مستند الشّيعة - ج ٦

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ٦

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-81-7
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٣٩١

شيخنا سمعه من المرتضى مشافهة ، فإنّ الموجود في مصنّفات السيّد موافق للمشهور (١) ؛ ومع ذلك لا دليل عليه سوى روايات عاميّة لا حجيّة فيها (٢).

وفي آخره أقوال : الأوّل : صيرورة ظلّ كلّ شي‌ء ـ أي الفي‌ء الزائد ـ مثله‌ ، وهو المشهور بين الأصحاب ، كما صرّح به جماعة (٣) ، إلاّ أنّه ـ كما اعترف به جماعة ممّن تأخّر (٤) ـ لا دليل عليه إلاّ ما قالوه من الشهرة ، وما في المنتهى من دعوى الإجماع ، وكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه يصلّي في ذلك الوقت (٥).

والأوّلان ليسا بحجّة ، سيّما مع مصير جمع من أعاظم القدماء على خلافه (٦) ، وعدم كون ثانيهما صريحا في دعوى الإجماع على آخر الوقت ؛ لما في كلامه من نوع إجمال. قال : والوقت شرط في الجمعة وهو أن يصير ظلّ كلّ شي‌ء مثله ، وهو مذهب علمائنا أجمع ، إلاّ ما نقله الشيخ قدس‌سره عن السيّد المرتضى ، قال : وفي أصحابنا من قال : إنّه يجوز أن يصلّي الفرض عند قيام الشمس يوم الجمعة خاصّة وهو اختيار المرتضى. انتهى (٧).

والثالث لا دلالة فيه ؛ لأنّ الوقت الذي كان يصلّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه كان ينقص عن ذلك المقدار غالبا ، ولم يقل أحد بالتوقيف بذلك الناقص ، كذا في الذكرى (٨).

__________________

(١) السرائر ١ : ٢٩٦.

(٢) صحيح مسلم ٢ : ٥٨٨ ـ ٣٢ ، سنن أبي داود ١ : ٢٨٤ ـ ١٠٣٥ ، سنن ابن ماجه ١ : ٣٥٠.

(٣) كالشهيد الثاني في الروض : ٢٨٤ ، والسبزواري في الذخيرة : ٢٩٨.

(٤) كالشهيد الأول في الذكرى : ٢٣٥ ، والشهيد الثاني في الروض : ٢٨٤ ، والسبزواري في الذخيرة : ٢٩٨.

(٥) المنتهى ١ : ٣١٨.

(٦) انظر : ص ١٢٢.

(٧) المنتهى ١ : ٣١٨.

(٨) الذكرى : ٢٣٥.

١٢١

وهو غير جيّد ؛ لأنّ مراد المستدلّ أنّ فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الوقت يدلّ على بقاء الوقت إليه فينفى التضيّق ، وينفى ما زاد عنه بعدم ثبوت التوقيف. ولا يضرّ فعله في الناقص غالبا في ذلك ؛ لأنّ فعل النادر كاف في نفي التضيّق ، كما أن عدم ثبوت التوقيف كاف في نفي الزائد.

فالصواب أن يردّ بعدم ثبوت فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الوقت أوّلا ، وحصول التوقيف بالمطلقات ثانيا.

وقد يستند تحديدهم هذا إلى أخبار دلّت على أنّها مضيّقة بالنسبة إلى الظهر (١) ، ولا بدّ حينئذ من أن ينضبط آخره ، ولا ينضبط بقدر الفعل ولا بساعة ، فاستنبطوا ممّا دلّ من الأخبار على أنّ وقت العصر يوم الجمعة وقت الظهر سائر الأيام هذا التحديد ؛ لأنّ نهاية أوّل وقت الظهر إنّما هو المثل ، فغاية ما يؤخّر المتنفّل الظهر أن يؤخّرها عن المثل في الغالب ، فإذا جعل ما بعد المثل وقت العصر دلّ على انتهاء وقت الجمعة حينئذ.

وضعفه ظاهر ؛ لمنع عدم الانضباط بقدر الفعل بأن يشرع في أوّل الوقت حتّى يتمّ ، ولو سلّم فما الضرر فيه ، ومنع دلالة جعل ما بعد المثل وقت العصر على انتهاء وقت الجمعة حينئذ ، فلعلّه ينتهي قبله بل أو بعده أيضا.

والثاني : مضيّ قدر الأذان والخطبتين والركعتين من أوّل الزوال‌ ، بمعنى وجوب التلبس في أوّل الوقت وإن تفاوت آخره بالنسبة إلى بطء القراءة وسرعتها ، واختصار الخطبة والسورة والقنوت والأذكار وتطويلها. لا بمعنى أنّ الوقت بقدر ما يمكن من هذه الأمور ، حتّى جاز التأخير من أوّل الوقت والإتيان بأقلّ الواجب بعده. ولا بمعنى أنّ الوقت بقدر أقلّ الواجب منها ؛ لمخالفته الإجماع ، بل الضرورة.

وهو المحكيّ عن الحلبيّ وابن زهرة وظاهر المقنعة والإصباح والمهذّب (٢) ،

__________________

(١) انظر : الوسائل ٧ : ٣١٥ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٨.

(٢) الحلبي في الكافي في الفقه : ١٥١ ـ ١٥٣ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٦٠ ، المقنعة :

١٢٢

وقد مال إليه جماعة من المتأخّرين (١) ، وعن الغنية الإجماع عليه (٢).

للمستفيضة من الصحاح ، كصحيحة ابن أبي عمير : عن الصلاة يوم الجمعة ، فقال : « نزل بها جبرئيل مضيّقة ، إذا زالت الشمس فصلّها » (٣).

فإنّ التضيّق لا يكون إلا مع مساواة الوقت للفعل ، مضافا إلى الأمر بالصلاة بعد الزوال بلفظة الفاء الدالّة على التعقيب.

ومن الأوّل ظهرت دلالة صحيحة الفضيل ، وفيها : « والجمعة ممّا ضيّق فيها ، فإنّ وقتها يوم الجمعة ساعة تزول » (٤).

وزرارة ، وفيها : « فإنّ صلاة الجمعة من الأمور المضيّقة ، إنّما لها وقت واحد حين تزول » (٥).

ومن الثاني دلالة صحيحة عليّ ، وفيها : « فإذا زالت الشمس فصلّ الفريضة » (٦).

وابن سنان : « إذا زالت الشمس يوم الجمعة فابدأ بالمكتوبة » (٧)

هذا مضافا إلى أنّ المستفاد من قوله : « إذا زالت فصلّ الفريضة » الفوريّة ؛ لأنّ مقتضاه أنّ وقت تحقّق الزوال صلّها ، فيكون ذلك الوقت وقتا للفعل.

وإلى تصريحه في الصحيحة الثانية بأنّ وقتها ساعة تزول. ولا ينافيه لفظ الساعة ؛ لأنّها تطلق عرفا على الزمان القليل ، لا الساعة النجوميّة.

__________________

١٦٤ ، المهذّب ١ : ١٠٣.

(١) كيحيى بن سعيد في الجامع للشرائع : ٩٤ ، والشهيد الأوّل في الدروس ١ : ١٨٨ ، والبيان ١٨٧ ، والشهيد الثاني في الروضة ١ : ٢٩٦.

(٢) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٦٠.

(٣) الكافي ٣ : ٤٢٠ الصلاة ب ٧٤ ح ٤ ، الوسائل ٧ : ٣١٩ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٨ ح ١٦.

(٤) الكافي ٣ : ٢٧٤ الصلاة ب ٤ ح ٢ ، الوسائل ٧ : ٣١٥ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٨ ح ١.

(٥) التهذيب ٣ : ١٣ ـ ٤٦ ، الوسائل ٧ : ٣١٦ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٨ ح ٣.

(٦) قرب الإسناد : ٢١٤ ـ ٨٤٠ ، الوسائل ٧ : ٣٢٦ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ١١ ملحق بالحديث ١٦.

(٧) الكافي ٣ : ٤٢٠ الصلاة ب ٧٤ ح ٢ ، الوسائل ٧ : ٣١٩ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٨ ح ١٥.

١٢٣

ومنه تظهر دلالة مرسلة الفقيه أيضا : « وقت صلاة الجمعة ساعة تزول الشمس ، ووقتها في السفر والحضر واحد ، وهو من المضيّق » (١).

وفي الثالثة (٢) بأنّ لها وقتا واحدا. فإنه لا يكون واحدا لو زاد وقتها عن ذلك ؛ إذ لا شكّ أنّ أوّل الوقت فيها أفضل.

وتدلّ عليه أيضا صحيحة الحلبي : « وقت الجمعة زوال الشمس » (٣).

ولمّا لم يسع الزوال للصلاة فزيد ممّا بعد بقدر يسعها.

وابن سنان : « وقت صلاة الجمعة عند الزوال » (٤).

وموثّقة الساباطيّ : « وقت صلاة الجمعة إذا زالت الشمس شراك أو نصف » (٥).

وسماعة : « وقت الظهر يوم الجمعة حين تزول الشمس » (٦).

ورواية إسماعيل : جعل الله لكلّ صلاة وقتين ، إلاّ الجمعة في السفر والحضر ، فإنّه قال : « وقتها إذا زالت الشمس » (٧).

وموثّقة الأعرج : عن وقت الظهر ، هو إذا زالت الشمس؟ فقال : « بعد الزوال بقدم أو نحو ذلك ، إلاّ في السفر أو يوم الجمعة فإنّ وقتها إذا زالت » (٨).

ويؤيّده الاحتياط ، وأصالة الاشتغال ، وإجماع المسلمين على المبادرة إليها‌

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٦٧ ـ ١٢٢٠ ، الوسائل ٧ : ٣١٨ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٨ ح ١٢.

(٢) أي : مضافا إلى تصريحه في الصحيحة الثالثة ..

(٣) الفقيه ١ : ٢٦٩ ـ ١٢٢٧ ، الوسائل ٧ : ٣١٨ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٨ ح ١١.

(٤) التهذيب ٣ : ١٣ ـ ٤٣ ، الوسائل ٧ : ٣١٧ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٨ ح ٥.

(٥) التهذيب ٢ : ٢٧٣ ـ ١٠٨٦ ، الوسائل ٤ : ٢٤٥ أبواب المواقيت ب ٤٠ ح ١.

(٦) الكافي ٣ : ٤٢٠ الصلاة ب ٧٤ ح ١ ، التهذيب ٣ : ١٢ ـ ٤١ ، الوسائل ٧ : ٣١٧ و ٣١٨ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٨ ح ٨ و ١٤.

(٧) مصباح المتهجّد : ٣٢٤ ، الوسائل ٧ : ٣١٩ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٨ ح ١٨.

(٨) التهذيب ٢ : ٢٤٤ ـ ٩٧٠ ، الاستبصار ١ : ٢٤٧ ـ ٨٨٤ ، الوسائل ٤ : ١٤٥ أبواب المواقيت ب ٨ ح ١٧.

١٢٤

حين الزوال.

ولا يرد على هذا القول ما قيل : من أنّه لو صحّ لما جاز التأخير عن الزوال بالنفس الواحد ، مع أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « كان يخطب في الظلّ الأوّل فيقول جبرئيل : يا محمّد ، قد زالت الشمس ، فانزل فصلّ » (١). وهو دليل على جواز التأخير بقدر قول جبرئيل ونزوله.

لأنّ الوقت على هذا القول بقدر ما يسع الخطبتين أيضا ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا قدّمهما كانت له الوسعة ، مع أنّه ليس المراد الحصر الحقيقيّ بل العرفيّ.

ولا أنّه ينافي الأخبار الدالّة على جواز ركعتي الزوال بعد دخول وقت الفريضة (٢) ؛ لمعارضتها مع أكثر منها عددا وأصحّ سندا من الروايات الدالّة على وجوب تأخير الركعتين عن الزوال كما يأتي.

ولا مرسلة الفقيه : « أوّل وقت الجمعة ساعة تزول الشمس إلى أن تمضي ساعة » (٣).

لأنّ المراد بالساعة الزمان القليل. ولو أنكرته فيكون مجملة ؛ لأنّ النجوميّة من الاصطلاحات الطارئة.

نعم يرد على صحيحة الحلبيّ وما تأخّر عنها : أنّه لا شكّ أنّه ليس المراد أنّ تمام وقتها الزوال أو عنده أو حينه أو إذا زالت ؛ بل المراد أنّه أوّل وقتها. ووقت الفعل ما يجوز فيه فعله لا ما يجب ، كما يقال : أوّل وقت الظهر الزوال.

فالاستدلال بها غير سديد ، بل بالوجوه المتقدّمة عليها أيضا : أمّا الوجه المتقدّم عليها من جعل وقتها واحدا ، فلأنّه لا تدلّ الوحدة على الانطباق على الفعل والتضيّق ، ألا ترى أنّه جعل لغيرها من الصلوات وقتين ، مع‌

__________________

(١) التهذيب ٣ : ١٢ ـ ٤٢ ، الوسائل ٧ : ٣١٦ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٨ ح ٤.

(٢) انظر : الوسائل ٧ : ٣٢٢ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ١١.

(٣) الفقيه ١ : ٢٦٧ ـ ١٢٢٣ ، الوسائل : ٣١٨ أبواب صلاة الجمعة ب ٨ ح ١٣.

١٢٥

أنّ كلا منهما موسّع ، وورد في الأخبار أنّ لصلاة المغرب وقتا واحدا؟! فيمكن أن يكون المراد أنّ لها وقتا واحدا من وقتي الفضيلة والإجزاء ، أو الاضطرار والاختيار ، أو غيرهما ، وإن كان ذلك الوقت الواحد متسعا.

وأمّا ما تقدّم على ذلك الوجه من جعل وقتها ساعة تزول ، فلما مرّ أوّلا.

وأمّا ما تقدّم عليه فلمنع استفادة الفوريّة ؛ إذ ليس معنى قوله : إذا ضربك زيد اضربه ، أنّه اضربه حين ضربه ؛ لجواز أن يقال : اضربه بعد ساعة ، وإذا جاز ذلك التقييد من غير لزوم تجوّز ولم يكن الأمر بنفسه للفوريّة فما الدليل على تقييده بهذا الوقت؟ ألا ترى أنّه يقال : إذا مات زيد فانكح زوجته ، ولا تجوّز فيه؟! ويقال : إذا تزوّجت امرأة فأنفق عليها ، وليس المراد أنفق حين التزوّج.

وأمّا ما تقدّم عليه ، فللخلاف في إفادة الفاء الجزائيّة للتعقيب ، سلّمناه ولكن مفادها تعقيب الجزاء الشرط دون متعلق الجزاء والجزاء هو وجوب الصلاة لا فعلها ؛ لعدم ترتّبه على الشرط. وحصول الوجوب بالزوال مسلّم ولكن ليس فوريّا.

وأمّا ما تقدّم عليه ، فلعدم ملازمة بين التضيّق في صلاة الجمعة وتوقيتها بهذا القدر ؛ لأنّ استعمال الواجب المضيّق فيما انطبق الفعل على الوقت اصطلاح جديد للأصوليّين ، وأمّا العرف واللغة فلم يعلم ذلك منهما بل هو أمر إضافيّ ، ولذا ورد أنّ وقت صلاة المغرب مضيّق وهو من الغروب إلى غروب الحمرة ، مع أنّه يتّسع أضعاف صلاة المغرب ؛ فإذا جاز الإتيان بصلاة الظهر في سائر الأيّام من الزوال إلى قريب الغروب ، وحدّ صلاة الجمعة ما بين الزوال وصيرورة الظلّ مثله يصدق التضيّق عرفا ولغة.

هذا مضافا إلى أنّ صلاة يوم الجمعة في الصحيحة الأولى شاملة لظهرها أيضا. وقد ورد في موثّقة الأعرج أنّ وقتها عند الزوال ، وفي بعض الأخبار أنّ وقت الظهر يوم الجمعة مضيّق ، وهو محمول على الأفضليّة قطعا ، فيمكن أن يكون هي المراد في الصحيحة أيضا. وحمل الصلاة على الجمعة ليس بأولى من حمل التضيّق على‌

١٢٦

الأفضليّة إلاّ أن يراد أولويّة التقيّد والتخصيص من التجوّز إن كان ذلك مجازا.

ومن هذا يظهر ضعف كلّ هذه الوجوه أيضا.

إلاّ أن يقال : إنّ كلّ واحد واحد وإن كان كذلك ، إلاّ أنّه يستفاد من تعليل قوله في الصحيحة الأولى : « إذا زالت الشمس فصلّها » بكونها مضيّقة ، وتفريع « كون وقتها ساعة تزول » عليه ، في الثانية ، وترتّب « وحدة وقته وكونه حين تزول » عليه ، في الثالثة ، وجوب الفعل حين الزوال وعدم جواز التأخير عنه.

ومنه تظهر قوة هذا القول وضعف سابقة.

كما يظهر ضعف قول الحلّي بامتداد وقتها إلى وقت الظهر (١) ، واختاره في الدروس والبيان (٢) ، وهو محتمل كلام المبسوط (٣) ؛ لتحقق البدليّة ، وأصالة البقاء.

والأوّل جدّا ممنوع ، والثاني بما مرّ مدفوع.

وأمّا ما في الموثّقة السابقة (٤) من أنّ وقتها إذا زالت الشمس قدر شراك أو نصف.

فلا ينافي ما مرّ ؛ لعدم تحقّق الزوال لنا قبل ذلك ، مع أنّ مثل ذلك التأخير لا ينافي أوّليّة الزوال عرفا.

ومنه يظهر عدم منافاة ما في صحيحة [ ابن سنان ] (٥) أيضا : من أنّ « رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي الجمعة حين تزول الشمس قدر شراك ».

وكذا لا تنافيه رواية الشيخ في المصباح : عن صلاة الجمعة ، فقال : « وقتها إذا زالت الشمس فصلّ ركعتين قبل الفريضة ، وإن أبطأت حتّى يدخل الوقت‌

__________________

(١) السرائر ١ : ٢٩٦.

(٢) الدروس ١ : ١٨٨ ، البيان ١٨٦.

(٣) المبسوط ١ : ١٤٧.

(٤) في ص ١٢٤.

(٥) في النسخ : زرارة ، ولم نعثر على رواية منه بذلك المضمون ، والظاهر أنه سهو ، انظر : التهذيب

١٢٧

هنيئة فابدأ بالفريضة » (١).

لعدم صراحتها في فعل الركعتين بعد الزوال ، بل ما بعده ظاهر في فعله قبله.

ولا مرسلة الفقيه : « أوّل وقت الجمعة ساعة تزول الشمس إلى أن يمضي ساعة » (٢).

لجواز أن يكون الانتهاء انتهاء ما يجوز فعل الصلاة فيه وإن وجب الشروع في الأوّل.

وكذا ظهر ضعف القول بامتداد الوقت إلى القدمين ، كما اختاره بعض متأخّري الأخباريّين (٣) ؛ لجعل وقت العصر في الجمعة وقت الظهر في سائر الأيّام في الأخبار ومبدأ وقت الظهر القدمين ، مضافا إلى ما أشير إليه في قدح مثل هذا الوجه الذي ذكروه للقول الأوّل (٤).

فروع :

أ : على ما اخترناه من وجوب الشروع في أوّل الزوال عرفا‌ فهل لآخره حدّ لا يجوز تطويل الخطبتين والسورة والقنوت والأذكار إلى أن يتجاوز عنه ، أو يجوز التطويل بأيّ قدر شاء؟.

مقتضى الأصل : الثاني ، إلاّ أن يتجاوز عن حدّ يتعارف التطويل به في الصلوات. بل لا يبعد جواز التطويل بقدر ثبت جوازه من العمومات ولو بلغ إلى المثل بل تجاوز عنه إلى تضيّق وقت العصر ؛ للأصل.

__________________

٣ : ١٢ ـ ٤٢ ، الوسائل ٧ : ٣١٦ أبواب صلاة الجمعة ب ٨ ح ٤.

(١) المصباح : ٣٢٣ ، الوسائل ٧ : ٣١٩ أبواب صلاة الجمعة ب ٨ ح ١٧.

(٢) تقدّمت في ص ١٢٥.

(٣) انظر : الحدائق ١٠ : ١٣٨.

(٤) راجع ص ١٢١‌

١٢٨

ب : قالوا : لو خرج الوقت وقد تلبّس بالصلاة‌ فإن أدرك ركعة في الوقت صحّت جمعته بلا خلاف ؛ لصحيحة البقباق : « من أدرك ركعة فقد أدرك الجمعة » (١).

والأخرى : « إذا أدرك الرجل ركعة فقد أدرك الجمعة ، وإن فاتته فليصلّ أربعا » (٢).

والروايات المتقدّمة في بحث الوقت المصرّحة بأنّ من أدرك ركعة فقد أدرك الوقت (٣).

وتخصيص بعضها بمن أدرك ركعة من صلاة الإمام فلا يشمل الإمام ـ مع أنّه غير ضائر للإجماع المركّب ـ تخصيص بلا مخصّص.

ولو لم يدرك الركعة فذهب جماعة ، منهم : الشيخ والمحقّق والفاضل في القواعد ، إلى صحّة الجمعة (٤).

لاستصحاب صحّة الصلاة ، وكون ما فعل لو ضمّ معه الباقي صحيحا.

والنهي عن إبطال العمل.

واستكماله شرائط الوجوب ؛ لظنه سعة الوقت. فيجب الإتمام ؛ لمشروعيّة الدخول ، ولا يشرع إلاّ فيما وجب إتمامه. وانكشاف الضيق لا يصلح لرفع الوجوب.

ويردّ الأوّل : بما يأتي من دليل البطلان ، مع أنّ الصحّة الواقعيّة وكون ما فعل كما ذكر واقعا ممنوع ، وبحسب ظنّه لا يفيد.

والثاني : بالمنع على الإطلاق ، مع أنّ المنهيّ عنه هو الإبطال فيما لم يبطل ، والخصم يدّعي البطلان.

__________________

(١) التهذيب ٣ : ١٦١ ـ ٣٤٦ ، الوسائل ٧ : ٣٤٦ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٢٦ ح ٦.

(٢) الفقيه ١ : ٢٧٠ ـ ١٢٣٢ ، الوسائل ٧ : ٣٤٥ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٢٦ ح ٢.

(٣) انظر : الوسائل ٤ : ٢١٧ أبواب المواقيت ب ٣٠.

(٤) الشيخ في المبسوط ١ : ١٤٧ ، المحقق في المعتبر ٢ : ٢٧٧ ، الفاضل في القواعد ١ : ٣٦.

١٢٩

والثالث : بأنّ استكمال الشرائط بحسب ظنّه لا يوجبه واقعا ، نعم يتعبّد بظنّه لو لم يظهر خلافه ، ووجوب الإتمام أوّلا ممنوع ، بل الواجب عليه الإتمام لو صادف الواقع ظنّه ، كما يجب الشروع في الصلاة على ظانّ البقاء. والحاصل أنّ المشروط بشي‌ء يجب إتمامه مع بقاء الشرط لا مطلقا.

وبما ذكر يظهر ضعف قول آخر اختاره بعض مشايخنا الأخباريين من الفرق بين المتلبّس بظنّ البقاء فأوجب الإتمام ، وبدون ظنّه فلا يجب (١).

وذهب جمع آخر ، منهم : الشهيد ، والفاضل في التحرير ، والمحقّق الثاني وصاحبا المدارك والذخيرة ، إلى فوات الجمعة (٢).

وهو الحقّ ؛ لمفهوم الأخبار المتقدّمة ، بل صريح ذيل الصحيحة الثانية ، ولأنّ توقيت الفعل بوقت يجعل صحّته مشروطا به ، فإذا خرج الوقت انتفى الشرط فينتفي المشروط.

ثمَّ لا يخفى أن الكلام في هذه المسألة على القول بتحديد وقتها بالقدمين أو المثل أو وقت الظهر ظاهر.

وأمّا على قول الحلبيّ (٣) ـ الذي هو المختار ـ فقد يتوهّم عدم جريان المسألة فيه ؛ لعدم تحديد لآخر الوقت ، حيث إنّه يجب الشروع بالزوال حتّى يتمّ فلا يشمله قوله : « من أدرك ركعة في الوقت ».

وذلك إنّما كان صحيحا لو كان مراد القائل أنّه يجب الشروع في أوّل الزوال ، ويجوز التطويل إلى أيّ قدر شاء ؛ بل يحدّ الآخر إمّا بالتعارف ، أو القدمين ، أو وقت الظهر ، فتشمله الروايات أيضا.

وعلى هذا ، فعلى ما هو الظاهر من جواز التطويل إلى تضيّق وقت العصر وملاحظة شمول أحاديث الركعة للمضطرّ والمختار ، لا يكون فارق بين قولي الحلّي‌

__________________

(١) الحدائق ١٠ : ١٤١.

(٢) الذكرى : ٢٣٥ ، التحرير ١ : ٤٣ ، جامع المقاصد ٢ : ٣٦٧ ، المدارك ٤ : ١٦ ، الذخيرة : ٢٩٨.

(٣) راجع ص ١٢٢.

١٣٠

والحلبيّ إلاّ في مجرّد الإثم بالتأخير عن أوّل الوقت لو كان عن عمد. فتأمّل.

ج : قالوا : لو فاتته الجمعة بفوات الوقت يصلّي الظهر أربعا أداء‌ إن كان وقته باقيا ، وقضاء إن خرج وقته.

أقول : لا شكّ في أنّه إذا فاتت الجمعة من جهة فوت شرط منها غير الوقت ، يجب الظهر قضاء أو أداء ؛ لصحيحتي البقباق المتقدّمتين (١) ، وحسنة الحلبيّ : « فإن فاتته الصلاة فلم يدركها فليصلّ أربعا » (٢).

وكذا لا شكّ في أنّه لو كان الفوات بفوات الوقت وفات وقت الظهر أيضا ، يجب الظهر قضاء ؛ لإطلاق ما تقدّم.

وأمّا أداء الظهر بفوات الوقت فلا يكون إلاّ على القول المشهور أو القدمين أو الحلبيّ مع انتهاء وقت جواز الاستمرار قبل وقت الظهر ، وإلاّ فلا يتحقّق وقت فاتت الجمعة بفوات الوقت وأمكن أداء الظهر.

د : لو وجبت الجمعة فصلّى الظهر‌ فإمّا يكون عمدا أو نسيانا ، وعلى التقديرين إمّا يتمكّن من الجمعة بعده أم لا.

فإن كان عمدا بطلت ظهره مطلقا ؛ لأنّه كان منهيا عنه ، ولعدم كونه مأمورا به. ثمَّ إن تمكّن من الجمعة وجب السعي إليها ؛ لوجوبها عليه. وإلاّ أعاد الظهر ؛ للعمومات المتقدّمة.

ولو كان سهوا أو نسيانا كأن ينسى وجوب الجمعة أو أنّه يوم الجمعة ، فمع التمكّن من الجمعة بعد التذكّر يأتي بها ؛ لوجوبها ، وعدم إيجاب ما فعل لرفعه.

ومع عدمه صحّ ما فعل ؛ لأنّ المأتيّ به موافق لتكليفه حيث إنّ الناسي لا يكلّف بما نسيه فأتى بما كلّف به ، والأصل عدم وجوب غيره.

__________________

(١) في ص ١٢٩‌

(٢) الكافي ٣ : ٤٢٧ الصلاة ب ٧٨ ح ١ ، التهذيب ٣ : ١٦٠ ـ ٣٤٣ ، التهذيب ٣ : ٢٤٣ ـ ٦٥٦ ، الاستبصار ١ : ٤٢١ ـ ١٦٢٢ ، الوسائل ٧ : ٣٤٥ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٢٦ ح ٣.

١٣١

هـ : لو صلّى الظهر وقت الجمعة ثمَّ ظهر عدم التمكّن من الجمعة في وقتها ، فإن كان عمدا بطل ظهره ؛ لكونه منهيّا عنه فيعيده ثانيا.

وإن كان سهوا صحّ ؛ لأنّه كان مأمورا به واقعا وظاهرا ، وذلك النسيان لا يوجب ارتفاع الأمر أو فساد الأمر الواجب عليه.

و : لو لم تكن شرائط الجمعة مجتمعة في أوّل الوقت‌ ولكن احتمل اجتماعها قبل خروج الوقت ، فهل تجوز له صلاة الظهر لعدم اجتماع شرائط الجمعة وأصالة عدم اجتماعها ، أم لا تجوز لأنّ مشروعيّة الظهر إنّما هي إذا علم عدم التمكّن من الجمعة؟.

فيها قولان ، الظاهر : الأوّل ؛ للأصل المذكور ، وبه يحصل العلم الشرعيّ بعدم التمكّن من الجمعة.

ثمَّ لو صلّى الظهر حينئذ واجتمعت الشرائط فالأقرب عدم الاجتزاء بالظهر ؛ لعدم دليل على سقوط الجمعة.

وقيل بالاجتزاء (١) ؛ لسقوط التكليف عنه فيه بفعل الظهر ، وامتناع وجوبهما معا.

ويضعّف بمنع المقدّمتين في المورد.

ز : لو صلّى الجمعة وهو شاكّ أو ظانّ في أنّها هل وقعت في وقتها أو وقعت كلاّ أو بعضا خارج الوقت ، صحّت ؛ لاستصحاب الوقت. وإفادته ظنّ البقاء غير ضائر ؛ لأنّه قائم مقام العلم هنا شرعا.

ومنه يظهر وجوب الشروع في الجمعة لو لم يتلبّس مع ظنّ امتداد الوقت أو الشكّ فيه أيضا ، بل ظنّ عدم الامتداد.

ح : لو ظنّ أو تيقّن عدم اتّساع الوقت للجميع ، ولكن ظنّ أو تيقّن اتّساعه‌

__________________

(١) كما في جامع المقاصد ٢ : ٤٢٣.

١٣٢

للركعة ، وجبت الجمعة على الأقرب ؛ للأخبار المتقدّمة. بل تجب ما لم يتيقّن عدم اتّساع الوقت لها ؛ لأنّ اليقين لا ينقضه إلاّ يقين آخر. وتخصيص الأخبار بمن أدرك ركعة مع ظنّ إدراك الجميع ـ كما قيل (١) ـ تخصيص بلا دليل.

__________________

(١) انظر : جامع المقاصد ٢ : ٣٦٩.

١٣٣

البحث السادس

في لواحق صلاة الجمعة‌

وفيه مسائل وخاتمة :

المسألة الأولى : يحرم السفر بعد الزوال قبل صلاة الجمعة يوم الجمعة‌ على المستجمع لشرائط وجوبها ، إلى غير جمعة البلد وغير مكان تقام فيه جمعة أخرى ، إجماعا مصرّحا به في التذكرة والمنتهى وغيرهما (١).

وهو الحجة في المقام ، دون غيره مما ذكروه كالنبويّ : « من سافر من دار إقامته يوم الجمعة دعت عليه الملائكة ، لا يصحب في سفره ولا يعان على حاجته » (٢).

والمرويّ في النهج : « لا تسافر في يوم جمعة حتّى تشهد الصلاة ، إلاّ فاصلا في سبيل الله أو في أمر تعذر به » (٣).

وفي مصباح الكفعميّ : « ما يؤمن من يسافر يوم الجمعة قبل الصلاة ، أن لا يحفظه الله في سفره ولا يخلفه في أهله ولا يرزقه من فضله » (٤).

وفي الفقيه والخصال : « يكره السفر والسعي في الحوائج يوم الجمعة ، يكره (٥) من أجل الصلاة ، وأمّا بعد الصلاة فجائز يتبرّك به » (٦)

__________________

(١) التذكرة ١ : ١٤٤ ، المنتهى ١ : ٣٣٦ ، وانظر : المدارك ٤ : ٥٩ ، والذخيرة : ٣١٣.

(٢) المغني ( لابن قدامة ) ٢ : ٢١٨ ، نقلا عن الدار قطني في الافراد.

(٣) نهج البلاغة ( عبده ) ٣ : ١٤٣ ، الوسائل ٧ : ٤٠٧ أبواب صلاة الجمعة ب ٥٢ ح ٦ ، وفيه : « ناصلا » والمعنى واحد ، أي خارجا.

(٤) مصباح الكفعمي : ٤٢٠ ، الوسائل ٧ : ٤٠٦ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٥٢ ح ٥‌

(٥) في الفقيه والوسائل : بكرة ، وما في المتن موافق للخصال.

(٦) الفقيه ١ : ٢٧٣ ـ ١٢٥١ ، الخصال : ٣٩٣ ـ ٩٥ ، الوسائل ٧ : ٤٠٦ أبواب صلاة الجمعة ب ٥٢ ح ١.

١٣٤

وفحوى قوله تعالى ( وَذَرُوا الْبَيْعَ ) (١).

وصحيحة أبي بصير : « إذا أردت الشخوص في يوم عيد وانفجر الصبح وأنت في البلد ، فلا تخرج حتّى تشهد ذلك العيد » (٢).

وإذا حرم السفر لتفويت العيد حرم لتفويت الجمعة بطريق أولى.

وأنّه بعد الزوال مأمور بالصلاة ، والأمر بالشي‌ء نهي عن ضدّه الخاصّ عند المحققين من العلماء.

لضعف الأوّل أوّلا ، وعدم دلالته على الحرمة ثانيا ؛ لشيوع ورود مثل ذلك في المكروهات أيضا ، مع أنّه لو سلّم تردّد الأمر بين تخصيص اليوم بما بعد الزوال قبل الصلاة ، أو الحمل على الكراهة ، وليس الأوّل بأولى ، سيّما مع كونه تخصيصا للأكثر.

وهو وجه الضعف في الثلاثة المتعقبة له ، مضافا إلى التضمّن للجملة الخبريّة في الأوّل منها ، وللفظ الكراهة في الثالث.

والخامس : بمنع دلالة الفحوى ؛ لجواز أن يكون لنفس البيع مدخليّة سيّما مع أنّه ليس مسقطا لوجوب الجمعة بخلاف السفر.

والسادس : بمنع الأولويّة ، مضافا إلى عدم دلالته أيضا على الحرمة.

والسابع أوّلا : بمنع الأمر بالجمعة حينئذ إلاّ بعد ثبوت حرمة السفر ، وهو أوّل الكلام ، فإنّه بعد ما ثبت سقوطها عن المسافر فيكون وجوبها مقيّدا بعدم السفر وما دام حاضرا ، فإذا دخل الزوال نقول : إنّها تجب عليه لو لم يسافر ، وأمّا معه فلا نسلّم الوجوب. وثانيا : بمنع كون السفر ضدّا مطلقا ؛ لجواز إمكان إقامتها في السفر ، فالسفر لا يكون حينئذ ضدّا خاصّا.

قيل : لا تجب الجمعة على المسافر قطعا ، فيكون السفر مجوّزا لتفويت‌

__________________

(١) الجمعة : ٩.

(٢) الفقيه ١ : ٣٢٣ ـ ١٤٨٠ ، التهذيب ٣ : ٢٨٦ ـ ٨٥٣ ، الوسائل ٧ : ٤٧١ أبواب صلاة العيد ب ٢٧ ح ١.

١٣٥

الواجب ، وتجويز تفويت الواجب منفيّ ، فجواز السفر منفيّ.

قلنا‌ ـ بعد تسليم عدم وجوبها على مثل هذا المسافر أيضا الذي وجب عليه أوّل الوقت ـ : إنّ بطلان تجويز تفويت الواجب ممنوع ، إنّما الباطل تفويته ، وأمّا تجويز التفويت فهو الإتيان بما يسقط وجوبه معه شرعا ، ولا دليل على بطلانه.

وقد يردّ الأخير أيضا بأنّه لو حرم السفر لم تسقط الجمعة ؛ لوجوبها على العاصي بسفره. فلو حرم السفر لم يحرم السفر ، وما كان كذلك فهو باطل.

وفيه : إنّما يتمّ في صورة إمكان جمعة اخرى ، وعدم الحرمة حينئذ مسلّم ، وأمّا في صورة عدم الإمكان فالمحرّم يكون هو الفوات دون السفر.

فروع :

أ : وإذا عرفت أنّ دليل الحرمة منحصر في الإجماع ، فلا يحرم فيما لم يثبت الإجماع فيه :

منه : ما إذا كان السفر واجبا ، أو مضطرّا إليه ، ويدلّ عليه أيضا المرويّ عن النهج.

ومنه : ما إذا كان بين يدي المسافر جمعة اخرى يمكن له إدراكها ، فلا يحرم حينئذ ، وفاقا لجماعة (١).

قيل : يلزم أن تكون الجمعة واجبة عليه في السفر مع أنّه خلاف النصوص.

قلنا : لا نسلّم اللزوم ؛ لأنّ منع الحرمة حينئذ لانتفاء الإجماع ، أو مع إمكان الجمعة لو أراد ، لا إمكان الجمعة مطلقا.

وقد يجاب أيضا بلزوم التخصيص في تلك النصوص ؛ لأنّ ها هنا حكمين ، أحدهما : أنّ كلّ حاضر تجب عليه صلاة الجمعة ، وثانيهما : أنّ كلّ مسافر لم تجب عليه. وهذا قبل السفر حاضر داخل‌

__________________

(١) منهم المحقق السبزواري في الذخيرة : ٣١٣ والوحيد البهبهاني في شرح المفاتيح ( المخطوط ) ونسبه في المدارك ٤ : ٦١ الى المحقق الثاني في جامع المقاصد ٣ : ٤٢١ فراجع.

١٣٦

في موضوع الأوّل ، ومقتضاه وجوب الجمعة عليه ولو في حال السفر ؛ لعدم التقييد ، فإذا تركها حال الحضور ثمَّ سافر وجب عليه الإتيان في السفر. فعموم الأوّل اقتضى وجوبها حال السفر على ذلك ، وعموم الثاني عدمه. والترجيح للأوّل ؛ للإجماع على وجوب الجمعة على الحاضر مطلقا من غير أن يكون مشروطا بعدم صدق السفر عليه لاحقا.

وفيه : أنّ الظاهر المتبادر من الوجوب على الحاضر وجوبها عليه ما دام حاضرا ، أي أن يفعلها في الحضر.

خلافا لبعضهم فحرمه أيضا (١) ؛ لعموم الأخبار. وقد عرفت أنّه لا عموم.

ولاستلزامه تجويزه الدور ؛ لأنّ جوازه موقوف على وجوب صلاة الجمعة على هذا المسافر ، وهو على حرمة السفر عليه ، إذ لا تجب في السفر المباح قطعا ، وهي على عدم وجوب صلاة الجمعة إذ لو وجبت لم يحرم ، وهو على جواز السفر لوجوبها في السفر المحرّم.

وفيه : منع المقدّمة الأولى أوّلا ؛ لما مرّ. والثانية ثانيا ؛ لإمكان تخصيص أدلّة الحرمة بمن لم تجب عليه أوّل الوقت.

ولثالث ، فاحتمل التفصيل بالجواز لو كانت الجمعة الأخرى قبل محلّ الترخّص إن أمكن ، وعدمه إن كانت فيه (٢). ودليله مع جوابه ظاهر.

ب : قال في روض الجنان : ومتى سافر بعد الوجوب كان عاصيا ، فلا يترخّص حتّى تفوت الجمعة فيبتدئ السفر من موضع تحقّق الفوات ، ونسبه إلى الأصحاب (٣). وهو كذلك.

ج : لو كان بعيدا عن الجمعة بفرسخين فما دون ، يخرج مسافرا في صوب الجمعة ؛ لما مرّ من انتفاء الإجماع في محلّ النزاع سيّما إذا كان الخروج قبل زمان‌

__________________

(١) كالشهيد الثاني في المسالك ١ : ٣٥ ، وصاحب المدارك ٤ : ٦١‌

(٢) انظر : الذكرى : ٢٣٣.

(٣) الروض : ٢٩٥.

١٣٧

تعلّق وجوب السعي. وفيه أقوال أخر لا فائدة في ذكرها.

د : يكره السفر بعد طلوع الفجر يوم الجمعة إلى الزوال ، إجماعا ، كما في التذكرة والمنتهى ؛ له ، ولإطلاق الروايات المتقدّمة ، خرج منه بعد وقت صلاة الجمعة بالإجماع ، فيبقى الباقي.

ومقتضى إطلاقها الكراهة مطلقا سواء كان المسافر ممّن استجمع شرائط الجمعة أو لا. وتقييد بعضها بقوله : « حتّى تشهد الصلاة » لا يوجب تقييد البواقي ، كما أنّ تقييد البعض بقوله : « قبل الصلاة » لا يوجب تقييد غيره بما إذا كان هناك صلاة.

ثمَّ لا شكّ أنّ الكراهة للمستجمع إنّما هي قبل الزوال ، وبعده يحرم في حال ويباح في أخرى ، وكذا غير المستجمع بالنسبة إلى قبل الصلاة وبعد وقت الصلاة.

وأمّا ما بين الزوال وخروج وقت الصلاة فلا يحرم عليه قطعا ، فهل يكره أو يباح؟ مقتضى الإطلاقات : الأوّل.

المسألة الثانية : اختلف الأصحاب في الأذان الثاني يوم الجمعة ، وفي المراد منه‌ ، فذهب في المبسوط والمعتبر في الأوّل إلى الكراهة (١) ؛ للأصل. والحلي (٢) ، وعامّة المتأخّرين إلى الحرمة ؛ لكونه غير متوقّف فيكون بدعة ، ولرواية حفص : « الأذان الثالث يوم الجمعة بدعة » (٣) وجعله ثالثا باعتبار تقدّم الأذان الأوّل والإقامة.

وقيل في الثاني : هو ما وقع ثانيا بالزمان بعد أذان آخر في الوقت سواء كان‌

__________________

(١) المبسوط ١ : ١٤٩ ، المعتبر ٢ : ٢٩٦.

(٢) السرائر ١ : ٢٩٥.

(٣) الكافي ٣ : ٤٢١ الصلاة ب ٧٥ ح ٥ ، التهذيب ٣ : ١٩ ـ ٦٧ ، الوسائل ٧ : ٤٠٠ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٤٩ ح ١.

١٣٨

بين يدي الخطيب أو على المنارة أو غيرهما (١)

وقيّده بعضهم بما إذا كان من مؤذّن واحد قاصد كونه ثانيا (٢).

وقيل : إنّه ما لم يكن بين يدي الخطيب لأنّه الثاني باعتبار الإحداث سواء وقع أوّلا بالزمان أو ثانيا (٣).

وقيل : ما يفعل بعد نزول الإمام مضافا إلى الأذان الذي عند الزوال (٤).

وقال في المجمع في معنى قوله ( إِذا نُودِيَ ) : إذا أذّن لصلاة الجمعة ، وذلك إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة ، ولم يكن على عهد رسول الله نداء سواه ـ إلى أن قال ـ : فكان إذا جلس الإمام على المنبر أذّن على باب المسجد ، فإذا نزل أقام الصلاة ، ثمَّ كان أبو بكر كذلك ، حتّى إذا كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد أذانا فأمر بالتأذين الأوّل على سطح دكّة له بالسوق ، وكان يؤذّن عليها ، فإذا جلس عثمان على المنبر أذّن مؤذّنه ، فإذا نزل أقام الصلاة. انتهى (٥).

وإذا كان الأمر كذلك فالبحث عن المسألة قليل الفائدة.

مع أنّه لا دليل على الحرمة سوى الرواية ، وأنّه بدعة.

والأوّل ضعيف بإمكان إرادة أذان العصر.

والثاني بعدم اختصاصه بنوع خاصّ من الأذان ، بل ولا بالأذان ولا بيوم الجمعة ، بل كلّ عبادة فعلت تشريعا بأن يظهر للناس أنّها من الشريعة فهي حرام.

وعلى هذا يمكن أن يقال في المسألة : إنّ كلّ أذان وقع ثانيا في الوقت من مؤذّن واحد بإظهار أنّه ثان مشروع ـ بل مؤذنّين بهذا القصد ـ فهو حرام ، وما عداه‌

__________________

(١) كما في الروض : ٢٩٥ ، والرياض ١ : ١٨٩.

(٢) كما في المسالك ١ : ٣٥.

(٣) كما في مجمع الفائدة ٢ : ٣٧٦ ، والحدائق ١٠ : ١٨٢.

(٤) كما في السرائر ١ : ٢٩٥.

(٥) مجمع البيان ٥ : ٢٨٨.

١٣٩

ليس بحرام ولا مكروه ؛ للأصل.

المسألة الثالثة : إذا أذّن لصلاة الجمعة حرم البيع.

لا للآية الكريمة ؛ لما عرفت من عدم صراحتها في أذان صلاة الجمعة.

ولا لمرسلة الفقيه : كان بالمدينة إذا أذّن يوم الجمعة نادى مناد : حرم البيع لقوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ ) (١) حيث إنّ ظاهره عموم ذلك الفعل حتّى في زمان النبيّ والوليّ ، وهما قرّرا المنادي على قوله ، وتقريرهما حجّة.

لمثل ما مرّ في الآية ، فإنّ تخصيص الأذان بأذان صلاة الجمعة ليس بأولى من ارتكاب التجوّز في الحرمة.

بل للإجماع المحقق والمحكيّ (٢) ، وكون الأمر بالشي‌ء مستلزما للنهي عن ضدّه.

ومقتضى الأخير اختصاص الحرمة بمن وجبت عليه الجمعة وفي زمان وجبت ، كما أنّ الثابت من الأوّل أيضا ليس الزائد عنه.

وكذا مقتضاهما الاختصاص بالبيع المانع عن الصلاة ، فلا يحرم العقد المقارن للذهاب إليها ، ولا المانع من إدراك الصلاة ولو بعد الأذان.

وكذا مقتضى الثاني حرمته قبل الأذان لو كان مانعا عن الإدراك ، بل قبل الزوال لو لا الإجماع على عدمها فيه مطلقا ، وكذا حرمة غير البيع من أنواع المعاوضات بل مطلق الشواغل.

وهل يحرم على من لم تجب عليه الصلاة لو كان أحد طرفي المعاوضة وكان الآخر ممّن تجب عليه؟.

قيل : نعم ؛ لأنّه معاون على الإثم (٣).

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٩٥ ـ ٩١٤ ، الوسائل ٧ : ٤٠٨ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٥٣ ح ٤.

(٢) انظر : التذكرة ١ : ١٥٦ ، والمدارك ٤ : ٧٦ ، والمفاتيح ١ : ٢٣ ، وكشف اللثام ١ : ٢٥٦ ، والرياض ١ : ١٩٠.

(٣) كما في نهاية الإحكام ٢ : ٥٤ ، والروض : ٢٩٦ ، والمدارك ٤ : ٧٨.

١٤٠