مستند الشّيعة - ج ٦

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ٦

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-81-7
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٣٩١

مسلم ، وهو صلاة الزلزلة ، مع أنّه قد لا تتحقّق الزلزلة في مائة سنة إلاّ مرّة واحدة ، ولا تقع في بعض الأصقاع أصلا.

مع أنّ قوله : « كلّ مسلم » متعلّق بقوله : « أن يشهدها » والشهود يتوقّف على التحقّق ، فالمعنى : يجب على كلّ مسلم أن يشهدها لو تحقّقت. ولا نزاع في ذلك.

وتفسير « يشهدها » بأن يفعلها خلاف الحقيقة.

وأمّا عن الثالثة والرابعة والخامسة : فبتعليق الوجوب فيها على الإمام وهو لو لم يكن ظاهرا في إمام الأصل ، يكون محتملا له قطعا ، فلا يعلم الوجوب بدونه.

ولا يفيد إطلاق البعض في قوله : « أمّهم بعضهم » في أولاها ؛ إذ ظاهر أنّ الإضافة فيه للعهد ، إذ هذا البعض هو الإمام الذي ذكره بقوله : « أحدهم الإمام » مضافا إلى احتمال كون الذي من كلام الصدوق.

مع أنّ ما يدلّ على الوجوب في الاولى وهو قوله : « على سبعة نفر » لا عموم فيه ، وما فيه العموم وهو قوله : « فإذا اجتمع .. » لا دلالة فيه على الوجوب.

وفي الثانية لا دلالة إلاّ على نفي الوجوب على الأقلّ من خمسة ، وأمّا الوجوب على كلّ خمسة فلا.

وأمّا عن السادسة : فبعدم دلالة صدرها على وجوب أصلا ؛ لخلوّه عن الدالّ عليه ، مع ما فيه من إجمال التجميع ، لما يأتي.

وأمّا ذيلها فلم يوجب إلاّ الجمعة ، وهي حقيقة في اليوم المعهود مجاز في غيره ، والمعنى المجازي المراد له عليه‌السلام غير معلوم لنا ، فكما يمكن أن يكون الركعتين مع إمام الجماعة ، يمكن أن يكون ما كان مع إمام الأصل ، أو ما كان يصلّى في زمان الظهور ، وهو ما كان مع الخلفاء والولاة. وظهورها في هذا الزمان في مطلق صلاة الجمعة ـ لو سلّم ـ لا يفيد ؛ لأصالة عدم الظهور في زمان الصدور.

ومنه يظهر الجواب عن السابعة أيضا‌ ، مضافا إلى أنّ الوجوب فيها غير باق‌

٤١

على معناه الحقيقي ؛ ضرورة عدم الوجوب على كلّ من إن صلّى الغداة في أهله أدرك الجمعة.

وتخصيص الوجوب بمن كان على أقلّ من فرسخين ، ليس أولى من التجوّز في الوجوب ، مع أنّه لا يلائم تتمّة الحديث حيث قال عليه‌السلام : « وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما يصلّي العصر في وقت الظهر في سائر الأيّام كي إذا قضوا الصلاة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجعوا إلى رحالهم قبل الليل ».

فإنّ مع التخصيص المذكور لم يكن الرجوع موقوفا على التأخير.

وأمّا عن الثامنة : فبعدم عموم فيها أصلا ؛ لعدم تعيّن المرجع في قوله : « كانوا » و « ليلبس » عندنا ، فلعلّه كان من فيهم إمام الأصل ، وإرجاعه إلى المسلمين أو الناس لا دليل عليه ، مضافا إلى أنّ عطف ما ليس بواجب قطعا على قوله « فليصلّوا » يوهن في وجوبه أيضا.

وأمّا عن التاسعة وما بمعناها : مع ضعف أكثرها سندا ، فبعدم الدلالة على الوجوب أصلا ؛ إذ قد تحصل من ارتكاب المكروه أو ترك المستحب كدرة في القلب أيضا ، ولذا ورد أشدّ من ذلك في ترك بعض المستحبات أيضا ، سيّما مع أنّه رتّب الطبع وما بمعناه على ترك ثلاث جمع المتّصفة بالمتوالية ، وسيّما مع التقييد في بعض تلك الروايات بتركها تهاونا بها.

مضافا إلى أنّ إرادة الركعتين مع الخطبتين من لفظ الجمعة ـ الحقيقة في اليوم ـ غير معلومة بل إرادتهما مع صدورهما عن الإمام ممكنة ، بل يمكن أن يكون المراد غسل الجمعة أيضا.

ومنه يظهر الجواب عن العاشرة والحادية عشرة‌ ، مع أنّهما خاليتان عن العموم جدّا ، بل ذكر الودع في الثانية صريح في حصوله ، فهو مخصوص بأيّام حياته.

وعن الثانية عشرة : مع ما مرّ ، أنّ فيه قيد الإمام العادل ، وقد عرفت ظهوره في المعصوم ، وقيد الاستخفاف والجحود ، وهو مسلّم.

٤٢

وأمّا عن الثالثة عشرة : فبما مرّ أيضا ، من قيد الإمام العادل.

وأمّا عن البواقي : فبأنّها على نفي الوجوب أدلّ ، ولذا النافي له بها استدلّ ، كما مرّ في دليل القول الأوّل.

مع أنّ شيئا منها لا يدلّ على الوجوب على الجميع :

أمّا الثلاثة الأولى ، فلخلوّها عن لفظ الوجوب ، أو الأمر الدالّ عليه ، بل أولاها متضمّنة للفظ « الحثّ » الظاهر في الاستحباب.

وأمّا الأخيرة ، فلعدم دلالتها على عموم الوجوب ، فلعلّه على من كان يتمكّن من الائتمام بإمام الأصل ، أو الاستئذان منه.

وممّا ذكر يظهر الجواب عن سائر ما لم يذكر أيضا ، فإنّها بين ضعيفة وخالية عن الدالّ على الواجب أو عمّن تجب عليه ، ومتضمّنة للفظ الجمعة المحتملة لأن يكون تجوّزها ما وقع مع الإمام أو نائبه ونحو ذلك.

وأمّا الثاني‌ ـ أي : الجواب عن الجميع كلّيا ـ فتارة‌ بعدم حجيّة شي‌ء منها على فرض الدلالة ؛ لمخالفتها الشهرة القديمة الموجبة لخروجها عن الحجيّة.

واخرى : بخروجها عن الحجيّة لتخصيصها بما مرّ من الأخبار الدالّة على اشتراط الإمام ، أو من يخطب زائدا على من يصلح للجماعة ، وقد عرفت احتمالهما لإمام الأصل لو لا تعيّنهما له ، والمخصّص بالمجمل ليس بحجّة في مقام الإجمال قطعا ، فيعمل فيه بأصالة عدم الوجوب.

وثالثة : بعدم إفادتها لمطلوبهم ؛ إذ غايتها وجوب صلاة الجمعة ( على كلّ أحد ) (١) عينا وهو ممّا لا شكّ فيه ، وإنّما الكلام في صلاة الجمعة إنّها ما هي؟.

والخصم يقول : إنّها ما وقع مع الإمام ، أو بإذنه ، ولا تفيد هذه الأخبار في ردّه.

أمّا على القول بكون العبادات أسامي للصحيحة فظاهر.

وأمّا على القول بالأعمّ فبعد بيان مقدمة ، هي :

__________________

(١) ما بين القوسين يوجد في « ح » فقط.

٤٣

أنّ أجزاء العبادات على القول بكونها أسامي للأعم على قسمين : ما يعلم انتفاء المسمّى بانتفائه قطعا ، كالركوع والسجود بالنسبة إلى الصلاة ، وما يعلم عدم انتفائه بانتفائه كذلك ، كذكر الركوع.

وقد يكون هنا قسم ثالث ، وهو : ما يشكّ في كونه ممّا ينتفي المسمّى بانتفائه أم لا ، كما إذا لم ينضبط المعنى العرفي في لفظ في زمان ، أو انضبط فيه وشكّ في معناه في الزمان السابق ولم تجر أصالة الاتّحاد ، كما في ما نحن فيه على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية في لفظ صلاة الجمعة ، لو سلّم فيها الحقيقة المتشرعة في هذا الزمان في الأعمّ ممّا كان مع الإمام.

فما كان من القسمين الأولين فحكمه ظاهر.

وما كان من الثالث فتجري فيه أصالة عدم الجزئية بواسطة أصالة عدم الوجوب إن لم يكن موقوفا عليه لوجوب سائر الأجزاء ، وأصالة الجزئية بواسطة أصالة عدم وجوب السائر بدونه إن كان موقوفا عليه له ، كما في ما نحن فيه.

والحاصل : أنّ الوضع للأعمّ إنّما هو في ما إذا لم يكن الجزء ممّا احتمل كونه سببا للتسمية ، وأمّا معه فلا.

ألا ترى أنّه إذا وضع اسم لعبد ، ثمَّ تغيّر لون العبد ، واصفرّ بعد الحمرة ، لا يتغيّر الموضوع له؟ بخلاف ما إذا وضع لفظ لعبد أحمر من جهة أنه أحمر ، فلا يطلق اللفظ بعد زوال الحمرة ، وكذا لو شك أنّه هل هو موضوع لمطلق العبد أو للأحمر منه. نعم لا يختلف الإطلاق لو تغيّر حمرة يده مثلا.

فإنّا نعلم أنّ إطلاق الصلاة على الأركان المخصوصة والأجزاء المعلومة ليس لأجل خصوص السورة أو ذكر الركوع مثلا ، ولكن نعلم أنه موضوع لمعنى هما جزءان له ، فيختلف في أنّه هل المعنى القدر المشترك أو مع هذا الجزء ، فالحقّ القدر المشترك.

والملخّص : أنّ النزاع في الوضع للصحيح أو الأعمّ إنّما هو فيما إذا علم وضع لفظ لشي‌ء أو استعماله فيه مجازا ، وشكّ في أنّ المستعمل فيه أو الموضوع له‌

٤٤

هو بتمام أجزائه أو لا ؛ وأمّا لو شكّ في أنّ الموضوع له أو المستعمل فيه هل هو هذا الشي‌ء لأجل هذا الجزء أو الشرط فلم يقل أحد بأنه للأعم.

ولو شئت التوضيح فانظر إلى لفظ وضع لكتاب ، فإنّه لا تتغيّر التسمية لو وجد فيه أغلاط وتروك ولا يقال إنّه موضوع للصحيح ، بخلاف ما إذا وضع لفظ له من جهة أنّه صحيح غاية الصحة.

إذا عرفت ذلك نقول : إنّا لو سلّمنا كون صلاة الجمعة حقيقة في الأعم مما كان مع الإمام في هذا الزمان ، فلا نسلّمه في زمان الشارع ؛ لجواز أن يكون معناه حينئذ ما كان معه ، ولم تثبت فيها الحقيقة الشرعية حتّى يحكم باتحادها مع عرف هذا الزمان بأصالة عدم النقل ، فلا نعلم أنّها هل هي ما كان مع الإمام أم لا ، ولا بعد في ذلك ، كما أنّ صلاة الجماعة لا تصدق إلاّ مع الائتمام بإمام ولو تحقق جميع الأجزاء من إقامة الصفوف وغيرها ، بل قد ينتفي المسمّى بانتفاء أقلّ من ذلك ، كمجرد قصد الصلاة ، فإنّ بانتفائه ينتفي المسمّى ولو تحقّق جميع سائر الأجزاء.

والحاصل : أنّه يمكن أن يكون المستعمل فيه ما كان مع الإمام لأجل أنه كذلك ، وعلى هذا فلا يدلّ ما دلّ على وجوب صلاة الجمعة على وجوب ما لا إمام فيه أو نائبه أصلا ؛ إذ لا نسلّم أنه صلاة جمعة.

ورابعة : بأنّه لا دخل لهذه الأخبار بالمطلوب أصلا ؛ إذ لا نزاع لأحد في وجوب صلاة الجمعة ، بل هو من ضروريات الدين ، ولا في عدم اختصاصه بزمان دون زمان من حيث هو زمان ، بل الكلّ قائلون بوجوبها في كلّ زمان من حيث هو هذا الزمان ، وإنّما الاختلاف في شرط من شرائطها أنّه هل هو الاقتداء بالمعصوم أو نائبه ، أم لا.

وهل الاستدلال بهذه الأخبار على مطلوبكم إلاّ كمن استدلّ على عدم اشتراط العدالة في إمام الجماعة بعمومات مرغّبات الجماعة؟ أو كمن استدلّ بعمومات وجوب الحجّ على وجوبه مع سدّ الطريق أيضا؟ ألا ترى أنّا نقول‌

٤٥

بوجوب الحجّ إلى يوم القيامة ، ولا ينافيه لو فرض سدّ الطريق أو منع التقية عن الحج في ألف سنة.

والحاصل أنا نقول : إنّ الله سبحانه جعل لنا إماما بعد إمام إلى يوم القيامة ، بحيث لم يخل زمانا عنه ، ونهى عباده عن الإتيان بما يقتضي غيبته واستتاره ، وأمرنا بصلاة معه كذلك ؛ وحصول الحرمان عن خدمته بعصيان الأمّة وإيجابه تعطيل واجب مشروط به بسوء أعمالنا لا ينافي دوام وجوبه ، ولا أدري ما يقول الموجب في حقّ عدم وجوبها في بلاد التقية ـ التي هي أكثر بلاد الإسلام ـ وأزمنتها.

فإن قيل : لا شكّ أنّ مفاد تلك الأخبار وجوبها في كلّ جمعة وعلى كلّ مسلم ، سواء حضر المعصوم أم لا ، ومقتضى الاشتراط اختصاص الوجوب بحال الحضور ، فعموم الروايات يدفع الاشتراط.

قلنا : هذا اشتباه نشأ من الخلط بين شرط الوجوب وشرط الصحّة ، وكذا بين كون الشي‌ء مخصّصا للعامّ أم لا ، وكونه من أفراد مخصّصة القطعي أم لا.

بيان ذلك : إنّ الشي‌ء إن كان شرطا لوجوب شي‌ء يكون موجبا لتخصيص عمومات وجوبه ومقيّدا لإطلاقاته لا محالة ، بخلاف ما إذا كان شرطا لصحته ، فإنّه لم يقل أحد بأنّ قوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ) .. مخصّص لقوله سبحانه ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) نعم لما كان انتفاء شرط الصحة مستلزما لانتفاء المشروط الصحيح ، فبانتفائه ينتفي التمكّن عن الإتيان بالمطلوب ، ووجوبه مخصوص بحال التمكّن قطعا ، فيكون انتفاء الشرط من أفراد عدم التمكن الذي خصّ العامّ به عقلا وشرعا قطعا.

والحاصل : أنّا لا ندعي أزيد من أنّ الائتمام بالمعصوم أو نائبه شرط لصحّة الجمعة ، فإذا لم يتمكن المكلف منه فنقول : إنّ عمومات وجوب الجمعة مخصّصة ـ باعترافك ـ بحال التمكّن من صحيحها قطعا ، ولذا لا يقول بوجوبهها عند فقد إمام عادل أو من يخطب أو العدد اللازم ونحوها ، ونحن أيضا لا ندّعي أزيد من‌

٤٦

ذلك.

نعم نحن نقول : إنّه يشترط في صحتها الائتمام بالمعصوم ، فإذا لم يتمكن منه ينتفي التمكن من الجمعة الصحيحة ، وأنت لا تقول به.

فليس النزاع إلاّ في انتفاء إمكان الائتمام بالمعصوم ، هل هو من أفراد عدم التمكّن من الجمعة المخصوصة عموماتها بغيره قطعا أم لا؟ وليس ذلك نزاعا في التخصيص أصلا ، فلا وجه للتمسك بالعمومات في دفعه.

فنحن وأنتم متفقون في اختصاص العمومات بحال التمكّن من الجمعة الصحيحة ، ومختلفون في أنّ حال عدم إمكان الائتمام بالمعصوم هل هي حال التمكن أم لا؟ فأنت تقول بالتمكن ، لعدم اشتراط الصحة به ، ونحن نقول بعدمه ، للاشتراط ، وليس في يدك شي‌ء يتمسّك به سوى أصالة عدم الاشتراط ، وقد عرفت حالها.

والحاصل : أنّ الأخبار المتقدمة وما لم يذكر منها بأجمعها ـ على فرض الحجّية والدلالة على الوجوب ـ بين دالّة على وجوب الجمعة في الجملة ، أو على وجوبها المطلق ، أو على وجوبها على كلّ أحد ، أو وجوبها أبدا.

والاحتجاج بالأولى إنّما يصحّ في مقابلة من ينفي وجوبها رأسا.

وبالثانية في مقابلة من قال : إنّها واجبة مقيدة ، نحو : إن كنت متوضئا فتجب عليك الصلاة.

وبالثالثة في مقابلة من قال : إنّها واجبة على طائفة خاصة ، نحو : تجب الصلاة على المتطهرين.

وبالرابعة في مقابلة من قال : إنّها واجبة في زمان ، ثمَّ نسخ ، أو كان وجوبها مخصوصا ببعض الأزمنة ، نحو : تجب الصلاة في زمان النبي.

ونحن لا نقول بشي‌ء من ذلك ، بل نقول : إنّها واجبة مطلقة على كلّ أحد إلى يوم القيامة ، ولكنّه مثل الصلاة بالنّسبة إلى الوضوء ، حيث خلق الله سبحانه الماء ثمَّ أمر كلّ أحد إلى يوم القيامة بالصلاة ، وشرط فيها الوضوء ، أي : أمر به‌

٤٧

عندها ، ونفى صحّتها بدونه ، فكذلك جعل الله سبحانه للأمة إماما بعد إمام إلى يوم القيامة وأمر الناس بطاعته والاجتناب عمّا يوجب غيبته واستتاره. ثمَّ أمر كلّ أحد إلى يوم القيامة بصلاة الجمعة ، وشرط فيها الاقتداء بذلك الإمام ، ونفى صحتها بدونه.

بل نسبته إلى صلاة الجمعة كنسبة الترتيب في الوضوء بالنسبة إلى الصلاة ؛ لاتّفاق الكلّ على اشتراط الإمام ، وإنّما النزاع في وصف منه ، فكما لا يعقل عن العالم الاحتجاج بأوامر الصلاة على من يقول بوجوب الترتيب في الوضوء ، فكذا ها هنا. وهل يصحّ الردّ على الخصم هنا إلاّ بنصّ يصرّح بعدم وجوب الترتيب ، أو بأصالة عدم وجوبه؟.

وليس هنا نصّ يصرّح بعدم وجوب الائتمام بالإمام أو نائبه ، فلم يبق إلاّ أصالة عدم وجوب الائتمام به. وهل يصحّ من فاضل الاستدلال في مقابل ذلك الخصم بالآيات والروايات؟!.

نعم كما أنّه لو لم يتمكن أحد من الطهارة المائية ، أو من الترتيب فيها ، ولم تثبت بدلية التيمم عنها ، ينتفي التمكن من الصلاة المأمور بها ، ولذا يسقط وجوبها ، كذلك نقول : لو لم يتمكّن أحد من الائتمام بالإمام أو نائبه ، ينتفي التمكن من صلاة الجمعة المأمور بها ، ولذا تسقط. وهذا ليس من باب تخصيص مخصوص بعموماتها ، بل هو من التخصيص بالتمكّن والقدرة الثابت باعتراف الخصم شرعا وعقلا فيها وفي كلّ أمر.

فليس شي‌ء ينفع للخصم هنا إلاّ أن يقول : إنّه لم يثبت الأمر بالاقتداء بالإمام أو نائبه ، وهو أصل عدم اشتراط الصحّة ؛ إذ عدم الثبوت لا يفيد بدون ضمّ الأصل. أو يقول : إنّه ثبت الأمر بالاقتداء بغير الإمام ، وليس له شي‌ء يدلّ على ذلك.

وبعبارة أخرى في أصل الجواب : المراد من هذه الأخبار ومعناها :

إمّا وجوب الجمعة في الجملة ، فهو مما لا كلام فيه.

٤٨

أو وجوبها بشرائطها مجملة ، فلا ينفع لك أصلا ؛ إذ الواجب حينئذ الكلام في الشرائط ، وليس لك شي‌ء في ردّ هذا الشرط إلاّ الأصل.

أو وجوبها بشرط عدم شرط ، مطلقا أو إلاّ بعض الشروط المذكورة ، فيكون منافيا لمطلوبك من اشتراط كثير من الشرائط الغير المذكورة فيها ، سيّما انتفاء التقية (١) ونحوها ، فكيف لا يضرّ ذلك ويضرّ عدم ذكر شرط واحد آخر؟! فإنّ الفريقين قائلان بالوجوب والكلّ يشترطون شروطا إلاّ أنّا نشترط شرطا واحدا آخر ، فكيف تصير هذه الأخبار ردّا علينا دون الباقين؟! وكيف يمنع شرط واحد عن الشمول دون شروط كثيرة؟!.

فإن قيل : سلّمنا جميع ذلك ، ولكن نقول : إنّه لا شكّ أنّ بواسطة عدم التمكّن من الشرط في غير زمان النبي والولي وقليل من زمان مولانا الحسن عليه‌السلام وأزمنة ظهور القائم ، على القول بالاشتراط ينتفي التمكّن عن صلاة الجمعة المأمور بها ، فيسقط وجوبها في جميع تلك الأزمنة التي هي أكثر بكثير من زمان التمكّن ، فهل تحسن تلك التسديدات والتعميمات مع وجود مثل هذا التخصيص؟!.

قلنا ؛ بعد النقض بأوامر الجهاد وعموماته ، والحدود ، ووجود الإمام في كلّ عصر لدفع الشبهات وإقامة الحجج والردع عن الباطل ونحو ذلك ؛ أولا : أنّك تقول باشتراط الإمام العادل والعدد والمذكورة والحريّة والحضر والصحّة ، مع أنّه ليس الجامع لجميع هذه الشرائط مساويا للفاقد لها البتة ، بل تقول باشتراط انتفاء التقية ، وتسند عدم وقوع الجمعة من العلماء في جميع الأزمنة السالفة إلى التقية ، مع أنّ التقية كانت قائمة في غير زمان النبي والولي وقليل من زمان الحسن إلى قريب من هذه الأزمنة في جميع البلاد ، بل إلى هذا الزمان في معظم بلاد الإسلام ، بل غير شرذمة من ولايات العجم ، فكيف لا يضرّ هذا التخصيص لك ويضرّ لنا؟!.

__________________

(١) في جميع النسخ : انتفاء عدم التقية ، والظاهر زيادة كلمة « عدم ».

٤٩

مع أنّا نقول : إنّه لا علم لنا بلزوم خروج الأكثر أيضا ، لإمكان كون أزمنة ظهور القائم عليه‌السلام أكثر بكثير من جميع تلك الأزمنة ، بل هو الظاهر من الأخبار ، بل يحتمل أن تكون في جميع أزمنة الغيبة للإمام بلاد وأصحاب كثيرة يقيمون الجمعة ، كما يستفاد من بعض الحكايات (١).

هذا كلّه مع أنّ كل ذلك إذا قلنا بوضع صلاة الجمعة للأعم. ولكن إذا قلنا بالوضع للصحيحة ، كما هو مذهب كثير من الأصحاب ، أو قلنا بأنّ خصوص الجمعة اسم لما فعل مع الإمام ، كما عن القاضي وبعض آخر ، وهو المحتمل ، فلا ينفع الاستدلال بالآية والأخبار أصلا ، بل اللازم إبطال هذين الأمرين ، ويكون جميع تلك الاستدلالات تطويلا بلا طائل ، وسكوتا عمّا يقول الخصم.

وقد يستدل أيضا بروايات أخر بيّنة الوهم لا فائدة في التعرض لها.

المسألة الثالثة : إذا ثبت انتفاء الوجوب العيني للجمعة فهل ينتفي عنها الجواز أيضا؟ أم لا وإذا ثبت في المسألة السابقة انتفاء الوجوب العيني للجمعة مع عدم حضور الإمام أو نائبه ، فهل ينتفي عنها الجواز أيضا؟ بمعنى تجويز الشارع فعلها بدلا عن الظهر ، ومعناه الوجوب التخييري ، وإلاّ فلا معنى للجواز بمعنى تساوي الطرفين مطلقا فيها.

أم لا ينتفي بل تجوز؟.

الأول الأظهر ، وفاقا لظاهر المفيد في الإرشاد (٢) ، والسيد في المواضع الثلاثة المتقدمة (٣) ، والشيخ في الجمل (٤) ، وصريح الحلي والديلمي وابن حمزة‌

__________________

(١) لعلّه أراد بها حكاية الجزيرة الخضراء ، أوردها في البحار ٥٢ : ١٥٩.

(٢) الإرشاد ٢ : ٣٤٢.

(٣) في ص : ١١ ولم يتوهم من قول السيد في الفقه الملكي : والأحوط ، أنّه لا يقول بانتفاء الوجوب ، حيث قال : والأحوط ان لا يصلي الجمعة إلاّ بإذن السلطان وإمام الزمان ، لأنّها إذا صليت على هذا الوجه انعقدت وجازت بإجماع ، وإذا لم يكن فيها إذن السلطان لم يقطع على صحتها وإجزائها. فإنّ آخر كلامه صريح في نفي الجواز ، والاحتياط عنده الدليل سيّما في هذا الكتاب الذي ردّ فيه على العامّة بالاحتياط ، وبناؤه فيه على ذلك. منه رحمه‌الله.

(٤) الجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : ١٩٠.

٥٠

والقاضي (١) ، والفاضل في المنتهى وموضع من التحرير (٢) (٣) ، وهو أحد احتمالات كلام العماني والتبيان والغنية والموجز وشرحه والمجمع والمراسم (٤) ، وإليه ذهب الفاضل الهندي من متأخري المتأخرين (٥) ، ونقله في الحدائق عن بعض علماء البحرين (٦) ، واختاره غير واحد من مشايخنا (٧).

لاستصحاب وجوب الظهر من وجوه :

أحدها : أنّه كان واجبا على كلّ أحد قبل إسلام عدد الجمعة بل قبل الهجرة ؛ لعدم تشريع الجمعة قبلها. وبتشريعها علم انتفاء وجوبها ما دام حضور الإمام وتمكنه ، بالإجماع ، وانتفاؤه مع انتفائه غير معلوم فيستصحب وجوبه مع عدم تمكنه.

ولا يعارضه استصحاب وجوب الجمعة مع انتفاء تمكّن الإمام ؛ لمعارضته مع استصحاب عدم وجوبها حينئذ الثابت لها قبل التشريع.

وثانيها : استصحاب وجوب الظهر بعد تشريع الجمعة على من لم يكن على رأس فرسخين أو أدون من جمعة المعصوم وإن كان له إمام الجماعة والخطيب ، ويتمّ المطلوب بعدم الفصل.

وثالثها : استصحاب وجوب الظهر على هذا الشخص ، لو فرض بقاؤه إلى زمان انتفاء تمكّن الإمام ، كما كان كذلك ، ويتمّ المطلوب بالإجماع على المشاركة أو‌

__________________

(١) الحلّي في السرائر ١ : ٣٠٣ ، حكاه عن الديلمي في الرياض ١ : ١٩٠ ، ابن حمزة في الوسيلة : ١٠٣ ، القاضي في شرح جمل العلم والعمل : ١٢٣.

(٢) المنتهى ١ : ٣١٧ ، التحرير ١ : ٤٣.

(٣) في « س » زيادة : والشيخ إبراهيم القطيفي.

(٤) حكاه عن العماني في المختلف : ١٠٨ ، التبيان ١٠ : ٨ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٦٠ ، مجمع البيان ٥ : ٢٨٨ ، المراسم : ٧٧.

(٥) كشف اللثام ١ : ٢٤٥.

(٦) الحدائق ٩ : ٤٤٢.

(٧) كصاحب الرياض ١ : ١٨٣.

٥١

عدم الفصل.

ورابعها : استصحاب الحكم السابق على زمان تشريع الجمعة ، وهو وجوب الظهر على جميع المكلفين ، وبعد تشريعها لم يثبت نقض ذلك الحكم إلاّ بالنسبة إلى بعضهم ، وكوننا منهم أول الدعوى لو لم نقل بكوننا غيرهم.

والحاصل : أنّ الله سبحانه ما أوجب الجمعة إلاّ بعد مدة مديدة من البعثة ، وكانت الفريضة بالنسبة إلى جميع المكلفين في تلك المدة هي الظهر بالضرورة ، ثمَّ بعد تلك المدة تغيّر التكليف بالنسبة إلى بعض المكلّفين ، بالإجماع والضرورة والأخبار المتواترة ، فمن ثبت تغيّر حكمه فلا نزاع ، ومن لم يثبت فالأصل بقاء الظهر اليقينية بالنسبة إليه حتّى يثبت خلافه ، ولم يثبت.

والتوضيح : أنّا نعلم علما ضروريا أنّ الظهر كانت ثابتة قبل تشريع الجمعة على كلّ أحد ، وكانت بحيث لو لم تشرع الجمعة كانت واجبة عليهم إلى يوم القيامة ، ويعلم أنّ الموجودين في هذا الزمان كانوا يعلمون وجوبها عليهم وعلى من بعدهم إلاّ مع ناسخ أو مسقط ، وكانت بعينها كصلاة العصر والفجر وغيرهما ، يعتقدون وجوبها إلاّ بناسخ أو مسقط ، ويستفاد ذلك من أخبار الظهر المتقدمة أيضا ، وتدلّ عليه مرسلة الفقيه : « إنّما وضعت الركعتان اللتان أضافهما النبي يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الإمام » (١) فإنّ الوضع فرع الثبوت.

ثمَّ بالإجماع والأخبار علم سقوط الظهر عمّن أدرك الإمام أو نائبه متمكنا ، ولم يعلم سقوطه من غيره فيستصحب ، ثمَّ إنّه لم يعلم من أدلّة وجوب الجمعة ـ كما مرّ ـ سقوط الظهر عنّا ، فيكون واجبا عينيا علينا ، فلا تكون الجمعة مشروعة إجماعا ؛ إذ شرعيّة الجمعة مسقطة للظهر قطعا.

ويدلّ عليه أيضا أصل الاشتغال ، فإنّ كلّ أحد مكلّف بأحد الأمرين من الظهر والجمعة قطعا ، وبعد انتفاء الوجوب العيني للجمعة بما مرّ يكون الظهر مبرئا‌

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٦٧ ـ ١٢١٩ ، الوسائل ٧ : ٣١٢ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٦ ح ١.

٥٢

للذمة قطعا ، بخلاف الجمعة ؛ لأنّها إمّا جائزة أو محرّمة ، فلا تحصل البراءة اليقينية إلاّ بالظهر ، فيتعيّن وجوبه ، ويستلزمه عدم مشروعيّة الجمعة ؛ إذ مع مشروعيتّها لا يتعيّن وجوب الظهر.

ويدلّ عليه أيضا أنّ جوازها متوقف على التوقيف ، والأصل عدمه ؛ لأنّ المسلّم من الموقّف ما كان مع الإمام أو نائبه ، إذ عرفت احتمال كون الجمعة اسما لما كان معه ، مضافا إلى ما مرّ من سقوط إطلاقاتها بعروض الإجمال لها ، كما مرّ.

ويدلّ عليه أيضا أنّ جميع ما مرّ من الأخبار المستدلّ بها على الاشتراط أو أكثرها يدلّ على اشتراط الشرعية به ، فإذا انتفى الشرط انتفى المشروط.

خلافا للشيخ في المصباح والمعتبر والشرائع والنافع والنكت والروضة وظاهر الخلاف (١) ، وهو مختار والدي العلامة ـ رحمه‌الله ـ أخيرا :

فتجوز الجمعة بمعنى أنّها أحد فردي الواجب مطلقا ، فقيها كان الإمام أم لا ، بل تستحب ، فهي أفضل الفردين.

ونسب إلى نهاية الشيخ والحلبي والمختلف والتذكرة (٢) ، وليس كذلك ، ومنهم من نسبه إلى المشهور ، وفيه نظر.

أمّا الجواز بالمعنى المذكور ، فللجمع بين أدلة الاشتراط وعمومات الجمعة.

ولأوامر الجمعة ؛ فإنّ مقتضاها الوجوب ، وهو أعمّ من العيني أو التخييري ، ولمّا انتفى الأوّل بالإجماع أو أدلة الاشتراط أو بالأصل تعيّن الثاني.

ولحصول التعارض بين عمومات الظهر والجمعة وأصولهما فيرجع إلى التخيير.

ولمرسلة الكافي وموثقة سماعة وصحيحة زرارة المتتالية المتقدمة في أدلة المختار في المسألة السابقة (٣) ، الدالة على أنّ من صلّى الصلاة يوم الجمعة في جماعة أو مع‌

__________________

(١) مصباح المتهجد : ٣٢٤ ، المعتبر ٢ : ٢٩٧ ، الشرائع ١ : ٩٨ ، المختصر النافع ١ : ٣٦ ، الروضة ١ : ٣٠١ ، الخلاف ١ : ٦٢٦.

(٢) نسب إليهم في غاية المراد كما في مفتاح الكرامة ٣ : ٦٣.

(٣) راجع ص ٢١ و ٢٢.

٥٣

من يخطب لا تجب أربع ركعات فتجب الجمعة ، ولما انتفى الوجوب العيني بما مر ثبت التخييري.

وأمّا أفضلية الجمعة ، فلصحيحة زرارة ، وموثقة عبد الملك المتقدمتين (١) ، المصدرة أولاهما بقوله : « حثّنا » والثانية بقوله : « مثلك يهلك » حيث إنّ ظاهرهما يشعر بأنّ الرجلين كانا متهاونين بالجمعة ، ولم يقع من الإمامين إنكار عليهما ، فلا تكون واجبة ، ولكن ترغيبه إياهما يدلّ على الاستحباب.

وبعض أخبار أخر مرّت ، وكانت قاصرة عن إفادة الوجوب ، إمّا لاشتمالها على الجملة الخبرية ، أو التحذير بما يحذر بمثله في ترك المستحبات.

والمروي في مصباح المتهجد : « إنّي لأحب للرجل أن لا يخرج من الدنيا حتّى يتمتّع ولو مرة ، وأن يصلّي الجمعة في جماعة » (٢).

وروي في أمالي الصدوق أيضا بزيادة قوله : « ولو مرة » بعد قوله « في جماعة » أيضا (٣).

ويضعف الأول : بأنه جمع بلا شاهد.

والثاني : بمنع أعميّة الوجوب المستفاد من الأمر ؛ لاختصاصه ـ بحكم التبادر ـ بالعيني ، بل وكذا في مطلق الوجوب ، ولأنّ مئال التخيير إلى وجوب شي‌ء آخر غير الفرد وهو أحدهما لا على التعيين.

سلّمنا الأعمية ولكن غير الإجماع من أدلة الاشتراط يدلّ على اشتراط الوجوب المستفاد من تلك الأوامر ، فإذا انتفى الشرط انتفى المشروط سواء كان وجوبا عينيا أو تخييريا.

والثالث : بأنه إنما يصحّ لو تمت دلالة أدلّة الجمعة على الوجوب ، ثمَّ على عدم ثبوت تخصيص عمومات الجمعة بما مرّ من أدلّة الاشتراط ، أو عدم خروجها‌

__________________

(١) في ص ٣٠ و ٣١.

(٢) مصباح المتهجد : ٣٢٤ ، الوسائل ٢١ : ١٤ أبواب المتعة ب ٢ ح ٧.

(٣) لم نجده في الأمالي ، وقد نقله عنه في الوافي ٨ : ١١١٥ ، وفيه : « ويصلي الجمعة ولو مرة ».

٥٤

عن الحجية بواسطة إجمال دليل الاشتراط.

فإن قلت : إجماله يوجب الإجمال في أدلة الظهر أيضا.

قلنا : فيرجع إلى الاستصحابات المتقدمة.

والرابع‌ ـ أي الأخبار الثلاثة ـ : بما مرّ من تقيّدها بالإمام أو بمن يخطب ، مع ما فيها من الإجمال المتقدم ذكره.

والخامس : أولا : بأنه يمكن أن يكون قوله عليه‌السلام : « إنّما عنيت عندكم » وقوله عليه‌السلام : « صلّوا جماعة » إذنا لهما أو أمرا بالتجميع مع مأذون سرّا ، ولا كلام في الصورتين في الوجوب العيني.

وثانيا : بأنّه يمكن أن يكون حثّا على حضور جماعة المخالفين ، حيث كان الرجلان من معاريف أصحابهما وكان عدم حضورهما مظنة للضرر ، فلا يدلان على جواز التجميع في غير موضع التقية ، وهو الذي يظهر من المقنعة ، حيث قال : يجب حضور الجمعة مع من وصفناه من الأئمة فرضا ، ويستحب مع من خالفهم تقية وندبا ، روى هشام بن سالم عن زرارة قال : « حثنا أبو عبد الله » الحديث. انتهى (١).

والسادس : بأنه إنما يتمّ لو تعيّن المراد من صلاة الجمعة ، وسلمت تلك الأخبار من التخصيص بأدلة الاشتراط أو الإجمال بها.

ومنه يظهر ضعف السابع أيضا.

مضافا إلى أنّ قوله : « في جماعة » مقيّد قطعا ، ضرورة اشتراط الجماعة فيها بشروط كالعدالة والعدد وغيرهما ، وعلى هذا فكما يمكن التقييد بهذه الجماعة ، يمكن أن تكون مقيدة بجماعة المخالفين ، بل هي الغالب في زمانهم عليهم‌السلام.

وإلى أنه يمكن أن يكون المراد من الجمعة ظهرها ؛ لعدم ثبوت الحقيقة‌

__________________

(١) المقنعة : ١٦٤.

٥٥

الشرعية ، ولذا أطلقت الجمعة على الظهر في الأخبار ، كما في صحيحة البقباق السابقة : « إذا كان قوم في قرية صلوا الجمعة أربع ركعات » (١) بل هو الظاهر ؛ إذ لو كان المراد صلاة الجمعة لكان التقييد بالجماعة لغوا ، ولم يكن وجه لقوله : أحبّ أن يصليها في جماعة ، فيكون الخبر تأكيدا لاستحباب الجماعة في ظهر الجمعة.

وإلى وجوب تخصيصها بما إذا كان إمام يخطب ، أو مطلق الإمام بموثقة سماعة ومرسلة الكافي المتقدّمتين ، فيخص إما بإمام الأصل أو بالمجمل الموجب للخروج عن الحجية.

ولظاهر نهاية الشيخ والمختلف والذكرى (٢) ، و [ البيان ] (٣) وأحد احتمالات كلام العماني والمبسوط والتبيان (٤) ، بل يحتمله كلام جمع آخر ، كالغنية والموجز وشرحه للصيمري والمجمع والمراسم (٥) : فتجوز من غير ذكر الأفضلية ؛ لبعض ما مرّ بجوابه.

وللمحقق الثاني زاعما أنّه مذهب جمهور القائلين بالجواز في زمن الغيبة ، بل قال : لا نعلم أنّ أحدا من علماء الإمامية في عصر من الأعصار صرّح بكون الجمعة في حال الغيبة واجبة حتما مطلقا أو تخييرا بدون حضور الفقيه (٦) ، وهو أحد احتمالات اللمعة والدروس (٧) :

فتجوز مع الفقيه الجامع لشرائط الفتوى ، ولا تجوز بدونه.

أما انتفاء العيني ، فللإجماع المنقول (٨) ، بل المحقق.

__________________

(١) تقدمت في ص ٢٢ بعنوان موثقة البقباق.

(٢) النهاية : ١٠٧ ، المختلف : ١٠٩ ، الذكرى : ٢٣١.

(٣) في النسخ : التبيان ، والصحيح ما أثبتناه ، راجع البيان : ١٨٨.

(٤) حكاه عن العماني في المختلف : ١٠٨ ، المبسوط ١ : ١٥١ ، التبيان ١٠ : ٨.

(٥) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٦٠ ، مجمع البيان : ٢٨٨ ، المراسم : ٧٧.

(٦) رسائل المحقق الكركي ١ : ١٦٣.

(٧) اللمعة ( الروضة ١ ) : ٢٩٩ ، الدروس ١ : ١٨٦.

(٨) راجع ص ١٩.

٥٦

وأمّا ثبوت التخييري ، فللأخبار المثبتة للوجوب لها عموما ، والوجوب ماهيّة كلية صادقة على جميع أفرادها.

وأمّا اشتراط الفقيه ، فلما دلّ على اشتراط الإمام أو نائبه في مطلق الوجوب الشامل للوجوبين ، والنائب شامل للفقيه أيضا.

وبعبارة أخرى : ثبت وجوبها مطلقا مع الإمام أو نائبه ، والوجوب أعمّ من التخييري والعيني ، والنائب من الخاصّ والعامّ ، والعيني منفي في الغيبة ، والنائب الخاص غير موجود ، فيتعين التخيير والنائب العام.

ويضعف ـ بعد منع شمول الوجوب للتخييري كما مرّ ـ بمنع دليل على كفاية النائب العامّ ؛ إذ الأخبار إنّما كانت متضمنة للإمام ، والنائب ادخل بالإجماع ، وهو في العامّ غير متحقق.

إن قيل : الفقيه نائب من الإمام بصريح الروايات في جميع ما كان له ، ومنه الجمعة ، فتكون له.

قلنا : النيابة في الجميع ممنوعة ، ولا دليل عليه ، والثابت من الروايات ليس إلاّ في الجملة أو في بعض الأمور.

ولظاهر نهاية الإحكام (١) ، وأحد احتمالات اللمعة والدروس ، فكالسابق من دون ذكر عدم الجواز بدونه.

ولظاهر التنقيح والمهذب (٢) ، وصريح المحقق الثاني في حواشي الإرشاد ، فكسابقه بزيادة ذكر أفضلية الجمعة.

وللمحكي في شرح الجعفرية للجواد ، ويشعر به كلام الذكرى (٣) ، فالجواز مع الفقيه إن أمكن ، وبدونه إن لم يمكن.

ولظاهر الإرشاد والقواعد وجهاد التذكرة بل صلاته (٤) ، وظاهر‌

__________________

(١) نهاية الإحكام ٢ : ١٤.

(٢) التنقيح ١ : ٢٣١ ، المهذب البارع ١ : ٤١٣.

(٣) الذكرى : ٢٣١.

(٤) الإرشاد ١ : ٢٥٧ ، القواعد ١ : ٣٦ ، التذكرة ١ : ١٤٥ و ٤٤٣.

٥٧

الأردبيلي (١) ، والتوني ، فتردّدوا.

ويظهر أدلة هذه الأقوال ، وجوابها مما ذكر.

ثمَّ لا يخفى أنّ ما ذكرنا ـ من عدم جواز الجمعة في زمان الغيبة وحرمتها ـ إنّما هو إذا فعلت بدلا عن الظهر ، وأمّا بدون ذلك فهل يجوز فعلها أم لا؟.

صريح النافين لمطلق وجوبها : الثاني ؛ إذ عدم جوازها بدلا ليس إلاّ لعدم ثبوت توقيفها وتشريعها بدون الشرط ، فإنّ الجمعة الموقّفة هي التي تكون بدلا عن الظهر ، فتنتفي بانتفاء البدلية قطعا ، والعبادة إذا لم تكن موقّفة مشروعة كانت محرّمة ، لكونها تشريعا وإدخالا في الدين.

أقول : من الأمور الضرورية الثابتة بالأخبار المتواترة المنضمّة بالإجماع والاعتبار : مشروعية الاحتياط ، وثبوته ندبا من الشارع ، وتعلق التوقيف به.

ويلزمه كون كلّ ما كان من أفراد الاحتياط مشروعا ندبا موقّفا ، ولا شكّ أنّ الإتيان بالجمعة مع الظهر من أفراد الاحتياط ؛ لكونها مبرئة للذمّة قطعا ، وليس الاحتياط إلاّ ذلك ، فتثبت مشروعيّتها ندبا من الاحتياط ، فتكون بهذا القصد جائزة ومستحبة.

فإن قيل : فعلها أيضا يحتمل التشريع ، فيكون حراما ، فلا يكون موافقا للاحتياط.

قلنا : التشريع فعل شي‌ء لم يثبت من الشرع ، وفعلها مع الظهر بهذا القصد ثابت بأدلّة الاحتياط ، فلا يكون تشريعا ، كما في سائر موارد الاحتياط ، فإنّها أيضا غير ثابتة من الشرع بخصوصها ، وإلاّ لم يكن احتياطا ، وثبوتها واستحبابها إنّما هو بمجرّد أدلّة الاحتياط.

والتوضيح : أنّ العبادة التي لم تثبت بخصوصها لا يمكن أن تفعل بقصد أنّها عبادة ثابتة بخصوصها ؛ لأنّ القصد ليس أمرا اختياريا ، فما لم تثبت لا يمكن ذلك القصد.

__________________

(١) مجمع الفائدة ٢ : ٣٦٣.

٥٨

فإذا فعلت فأمّا يؤتى بصورتها لا بقصد عبادة ( ولا بأن يظهر للناس أنّها عبادة ثابتة بخصوصها ) (١) كالحمية في يوم الفطر بقصد الإمساك ، ولا حرمة فيه قطعا ؛ للأصل ، وعدم الدليل.

أو يؤتى لا بقصد أنها عبادة ثابتة بخصوصها ، ولكن يظهر للناس أنّها عبادة ثابتة بخصوصها ، وهذا هو التشريع المحرم.

أو يؤتى بها لاحتمال أن تكون موقّفة واجبة فيما يتأتى فيه هذا الاحتمال ، كما في المسألة ، فيقصد بها الخروج عن احتمال ترك الواجب ، ولا يظهر للناس إلاّ أنّ فعلها لذلك. وهذا ليس دليل على حرمته أصلا ، بل لا يحتملها ، بل مقتضى أدلّة الاحتياط ، وقوله : « لكل امرئ ما نوى » (٢) حسنه واستحبابه وترتب الثواب عليه.

وعلى هذا فيكون فعل الجمعة بهذا القصد مستحبا ، ويكون مع الجماعة ؛ إذ لا جمعة بدونها ، فإنّ ما يحتاط به هو بهذه الهيئة ، لا أنّ الركعتين مع الخطبتين مطلقا مستحبة والجماعة أمر زائد.

وعلى هذا تكون الجمعة مستحبة لا وجوب فيها أصلا ، ويكون الواجب هو الظهر ويجوز مع الجماعة أيضا بل يستحب.

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في « ق ».

(٢) الوسائل ١ : ٤٨ أبواب مقدّمة العبادات ب ٥ ح ١٠.

٥٩

البحث الثاني

في شرائطها‌

أي : ما تتوقّف صحتها عليه ، وهي أمور :

الشرط الأول : إمام الأصل ، أو نائبه الخاص ، وقد تقدم بدليله.

الشرط الثاني : العدد ، بالإجماع المحقق ، والمحكي مستفيضا (١). وأقلّه سبعة في الوجوب العيني ، وخمسة في التخييري على الأصح ، بمعنى : أنها تجب عينا إذا اجتمعت سبعة ، وتخييرا إذا اجتمعت خمسة.

وفاقا للمحكي عن الصدوق والشيخ والقاضي وابني حمزة وزهرة (٢) ، وجماعة من المتأخرين منهم : الهندي وصاحبا الذخيرة والحدائق (٣) ، ومال إليه في الذكرى والمدارك (٤).

أمّا انتفاء مطلق الوجوب بالنقص عن الخمسة ، فبالإجماع ، وقوله في بعض الأخبار الآتية : « ولا جمعة لأقلّ من خمسة » أو : « لا تكون جمعة ما لم يكن خمسة » وسائر الأخبار المشتملة على ذكر الخمسة (٥).

وأمّا ثبوت العيني بالسبعة ، فبالإجماع أيضا ، والأخبار الآتية المصرّحة بالوجوب على السبعة الظاهر في العيني.

__________________

(١) انظر : الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٦٠ ، التذكرة ١ : ١٤٦ ، جامع المقاصد ١ : ٣٨٣ ، والرياض ١ : ١٨٤.

(٢) الصدوق في الفقيه ١ : ٢٦٧ ، الشيخ في النهاية : ١٠٣ ، والمبسوط ١ : ١٤٣ ، القاضي في شرح جمل العلم والعمل : ١٢٣ ، ابن حمزة في الوسيلة : ١٠٣ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٦٠.

(٣) كشف اللثام ١ : ٢٤٨ ، الذخيرة : ٢٩٩ ، الحدائق ١٠ : ٧٤.

(٤) الذكرى : ٢٣١ ، المدارك ٤ : ٢٩.

(٥) انظر : الوسائل ٧ : ٣٠٣ أبواب صلاة الجمعة ب ٢.

٦٠