حقوق أهل البيت عليهم السلام في القرآن الكريم

حقوق أهل البيت عليهم السلام في القرآن الكريم

المؤلف:


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-367-5
الصفحات: ١٤٨

قرأ عليه‌السلام ( قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ). (١)

٥ ـ في حديث علي بن الحسين عليه‌السلام قال : «خطب الحسن بن علي الناس حين قتل علي عليه‌السلام ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثم قال : « وإنا من أهل البيت الذي أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، وإنا من أهل البيت الذي افترض اللّه مودتهم على كل مسلم ، فقال تبارك وتعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً ) فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت ». (٢)

٦ ـ أخرج الطبري وابن عطية بالاسناد إلى أبي الديلم قال : لما جيء بعلي بن الحسين رضي اللّه عنهما أسيراً ، فأقيم على درج دمشق ، قام رجل من أهل الشام فقال : الحمد للّه الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرني الفتنة ، فقال له علي بن الحسين رضي‌الله‌عنه : « أقرأت القرآن؟ » قال : نعم ، قال : « أقرأت ال حمآ؟ » قال : قرأت القرآن ولم أقرأ ال حمآ ، قال : « ما قرأت ( قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى )؟ » قال : وإنكم لأنتم هم؟ قال : « نعم ». (٣)

__________________

(١) تاريخ أصفهان / أبونعيم الأصفهاني ٢ : ١٣٤ ـ دار الكتب العلمية ـ ط١ ، ١٤١٠ه ، شواهد التنزيل / الحاكم الحسكاني ٢ : ٢٠٥ / ٨٣٨ ، الصواعق المحرقة / ابن حجر ٢ : ٤٨٧ ، روح المعاني / الآلوسي ٢٥ : ٣١.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٨٨ ـ ١٨٩ / ٤٨٠٢ ، مقاتل الطالبيين / أبوالفرج الأصفهاني : ٦١ ـ ٦٢ ، شرح النهج / ابن أبي الحديد ١٦ : ١٨ ، مجمع الزوائد / الهيثمي ٩ : ١٤٦.

(٣) تفسير جامع البيان / الطبري ١٣ : ٣٣ / ٢٣٦٩٨ ، تفسير المحرر الوجيز / ابن عطية الأندلسي ٥ : ٣٤ ، دار الكتب العلمية ـ بيروت ، ط١ / ١٤١٣ه ، الدر المنثور / السيوطي ٥ : ٧٠١ ، الصواعق المحرقة / ابن حجر ٢ : ٤٨٨.

٦١

أقوال بعض المفسرين في الآية :

قال الرازي في المسألة الثالثة من مسائله حول هذه الآية : آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم الذين يؤول أمرهم إليه ، فكل من كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل ، ولا شكّ أن فاطمة وعلياً والحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشدّ التعلقات ، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر ، فوجب أن يكونوا هم الآل ، ...

وروى صاحب الكشاف : أنه لما نزلت هذه الآية قيل : يا رسول اللّه ، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ فقال : « علي وفاطمة وابناهما » (١) فثبت أن هؤلاء الأربعة أقارب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم ، ويدلّ عليه وجوه :

الأول : قوله تعالى : « إلاّ المودة في القربى » ووجه الاستدلال به ما سبق.

الثاني : لا شكّ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحبّ فاطمة عليها‌السلام ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما يؤذيها » وثبت بالنقل المتواتر عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان يحبّ علياً والحسن والحسين ، وإذا ثبت ذلك وجب على كلّ الأُمّة مثله لقوله : ( وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (٢).

الثالث : أن الدعاء للآل منصبٌ عظيمٌ ، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة ، وهو قوله : « اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، وارحم محمد وآل محمد » وهذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل ، فكلّ

__________________

(١) الكشاف / الزمخشري ٤ : ٢٢٣.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٨.

٦٢

ذلك يدلّ على أنّ حبّ آل محمد واجبٌ.

وقال الشافعي رضي‌الله‌عنه :

يا راكباً قف بالمحصب من منى

واهتف بساكن خيفها والناهض

سَحَراً إذا فاض الحجيج إلى منى

فيضاً كما نظم الفرات الفائض

إن كان رفضاً حبّ آل محمد

فليشهد الثقلان أنّي رافضي (١)

وفي قوله تعالى : ( ومَن يَقتَرِفْ حَسَنَةً ) قال القرطبي : أي يكتسب. وأصل القرف الكسب يقال : فلان يقرف لعياله ، أي يكسب ، والاقتراف الاكتساب ، وهو مأخوذ من قولهم : رجل قرفة ، إذا كان محتالاً. وقال ابن عباس : ( ومَن يَقتَرِفْ حَسَنَةً ) قال : المودة لآل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً ) أي نضاعف له الحسنة بعشر فصاعداً. ( إنّ اللّه غفورٌ شَكُورٌ ) قال قتادة : ( غَفُورٌ ) للذنوب ، ( شَكُورٌ ) للحسنات ، وقال السدّي : ( غَفُورٌ ) لذنوب آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ( شَكُورٌ ) لحسناتهم. (٢)

وقال الزمخشري : ( ومَن يَقتَرِفْ ) عن السدّي : أنّها المودة في آل رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) ، وتبعه في ذلك النيسابوري (٤).

وأخرج الثعلبي وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ( ومَن يَقتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً ) قال : المودة لآل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥).

__________________

(١) تفسير الرازي ٩ : ٥٩٥.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٦ : ٢٤.

(٣) تفسير الكشاف ٤ : ٢٢٥.

(٤) تفسير غرائب القرآن / النيسابوري ٦ : ٧٤.

(٥) الدر المنثور / السيوطي ٥ : ٧٠١ ، الصواعق المحرقة / ابن حجر ٢ : ٤٨٨.

٦٣

معطيات الآية ودلالاتها

إنّ الآية في ظاهرها تريد المودة ، وهي الثبوت على المحبّة ، فإنّ مَن ثبت على المحبّة استصحب المودة في كل حال ، وعند التأمّل المنصف المتأنّي نجد أنّها لا تقف عند حدّ المودة والحبّ ، بل تتعداه لتجعل من هذه المودّة طريقاً إلى اتّباع نهج المودود ، وهذا ما نستشعره من جهات ثلاث :

الاُولى : من الواضح أن المودة وضعت على كفتي ميزان مع الرسالة ، حيث جُعلت أجراً لها ، وهو أمرٌ عظيم لا نراه بحكم الوجدان يتوقف على إرادة المحبّة وحدها ، وإن كانت مطلوبة لذاتها ، فالمحبّة المجردة لا تكون عدلاً لتبليغ الرسالة إلاّ إذا كانت كاشفةً عن سبيل قويم إلى مرضاة اللّه تعالى ، تتجسّد فيه كل أهداف وغايات الدعوة.

الثانية : إن طلب المحبّة المجرّدة لا يكشف عن حالة من الاندكاك والذوبان الكامل في اللّه تعالى الذي يناسب مقام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه قد يلوح منها جانب ذاتي ، أما إذا قلنا بأن المراد من طلب المحبّة هو طريق للاقتداء بسلوك المحبوب الذي من خلاله نضع أقدامنا على الصراط المستقيم ، فإن ذلك يشكل جزءاً من الدعوة ، عندها نكون قد ارتفعنا بطلب المودّة إلى مستوى من الهدفية والحكمة بما ينسجم وروح وغاية رسالة السماء.

الثالثة : حكم الطبيعة بأن الإنسان إذا أحبّ شيئاً أحبّ جميع شؤونه ، فتراه يتتبعها ويتوددها ويتمناها ، ويتّخذ ممن أحبّ قدوةً وأُسوةً ، يطيعه ولا يعصيه ، وفي هذا يقول الإمام الصادق عليه‌السلام : « ما أحبّ اللّه عزّوجلّ مَن عصاه » ثمّ تمثّل فقال :

٦٤

«تعصي الإله وأنت تُظهر حبّه

هذا محال في الفعال بديعُ

لو كان حبّك صادقاً لأطعته

إنّ المحبّ لمَن أحبَ مُطيعُ» (١)

فتحصّل من الجهات الثلاث المتقدمة أنّ مَنْ اُمرنا بمودّتهم يلزمنا اتباعهم والاقتداء بهم ، فلابدّ أن يكون ذلك الإتباع آخذاً بنا إلى كلّ فضيلة وبرّ وهدى ، وهذا شأن رسالة السماء ، فهي لا تدعو إلى أمرٍ إلاّ وفيه هدى ، قال تعالى : ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدىً وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ ) (٢).

ومنه يلزم أن يكون مَنْ أُمِرنا بمودتهم قد حازوا كلّ فضيلةٍ ، وتسنّموا في ذرى الإيمان أعلى درجاته ، وتحلّوا بكل صفةٍ جميلةٍ ، لكي تهفو لهم النفوس وتحبّهم وتتشبّه بهم ، وتتمنى خصالهم ، وتسعى لتحصيلها ، فتكون في سعيها هذا سائرةً في الطريق الصحيح والمنهج القويم ، ولابدّ أن يكونوا أيضاً خالين من كلّ ما ينفّر النفوس منهم قلّ أو كثر عمداً أو سهواً ، حتى لا يوقع الناس في حرج المخالفة ، فانّ من يصدر منه ذلك ينفر منه الإنسان بطبيعته ، فلا يصحّ الأمر بمودته ، لأنّه تكليف بما لا يطاق ، ومنه نقول : إنّ من البعيد أن يأمرنا الباري عزّوجلّ بمودّة من ليسوا كذلك للطفه وحكمته.

ومنه يتّضح أن هؤلاء المشار لهم يمتلكون درجة عالية من العدالة والتقوى ، يصعب تشخيصها من خلال الظاهر ، لذا نحتاج إلى نصّ في تشخيصهم والإشارة لهم.

وإنك إذا رجعت إلى السنّة المطهرة لا تجد ممن تتوفر فيهم المواصفات والخصال المتقدّمة غير العترة الطاهرة عليهم‌السلام ، لتواتر ما قيل في فضائلهم ومناقبهم

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٥٧٨ / ٧٩٠ ـ المجلس ٧٤ ـ مؤسسة البعثة ـ قم.

(٢) سورة لقمان : ٣١ / ٢ ـ ٣.

٦٥

التي لم يدركهم فيها أحد ، وفي محبتهم واتباعهم والردّ إليهم واتخاذهم قدوة وأُسوة ، وكذلك واقعهم الذي عاشوه كان كاشفاً بالمطابقة عن أهليتهم لهذا المقام السامي.

نقل صاحب الكشاف عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « من مات على حب آل محمد مات شهيداً ، ألا ومن مات على حبّ آل محمد مات مغفوراً له ، ألا ومَن مات على حبّ آل محمد مات تائباً ، ألا ومن مات على حبّ آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان ، ألا ومَن مات على حبّ آل محمد بشّره ملك الموت بالجنّة ثم منكر ونكير ، ألا ومَن مات على حبّ آل محمد يزفّ إلى الجنّة كما تُزفّ العروس إلى بيت زوجها ، ألا ومن مات على حبّ آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنّة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمد جعل اللّه قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمد مات على السنّة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة اللّه ، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافراً ، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشمّ رائحة الجنّة ». (١)

وجاء في كثير من الروايات أن حبّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام هو الحدّ الفاصل بين الإيمان والنفاق ، ومنها ما أخرجه مسلم في صحيحه عن علي قال : « والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة أنه لعهد النبي الأُمّي إليّ أنه لا يحبّني إلاّ مؤمن ، ولا يبغضني إلاّ منافق ». (٢)

__________________

(١) الكشاف / الزمخشري ٤ : ٢٢٤.

(٢) صحيح مسلم ١ : ٨٤ / ١٣١ ـ باب حبّ الأنصار وعليّ من الإيمان ـ كتاب الإيمان.

٦٦

وأخرج الترمذي بسنده عن أُمّ سلمة قالت : كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « لا يحبّ علياً منافقٌ ، ولا يبغضه مؤمن ». (١)

وعن أبي سعيد الخدري ، قال : « إنّا كنّا لنعرف المنافقين نحن معشر الأنصار ببغضهم علي بن أبي طالب ». (٢)

وأخرج الخطيب البغدادي بسنده عن أنس بن مالك يقول : واللّه الذي لا إله إلاّ هو لسمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « عنوان صحيفة المؤمن حبُّ علي بن أبي طالب » (٣) وغيرها كثير.

فحبّ علي عليه‌السلام هو الإيمان ، وهو ميزان لتمييز المنافق من المؤمن ، وهل يميزهما إلاّ الإيمان ، فالمنافق يبغض الإيمان فيبغض عليّاً ، والمؤمن يحبّ الإيمان فيحبّ عليّاً ، لأنّ عليّاً كلّه إيمان ، فمَن أحبّ عليّاً أحبّ كلّ فضيلةٍ وكلّ خيرٍ ، فكان حبّ عليّ طريق هداية للبشرية ، ومن هنا أوجب اللّه تعالى مودّته على المسلمين.

إثارات حول الآية

الأولى : حول معنى الأجر في الآية

الظاهر من سياق الآية أنها جعلت من مودة القربى أجراً على الرسالة ،

__________________

(١) سنن الترمذي ٦ : ٩٤ / ٣٧٣٦ ـ باب مناقب علي بن أبي طالب ـ وقال : حسن صحيح.

(٢) سنن الترمذي ٦ : ٨٢ / ٣٧١٧ ـ باب مناقب علي بن أبي طالب ـ.

(٣) تاريخ بغداد ٤ : ٤١٠ / ٢٣١٤.

٦٧

والالتزام بهذا الظاهر قد يولّد شبهة في الأذهان مفادها : أن طلب الأجر على الرسالة يلزم منه محاذير ، منها :

أولاً : تعارضه مع آيات وردت على لسان النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفي الأجر مطلقاً ، كما في قوله تعالى : ( قُل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلاّ ذكرى للعالمين ) (١).

ثانياً : تعارضه مع آيات وردت على لسان الأنبياء (٢) نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم‌السلام بنفي الأجر مطلقاً ، كما في قوله تعالى : ( وما أسألكم عليه من أجرٍ إن أجري إلاّ على ربّ العالمين ) (٣) ، ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل الأنبياء وإمامهم ، فهو أولى بعدم طلب الأجر.

ثالثاً : إن تبليغ الرسالة تكليف إلهي شرعي ، والتكاليف لا يؤخذ عليها الأجر.

رابعاً : إنه لا يناسب شأن النبوة ، لما فيه من التهمة ، فإنّ أكثر طلبة الدنيا يفعلون شيئاً ويسألون عليه ما يكون فيه نفع لأولادهم وقراباتهم.

ولدفع هذه الشبهة وما يلزمها من محاذير ، لابدّ من تحديد المراد من الأجر وعلاقته بالرسالة ، وهذا بدوره يتوقف على تحديد طبيعة الاستثناء الوارد في الآية ( إِلاَّ المَوَّدَّةَ فِي القُرْبَى ) هل هو استثناء منقطع أو متصل؟ وبحسبه تختلف الإجابة ، فإذا قلنا إنّ الاستثناء منقطع فمعنى ذلك أن الآية مكوّنة من جملتين منفصلتين : الأولى ( قُلْ لاَ أَسْأَلكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ) ثم يستأنف القول

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٩٠.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / الآيات (١٠٩ ، ١٢٧ ، ١٤٥ ، ١٦٤ ، ١٨٠).

(٣) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٠٩.

٦٨

بجملة جديدة ( إِلاَّ المَوَّدَّةَ فِي القُرْبَى ) أي لكن أسألكم المودّة في القربى ، وهي جملة لا علاقة لها بالجملة السابقة ، وله في الكتاب الكريم نظائر ، كما في قوله تعالى : ( فَسَجَدَ المَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أجْمَعُونَ * إلاّ إبْلِيْس ) (١) ومعناه لكن إبليس لم يسجد ، وهي جملة جديدة كما ترى لا علاقة لها بالسابقة ، لأن إبليس ليس من الملائكة ، فعليه تكون الشبهة قد انتفت من الأصل ، لانتفاء موضوعها ، وهذا ما ذهب إليه معلم الطائفة الشيخ المفيد رحمه اللّه تعالى ، وجمع من المفسّرين منهم : الطبري والزمخشري وابن عطية الأندلسي والقرطبي وأبو حيان الأندلسي والرازي في أحد قوليه والآلوسي (٢) وغيرهم.

وإذا قلنا : بأن الاستثناء في الآية استثناء متصل ، عندها يكون طلب المودّة أجراً على الرسالة ، ولكن لا كما تصوّره الشبهة ، فيلزمه تلك المحاذير ، بل بتفسير آخر ، وهو أنّ الأجر بطلب المودة ، وإن كان أجراً بحسب الظاهر ، ولكنه بحسب الحقيقة ليس بأجر ، لأن طلب المودة لا يخرج عن كونه جزءاً من الدعوة ، وليس بخارج عنها ، وإن صُوِّر بصورة الأجر ، وذلك لأنّ نفعه عائد إلى من وجبت عليهم المودّة ، كما في قوله تعالى : ( مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) (٣) وقريب منه قوله تعالى : ( مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاءَ أَن

__________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٣٠ ـ ٣١.

(٢) تصحيح الاعتقاد / الشيخ المفيد : ١١٩ ، منشورات الرضي ـ قم / ١٣٦٣ هـ. ش ، تفسير الطبري ١٣ : ٣٥ ، الكشاف ٤ : ٢٢٣ ، المحرر الوجيز ٥ : ٣٤ ،تفسير جامع الأحكام ١٦ : ٢١ ، تفسير البحر المحيط ٧ : ٤٩٤ ، تفسير مفاتيح الغيب ٩ : ٥٩٤ ، تفسير روح المعاني ٢٥ : ٣١.

(٣) سورة سبأ : ٣٤ / ٤٧.

٦٩

يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) (١) بمعنى أنّ الأجر الذي احتسبه لي هو اتخاذكم إلى اللّه سبيلاً ، أي أن الإيمان بالدعوة نفعه لكم ، حتى لا تشكّوا في نصيحتي لكم بأني أرجو أجراً دنيوياً من وراء تبليغ الرسالة ، وفيه مبالغة في نفي الأجر.

وممّن ذهب إلى هذا الرأي السيد العلامة الطباطبائي ، قال : ومن المتيقن من مضامين سائر الآيات التي في هذا المعنى أنّ هذه المودة أمر يرجع إلى استجابة الدعوة ، إما استجابة كلّها ، وإما استجابة بعضها الذي يُهْتَمّ به ، وظاهر الاستثناء على أيّ حال أنّه متصلٌ بدعوى كون المودّة من الأجر ، ولا حاجة إلى ما تمحّله بعضهم بتقريب الانقطاع فيه. (٢)

وممّن قال من المفسّرين بالاستثناء المتصل الزمخشري والرازي في أحد قوليهما ، وابن حجر الهيتمي (٣) في صواعقه.

الثانية : في تحديد مصداق القربى

وقد اختلف المفسرون فيه إلى آراء عدة ، منها :

الأول : المراد من القربى ، هو القرب أو التقرّب ، ويكون معنى الآية أن أجر الرسالة هو أن تودّوا كل عمل من شأنه أن يقرّبكم إلى اللّه تعالى ، وأن تودّوا طاعته.

ويرد عليه أنه لا يوجد ممّن خُوطب بهذه الآية وهو لا يرى عليه السعي

__________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٥٧.

(٢) الميزان / الطباطبائي ١٨ : ٤٣.

(٣) الكشاف / الزمخشري ٤ : ٢٢٣ ، مفاتيح الغيب / الرازي ٩ : ٥٩٤ ، الصواعق المحرقة / ابن حجر ٢ : ٤٩١.

٧٠

للتقرب إلى اللّه تعالى كلٌّ حسب طريقته ، فحتى المشركون يرون شركهم وعبادتهم للأصنام يقرّبهم إلى اللّه تعالى ، فطلب التودّد في التقرّب إلى اللّه تعالى بدون تقييده بعبادته وحده يكون أمراً مبهماً لا يمكن قبوله.

وإذا كان المراد هو التقرّب إلى اللّه تعالى بالتودّد إلى طاعته ، فانّ الأنسب أن يأمر بطاعته ، لا التودّد لطاعته ، فما معنى التالي إذا تحقّق الأول؟!

الثاني : المراد من القربى هي القرابة ، التي هي بمعنى الرحم ، ومعناه أنّ أجر الرسالة أن تصلوا أرحامكم وتودّوهم وتحسنوا إليهم ، فيكون المراد هو المودّة في قرباكم.

ولمناقشة هذا الرأي نحتاج إلى توضيح هوية القربى المأمور بمودّتهم ، فهذه اللفظة وردت في الآيات بمعانٍ مختلفة ، تتوقف على القرائن المحتفّة بها من سياق الكلام ودلالة ألفاظه ، وتحديد ماهية الإضافة ، ففي قوله تعالى : ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) (١) المراد قرابة المخاطبين بقلتم ، أما قوله تعالى : ( مَا أَفَاءَ اللّه عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (٢) فإنّ المراد منها قرابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقرينة قوله : ( على رسوله ) وكذلك في قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى ) المراد قربى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقرينة قوله : ( لا أسألكم ) فإنها تشير إلى أن المراد هم أقرباء السائل ، والسائل هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

هذا من جانب ومن جانب آخر ليس ثمّة فائدة ، يجنيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ودّ المسلمين لأقاربهم حتى يجعلها أجراً لرسالته ، فإنّ هذا كلام لا معنى له.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٥٢.

(٢) سورة الحشر : ٥٩ / ٧.

٧١

مضافاً إلى أن ديننا لم يأمرنا بودّ أقاربنا بشكل مطلق ، وشاهده قوله تعالى : ( لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّه وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ ..... ) (١) نعم أمرنا بصلة الرحم ، وليس بودّهم ، وثمة فرق بين الاثنين.

الثالث : المراد من القربى هي القرابة التي بمعنى الرحم ، ومعناه أن أجر الرسالة هو أن تصلوا رحمي وتحفظوني لقرابتي منكم ، فحيث إنكم لم تحفظوني وتتجنّبوا أذيّتي لنبوتي ، فاحفظوني لما يربطني بكم من قرابة نسبية وسببيّة ، فيكون المراد إلاّ المودّة في قرابتي منكم. ونسب هذا القول إلى الجمهور ، وذهب إليه أغلب مفسّري العامّة ، وذكروا له أخباراً يرويها الطبري في تفسيره (٢).

وهذا القول لا يمكن تعقّله على مستوى التصوّر فضلاً عن التصديق به ، وذلك لأن الخطاب بطلب المودّة بلحاظ القرابة لا بلحاظ النبوّة ، إنْ كان موجّهاً إلى المؤمنين ، فإنهم كيف آمنوا بالرسالة ولا يرون مودّة وحفظ الرسول لنبوّته لازماً لا ينفك عن الإيمان؟! وإن كان موجّهاً إلى الكفّار فإنه لا يعقل أن كون طلب المودّة منهم يقع أجراً للرسالة ، فإنه كلام لا معنى له ، لأنها قضية سالبة لانتفاء موضوعها ، فأي رسالة هذه ، وهم لم يؤمنوا بها ، ولم يحصلوا على شيء منها ، بل كفروا بها وجحدوها؟

ثمّ إنّ ملاك القرابة وحده غير كافٍ لأن يكون مبرراً لمودة شخص جاء ليقضي على كيانهم بكامله ، فإنه من غير المعقول طلب المودة من عدوٍّ لعدوّه لأنّ له معه قرابة ، ونحن نرى الابن يقتل أباه والأخ يقتل أخاه من أجل مصلحة

__________________

(١) سورة المجادلة : ٥٨ / ٢٢.

(٢) تفسير جامع البيان / الطبري ١٣ : ٣٠ ـ ٣٣.

٧٢

دنيوية تافهة ، فكيف بمن جاء مزيفاً لمعتقداتهم نابذاً لأوثانهم مزعزعاً لكياناتهم؟

الرابع : المراد من القربى هي القرابة بمعنى الأقارب ، أي أقارب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال الزمخشري : القربى مصدر كالزلفى والبشرى ، بمعنى القرابة ، والمراد في الآية «أهل القربى» (١).

وقد جاءت القربى في الذكر الحكيم في أكثر من عشرة موارد كلها بمعنى القرابة ، وفي جميعها جاءت مضافة إلى (ذي) أو (ذو) أو (أولي) إلاّ في هذا الموضع ، فاحتاجت إلى تقدير مضاف كذي أو أهل أو غيرهما ، وكذلك جاءت بلفظة القربى لا القرابة ، لأن القربى بمعنى القرابة القريبة الخاصّة. (٢)

ومن هنا يتضح أن القرابة المرادة هنا هي ثلّة خاصّة من أقارب الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم عترته الطاهرة عليهم‌السلام ، قد أوجب اللّه تعالى مودّتهم وجعلها أجراً لرسالته ، وقد أكّد النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مودّتهم ومحبّتهم ، وجاء فيه الأثرالمتواتر على ما بيّناه.

الثالثة : كون السورة مكية

قيل : إنّ هذه السورة مكية ، والحسن والحسين عليهما‌السلام ولدا في المدينة ، فكيف تكون شاملة لهما؟

وللجواب عن هذه الإثارة نذكر النقطتين التاليتين :

١ ـ إن المتخصّصين في دراسة علوم القرآن اتفقوا على أنّ هناك آيات مكية

__________________

(١) الكشاف / الزمخشري ٤ : ٢٢٣.

(٢) راجع : تفسير ابن عربي ٤ : ٨٣.

٧٣

في سور مدنية وبالعكس ، وذكروا لهذا أمثلة كثيرة ، فانك لو راجعت إتقان السيوطي لوجدت الكثير مما يؤيد ذلك من أقوال العلماء ، ومنها : قال البيهقي في (الدلائل) : في بعض السور التي نزلت بمكة آيات نزلت بالمدينة ، فألحقت بها ،وكذا قال ابن الحصار (١) ، ونفس الكلام تجده عند الزركشي في (البرهان) ،وقد أفرد لها عنواناً رئيسياً : الآيات المدنيات في السور المكية ، والآيات المكيات في السور المدنية (٢).

أما في الآيات مورد البحث فقد صرّح العلماء بأنها آيات مدنية في سورة مكيّة ، من هؤلاء القرطبي حيث قال : سورة الشورى مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، وقال ابن عباس وقتادة : إلاّ أربع آيات منها أُنزلت بالمدينة : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ) إلى آخرها. (٣)

ومنهم أيضاً الطاهر بن عاشور ، والنيسابوري ، ونور الدين الهيثمي (٤) وغيرهم.

٢ ـ إنّ جوّ الآيات وأغراضها لا يناسب أهل مكة ، حيث كانوا مشركين ، فلا معنى لطلب المودّة منهم على ما بيّناه.

__________________

(١) الاتقان في علوم القرآن / السيوطي : ٤٢ ، دار ابن كثير ـ ط٣ ـ ١٤١٦ هـ.

(٢) البرهان في علوم القرآن / الزركشي : ٢٨٧ ، دار المعرفة ـ بيروت ، ط٢ / ١٤١٥ هـ.

(٣) تفسير القرطبي ١٦ : ١.

(٤) التحرير والتنوير / الطاهر بن عاشور ٢٥ : ٢٣ ، الدار التونسية للنشر ، غرائب القرآن ورغائب الفرقان ٦ : ٦٥ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٦٨.

٧٤

المبحث الثاني : حق ترفيع بيوتهم

من الحقوق التي جعلها اللّه تعالى لأهل بيت نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو ترفيع بيوتهم ، كما في قوله تعالى : ( في بيوت أذن اللّه أن ترفع ويُذكر فيها اسمه يسبّح له فيها بالغدو والآصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللّه وإقام الصلاة وايتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلّب فيه القلوب والأبصار ) (١).

فقد روت كتب الخاصّة والعامّة أخباراً تصرّح بأنّ البيوت الواردة في الآية هي بيوت الأنبياء ، وبيت علي وفاطمة عليهما‌السلام من أفضلها ، منها : ما أخرجه الحاكم الحسكاني بطرقٍ ثلاثة تنتهي إلى أبي برزة ، وأنس بن مالك ، وبُريدة ، قالوا : قرأ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية : ( في بيوت أذن اللّه أن تُرفعَ ) إلى قوله : ( والأبصار ) فقام إليه أبو بكر فقال : يا رسول اللّه ، هذا البيت منها؟ ـ لبيت علي وفاطمة ـ قال : « نعم من أفضلها » (٢).

وأخرج ابن أبي حاتم والقرطبي عن مجاهد ، قال : هي بيوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

وقيل : هي بيوت الأنبياء. (٤)

وأمّا طرق الإمامية فمنها : ما رواه ثقة الإسلام الكليني بسنده إلى أبي حمزة

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٣٦ ـ ٣٧.

(٢) شواهد التنزيل ١ : ٥٣٢ ـ ٥٣٤ / ٥٦٦ ، ٥٦٧ ، ٥٦٨ ، الدرّ المنثور / السيوطي ٥ : ٩١ ، روح المعاني / الآلوسي ١٠ : ٢٥٥ ، البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٧٦ ، كشف الغمة / الإربلي ١ : ٣١٩ ، دار الأضواء ـ بيروت ، ط٢ / ١٤٠٥ هـ.

(٣) تفسير ابن أبي حاتم ٨ : ٢٦٠٤ / ١٤٦٢٩ ، جامع أحكام القرآن / القرطبي ١٢ : ٢٦٥.

(٤) البحر المحيط / أبو حيان ٦ : ٤٢١.

٧٥

الثمالي عن الإمام الباقر عليه‌السلام ـ في حواره مع قتادة ـ قال : فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : « أنت فقيه أهل البصرة؟ ». قال : نعم ، قال قتادة : أصلحك اللّه ، ولقد جلستُ بين يدي الفقهاء وقدّام ابن عباس ، فما اضطرب قلبي قدّام واحدٍ منهم ما اضطرب قدّامك!

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « ما تدري أين أنت؟ أنت بين يدي ( بيوت أذن اللّه أن ترفع ويُذكر فيها اسمه يسبّح له فيها بالغدو والآصال * رجالٌ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ) ونحن أُولئك ».

فقال قتادة : صدقت واللّه ، جعلنياللّه فداك، واللّه ماهيبيوت حجارة ولاطين. (١)

وعنه بسنده إلى أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه‌السلام عن قوله عزّوجلّ : ( في بيوت أذن اللّه أن تُرفَع ) قال : « هي بيوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ». (٢)

قال الطبرسي تعقيباً على القول بأنّ المراد هو بيوت الأنبياء : ويعضد هذا القول قوله : ( إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً ) ، وقوله : ( ورحمة اللّه وبركاته عليكم أهل البيت ) فالإذن برفع بيوت الأنبياء والأوصياء مطلق. (٣)

ويؤيده أيضاً ما أخرجه الصدوق عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ اللّه اختار من البيوتات أربعة » ثمّ قرأ هذه الآية : ( إنّ اللّه اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض ) (٤).

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

(٢) الكافي ٨ : ٢٧٢ / ٥٨٠.

(٣) مجمع البيان / الطبرسي ٧ : ٢٥٣.

(٤) الخصال / الصدوق ١ : ٢٤٩ / ٥٨ ، والآية من سورة آل عمران : ٣ / ٣٣ ـ ٣٤.

٧٦

أقوال المفسرين في الآية

١ ـ في معنى الرفع

اختلف المفسرون في معنى الرفع المراد في الآية على أقوال منها :

الأول : الرفع المعنوي ، بمعنى تعظيمها وتطهيرها من كل ذكر لا يليق بها ، فتعظم في النفوس ، وتكون موضعاً للاقتداء والهداية.

الثاني : الرفع المادي ، بمعنى بنائها وصيانتها ورعايتها مما يتلفها لتبقى أثراً لروادها ومعمريها ، تحيي ذكراهم في نفوسنا ، لنحتذي بهم سيراً إلى اللّه تعالى.

يقول الرازي : اختلفوا في المراد من قوله : ( أن تُرفَع ) على أقوال ، أحدها : المراد من رفعها بناؤها لقوله : ( بناها * رفع سمكها فسوّاها ) (١) وقوله : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ) (٢) ، وثانيها : ترفع : أي تعظم وتطهر عن الأنجاس وعن اللغو من الأقوال ، عن الزجاج. وثالثها : المراد مجموع الأمرين. (٣)

٢ ـ في معنى البيوت

وردت تفاسير متعددة لبيان معنى البيوت الواردة في الآية ، يحظى تفسيران منها بالقبول لدى المفسرين ، وهما : المساجد ، وبيوت الأنبياء.

والملاحظ على تفسيرها بالمساجد ما يلي :

أولاً : إن الأصل في لفظة بيت أنها وضعت لهذا البيت المتعارف المعدُّ للسكن ، سواء كان للإنسان أم لغيره ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٢٧.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٢٧.

(٣) تفسير الرازي ٨ : ٣٩٦.

٧٧

غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ) (١) ، وقال تعالى : ( وأوحى ربّك إلى النحل أن اتّخذي من الجبال بيوتاً ) (٢) وعليه يكون استعماله في غير هذا المعنى مجازاً يحتاج إلى قرينة ، كقولك (بيت اللّه ) يعني المسجد ، أو قولك (بيت الشِّعْر) من القصيدة ، وكما ترى فبقرينة الإضافة صُرِف معنى البيت إلى غير معناه الأصلي ، والشاهد على ذلك أنك إذا أردت الذهاب إلى المسجد لا تقول : أنا ذاهب إلى البيت ، بل أنا ذاهب إلى بيت اللّه ، أو تنصب قرينة أخرى لفظية كانت أو مقامية.

فلو قلت : إنّ في الآية قرينةً تدلّ على المساجد ، وهي قوله تعالى : ( يذكر فيها اسمه يسبّح له فيها بالغدوّ والآصال )؟ قلتُ : إنّ هذه القرينة كما تنطبق على المساجد ، فإنها تنطبق على بيوت الأنبياء ، بل هي في بيوت الأنبياء أولى لتجسّد هذه الصفة عندهم على نحو الحقيقة التامّة.

ثانياً : لم ترد لفظة (بيت) في القرآن الكريم بمعنى مسجد ، وعليه ما لم تنصب قرينة على أنّ المراد من البيوت هي المساجد ، لا يصحّ القول به ، ولابدّ من المصير إلى مراد القرآن الثابت بغلبة الاستعمال.

ومما تقدم تحصّل أن المراد من البيوت في هذه الآية هي بيوت الأنبياء ، وبيت علي وفاطمة وبقية العترة الطاهرة صلوات اللّه عليهم أجمعين من أفضلها ، وقد أمرنا اللّه تعالى بترفيعها ، فنسأله عزوجل أن يجعلنا من المطيعين لأوامره والمؤدّين لهذه البيوت حقّها ، إنه سميع الدعاء.

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٢٧.

(٢) سورة النحل : ١٦ / ٦٨.

٧٨

المبحث الثالث : حق الصلاة عليهم

أولاً : تشريع هذا الحق

حق آخر من حقوق أهل البيت عليهم‌السلام صدح به القرآن الكريم في سورة الأحزاب بقوله تعالى : ( إِنَّ اللّه وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلَّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (١) وقد ثبت من طرق الفريقين وبصورة متواترة عن جملة من الصحابة ككعب بن عجرة وأبي هريرة وجابر بن عبد اللّه وابن مسعود وغيرهم ، أنّهم سألوا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كيفية أداء هذا التكليف الإلهي ، جاء البيان النبوي الشريف صريحاً بضمّ الآل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصلاة فقال لهم : « قولوا اللهم صلّ على محمد وآل محمد ».

وهذه الصيغة للصلاة قد تواترت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا تكاد تخلو رواية ولا استدلال اعتمدوه في آرائهم وفتاواهم منها وكأنها مسلمة لا تقبل النقاش ، وهو كما ترى حق صريح لأهل البيت عليهم‌السلام أمر به رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر اللّه تعالى وأكده مراراً وحثّ عليه ورغب فيه ونهى عن تركه ، إلاّ أن هذا الحق ، وكما جرى على غيره ، تعرض إلى التغييب والإهمال والتأويل وحتى الافتاء على خلافه ، بل والنهي عن أدائه ، وخلق التبريرات لكل ذلك.

وها أنت تجد أغلب المسلمين لا يذكرون الآل عندما يصلون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معتمدين الصلاة البتراء التي تقتصر على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون آله الأطيبين الأطهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٥٦.

٧٩

ونحن هنا نحاول تقصّي هذا الحق المضيع بتتبع ما ورد فيه من الأثر الصحيح وما صدر حوله من تصريحات وفتاوى سلباً أو ايجاباً.

ثانياً : البيان النبوي لصيغة الصلاة

طرق الحديث :

نقل أصحاب الصحاح الستة كلهم سؤال كعب بن عجرة لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنه كيفية الصلاة المأمور بها في هذه الآية ، واللفظ للبخاري في صحيحه ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : لقيني كعب بن عجرة فقال : ألا أهدي لك هدية سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقلت : بلى ، فاهدها لي ، فقال : سألنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقلنا : يارسول اللّه ، كيف الصلاة عليكم أهل البيت ، فإن اللّه قد علّمنا كيف نسلِّم؟ قال : « قولوا : اللهمّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد ، اللهمّ بارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد » (١).

__________________

(١) صحيح البخاري ٤ : ١٤٢ / ٣٣٧ ، كتاب أحاديث الأنبياء ، باب ١٠ بلا عنوان ، و ٦ : ٣١ ـ ٣٢ / ٤٧٩٧ و ٤٧٩٨ ، كتاب التفسير ، باب قوله تعالى : «إنّ اللّه وملائكته يصلّون على النبي ...» ، و ٧ : ٢٠٢ / ٦٣٥٧ و ٦٣٥٨ ، كتاب الدعوات ، باب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصحيح مسلم ١ : ٢٥٥ / ٤٠٥ و ٤٠٦ باب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد التشهّد ، وسنن الترمذي ٥ : ٣٥٩ / ٣٢٣٤ ، باب ٣٣ من كتاب التفسير ، وسنن ابن ماجة ١ : ٤٨٨ ، باب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم / ٩٠٤ و ٩٠٦ ، وسنن النسائي ٣ : ٤٥ ، باب الأمر بالصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ٣ : ٤٧ ـ ٤٩ ، باب كيف الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسنن أبي داود ١ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦ / ٩٧٦ و ٩٧٧ و ٩٧٨ و ٩٨٠ و ٩٨١ ، كتاب الصلاة ، باب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد التشهّد.

٨٠