مستند الشّيعة - ج ٥

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ٥

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-80-9
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٤٥٥

قيل (١) : ولعلّه لحسنة زرارة : « الجبهة كلّها من قصاص شعر الرأس إلى الحاجبين موضع السجود ، فأيّما سقط من ذلك إلى الأرض أجزأك ، مقدار الدرهم ومقدار طرف الأنملة » (٢).

ولا أعرف لها وجه الدلالة ، بل هو ـ كما اعترف به في المدارك وغيره (٣) ـ بالدلالة على خلافه أشبه ، إذ مقتضاها الاكتفاء بقدر طرف أنملة وهو دون الدرهم بكثير قطعا.

وقيل (٤) : لصحيحة علي : المرأة تطول قصّتها ، فإذا سجدت وقع بعض جبهتها على الأرض وبعض يغطّيه الشعر ، هل يجوز ذلك؟ قال : « لا حتى تضع جبهتها على الأرض » (٥).

وظاهرها إيجاب تمام الجبهة ، وهو إمّا خلاف الإجماع ، أو شاذّ يخرج به الخبر عن الحجّية ، فهي على الندب محمولة.

مع أنّه لا دلالة لها على الدرهم ، وإخراج الزائد بالإجماع ليس بأولى من إرادة الاستحباب. وحملها على كون الواقع من الجبهة على الأرض ما دون المسمّى ، أو ردّها باحتمال ذلك ، باطل ، إذ بعضها لا يقصر عن المسمّى البتّة ، مع أنّ ترك الاستفصال يفيد العموم.

نعم ذكر الدرهم في خبرين :

أحدهما : الرضوي : « وترغم بأنفك ، ويجزئك في موضع الجبهة من قصاص الشعر إلى الحاجبين مقدار درهم » (٦).

__________________

(١) كما في المدارك ٣ : ٤٠٤.

(٢) الكافي ٣ : ٣٣٣ الصلاة ب ٢٨ ح ١ ، الوسائل ٦ : ٣٥٦ أبواب السجود ب ٩ ح ٥.

(٣) المدارك ٣ : ٤٠٤ ، وانظر : الذخيرة : ٢٨٨ ، والرياض ١ : ١٦٨.

(٤) انظر : الذكرى : ١٦٠.

(٥) التهذيب ٢ : ٣١٣ ـ ١٢٧٦ ، مسائل علي بن جعفر : ٢٣٩ ـ ٥٦٠ ، الوسائل ٥ : ٣٦٣ أبواب ما يسجد عليه ب ١٤ ح ٥.

(٦) فقه الرضا (ع) : ١١٤ وفيه « ترغم بأنفك ومنخريك ».

٢٤١

والآخر : في الدعائم : « وأكمل ما يجزي أن يصيب الأرض من جبهتك قدر درهم » (١).

قيل : وهما نصّ فيما قالوه (٢).

وهو في الثاني محلّ نظر ، للتقييد بالأكمل (٣). بل وكذا في الأوّل ، لما مرّ من إمكان إرادة أجزاء الأمر الندبي ، مع أنّ فيه في النّسخ المصحّحة الّتي رأينا من فقه الرضا : « ومنخريك » مقام « يجزيك » ولا تكون له دلالة حينئذ ، مضافا إلى ما فيها من الضعف الخالي عن الجابر.

وفي الذكرى ـ بعد اختيار مقدار الدرهم ـ قال : لتصريح الخبر وكثير من الأصحاب ، فيحمل المطلق من الأخبار وكلام الأصحاب على المقيّد (٤). انتهى.

فإن أراد بالخبر بعض ما مرّ فقد عرفت حاله ، وإن أراد غيره فلا نعرفه ككثير من الأصحاب.

وقد ينقل عن الإسكافي القول بوجوب استيعاب الجبهة (٥).

وهو شاذّ ، ولا دليل عليه سوى الصحيحة ، المردودة بالشذوذ ، المعارضة بأكثر منها عددا ، فيجب حملها على الاستحباب جمعا ، بل قطعا بقرينة التصريح بأفضليّته في الرواية المتقدّمة (٦).

الثاني : وضع الجبهة على ما يصحّ السجود عليه :

فإنّ لما يسجد عليه مدخليّة في المعنى الحقيقي للسجدة. وتحقيق المقام في هذا المرام ، وبيان ما يصحّ السجود عليه وما لا يصحّ بعد مقدّمة وهي :

__________________

(١) الدعائم ١ : ١٦٤ ، مستدرك الوسائل ٤ : ٤٥٨ أبواب السجود ب ٨ ح ١.

(٢) لم نعثر على قائله.

(٣) يوجد في نسخة الدعائم التي بأيدينا : « أقل » بدل « أكمل ».

(٤) الذكرى : ٢٠١.

(٥) حكاه عنه في الرياض ١ : ١٦٨.

(٦) ص ٢٤٠ ، الرقم (٤).

٢٤٢

أنّ السجود ، هل هو وضع الجبهة على الأرض؟ كما فسّرت به سجدة الصلاة في بعض كتب اللغة (١) ، وتؤيّده ـ على ما قيل ـ مرسلتا الفقيه : « السجود على الأرض [ فريضة ] وعلى غير الأرض سنّة » (٢) وفي إحداهما : « والخمرة » مكان « غير الأرض » (٣) دلّتا على أنّ السجدة المأمور بها في كتابه سبحانه هي وضع الجبهة على الأرض.

أو الانحناء حتى يساوي موضع جبهته موقفه مع وضعها على شي‌ء؟ كما فسّرت به بعض الكتب الفقهيّة (٤) ، ويؤيّده عدم اشتراط الأرض فيما يوضع عليه غير الجبهة مع إطلاق السجود عليه.

الظاهر هو الثاني ، لعدم صحّة السلب ، وعدم تبادر الغير ، وثبوت الاستعمال في الأعم ، وعدم ثبوته في غيره ، فيتّحد المستعمل فيه المعلوم ، فيكون الأصل فيه الحقيقة ، ونحو قوله في الأخبار الكثيرة : السجود على الأرض وعلى غير الأرض ، فإنّ المستفاد منه خروج كونها على الأرض عن معناها.

وأمّا ما مرّ من قول بعض اللغويين ، فالظاهر أنّ المراد من الأرض مطلق ما يحاذي الموقف ، لأنّه إنّما فسّر سجدة الصلاة بذلك مع أنّه من العامّة التي لا يشترط ذلك عنده فيها أصلا ، بل على عدم الاشتراط إجماعهم ، ومع أنّه في بيان المعنى الشرعي ، وقوله فيه ليس بحجة قطعا.

ومن هذا القبيل ما قال بعض فقهائنا : ويجب وضع سبعة أعظم على الأرض (٥) ، مع أنّه لا يقول باشتراط الأرض في غيرالجبهة.

__________________

(١) انظر : الصحاح ٢ : ٤٨٣ ، ولسان العرب ٣ : ٢٠٦.

(٢) الفقيه ١ : ١٧٤ ـ ٨٢٤ ، الوسائل ٥ : ٣٤٥ أبواب ما يسجد عليه ب ١ ح ٨. وأضفنا ما بين المعقوفين من المصدر وفيه : « على غير ذلك » بدل : « على غير الأرض ».

(٣) لم نعثر على هذه المرسلة في الفقيه ، ووجدناها في الكافي عن محمّد بن يحيى بإسناده. الكافي ٣ : ٣٣١ الصلاة ب ٢٧ ح ٨ ، الوسائل ٥ : ٣٤٥ أبواب ما يسجد عليه ب ١ ح ٧.

(٤) كما في المفاتيح ١ : ١٤٢.

(٥) كما في مفاتيح الشرائع ١ : ١٤٣.

٢٤٣

وأمّا المرسلتان ، فليستا بنصّين ولا ظاهرتين في إرادة ما ذكر ، بل لهما محامل أخر أيضا.

هذا بيان معنى السجدة لغة ، ومقتضاه بضميمة الأصل : حصول الامتثال بكلّ ما يسجد عليه.

ولكن هاهنا أصلا آخر هو عدم جواز السجود إلاّ على الأرض أو ما أنبتته شرعا ، حصل ذلك الأصل بالإجماع المحقّق ، والمحكي في المعتبر والتذكرة والمدارك (١) ، وغيرها ، والأخبار ، كصحيحة هشام : « لا يجوز السجود إلاّ على الأرض أو على ما أنبتت الأرض إلاّ ما أكل أو لبس » (٢).

والمروي في قرب الإسناد ، وفيه بعد السؤال عن السجود : « لا يصلح حتى يضع جبهته على الأرض » (٣).

المؤيّدة بصحيحة حمّاد : « السجود على ما أنبتت الأرض إلاّ ما أكل أو لبس » (٤).

ورواية البقباق : « لا يسجد إلاّ على الأرض أو ما أنبتت الأرض إلاّ القطن والكتان » (٥) وغيرهما من المستفيضة.

فليكن ذلك أصلا ثانويا في يدك ، ومقتضاه عدم جواز السجود على كلّ ما علم عدم أرضيّته أو نباتيّته ، أو شك فيهما إلاّ ما أخرجه الدليل ، فالمرجع حينئذ ذلك الأصل ، فإن حصل الشك بعد الرجوع إليه ـ لتعارض أو نحوه ـ فالمرجع‌

__________________

(١) المعتبر ٢ : ١١٧ ، التذكرة ١ : ٩١ ، المدارك ٣ : ٢٤١.

(٢) الفقيه ١ : ١٧٧ ـ ٨٤٠ ، التهذيب ٢ : ٢٣٤ ـ ٩٢٥ ، الوسائل ٥ : ٣٤٣ أبواب ما يسجد عليه ب ١ ح ١.

(٣) قرب الإسناد : ٢٠١ ـ ٧٧٢ ، الوسائل ٥ : ٣٦٣ أبواب ما يسجد عليه ب ١٤ ح ٦.

(٤) الفقيه ١ : ١٧٤ ـ ٨٢٦ ، التهذيب ٢ : ٣١٣ ـ ١٢٧٤ ، الوسائل ٥ : ٣٤٤ أبواب ما يسجد عليه ب ١ ح ٢.

(٥) الكافي ٣ : ٣٣٠ الصلاة ب ٢٧ ح ١ ، التهذيب ٢ : ٣٠٣ ـ ١٢٢٥ ، الاستبصار ١ : ٣٣١ ـ ١٢٤١ ، الوسائل ٥ : ٣٤٤ أبواب ما يسجد عليه ب ١ ح ٦.

٢٤٤

الأصل الأوّل.

إذا عرفت هذه فاعلم أنّ ما يمكن أن يسجد عليه إمّا أرض أو نباتها أو غيرهما ، والثاني على قسمين : الأوّل المأكول أو الملبوس ، والثاني غيرهما ، فهذه أربعة أقسام ، وهاهنا أقسام أخر : ما يشك في أرضيّته أو في نباتيّته ، أو في مأكوليّته وملبوسيّته.

فهذه أقسام تذكر أحكامها في مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنّ في كرة الأرض اجزاء مختلفة الحقائق عرفا ، ترابيّة ورمليّة وجصّيّة وكحليّة وزرنيخيّة وملحيّة وقيريّة وحجريّة ونحاسيّة وحديديّة وذهبيّة وهكذا إلى آخر الفلزّات والجواهر والمعادن ، ولفظ الأرض موضوع لتمام الكرة أو مع قطعة عظيمة منها أيضا ، وليس موضوعا لكلّ جزء جزء منها بخصوصه ، كما في لفظ الماء الموضوع للكلّ والجزء ، وإلاّ لصدق على كلّ جزء الأرض إذا انفصل من الأرض أيضا ، وليس كذلك.

ولكن هذه الأجزاء الكائنة فيها : منها ما هو جزء للأرض أيضا ، ويصدق عليه أنّه بعض الأرض وأنّه جزء أرضي ، ومنها ما ليس كذلك بل جزء فيها.

والضابط في التفرقة بينهما أن تفرض كرة الأرض من ذلك الجزء خالصة فإن صدق عليها اسم الأرض حينئذ أيضا ، أو فرضت كرة أخرى منه خالصة فإن صدق أنّه تعدّدت كرة الأرض ، أو إذا حصلت قطعة عظيمة منه في الهواء صدق أنّها أرض ارتفعت ، فهو جزء أرضى أو جزء للأرض وبعض منها ، وذلك كالتراب والرمل بل الجصّ.

وإن لم يصدق ذلك فليس جزءا أرضيّا ولا بعضا منه ، كالفضّة والذهب والحديد ونحوها.

فما كان من الأوّل يصدق على السجود عليه حال اتصاله بالأرض أنّه سجود على الأرض وإن لم يكن هو بخصوصه إلاّ بعض الأرض ـ كصدق تقبيل زيد‌

٢٤٥

ورؤيته على تقبيل جزء من وجهه ورؤيته ـ ويصحّ السجود عليه قطعا.

وما كان من الثاني فإمّا لا يصدق على السجود عليه حال الاتّصال السجود على الأرض ، أو يشكّ في صدقه عليه ، وعلى التقديرين لا يكون السجود عليه صحيحا ، للأصل الثانوي المتقدّم.

إذا عرفت ذلك تعلم أنّه يصحّ السجود على التراب والرمل إذا تمكّنت الجبهة عليه حال اتّصالهما بالأرض ، لصدق السجود على الأرض ، الصحيح بالإجماع ، بل الضرورة واستفاضة النصوص ، بل تواترها معنى.

وأمّا ما في صحيحة محمّد بن الحسين : « لا تصلّ على الزجاج وإن حدّثتك نفسك أنّه ممّا أنبتت الأرض ، ولكنّه من الملح والرمل وهما ممسوخان » (١).

فلا يدلّ على عدم جواز السجود على الرمل ، بل يدل على عدم جوازه على الحاصل منه ومن الملح معا ، وهو كذلك.

وأمّا قوله « وهما ممسوخان » فيمكن أن يكون المراد منه أنّهما مسخا فصارا زجاجا ، لا أنّهما بنفسهما ممسوخان من الأرض.

وأمّا الحجر ، فإن قلنا بكونه أرضا ـ كما هو ظاهر الأكثر بل صريحهم ـ فجواز السجود عليه ظاهر.

وإن قلنا بعدم أرضيّته ، كما عن ظاهر الإسكافي (٢) ، والسرائر (٣) ، وصريح بعض المتأخرين (٤) ، بل هو ظاهر الشيخ في النهاية أيضا ، حيث قال بعد نفيه جواز السجود إلاّ على الأرض أو ما أنبتته ، وحكمه بجواز السجود على الأرض : ولا بأس بالسجود على الجصّ والآجر والحجر والخشب (٥).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٣٢ الصلاة ب ٢٧ ح ١٤ ، التهذيب ٢ : ٣٠٤ ـ ١٢٣١ ، الوسائل ٥ : ٣٦٠ أبواب ما يسجد عليه ب ١٢ ح ١.

(٢) حكاه عنه في المختلف : ٤٨.

(٣) السرائر ١ : ١٣٧.

(٤) انظر : مفاتيح الشرائع ١ : ٦٢.

(٥) النهاية : ١٠٣.

٢٤٦

أو شككنا في أرضيّته ، كما هو كذلك.

لم تكن الأرضيّة موجبة لجواز السجود عليه. ولكن يحكم بصحته ، للإجماع عليها ، مضافا إلى روايات حمران ، والحلبي ، وعيينة.

الأولى : « فإذا لم تكن خمرة جعل حصى على الطنفسة حيث يسجد » (١).

والثانية : « دعا أبي بخمرة فأبطأت عليه ، فأخذ كفّا من حصباء فجعله على البساط ثمَّ سجد » (٢).

والثالثة : أدخل المسجد في اليوم الشديد الحرّ فأكره أن أصلّي على الحصى ، فأبسط ثوبي فأسجد عليه؟ قال : « نعم لا بأس » (٣).

وهي وإن كانت واردة في حال الانفصال ، ولكن ما يجوز السجود عليه منفصلا يجوز متّصلا ضرورة.

ولا فرق بين أنواع الحجر من برام ورخام ونحوهما ، وبالجملة كلّ ما يسمّى حجرا عرفا بالإطلاق حتى ما يقال له بالفارسية : مرمر ، للإجماع المحقّق ، والمحكي في كنز العرفان (٤) ، بل ـ كما قيل ـ بالضرورة (٥) ، وصدق الحصى والحصباء على صغار الكلّ.

ولا يضرّ إطلاق المعدن على بعض أنواعه ، بل كلّها ، لعدم دليل على المنع في مطلق المعدن. ولا احتمال تكوّنه من الماء ، وإلاّ لم يجز السجود على حجر ، لقيام الاحتمال في الكلّ.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٣٢ الصلاة ب ٢٧ ح ١١ ، التهذيب ٢ : ٣٠٥ ـ ١٢٣٤ ، الاستبصار ١ : ٣٣٥ ـ ١٢٥٩ ، الوسائل ٥ : ٣٤٧ أبواب ما يسجد عليه ب ٢ ح ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٣٣١ الصلاة ب ٢٧ ح ٤ ، التهذيب ٢ : ٣٠٥ ـ ١٢٣٥ ، الوسائل ٥ : ٣٤٧ أبواب ما يسجد عليه ب ٢ ح ٣ ، وفيها : « حصى » بدل « حصباء ».

(٣) التهذيب ٢ : ٣٠٦ ـ ١٢٣٩ ، الاستبصار ١ : ٣٣٢ ـ ١٢٤٨ ، الوسائل ٥ : ٣٥٠ أبواب ما يسجد عليه ب ٤ ح ١.

(٤) كنز العرفان ١ : ٢٦.

(٥) انظر : شرح المفاتيح ( المخطوط ).

٢٤٧

نعم ، لا يجوز فيما علم فيه الإجماع على عدم الجواز.

والأحوط عدم السجود على حجر الكحل.

وأمّا الحجر الجصّي والأرض الجصّية فيصحّ السجود عليه ، لصدق الأرض أو الحجر ولو بعد الحرق ، لاستصحاب الأرضية أو الحجرية ، ولصحيحة ابن محبوب : عن الجصّ يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ثمَّ يجصّص به المسجد ، أيسجد عليه؟ فكتب إليه بخطّه : « إنّ الماء والنار قد طهّراه » (١).

وحملها على التقيّة لا وجه له بعد عدم معارض معلوم. وكون السؤال عن السجود ، والجواب عن التطهّر غير ضائر ، إذ يدلّ السؤال على أنّ الشك في السجود إنّما هو لملاقاة العذرة وعظام الموتى. وكذا لا يضرّ عدم كونهما مطهّرين بهذا النحو ، لعدم تحقّق التنجس أيضا ، فالمراد ارتفاع النفرة.

والظاهر جواز السجود على النورة ، أمّا قبل الإحراق فلكونه حجرا ، وأمّا بعده فللاستصحاب. ولا يضر عدم إطلاق الحجر حينئذ ، لجواز أن يكون سبب جواز السجود على الحجر أرضيّته ، وزوالها هنا مشكوك فيه.

ولا يصحّ على شي‌ء من الأراضي الفلزّيّة والجوهريّة والملحيّة والقيريّة ونحوها بالإجماع ، لما مرّ ، مع تأيّده ببعض النصوص (٢) وإن كانت واردة في البعض بالخصوص.

وأمّا ما في بعض الأخبار من نفي البأس عن السجود على القير والقار (٣) ، فمع شذوذه المخرج له عن الحجيّة ، لعدم معلوميّة قائل بالجواز فيه ، كما صرّح به الأردبيلي (٤) ، بل على خلافه اتّفاق الأصحاب ، كما في الحدائق (٥).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٣٠ الصلاة ب ٢٧ ح ٣ ، الفقيه ١ : ١٧٥ ـ ٨٢٩ ، التهذيب ٢ : ٣٠٦ ـ ١٢٣٧ ، الوسائل ٥ : ٣٥٨ أبواب ما يسجد عليه ب ١٠ ح ١.

(٢) انظر : الوسائل ٥ : ٣٦٠ أبواب ما يسجد عليه ب ١٢.

(٣) انظر : الوسائل ٥ : ٣٥٣ أبواب ما يسجد عليه ب ٦.

(٤) مجمع الفائدة ٢ : ١١٨.

(٥) الحدائق ٧ : ٢٥٦.

٢٤٨

معارض بما هو أقوى منه سندا ، كحسنة زرارة : قلت له : أسجد على الزّفت؟ ـ يعني القير ـ فقال : « لا » (١).

فإنّ السؤال عن الجواز قطعا فالنفي له.

والترجيح لها ، لمخالفتها العامّة ، واختصاصها بغير حال الضرورة ، والأوّل موافق لها (٢) ، وأعمّ منه. مع أنّه مع التكافؤ يرجع إلى أصالة عدم الجواز.

ومع ذلك لا دلالة لما نفي البأس فيه عن الصلاة ، لجواز كون المراد القيام عليه حال الصلاة (٣).

فتجويز القول بالكراهة ـ كما في المدارك والوافي (٤) ـ لا وجه له.

ثمَّ إنه ظهر ممّا ذكرنا أنّ المناط في تعيين ما لا يصحّ السجود عليه من الأجزاء الكائنة في الأرض : عدم صدق كونه بعض الأرض ، بل الشك في صدقه أيضا إذا لم يسبق بالعلم بالصدق أوّلا حتى يستصحب ، كما في الأجزاء المذكورة ، لاحتمال كونها مخلوقة كذلك ابتداء أو متكوّنة من الأرض وغيره من ماء ونحوه.

وأمّا جعل الضابط ، المعدنيّة ـ كما في كلام كثير من الأصحاب (٥) ـ فعندي غير حسن ، لصدق المعدن لغة وعرفا على الأعمّ من ذلك ، فيقال : معدن الحجر الفلاني والتراب الكذائي ، كمعدن حجر الرحى والتراب الأحمر والجصّ وغيرها ، مع أنّه لم يرد نصّ متضمّن لذلك اللفظ حتى يجب جعله المناط.

المسألة الثانية : اعلم أنّه لا يصدق على شي‌ء من أجزاء الأرض حال‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٣٠ الصلاة ب ٢٧ ح ٢ ، التهذيب ٢ : ٣٠٣ ـ ١٢٢٦ ، الاستبصار ١ : ٣٣١ ـ ١٢٤٢ ، الوسائل ٥ : ٣٤٦ أبواب ما يسجد عليه ب ٢ ح ١.

(٢) ادّعى المجلسي (ره) في البحار ٨٢ : ١٥٦ اتفاق المخالفين على الجواز ، ولكن لم نجد في كتبهم تصريحا بذلك.

(٣) مع أنّ في إرادة القير من القار نظرا لجواز أن يكون المراد منه الأشياء السود ممّا وهم السجود عليه ، ويكون النهي للغيرية فيما ورد النهي عنه فيه. منه رحمه‌الله.

(٣) المدارك ٣ : ٢٤٤ ، الوافي ٨ : ٧٣٦.

(٤) انظر : جامع المقاصد ١ : ١٦٠ ، وروض الجنان : ٢٢٢ ، والمدارك ٣ : ٢٤٣.

٢٤٩

انفصاله عنها اسم الأرض قطعا ، كما صرّح به بعض متأخري المتأخرين (١) ، ولا يطلق عليه اسمها حقيقة ، لعدم التبادر ، وصحّة السلب عرفا ، فيكون مثل أجزاء الفرس حيث إنّه لا يصدق على شي‌ء منها حال الانفصال أنّه فرس. نعم يصدق عليه اسم بعض الأرض وجزئها الأرضى.

وكذا لا يصدق على السجود عليه أنّه سجود على الأرض.

ولكن كلّ ما صحّ السجود عليه حال الاتّصال يصحّ حال الانفصال أيضا بالإجماع بل الضرورة ، ولخبر الخريطة الآتي (٢) ، ورواية صالح بن الحكم وفيها بعد السؤال عن الصلاة في السفينة والجواب : فقلت له : آخذ مدرة معي أسجد عليها؟ قال : « نعم » (٣).

فيصحّ السجود على التراب الموضوع على مثل البساط والسجّادة ، والحصى الملقاة عليه ، وعلى المدرة واللّبنة ونحوها.

ولو حصل تغيّر في شي‌ء من ذلك موجب للشك في خروجه عن صدق بعض الأرض ، وفي جواز السجود عليه ، يحكم بالجواز ، لاستصحاب البعضيّة والجواز.

وكذا لو تغيّر تغيّرا موجبا للخروج عن صدق بعض الأرض وشكّ في جواز السجود عليه ، فيحتمل الحكم بالجواز أيضا ، لاستصحابه ، حيث إنّه لم يكن التجويز هنا لصدق الأرض حتى ينتفي بانتفائه.

ولكنّ الأحوط عدم الجواز ، لأنّ الظاهر أنّ الإجماع على الجواز على الأجزاء المنفصلة ، وتصريح الأخبار به إنّما هو لأجل صدق الأرضيّة أي جزئيّته لها ، فهما قرينتان على أنّ المراد بالسجود على الأرض السجود على بعض منها.

__________________

(١) انظر : الذخيرة : ٢٤٠ ، وشرح المفاتيح ( المخطوط ).

(٢) انظر : ص ٢٦٧ ، الرقم (٢).

(٣) التهذيب ٣ : ٢٩٦ ـ ٨٩٧ ، الوسائل ٥ : ٣٥٤ أبواب ما يسجد عليه ب ٦ ح ٢.

٢٥٠

وعلى ما ذكر تظهر صحّة السجود على الخزف والآجر ومثل السبحة المطبوخة ، وفاقا للمحكي عن الأكثر وإن أنكره بعض من تأخّر (١) ، بل في عبارة الفاضلين الإشعار بالإجماع على الجواز (٢).

لاستصحاب الجواز الثابت بالإجماع والأخبار ، بل صدق الأرض عليه أيضا ، ولو شككت فيه فاستصحبه أيضا.

والقول بأنّ هذا الاستصحاب معارض مع استصحاب بقاء شغل الذمة ، مردود بأنّ الأوّل مزيل للثاني ، فلا تعارض بينهما ، كما بينّاه في الأصول.

وأمّا الرضويّ المانع عن السجدة على الآجر ـ يعني المطبوخ (٣) ـ فليس منعه صريحا في النهي ، مع أنّه ـ لضعفه الخالي عن جابر ـ عن إفادة المنع قاصر.

المسألة الثالثة : يجوز السجود على كلّ ما أنبتته الأرض ـ عدا ما يجي‌ء استثناؤه ـ بالإجماع والنصوص ، منها ـ مضافا إلى ما مرّ ـ صحيحة الفضل والعجلي : « فإن كان من نبات الأرض فلا بأس بالقيام عليه والسجود عليه » (٤).

وحسنة ياسر : مرّ بي أبو الحسن عليه‌السلام وأنا أصلّي على الطبري وقد ألقيت عليه شيئا أسجد عليه ، فقال لي : « مالك لا تسجد عليه ، أليس هو من نبات الأرض؟ » (٥).

وصحيحة ابن أبي العلاء : عن السجود على البورياء والخصفة والنبات؟

__________________

(١) انظر : الذخيرة : ٢٤١.

(٢) المحقق في المعتبر ١ : ٣٧٥ ، العلامة في التذكرة ١ : ٦٢.

(٣) فقه الرضا (ع) : ١١٣ ، مستدرك الوسائل ٤ : ١٠ أبواب ما يسجد عليه ب ٧ ح ١.

(٤) الكافي ٣ : ٣٣١ الصلاة ب ٢٧ ح ٥ ، التهذيب ٢ : ٣٠٥ ـ ١٢٣٦ ، الاستبصار ١ : ٣٣٥ ـ ١٢٦٠ ، الوسائل ٥ : ٣٤٤ أبواب ما يسجد عليه ب ١ ح ٥.

(٥) الفقيه ١ : ١٧٤ ـ ٨٢٧ ، التهذيب ٢ : ٣٠٨ ـ ١٢٤٩ ، الاستبصار ١ : ٣٣١ ـ ١٢٤٣ ، الوسائل ٥ : ٣٤٨ أبواب ما يسجد عليه ب ٢ ح ٥.

٢٥١

قال : « نعم » (١).

وصحيحة محمّد : « لا بأس بالصلاة على البورياء والخصفة وكلّ نبات إلاّ التمرة » (٢).

واستثناء التمرة قرينة على أنّ المراد بالصلاة السجود.

وأمّا صحيحة علي : عن الرجل يصلّي على الرطبة النابتة (٣) قال ، فقال : « إذا ألصق جبهته بالأرض فلا بأس » الحديث (٤).

فلا تنافي عموم ما مرّ ، إذ المسؤول عنه هو الصلاة على الرطبة دون السجود ، فيحتمل أن يكون السؤال باعتبار عدم حصول التمكّن عليه فلذا أجاب بما أجاب.

وعلى هذا فيصحّ السجود على كلّ خشب وورق وقصب وعلف وورد وزهر ، وعلى التبن والتنباك والمروحة والعود والعصا والسواك والبورياء والحصير ، وبالجملة كلّ ما أنبتته الأرض.

ولو شك في شي‌ء أنّه هل هو نبات أو لا ، فلا يصحّ السجود عليه ، للأصل المتقدّم.

ولو كان على نبات صبغ ، فإن كان له جرم لا يسجد عليه لم يجز السجود عليه ، وإلاّ جاز.

وكذا يجوز على النبات لو سحق أو جفّ ، وعلى الفحم ، لصدق النبات والاستصحاب.

ولا يجوز على الرماد ، لخروجه عن اسم النباتيّة جدّا ، وتبدّل صورته النوعيّة‌

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣١١ ـ ١٢٦١ ، الوسائل ٥ : ٣٤٦ أبواب ما يسجد عليه ب ١ ح ١٠.

(٢) الفقيه ١ : ١٦٩ ـ ٨٠٠ وفيه : الاّ الثمرة ، التهذيب ٢ : ٣١١ ـ ١٢٦٢ ، الوسائل ٥ : ٣٤٥ أبواب ما يسجد عليه ب ١ ح ٩.

(٣) الرطبة : ما يقال له في الفارسيّة : يونجه. منه رحمه‌الله.

(٤) الكافي ٣ : ٣٣٢ الصلاة ب ٢٧ ح ١٣ ، الفقيه ١ : ١٦٢ ـ ٧٦٢ ، التهذيب ٢ : ٣٠٤ ـ ١٢٣٠ ، الوسائل ٥ : ٣٦١ أبواب ما يسجد عليه ب ١٣ ح ١.

٢٥٢

النباتيّة.

ولا على الحاصل من النبات ممّا لم يتعلّق به نفس نباتيّ ولا نموّ له ، كالصمغ ، ومياه النباتات إذا عصر وانجمد ، لأنّه ليس نباتا.

وقال بعض مشايخنا المحققين بجواز السجود على ماء البقّم إذا كتب به ، لأنّه من نبات الأرض (١). وهو ضعيف جدّا.

المسألة الرابعة : يستثنى من النبات ما يؤكل ويلبس ، فلا يجوز السجود عليهما إجماعا من غير السيّد في بعض رسائله الغير القادح خلافه في ثياب القطن والكتان (٢) ، وللنصوص المتقدّمة جملة منها.

ومنها حسنة زرارة : أسجد على الزّفت؟ قال : « لا ، ولا على الثوب الكرسف ، ولا على الصوف ، ولا على شي‌ء من الحيوان ، ولا على طعام ، ولا على شي‌ء من ثمار الأرض ، ولا على شي‌ء من الرياش » (٣).

والمرويّان في العلل والخصال ، الأوّل : « السجود لا يجوز إلاّ على الأرض أو على ما أنبتت الأرض إلاّ ما أكل أو لبس » إلى أن قال : « لأنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون ، والساجد في سجوده في عبادة الله عزّ وجل ، فلا ينبغي أن يضع جبهته على معبود أبناء الدنيا » (٤).

والثاني : « لا يسجد الرجل على كدس حنطة ولا شعير ولا لون ممّا يؤكل » (٥).

وفي الأخير أيضا : « لا يسجد إلاّ على الأرض أو ما أنبتت الأرض إلاّ‌

__________________

(١) شرح المفاتيح ( المخطوط ). والبقّم : خشب شجره عظام وورقه كورق اللوز وساقه أحمر يصبغ بطبيخه ـ القاموس المحيط ٤ : ٨٢.

(٢) انظر : الموصليات الثانية ( رسائل السيّد المرتضى ١ ) : ١٧٤.

(٣) الكافي ٣ : ٣٣٠ الصلاة ب ٢٧ ح ٢ ، التهذيب ٢ : ٣٠٣ ـ ١٢٢٦ ، الاستبصار ١ : ٣٣١ ـ ١٢٤٢ ، الوسائل ٥ : ٣٤٦ أبواب ما يسجد عليه ب ٢ ح ١.

(٤) العلل : ٣٤١ ـ ١ ، الوسائل ٥ : ٣٤٣ أبواب ما يسجد عليه ب ١ ح ١.

(٥) الخصال : ٦٢٨ ، الوسائل ٥ : ٣٤٤ أبواب ما يسجد عليه ب ١ ح ٤.

٢٥٣

المأكول والقطن والكتان » (١).

والرضوي : « كلّ شي‌ء يكون غذاء الإنسان في المطعم والمشرب من الثمر والكثر (٢) ، فلا تجوز الصلاة عليه ، ولا على ثياب القطن والكتان والصوف والشعر والوبر وعلى الجلد ، ولا على شي‌ء يصلح اللبس فقط وهو يخرج من الأرض ، إلاّ أن يكون في حال ضرورة » (٣) إلى غير ذلك.

خلافا للسيّد في المسائل الموصليّة فجوّز السجود على ثياب القطن والكتان ، وهو ظاهر المعتبر مع كراهة (٤) ، كبعض متأخّري المتأخّرين (٥).

وظاهر الشرائع والنافع (٦) ، وشرح الشرائع للصيمري كما حكي : التردد.

كلّ ذلك لروايات متعددة ، كرواية الصرمي : هل يجوز السجود على القطن والكتان من غير تقيّة ولا ضرورة؟ فقال : « جائز » (٧).

والصنعاني : عن السجود على القطن والكتان من غير تقيّة ولا ضرورة ، فكتب إليّ : « ذلك جائز » (٨).

ورواية ياسر المتقدّمة (٩) ، وغير ذلك.

وتردّ ـ بعد تسليم دلالة الجميع وقطع النظر عن عموم بعضها بالنسبة إلى حال الضرورة فيخصّ لها ـ : بأنّها شاذّة غير صالحة للحجيّة ، إذ لم يفت بها صريحا‌

__________________

(١) الخصال : ٦٠٤ ، الوسائل ٥ : ٣٤٤ أبواب ما يسجد عليه ب ١ ح ٣.

(٢) الكثر : جمّار النخل ـ أي شحمة ـ أو طلعة. القاموس ٢ : ١٢٥.

(٣) فقه الرضا (ع) : ٣٠٢ ، مستدرك الوسائل ٤ : ٦ أبواب ما يسجد عليه ب ١ ح ٣.

(٤) المعتبر ٢ : ١١٩.

(٥) الفيض في الوافي ٨ : ٧٤٢.

(٦) الشرائع ١ : ٧٣ ، المختصر النافع : ٢٧.

(٧) التهذيب ٢ : ٣٠٧ ـ ١٢٤٦ ، الاستبصار ١ : ٣٣٢ ـ ١٢٤٦ ، الوسائل ٥ : ٣٤٨ أبواب ما يسجد عليه ب ٢ ح ٦.

(٨) التهذيب ٢ : ٣٠٨ ـ ١٢٤٨ ، الاستبصار ١ : ٣٣٣ ـ ١٢٥٣ ، الوسائل ٥ : ٣٤٨ أبواب ما يسجد عليه ب ٢ ح ٧.

(٩) في ص ٢٥١.

٢٥٤

إلا السيّد في رسالته ، مع أنّه قد أفتى بالمنع في الجمل والمصباح والانتصار (١) ، ونقل فيه إجماع الطائفة على المنع ، كالشيخ في الخلاف (٢) ، والفاضل في المختلف (٣).

ولو سلّمت الحجيّة أيضا فتعارض ما مرّ من أخبار المنع عموما وخصوصا ، والترجيح للمنع بمخالفة العامّة (٤) وموافقة أخبار الجواز لها ، كما صرّح به في صحيحة ابن يقطين : « لا بأس بالسجود على الثياب في حال التقيّة » (٥) فتكون محمولة على التقيّة.

ولا ينافيه طلب السائل في بعضها الجواب من غير تقيّة (٦) ، إذ لا يلزم الإمام إلاّ الجواب بما فيه مصلحة السائل من التقيّة أو غيرها وإن ألحّ عليه في سؤال الحكم من غير تقيّة.

ثمَّ المراد بالمأكول : مأكول الإنسان إجماعا ، كما صرّح به في الرضوي ، وهو المتبادر منه.

وبما أكل أو لبس : ما صدق عليه المأكول والملبوس في عرف المحاورات ، وهو ما كان مأكولا وملبوسا عادة ، إذ غيره لا يصدق عليه اللفظان عرفا ، بل لا يتبادر منها غيره ، ولأنّه المدلول عليه من التعليل المذكور في العلل ، إذ ما لا يعتاد أكله أو لبسه ليس ممّا يعبد. وكذا يدلّ عليه لفظ الطعام والغذاء المتقدّمين.

فلا منع في السجود على ما أكل أو لبس نادرا أو في مقام الاضطرار ، كالعقاقير التي تجعل في الأدوية من النباتات التي لم يطّرد أكلها ، لدخولها فيما أنبتت الأرض مع عدم شمول الاستثناء لها.

__________________

(١) حكاه عن الجمل في شرحه للقاضي : ٧٥ وعن المصباح في المنتهى ١ : ٢٥١ ، الانتصار : ٣٨.

(٢) الخلاف ١ : ٣٥٧.

(٣) المختلف : ٨٦.

(٤) انظر : نيل الأوطار ٢ : ٢٨٩.

(٥) الفقيه ١ : ١٧٦ ـ ٨٣١ ، التهذيب ٢ : ٢٣٥ ـ ٩٣٠ ، الوسائل ٥ : ٣٤٩ أبواب ما يسجد عليه ب ٣ ح ١ و ٢.

(٦) كما في روايتي الصرمي والصنعاني المتقدمتين.

٢٥٥

وفي مثل الزنجبيل والزعفران والدارجيني والعنّاب ونحوها وجهان ، أقربهما جدّا المنع ، لاعتياد أكلها.

وأمّا مثل عود الصندل وأصل الخطمي وورقه وورده وما ماثلها ، فالأقرب الجواز ، لعدم الاعتياد.

ولو اعتيد أكل شي‌ء أو لبسه في قطر دون قطر ، ففي اعتبار قطر الشارع لوجوب حمل اللفظ على متعارفة ، أو اختصاص كلّ قطر بمعتاده لصدق اللفظ في أحدهما وعدمه في الآخر ، أو المنع مطلقا لصدق المأكول عادة ولأنّ الحنطة والشعير والتمر والأرزّ وأمثالها يطّرد أكلها في قطر دون آخر ، مع انعقاد الإجماع فيها على المنع ، أوجه.

والصحيح أن يقال : إنّه إن كان ممّا يصدق عليه المأكول والملبوس عند أهل كلّ من القطرين وإن قال أحدهما ما نعتاد بأكله ، لا يجوز السجود عليه كالخبز ، فإنّه وإن لم يعتد أكله عند أكثر أهل الطبرستان وبادية العرب ولكنّهم يقولون إنّه من المأكولات وإن لم يعتد أكله ، ومثله الجبن واللحم عند بعض الناس حيث لا يأكلونهما ويتحاشون عنهما ولكن لا يسلبون عنهما اسم المأكول.

وإن كان ممّا لا يصدق عليه المأكول والملبوس عادة عند الطائفتين فيجوز السجود عليه ، كالفحم والطين وأصول بعض النباتات ، حيث قد يعتاد بأكله بعض الناس ومع ذلك يقولون إنّه ليس بمأكول ولكنّا أعتدنا أكله.

وإن كان ممّا يصدق عليه المأكول والملبوس عادة عند إحدى الطائفتين دون الأخرى ، بل الأخرى تسلب عنه الاسم ، فإن كانت إحداهما نادرة غير ملتفت إليهم وإلى عرفهم كأهل بادية بعيدة عن العمران أو جزيرة أو قرية من أطراف الأرض ، وكان المعظم على خلافه ، فالاعتبار بالمعظم ، إذ قد عرفت أنّ المراد ممّا صدق عليه اللفظ عرفا ، والمصداق العرفي ما عليه معظم الإنسان.

وإن لم تكن إحداهما كذلك بل كان عرف كلّ منهما ممّا يعتنى به ويلتفت إليه ، فالحقّ الجواز ، لحصول الشك في الاستثناء ، وصدق النبات.

٢٥٦

ولو شاع أكل شي‌ء أو لبسه في عصر ثمَّ ترك وهجر في عصر آخر حتى زالت العادة ، أو لم يعتد أكله أو لبسه ثمَّ شاع واعتيد ، فالحكم للسابق ، للاستصحاب. وتحتمل متابعة التسمية ، فلكلّ زمان حكمه.

ولو كان لشي‌ء حالتان شاع أكله في إحداهما ولم يؤكل في الأخرى أو ندر ، كقشر اللوز وورق الكرم ، اختصّ المنع بحالة الأكل. ونحوه التين ، فإنّه في بدء ظهوره لا يؤكل فيجوز السجود عليه ، ولا يجوز إذا نضج.

ولو كان لشي‌ء أجزاء مأكولة أو ملبوسة وغيرهما كان لكلّ منهما حكمه ، فيصحّ السجود على قشر الجوز والرمّان والبطّيخ ، ونواة التمر والمشمش ، وقشر القطن وحبّه ، ولا يجوز على لبّها ، وكذا يجوز السجود على قشر بذر القرع والبطّيخ ونحوهما.

ولو كان شي‌ء ممّا يؤكل تبعا لآخر ولا يؤكل منفردا ، جاز السجود حال الانفراد ، كنواة العنب والرمّان وقشر الحنطة والشعير والقشر الرقيق على البصل ونحوها.

ولا يشترط في المأكول والملبوس فعلية الانتفاع بهما ، بل يكفي كونهما كذلك ولو بعد علاج فيه أو عمل ، للصدق العرفي. فإنّ مثل اللوز المرّ والحنطة والشعير والقطن والكتّان يصدق عليه المأكول والملبوس عادة مع توقّف الأوّل على جعله حلوا ، والثانيين على الطحن والعجن والطبخ ، والأخيرين على الغزل والنسج والخياطة وغيرها.

خلافا للمحكي عن الفاضل في جملة من كتبه ، فجوّز على الحنطة والشعير قبل الطحن ، لكونهما غير مأكولين عادة ، ولكون القشر في الشعير حائلا بين المأكول والجبهة (١).

والمناقشة فيهما ـ بعد ما عرفت من صدق كونهما مأكولين عادة ـ واضحة ، مع أنّ الحنطة تشوى وتؤكل قبل الطحن أيضا شائعا ، وكان كذلك قشر الشعير في‌

__________________

(١) التذكرة ١ : ٩٢ ، المنتهى ١ : ٢٥١ ، التحرير ١ : ٣٤.

٢٥٧

الصدر الأوّل ، فقد حكي أنّه كان يؤكل غير منخول وأوّل من نخلة معاوية (١) ، على أنّ الطعام المنهيّ عن السجود عليه في الحسنة (٢) شامل للحنطة والشعير قبل الطحن لغة وعرفا وشرعا ، بل في المرويّ عن الخصال ـ المنجبر ضعفه لو كان بالشهرة العظيمة ـ تصريح بالمنع عن السجود على الحنطة والشعير (٣).

وللمحكي عنه في النهاية ، فجوّز على القطن والكتّان قبل الغزل والنسج ، وتوقّف بعد الغزل (٤). وضعفه ظاهر ممّا مرّ.

وأمّا المرويّ عن تحف العقول : « كلّ شي‌ء يكون غذاء الإنسان في مطعمه أو مشربه أو ملبسه فلا تجوز الصلاة عليه ولا السجود ، إلاّ ما كان من نبات الأرض من غير ثمر قبل أن يصير مغزولا ، وأمّا إذا صار مغزولا فلا تجوز الصلاة عليه إلاّ في حال الضرورة » (٥).

فلا يصلح للاستناد ، لضعفه الخالي عن الجابر.

المسألة الخامسة : لا يجوز السجود على الوحل ، لأنّه ليس بأرض ولا ما أنبتته ، ولعدم تمكّن الجبهة عليه ، ويؤيّده بعض الأخبار (٦).

فإن لم يقدر إلاّ عليه ، فإن تمكّن من غمس الجبهة فيه بحيث يصل إلى الأرض ويتمكّن عليها بلا مشقّة وضرر وجب.

وإلاّ فإن تمكّن من الجلوس ووضع الجبهة على الوحل بحيث يصدق السجدة بلا ضرر ومشقّة وجب ، لعمومات السجود ، وعدم توقّف صدقه على تمكّن الجبهة.

وإلاّ فيركع ثمَّ يسجد إيماء كما هو قائم ، لموثقة الساباطي : عن الرجل‌

__________________

(١) كما في الحدائق ٧ : ٢٥٧.

(٢) راجع ص ٢٥٣.

(٣) راجع ص ٢٥٣.

(٤) نهاية الإحكام ١ : ٣٦٢.

(٥) تحف العقول : ٢٥٢ ، الوسائل ٥ : ٣٤٦ أبواب ما يسجد عليه ب ١ ح ١١.

(٦) انظر : الوسائل ٥ : ١٤١ أبواب مكان المصلي ب ١٥.

٢٥٨

يصيبه المطر وهو لا يقدر أن يسجد فيه من الطين ولا يجد موضعا جافّا ، قال : « يفتتح الصلاة فإذا ركع فليركع كما يركع إذا صلّى ، فإذا رفع رأسه من الركوع فليومئ للسجود إيماء وهو قائم ، يفعل ذلك حتى يفرغ من الصلاة ويتشهّد وهو قائم ثمَّ يسلّم » (١).

وظاهر الرواية عدم إمكان الجلوس ، حيث حكم بالتشهّد قائما أيضا ، فإنّه يجب الجلوس له مع إمكانه إجماعا ، ولا وجه لسقوطه بعدم إمكان السجود.

ولو أمكن فهل يجب الجلوس للسجود أو يومئ قائما؟

الظاهر جواز الأمرين ، لعدم دليل على وجوب الجلوس للسجود. والاستدلال له بمثل قوله : « لا يسقط الميسور بالمعسور » (٢) فاسد كما مرّ مرارا.

نعم ، الظاهر وجوب الجلوس للسجدة الثانية ، لوجوب الجلوس بين السجدتين ، فتأمّل.

المسألة السادسة : يجوز السجود على القرطاس ، بلا خلاف فيه في الجملة ، إلاّ عن الشهيد في البيان والذكرى ، حيث توقّف فيهما (٣). بل عن ظاهر جماعة (٤) ، وصريح المسالك والروضة (٥) : الإجماع عليه.

وتدلّ عليه صحيحة ابن مهزيار : عن القراطيس والكواغذ المكتوبة ، هل يجوز السجود عليها أم لا؟ فكتب : « يجوز » (٦).

والجمّال : رأيت أبا عبد الله عليه‌السلام في المحمل يسجد على القرطاس ،

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣١٢ ـ ١٢٦٦ ، الوسائل ٥ : ١٤٢ أبواب مكان المصلي ب ١٥ ح ٤.

(٢) عوالي اللئالي ٤ : ٥٨ ـ ٢٠٥.

(٣) البيان : ١٣٤ ، الذكرى : ١٦٠.

(٤) انظر : التذكرة ١ : ٩٢ ، والذخيرة : ٢٤٢ ، والرياض ١ : ١٤٤.

(٥) المسالك ١ : ٢٦ ، الروضة ١ : ٢٢٧.

(٦) الفقيه ١ : ١٧٦ ـ ٨٣٠ ، التهذيب ٢ : ٣٠٩ ـ ١٢٥٠ ، الاستبصار ١ : ٣٣٤ ـ ١٢٥٧ ، الوسائل ٥ : ٣٥٥ أبواب ما يسجد عليه ب ٧ ح ٢.

٢٥٩

وأكثر ذلك يومئ إيماء (١).

والظاهر أنّ المراد أنّ أكثر سجوده كان بالإيماء وهو حال السير وعدم التمكن من السجود ، وإذا تمكّن كان يسجد على القرطاس.

وأمّا صحيحة جميل : « كره أن يسجد على قرطاس فيه كتاب » (٢).

ففي دلالتها منفردة نظر ، لعدم تعيّن إرادة المعنى المصطلح من الكراهة ، وعدم حجّية مفهوم الوصف.

احتجّ الشهيد للمنع : باشتماله على النورة المستحيلة ، ثمَّ قال : إلاّ أن يقال : الغالب جوهر القرطاس ، أو إنّ جمود النورة يردّ إليها اسم الأرض (٣).

وفي احتجاجه وتوجيهه نظر.

أمّا احتجاجه : فعلى القول بجواز السجود على النورة ظاهر ، وعلى القول بعدمه يجب تخصيص النورة التي في القرطاس لرواياته.

وأمّا التوجيهان : فلأنّ أغلبيّة المسوّغ لا تكفي مع امتزاجه بغيره واختلاط أجزائهما بحيث لا يتميّز ، وجمود النورة لا يردّ إليها اسم الأرض لو لم تسمّ بها أوّلا ، وإلاّ فلا وجه للاستشكال.

ثمَّ مقتضى إطلاق الصحيحة الاولى وكلام أكثر الأصحاب بل تصريح جماعة (٤) : عدم الفرق في القرطاس بين المتخذ من القنّب (٥) والقطن والكتان والإبريسم.

خلافا للمحكي عن التذكرة (٦) ، فاعتبر فيه كونه مأخوذا من غير الإبريسم ،

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٠٩ ـ ١٢٥١ ، الاستبصار ١ : ٣٣٤ ـ ١٢٥٨ ، الوسائل ٥ : ٣٥٥ أبواب ما يسجد عليه ب ٧ ح ١.

(٢) الكافي ٣ : ٣٣٢ الصلاة ب ٢٧ ح ١٢ ، التهذيب ٢ : ٣٠٤ ـ ١٢٣٢ ، الاستبصار ١ : ٣٣٤ ـ ١٢٥٦ ، الوسائل ٥ : ٣٥٦ أبواب ما يسجد عليه ب ٧ ح ٣.

(٣) الذكرى : ١٦٠.

(٤) انظر : الذخيرة : ٢٤٢ ، والحدائق ٧ : ٣٤٧ ، والرياض ١ : ١٤٤.

(٥) القنّب : بالضم وفتح النون المشددة : نبات يؤخذ لحاؤه ثمَّ يفتل حبالا. مجمع البحرين ٢ : ١٥٠.

(٦) التذكرة ١ : ٩٢.

٢٦٠