٣٠٩

ووظيفة كلّ يوم من الفرائض أيضا معلومة ، فلو قضى جميع ما بين الطرفين يحصل العلم. ولو علم قطعا أنّه لم يترك بعضها كنصف أيام تكليفه أو ثلثه أو عشرة يحصل العلم بفعل ما نقص عنه ذلك أيضا ، ولا يلزم أن يكون تحصيل العلم بالإتيان بما فات من غير زيادة ونقصان ، بل اللازم فيه الإتيان بما لا ينقص عن الفائت قطعا.

وأما استلزامه العسر والحرج المسقطين للتكليف فهو ممنوع البتة ، كيف؟! ولو علم أحد أنّه فاتت صلوات كثيرة منه منذ سنة أو سنتين أو ثلاث سنين ولم يعلم عددها ، فغايته فوت تمام صلوات هذه الأيام ، فيقضي صلوات ثلاث سنين ، وقد ينقص ثلثها أو أقلّ أو أزيد أيضا بأن علم قطعا الإتيان بالثلث أو نحوه ، وكثير من الناس يصير أجيرا لأزيد من ذلك فيفعله في شهر أو شهرين.

وكذا كثيرا ما يحكمون بوجوب قضاء صلوات عشر سنين أو عشرين أو أزيد ـ لوقوع خلل أو ترك تقليد ـ لأجل الدليل ، ولا ينفونه بالعسر والحرج.

فإذا كان الاستصحاب هنا أيضا دليلا فلم لا يحكم بمقتضاه لأجل العسر والحرج لو سلّمنا؟ مع أنّ التفاوت فيما يحصل به الظن وما به يحصل العلم لا يكون كثيرا غالبا ، فإذا وجب الأول بدون عسر وحرج يكون الثاني أيضا كذلك.

ثمَّ لو سلّمنا عدم إمكان تحصيل العلم واستلزامه العسر والحرج فمقتضاه سقوط تحصيل العلم وما يقتضيه الاستصحاب والاشتغال ، وأمّا الاكتفاء بالظنّ فلا دليل عليه أصلا. ومثل « ما لا يدرك كلّه لا يترك كله » لا يدلّ بوجه كما بيّنا في موضعه ، والرجوع إليه بعد سدّ باب العلم ممنوع غايته ، بل يرجع إلى سقوط التكليف فيما ليس فيه علم ، ومن ذلك ظهر عدم دليل تامّ لشي‌ء من ذينك القولين.

وهنا قول آخر ، وهو : الاكتفاء بقضاء ما تيقّن فواته. استوجهه في المدارك والذخيرة (١) ، وهو ظاهر التذكرة ونهاية الإحكام (٢).

__________________

(١) المدارك ٤ : ٣٠٧ ، الذخيرة : ٣٨٤.

(٢) التذكرة ١ : ٨٣ ، نهاية الإحكام ١ : ٣٢٥.

٣١٠

وهو الأقوى ، لأصالة البراءة عن الزائد عمّا علم فواته. ولا يعارضها استصحاب شغل الذمّة كما مر.

وأمّا ما قيل من عدم إمكان حصول العلم بالأقل ، إذ كلّ عدد يفرضه مثل ذلك الشخص يحتمل النقصان عنه والزيادة عليه (١).

فكلام واه جدّا ، ظاهر وجهه مع التأمل.

وتدل عليه أيضا صحيحة زرارة والفضيل وفيها : « وإن شككت بعد ما خرج وقت الفوات فقد دخل حائل ، فلا إعادة عليك من شي‌ء حتى تستيقن ، وإن استيقنت فعليك أن تصلّيها في أيّ حال » (٢).

فإنّه إذا فعل ما تيقّنه من العدد الأقلّ يكون الزائد مشكوكا فيه بعد خروج الوقت ، فلا يكون فيه قضاء.

والإيراد بأنّ المتبادر من الرواية هو الشكّ في ثبوت أصل القضاء في الذمّة وعدمه ، وهو غير ما نحن فيه وهو الشكّ في مقدار القضاء بعد القطع بثبوت أصله في الذمّة والاشتغال به مجملا ، والفرق بينهما واضح.

مردود بأنّ بعد إخراج العدد المقطوع به عن الثاني يكون ثبوت أصل القضاء الزائد عنه موضع الشك ، فلا فرق.

وها هنا قول آخر اختاره الفاضل في الإرشاد (٣) ، وهو : الاكتفاء بالظن مع تعيين الصلاة الفائتة كيفية وترديدها عددا ، ووجوب تحصيل العلم مع عدم التعيين كما وكيفا.

ووجه التفصيل غير واضح.

المسألة الخامسة :

يستحب قضاء النوافل الرواتب اليومية استحبابا مؤكدا‌ ، بالإجماع ، كما عن‌

__________________

(١) انظر : شرح المفاتيح للوحيد البهبهاني ( المخطوط ).

(٢) الكافي ٣ : ٢٩٤ الصلاة ب ١٢ ح ١٠ ، التهذيب ٢ : ٢٧٦ ـ ١٠٩٨ ، الوسائل ٤ : ٢٨٢ أبواب المواقيت ب ٦٠ ح ١.

(٣) الإرشاد ١ : ٢٧١.

٣١١

الخلاف والمنتهى وروض الجنان (١) ، وغيرها (٢) ، له ، وللمستفيضة من الأخبار المتكثرة.

منها : رواية ابن سنان : عن رجل عليه من صلاة النوافل ما لا يدري ما هو من كثرتها ، كيف يصنع؟ قال : « فليصلّ حتى لا يدري كم صلّى من كثرتها ، فيكون قد قضى بقدر ما علم من ذلك » ثمَّ قال : « قلت له : فإنّه لا يقدر على القضاء ، فقال : « إن كان شغله في طلب معيشة لا بدّ منها أو حاجة لأخ مؤمن فلا شي‌ء عليه ، وإن كان شغله لجمع الدنيا والتشاغل به عن الصلاة فعليه القضاء ، وإلاّ لقي الله تعالى وهو مستخفّ متهاون مضيّع لحرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » قال ، قلت : فإنّه لا يقدر على القضاء فهل يجزئ أن يتصدّق؟ فسكت مليّا ، ثمَّ قال : « فليتصدّق بصدقة » قلت : فما يتصدّق؟ قال : « بقدر طوله ، وأدنى ذلك مدّ لكلّ مسكين مكان كلّ صلاة » قلت : وكم الصلاة التي يجب فيها مدّ لكلّ مسكين؟ قال : « لكلّ ركعتين من صلاة الليل ولكلّ ركعتين من صلاة النهار مدّ » فقلت : لا يقدر ، فقال : « مدّ إذا لكلّ أربع ركعات من صلاة النهار » قلت : لا يقدر ، فقال : « مدّ إذا لصلاة الليل ومدّ لصلاة النهار ، والصلاة أفضل والصلاة أفضل والصلاة أفضل » (٣).

أقول : المراد أنّ صلاة القاضي أفضل من صدقة المتصدّق وأكثر ثوابا منه ، لا أنّ الصلاة للمتصدّق أفضل ، لأنّ المفروض عدم قدرته.

ولو فاتت النافلة لمرض لم يتأكّد القضاء تأكّد غيره ، لما في صحيحة مرازم : كنت مرضت أربعة أشهر لم أتنفل فيها ، فقلت : أصلحك الله تعالى ، أو : جعلت فداك ، إنّي مرضت أربعة أشهر لم أصلّ فيها نافلة ، فقال : « ليس عليك قضاء ، إنّ المريض ليس كالصحيح ، كلّ ما غلب الله تعالى [ عليه ] فالله أولى‌

__________________

(١) الخلاف ١ : ٥٢٤ ، المنتهى ١ : ٤٢٣ ، روض الجنان : ٣٦١.

(٢) كالمعتبر ٢ : ٤١٣ ، والتذكرة ١ : ٨٣ ، والذكرى : ١٣٧.

(٣) الكافي ٣ : ٤٥٣ الصلاة ب ٩٠ ح ١٣ ، الفقيه ١ : ٣٥٩ ـ ١٥٧٧ ، التهذيب ٢ : ١١ ـ ٢٥ ، الوسائل ٤ : ٧٥ أبواب أعداد الفرائض ب ١٨ ح ٢.

٣١٢

بالعذر فيه » (١).

ويستفاد من التعليل عموم ذلك الحكم لكلّ معذور من غير اختصاص بالمريض ، ولا بأس به.

وتستحب الصدقة مع العجز عن القضاء عن كلّ ركعتين بمدّ ، على التفصيل المتقدّم في رواية ابن سنان.

والمذكور في كلام الأصحاب أنّه إن عجز عن المدّ لكلّ ركعتين يتصدّق عن كلّ يوم مدّا. ولم أقف على مستنده ، والعمل بالرواية أولى.

المسألة السادسة :

يجوز الاحتياط بقضاء صلاة احتمل اشتمالها على خلل ، أو احتمل تركها‌ بعد الوقت ، أو شك فيه ، لأنّ جميع الأخبار المطلقة في الاحتياط يدلّ عليه ، لصدق الاحتياط لغة وعرفا.

وأمّا توهّم أنّه ربما يوجب التشريع فقد يقتضي الاحتياط الترك ، فيظهر جوابه ممّا ذكرنا في بحث صلاة الجمعة ، ومنه يظهر ما في الذكرى من أنّ للبحث فيه مجالا (٢).

المسألة السابعة :

من فاتته صلاة يومية واجبة وعلم الترتيب ، تجب عليه مراعاته في قضائها ، إجماعا محققا ومحكيا في الخلاف والمعتبر والمنتهى والتنقيح (٣) ، وشرح الألفية لابن أبي جمهور ، وشرح الإرشاد للمحقق الثاني.

ولا يقدح فيه ما نسبه في الذكرى إلى بعض من صنّف في المضايقة والمواسعة‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٥١ الصلاة ب ٩٠ ح ٤ ، التهذيب ٢ : ١٩٩ ـ ٧٧٩ ، علل الشرائع ٣٦٢ ـ ٢ ، الوسائل ٤ : ٨٠ أبواب أعداد الفرائض ب ٢٠ ح ٢ ، وما بين المعقوفين من المصادر.

(٢) الذكرى : ١٣٨.

(٣) الخلاف ١ : ٣٨٢ ، المعتبر ٢ : ٤٠٥ ، المنتهى ١ : ٤٢١ ، التنقيح ١ : ٢٦٧.

٣١٣

من أصحابنا من القول بالاستحباب (١) ، ومال إليه بعض متأخري المتأخرين (٢).

فهو الحجة فيه ، مضافا إلى صحيحة زرارة : « إذا نسيت صلاة أو صلّيتها بغير وضوء وكان عليك قضاء صلوات فابدأ بأولاهن ، فأذّن لها وأقم ثمَّ صلّها ، ثمَّ صلّ ما بعدها بإقامة ، إقامة لكلّ صلاة » وفي آخرها : « وإن كانت المغرب والعشاء قد فاتتاك جميعا فابدأ بهما قبل أن تصلي الغداة ابدأ بالمغرب ثمَّ العشاء » إلى أن قال : « فإن خشيت أن تفوتك الغداة إن بدأت بالمغرب فصلّ الغداة ثمَّ صلّ المغرب والعشاء ابدأ باولاهما » (٣).

ورواية جميل : تفوت الرجل الاولى والعصر والمغرب ، وذكرها عند العشاء الآخرة ، قال : « يبدأ بالوقت الذي هو فيه ، فإنه لا يأمن الموت ، فيكون قد ترك صلاة فريضة في وقت قد دخلت ، ثمَّ يقضي ما فاته الأولى فالأولى » (٤).

وصحيحة ابن سنان : « إن نام رجل أو نسي أن يصلّي المغرب والعشاء الآخرة ـ إلى أن قال ـ : وإن استيقظ بعد الفجر فليصلّ الصبح ثمَّ المغرب ثمَّ العشاء قبل طلوع الشمس » (٥).

وإن كان في دلالة الأخيرتين على الوجوب نظر : أمّا الأولى فلأنها خالية عن الدالّ عليه ، وأمّا الثانية فلعدم وجوب تقديم الصبح قطعا.

كما أنّه لا دلالة لما استدلّوا به من عموم النبوي : « من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته » (٦).

وحسنة زرارة : رجل فاتته صلاة السفر فذكرها في الحضر ، فقال : « يقضي‌

__________________

(١) الذكرى : ١٣٦.

(٢) هو المحقق السبزواري في الذخيرة : ٣٨٥ ، والكفاية ٢٨.

(٣) الكافي ٣ : ٢٩١ الصلاة ب ١٢ ح ١ ، التهذيب ٣ : ١٥٨ ـ ٣٤٠ ، الوسائل ٤ : ٢٩٠ أبواب المواقيت ب ٦٣ ح ١.

(٤) المعتبر ٢ : ٤٠٧ ، الوسائل ٤ : ٢٨٩ أبواب المواقيت ب ٦٢ ح ٦ ، وتقدمت أيضا في ص ٢١٨ مع اختلاف يسير.

(٥) التهذيب ٢ : ٢٧٠ ـ ١٠٧٦ ، الوسائل ٤ : ٢٨٨ أبواب المواقيت ب ٦٢ ح ٤.

(٦) عوالي اللئالي ٢ : ٥٤ ـ ١٤٣ ، وج ٣ : ١٠٧ ـ ١٥٠.

٣١٤

ما فاته كما فاته ، إن كانت صلاة السفر أدّاها في الحضر مثلها ، وإن كانت صلاة الحضر فليقض في السفر صلاة الحضر كما فاتته » (١).

قالوا : إنّ الأصل في التشبيه حيث لم يظهر وجه شبهه ـ ولو بتبادر أو غلبة أو شيوع أو نحوها ـ المشاركة في جميع وجوه الشبه ، ومنها الترتيب هنا. وورود الثانية في مورد خاص غير ضائر بعد عموم الجواب وعدم القائل بالفرق من الأصحاب.

لمنع (٢) اقتضاء التشبيه المماثلة من جميع الجهات أوّلا ، وتعديّه إلى الأوصاف الغير المعتبرة في مهيّة الممثّل له ـ كما في ما نحن فيه ـ ثانيا ، فإنّه لا شكّ أنّه لو سلّم العموم فالمتبادر منه المماثلة فيما هو داخل في حقيقة الممثّل له ، بل هو حقيقة مقتضى معناها الحقيقي ، ولا شكّ أنّ الترتيب غير داخل في مهيّة الصلاة.

مع أنّ العصر التي فاتته مثلا كانت تجب قبل قضاء الظهر الفائتة قطعا ، إذ فواتهما لا يكون إلاّ بخروج وقتهما ، ولا شكّ أنّ بعد خروج وقت الظهر وبقاء وقت العصر خاصّة يجب تقديمها على القضاء ، وكذا فيما يلحق بهما ، فالثابت من الرواية خلاف المطلوب. وأيضا : الثابت أنّ ما فات من الظهر يترتّب شرعا على العصر الأدائي دون القضائي وإن ترتّب عليه عقلا أيضا ، ولكنه لا يثبت به هنا حكم الشرع.

وإن جهل الترتيب فالأكثر على سقوط وجوب مراعاته ، للأصل ، واختصاص دليله بصورة العلم : أمّا الإجماع فهو ظاهر.

وأمّا غيره فلأنّه بين مخصوص بها كذيل الصحيحة ، ومخصّص بها كصدرها ، لتقييد المكلّف به بالعلم قطعا ، فمعنى « فابدأ بأولاهنّ » : ابدأ بها إذا علمتها ـ وإن كانت الألفاظ للمعاني النفس الأمرية ـ لاشتراط التكليف بموضوع‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٣٥ الصلاة ب ٨٣ ح ٧ ، التهذيب ٣ : ١٦٢ ـ ٣٥٠ ، الوسائل ٨ : ٢٦٨ أبواب قضاء الصلاة ب ٦ ح ١.

(٢) تعليل لقوله : كما أنّه لا دلالة ..

٣١٥

بالعلم به لئلاّ يلزم التكليف بما لا يطاق ، ولعدم تبادر صورة الجهل من الإطلاق ، بل ظهور عدمه.

ومنه يظهر اختصاص سائر ما استدلّوا به أيضا على الترتيب لو تمّت دلالته.

مع أنّه على فرض إطلاق الأدلّة يجب التخصيص ، لامتناع التكليف بالمحال والحرج ، اللازمين لكثير من صور وجوبه ، مع عدم القول بالفرق كما صرّح به جماعة (١) ، مضافا إلى أنسبيته بالملّة السمحة ، وشهرته بين الطائفة.

ويضعف الأصل بوجود الدليل على وجوب الترتيب ، وهو استصحاب وجوبه قبل عروض الجهل به.

والمسلّم من تقييد التكليف بالعلم إنّما هو في الجملة ، ولا دليل على تقييده بالعلم من جميع الجهات حتّى التعيين من بين أمور يمكن الامتثال بالإتيان بالجميع.

ولزوم العسر والحرج إنّما هو في بعض الصور ، ولازمه اختصاص السقوط به ، وعدم القول بالفصل غير ثابت.

بل مال إليه بعض المحققين من مشايخنا قال : وبالجملة المسألة لا تخلو من إشكال ، وإن كان القول بالسقوط في صورة لزوم الحرج وعدم تقصيره أصلا لا يخلو من قوّة.

بل صرّح باختصاص القول بالترتيب بغير صورة التكليف بالمحال ، قال : لا شك في عدم قول أحد بالترتيب وإن لزم التكليف بالمحال (٢).

وتخصيصه بصورة عدم تقصيره مبني على ما قيل من جواز التكليف بما لا يطاق إذا كان عدم إطاقته ناشئا من تقصير المكلّف.

وهو عندي في حيّز المنع ، لعموم أدلّة عدم جواز التكليف بما لا يطاق ، وعموم قبحه ، وعدم مخصّص بل عدم قبوله للتخصيص. وما ورد من تكليف‌

__________________

(١) كالشهيد الثاني في الروضة ١ : ٣٤٥ ، والمحقق السبزواري في الذخيرة : ٣٨٥ ، وصاحب الرياض ١ : ٢٢٥.

(٢) انظر : شرح المفاتيح للوحيد البهبهاني ( المخطوط ).

٣١٦

المصوّر بإحداث الروح في صورة حيوان صوّره ، والكاذب في نومه بعقد الشعير وأمثاله ـ لو ثبت ـ فالمراد غير ظاهر ، ولو سلّم فإنّما هو في غير دار التكليف ، والكلام فيه.

هذا مع أنّ الممتنع الذي لا يجوز التكليف به هو ما لا يطاق الذي يستحيل امتثاله ، وأمّا ما يمكن ولكن يشتمل على العسر والحرج ولو كانا شديدين فلا نسلّم عدم جواز التكليف به ، بل يحكم به مع وجود الدليل الشرعي ، كيف؟! وفي الدين حرج كثير اقتضاه الدليل.

بل كثيرا ما يتحقّق في نفس القضاء أيضا كترتيبه ، كمن ظهر بطلان جميع صلواته بعد ثمانين سنة مثلا ، سيّما إذا علم أنّ فيها صلاة سفرية أيضا مع عدم تعيين مقدارها ، سيّما مع القول بالمضايقة ، وقد صرّح الحلّي في السرائر بوجوب الاشتغال بالقضاء وحرّم عليه جميع الأفعال المانعة إلاّ بقدر سدّ الرمق المحتاج إليه في التعيّش ، سيما إذا كان هو الابن الأكبر وفاتت من أبيه صلوات كثيرة ، فبعد التكليف بالقضاء نفسه مع لزوم الحرج في بعض صوره بعموم الأدلة لم لا يكلّف بالترتيب معه به مع اشتراكهما في عدم ظهور القول بالفرق؟.

والتبادر الذي ادّعوه بالمنع (١).

والأوفقية للملّة السمحة والشهرة بعدم الحجية.

ولذا خالف فيه جماعة ، فأوجبوا الترتيب من غير تقييد بعدم لزوم الحرج مع الجهل أيضا ، ومنهم : الفاضل في التذكرة والإرشاد مطلقا (٢) ، والشهيد في الدروس مع ظنّه أو وهمه ، وفي الذكرى مع ظنّه خاصة (٣).

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الدليل وإن كان عامّا بالنسبة إلى العسر والحرج أيضا ، ولكن لأدلّة نفيهما أيضا عموما بالنسبة إليه فيتعارضان بالعموم من وجه.

والترجيح لأدلّة نفي الحرج ، لموافقتها للعقل والكتاب. وتخصيصها‌

__________________

(١) أي : ويضعّف التبادر .. بالمنع. والأوفقية .. بعدم الحجيّة.

(٢) التذكرة ١ : ٨٢ ، الإرشاد ١ : ٢٧١.

(٣) الدروس ١ : ١٤٥ ، الذكرى : ١٣٦.

٣١٧

بعمومات القضاء في عدد الفائتة والقول بوجوب قضاء الجميع بالإجماع ـ ولو سلّم ـ لا يستلزم تخصيصها في الترتيب أيضا مع عدم المرجّح ، بل رجحانها بما مرّ.

وعلى هذا فيكون الترجيح للتفصيل ، بثبوت الترتيب مع الجهل أيضا إلاّ إذا استلزم العسر والحرج.

إلاّ أنه يمكن الخدش في أصل دليل وجوب الترتيب مع الجهل : أمّا عن الاستصحاب ، فبمعارضته مع استصحاب العقل ، مع أنّ موضوع وجوب الترتيب أوّلا هو الأداء ، والكلام في القضاء الذي هو بأمر جديد.

وأمّا عن الروايات ، فبعدم دلالة غير إطلاق صدر الصحيحة ، لما عرفت من أنّه بين غير دالّ على الوجوب ومخصوص بصورة العلم.

وأمّا هو وإن كان مطلقا على الظاهر إلاّ أنه يعلم تقييده بالعلم بعد التأمّل ، لأنّ العلم في الجملة وإن كان كافيا في إمكان الامتثال ولكنه يتمّ في مثل التكليف بأحد الأمرين أو الأمور معيّنا في الواقع مجهولا في الظاهر ، فيمتثل بالإتيان بالجميع ، ولكنّه لا يتمشّى في مثل قوله : « فابدأ بأولاهن » إذ ما لا يعلم التعيين لا يمكن البدأة به ، وكلّ ما يبتدئ به لا يعلم أنّه الاولى.

والحاصل أنّ خصوص الأمر بالابتداء بشي‌ء لا يمتثل إلاّ بعدم مسبوقية شي‌ء عليه ، وهو يتوقف على اليقين ، كما إذا قيل : ابدأ بإكرام زيد ثمَّ عمرو ، فإذا لم يعلم تعيين زيد لا يعلم الابتداء بإكرامه بإكرام كل مرّة ثمَّ إكرام غيره ، لأنّ ما بدئ به هو ما بدئ به أوّلا ، وكل ما عداه فليس مبتدأ به.

مع أنّ في دلالة الصحيحة على الوجوب خدشة تحصل من قوله : « فأذّن وأقم » حيث إنّ الفاء فيه تفصيلية ، وهو تفصيل لقوله « فابدأ » وبعض التفصيل ليس بواجب قطعا.

( ومن ذلك يظهر أنّ الحق في المسألة هو المشهور من عدم وجوب الترتيب في صورة الجهل ) (١).

__________________

(١) ما بين القوسين غير موجود في « ق ».

٣١٨

ثمَّ وجوب الترتيب ـ على القول به ـ إنّما هو مختصّ بفوائت الفرائض ، ومنها باليومية ، كما هو الأشهر الأظهر ، للأصل ، وعدم الدليل ، لأنّه إمّا الإجماع وحاله ظاهر ، أو الصحيحة واختصاص غير صدرها بقضاء اليومية واضح ، وكذا صدرها للأمر بالأذان والإقامة.

ولو دخل في اللاحقة سهوا قالوا : إن ذكر في أثنائها حيث يمكن العدول إلى السابقة عدل ، للإجماع المحكي من الشيخ (١) ، وصحيحة زرارة : « فإن ذكرت أنّك لم تصلّ الاولى وأنت في صلاة العصر وقد صلّيت منها ركعتين ، فانوها الاولى وصلّ الركعتين الباقيتين ، وقم فصلّ العصر » إلى أن قال : « وإن كنت قد صلّيت من المغرب ركعتين ثمَّ ذكرت العصر ، فانوها العصر ثمَّ قم فأتمها ركعتين ثمَّ سلّم ثمَّ صلّ المغرب ، وإن كنت قد صلّيت العشاء الآخرة ونسيت المغرب قم فصلّ المغرب ، وإن كنت ذكرتها وقد صلّيت من العشاء الآخرة ركعتين أو قمت في الثالثة ، فانوها المغرب ثمَّ سلّم ، وإن كنت قد نسيت العشاء الآخرة حتى صلّيت الفجر فصلّ العشاء الآخرة ، وإن كنت ذكرتها وأنت في ركعة أولى أو في الثانية من الغداة ، فانوها العشاء ثمَّ قم فصلّ الغداة » (٢) الحديث.

قالوا : وإن لم يمكن العدول أو تمّت اللاحقة أتى بعدها بالسابقة واغتفر الترتيب هنا ، لما مرّ في الصحيحة. ولكن دلالتها بصورة الإتمام مختصّة.

وفسّروا عدم الإمكان بلزوم زيادة ركن في السابقة لو عدل ، وجعلوا زيادة غيره من الواجبات من الإمكان ، لاغتفار زيادة غير الركن سهوا.

ويمكن أن يستدلّ على جواز العدول بعموم صحيحة البصري المتقدمة في مسألة الاشتغال بالعصر قبل الظهر (٣) ، وفيها أيضا ما يمكن أن يستدل به لاغتفار زيادة غير الركن ، لعموم الأمر بالعدول في الصلاة خرج بعد دخول الركن بالإجماع‌

__________________

(١) الخلاف ١ : ٣٨٥.

(٢) الكافي ٣ : ٢٩١ الصلاة ب ١٢ ح ١ ، التهذيب ٣ : ١٥٨ ـ ٣٤٠ ، الوسائل ٤ : ٢٩٠ أبواب المواقيت ب ٦٣ ح ١.

(٣) تقدّمت أيضا في ص ٢٨٤ معبّرا عنها بالموثقة.

٣١٩

فيبقى الباقي.

وفي الكلّ نظر : أما الإجماع المنقول فلعدم حجيته.

وأما الروايتان فلظهورهما في الأداء. والتعدّي قياس باطل.

وإن منع الظهور وجعلنا أعمّ من الأداء فلا بدّ من تخصيصهما بغير ما إذا اقتضى الترتيب في القضاء تقديم العصر أو العشاء أو الفجر ، وهو ليس بأولى من تخصيصهما بالأداء.

وأمّا اغتفار زيادة غير الركن سهوا فلمنع كون الزيادة هنا سهوا ، بل زيد عمدا ، والسهو تعلّق بأمر آخر ، ودليل الاغتفار سهوا غير جار في مثل ذلك ، والأصل يقتضي عدم الاغتفار ، مع أنّ المجوّز في الروايتين من العدول إنّما هو فيما لا تلزم الزيادة مطلقا ، ولذا جعل السيّد والفاضل في المنتهى فوات محل العدول بزيادة الواجب مطلقا (١).

فهو الأقوى لو جوّزنا العدول. وهو أيضا محلّ نظر لو لا الإجماع على خلافه ، لمخالفته الأصل ، وعدم دليل تامّ عليه.

بل اغتفار الترتيب في صورة التذكّر عند [ عدم ] (٢) إمكان العدول أو بعد إتمام اللاحقة أيضا خلاف أصالة وجوبه الخالية عن الرافع.

ولذا توقّف فيه في المدارك (٣). وهو في محلّه جدّا إن كان التذكّر في الأثناء. وشرعيّة الدخول لا تستلزم شرعيّة الإتمام. والنهي عن إبطال العمل ـ لو سلّم ـ لا يفيد ، لأنّ النزاع في البطلان. وتحقّق الامتثال الموجب للصحّة ممنوع في الباقي.

نعم ، إن كان بعد الإتمام يقوّى الصحة والاغتفار ، لصحة هذه الصلاة ، الموجبة لبراءة الذمة عن قضائها ، الموجبة للخروج عن عنوان « وإن كان عليك‌

__________________

(١) السيد في جمل العلم والعمل ( رسائل المرتضى ٣ ) : ٣٨ ، المنتهى ١ : ٤٢٢.

(٢) أضفناه لتصحيح المتن.

(٣) المدارك ٣ : ١٠٤.

٣٢٠