حقوق أهل البيت عليهم السلام في القرآن الكريم

حقوق أهل البيت عليهم السلام في القرآن الكريم

المؤلف:


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-367-5
الصفحات: ١٤٨

وسماعه للسائل واستجابته له لم يخرجه عليه‌السلام عن هذا الانقطاع ، لأنه داخل في كبرى العبادة والانقطاع إلى اللّه تعالى ، وهو يعكس شدّة انقطاعه عليه‌السلام حيث الاختلاف في موارد العبادة لا يشغله عن الانقطاع ولا يزيله عن التوجّه إلى اللّه تعالى.

أما قولهم : إن الإيماءة للسائل تعتبر من الفعل الكثير ، فانه من الواضح أن الإيماءة ليست من الفعل الكثير ، بل هي حركة واحدة لا تخلّ بالصلاة ، وقد اتفقت كلمة فقهائهم وأئمتهم بأن الفعل غير الموجب لفوات الموالاة في الصلاة لا ينافي صحتها ، سواء كان سهواً أو عمداً.

٥ ـ عدم احتجاج أمير المؤمنين عليه‌السلام بهذه الآية الشريفة :

قالوا : لو كان معنى الآية ما ذهبتم إليه لما غاب عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يذكرها في موارد احتجاجه أمام القوم. (١)

أقول : ليس كلّ ما يعلم به أمير المؤمنين عليه‌السلام يحتجّ به بالضرورة ، ورغم ذلك فقد نقلت لنا المصادر أنّه صلوات اللّه عليه احتجّ بها على أبي بكر حين ولي الخلافة ، على ما أخرجه ابن بابويه عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام أنّ عليّاً عليه‌السلام قال لأبي بكر : « فأنشدك باللّه ، ألي الولاية من اللّه بولاية رسول اللّه في آية زكاة الخاتم أم لك؟ قال : بل لك » (٢).

واحتج بها يوم الشورى ، على ما أخرجه الشيخ الطوسي عن أبي ذر قال : قال علي عليه‌السلام : « فهل فيكم أحدٌ آتى الزكاة وهو راكع ، فنزلت فيه ( إنّما

__________________

(١) تفسير الرازي ١٢ : ٣٨٥ / الحجّة الخامسة بتصرف.

(٢) غاية المرام : ١٠٨ / ١٦ ـ الطبعة الحجرية.

١٢١

وَلِيُّكُم اللّه وَرَسُولُهُ ) غيري؟ » قالوا : لا. (١)

واحتجّ بها في صفّين (٢) حيث جمع عسكره وأصحابه وخطب فيهم مذكراً إياهم منزلته عليه‌السلام وحقّه عليهم وما نزل من الذكر الحكيم ووصايا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه ومنها الآية الشريفة موضع البحث.

وقد ثبت النقل في أسباب النزول أن هناك روايات وردت عن أمير المؤمنين عليه‌السلام نفسه في أنّ هذه الآية نزلت فيه عليه‌السلام (٣) وهذا بحدّ ذاته بمثابة احتجاج بهذه الآية.

وتواتر النقل عن أهل بيت العصمة والطهارة صلوات اللّه تعالى عليهم بنزول هذه الآية بأمير المؤمنين عليه‌السلام (٤) ، وهم عنه ينقلون وبقوله يأخذون خلفاً عن سلف.

المبحث الثاني : حق الطاعة

بعد أن اتضح أنّ القرآن الكريم جعل حق الولاية للعترة الطاهرة عليهم‌السلام ، جاء مرة أُخرى ليؤكد لهم حقاً آخر من مستلزمات تلك الولاية ، وهو حق الطاعة ،فبالطاعة تتحقق فعلية الولاية ، وبالولاية تتحق سعادة البشرية في الدنيا والآخرة ، وقد صدع الذكر الكريم بهذا الحق العظيم في قوله تعالى :

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٥٤٩ / ١١٦٨ مجلس ٢٠ ـ مؤسسة البعثة ـ قم.

(٢) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٧٥٨ / ٢٥ ، وأخرجه عنه النعماني في الغيبة : ٦٨ / ٨.

(٣) شواهد التنزيل / الحسكاني ١ : ٢٢٦ ، الدر المنثور / السيوطي ٢ : ٥١٨ ، أسباب النزول / السيوطي : ١٤٨.

(٤) راجع : البرهان / السيد البحراني ٣ : ٤١٨ ـ ٤٣٤.

١٢٢

( أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الاْءَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَومِ الآخِرِ ) (١) وسنحاول إن شاء اللّه تعالى من خلال هذه الآية المباركة التعرف على هوية أُولي الأمر ، وعلى طبيعة الطاعة التي فرضها اللّه تعالى لهم.

مصداق أُولي الأمر

يمكننا تحديد ذلك من خلال طريقين :

الأول : الحديث الشريف

صرّحت الكثير من الأحاديث الواردة في كتب الفريقين بأنّ المراد من أُولي الأمر الذين أوجب اللّه تعالى طاعتهم في هذه الآية هم أهل البيت المعصومون عليهم‌السلام ومنها :

١ ـ أخرج الحاكم الحسكاني بسنده إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : شركائي الذين قرنهم اللّه بنفسي وبي وأنزل اللّه فيهم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) الآية ، فإن خفتم تنازعاً في أمرٍ فارجعوه إلى اللّه والرسول وأُولي الأمر. قلت : يا نبي اللّه ، من هم؟ قال : أنت أولهم ». (٢)

٢ ـ وأخرج أيضاً بسنده إلى مجاهد قال : .... ( وَأُولِي الاْءَمْرِ مِنْكُمْ ) قال : نزلت في أمير المؤمنين عليه‌السلام حين خلّفه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة فقال :

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٥٩.

(٢) شواهد التنزيل ١ : ١٨٩ / ٢٠٢.

١٢٣

« أتخلفني على النساء والصبيان؟ » فقال : « أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى. حين قال له : اخلفني في قومي وأصلح؟ ». فقال اللّه : ( وَأُولِي الاْءَمْرِ مِنْكُمْ ) قال : هو علي بن أبي طالب ، ولاّه اللّه الأمر بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته حين خلّفه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة ، فأمر اللّه العباد بطاعته وترك خلافه. (١)

ونقله ابن شهرآشوب عن مجاهد أيضاً ، وتلاه بأبياتٍ من الشعر للسيد الحميري رحمه‌الله تبيّن المراد ، وهي :

وقال اللّه في القرآن قولاً

يردّ عليكم ما تدّعونا

أطيعوا اللّه ربّ الناس ربّاً

وأحمد والاُولى المتأمّرينا

فذلكم أبو حسن علي

وسبطاه الولاة الفاضلونا (٢)

٣ ـ وأخرج أيضاً بسنده إلى أبي بصير عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنه سأله عن قول اللّه تعالى : ( أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الاْءَمْرِ مِنْكُمْ ) قال : « نزلت في علي بن أبي طالب ».

قلت : إن الناس يقولون : فما منعه أن يسمّي علياً وأهل بيته في كتابه؟ فقال أبو جعفر : « قولوا لهم : إنّ اللّه أنزل على رسوله الصلاة ولم يسمّ ثلاثاً ولا أربعاً حتى كان رسول اللّه هو الذي فسّر ذلك ، وأنزل الحجّ فلم ينزل طوفوا سبعاً حتى فسّر ذلك لهم رسول اللّه ، وأنزل : ( أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الاْءَمْرِ مِنْكُمْ ) فنزلت في علي والحسن والحسين ، وقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أُوصيكم بكتاب اللّه وأهل بيتي ، إني سألت اللّه أن لا يفرّق بينهما حتى

__________________

(١) شواهد التنزيل ١ : ١٨٩ / ٢٠٣.

(٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٢ : ٢١٩ ، دار الأضواء ـ بيروت ، ط٢ / ١٤١٣ هـ.

١٢٤

يوردهما عليّ الحوض ، فأعطاني ذلك ». (١)

٤ ـ روى سليم بن قيس عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ في حديث طويل منه قوله عليه‌السلام ـ : « قلت : يا نبيّ اللّه ، ومن شركائي؟ قال : الّذين قَرنهم اللّه بنفسه وبي معه ، الذين قال في حقهم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الاْءَمْرِ مِنْكُمْ ) فإن خفتم التنازع في شيء فأرجعوه إلى اللّه وإلى الرسول وإلى أُولي الأمر منكم.

قلت : يا نبي اللّه ، ومن هم؟ قال : الأوصياء إلى أن يردوا عليّ حوضي ، كلّهم هادٍ مهتدٍ ، لا يضرّهم كيد من كادهم ولا خذلان من خذلهم ، هم مع القرآن والقرآن معهم لا يفارقونه ولا يفارقهم ، بهم ينصر اللّه أُمتي وبهم يمطرون ، ويدفع عنهم بمستجاب دعوتهم » (٢).

٥ ـ وأخرج الفضل بن شاذان بسنده إلى أبي خالد الكابلي ، قال : دخلت على سيدي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، فقلت : يا بن رسول اللّه ، أخبرني بالذين فرض اللّه طاعتهم ومودتهم ، وأوجب على عباده الاقتداء بهم بعد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقال : « يا كابلي ، إن أُولي الأمر الذين جعلهم اللّه عزوجلّ أئمة الناس ، وأوجب عليهم طاعتهم : أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ثم الحسن

__________________

(١) شواهد التنزيل / الحسكاني ١ : ١٨٩ / ٢٠٣. أصول الكافي ١ : ٢٨٦ / ١.

(٢) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٦٢٦ ـ ٦٣٠ / ١٠ نشر الهادي ـ قم ، ط١ / ١٤١٥ه ،وعنه : مختصر إثبات الرجعة / ابن شاذان : ٢٠١ ، إكمال الدين ١ : ٢٧٠ / ٣٧ ، الغيبة / النعماني : ٧٥ ـ ٨١ / ١ ، مكتبة الصدوق ـ طهران.

١٢٥

عمي ، ثم الحسين أبي ، ثمّ انتهى الأمر إلينا » وسكت. (١)

٦ ـ أخرج الشيخ الصدوق بسنده إلى الإمام الباقر عليه‌السلام ـ في تفسير هذه الآية ـ قال عليه‌السلام : « الأئمة من ولد علي وفاطمة إلى أن تقوم الساعة ». (٢)

٧ ـ أخرج الشيخ المفيد بسنده عن الإمام الحسن السبط عليه‌السلام في خطبة له يوم بويع صلوات اللّه عليه ، فقال : « نحن حزب اللّه الغالبون ، وعترة رسوله الأقربون ، وأهل بيته الطيبون الطاهرون ، وأحد الثقلين الذين خلفهما رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أُمته ، والثاني كتاب اللّه ، فيه تفصيل كل شيء ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والمعول علينا في تفسيره ، ولا نتظنّن تأويله بل نتيقّن حقائقه ، فأطيعونا فإن طاعتنا مفروضة إذ كانت بطاعة اللّه عزّوجلّ ورسوله مقرونة ، قال اللّه عزّوجلّ : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ... ) ( ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ». (٣)

الثاني : دلالة الآية

الآية تثبت عصمة أُولي الأمر ، بدليلين :

__________________

(١) مختصر إثبات الرجعة / الفضل بن شاذان : ٢٠٩ / ٨.

(٢) إكمال الدين ١ : ٢٢٢ / ٨.

(٣) الأمالي / الشيخ المفيد : ٣٩٨ / المجلس ٤١ ، وعنه الشيخ الطوسي في أماليه ١ : ١٢١ / ١٨٨ المجلس ٥ ، تحقيق ـ مؤسسة البعثة ، نشر دار الثقافة ـ قم ـ ١٤١٤ هـ.

١٢٦

الأول : أنّ الآية قد أمرت المؤمنين بالطاعة بشكل مطلق وجازم ، ولازم هذا الأمر المطلق أن جميع ما يأمر به المشار لهم بالطاعة لابدّ من تنفيذه. وهذا يدلّ على عدم إمكان أن يأمروا بمعصية ، أو بما يخالف مراد الخالق عزوجلّ ، وإلاّ يلزم التناقض عند أمرهم بالمعصية ، لأنّ اللّه تعالى نهانا عن ارتكاب المعصية ، فلا يمكن أن يأمرنا بارتكابها طاعةً لهم ، لأنّه يؤدي إلى اجتماع الأمر والنهي في مورد واحد وهو محال ، وعليه تثبت عصمة من أمرنا اللّه تعالى بطاعتهم ، فيكون أولو الأمر معصومين قطعاً بنصّ الآية ، وهذا ما أجمعت عليه الإمامية ، أمّا علماء الجمهور فقد قطعوا أيضاً بعصمة أُولي الأمر المشار إليهم في الآية ، وصرّح بذلك الرازي والنيسابوري ومحمد عبده على ما نقله عنه تلميذه محمد رشيد رضا وغيرهم (١) ، لكنّهم اعتبروا المعصوم أهل الحلّ والعقد أو إجماع الأمّة ، أما الإمامية فحصروا مصداق أُولي الأمر بالأئمة الإثني عشر عليهم‌السلام لقيام الدليل على عصمتهم بنص آية التطهير على ما بيناه في الفصل الأول.

الثاني : أن الجو العام للآية يكشف عن منزلة خاصّة لأُولي الأمر حيث جعل اللّه تعالى طاعتهم مطلقة كطاعته عزّوجل وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذا لا يصحّ القول بطاعتهم فيما لا يعصون فيه فقط ، لأنّ طاعة من يأمر بمعروف وعدم طاعة من يأمر بمعصية لا تختص بأُولي الأمر ، وإذا كان كذلك فلا تبقى لهم مزيّة حتى يخصّهم اللّه تعالى بتلك المنزلة ويجعل طاعتهم مطلقة كطاعته عزّوجلّ ، كما لا يمكن تصور هذا التعظيم الذي تكشف عنه الآية في حقّ من ارتكب معصية

__________________

(١) راجع : تفسير الرازي ٤ : ١١٢ المسألة الثالثة ، تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان / نظام الدين النيسابوري ٢ : ٤٣٤ ، تفسير المنار / محمد رشيد رضا ٥ : ١٨١ ، دار العرفة ـ بيروت / ١٤١٤ هـ.

١٢٧

لقبح ذلك.

وللسيد الطباطبائي في المقام كلام متين ، قال رحمه اللّه تعالى : «فالآية تدلّ على افتراض طاعة أُولي الأمر هؤلاء ، ولم تقيّده بقيد ولا شرط ، وليس في الآيات القرآنية ما يقيّد الآية في مدلولها حتى يعود معنى قوله : ( وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) إلى مثل قولنا : وأطيعوا أُولي الأمر منكم فيما لم يأمروا بمعصية ، أو لم تعلموا بخطئهم ، فإن أمروكم بمعصية فلا طاعة عليكم ، وإن علمتم خطأهم فقوّموهم بالردّ إلى الكتاب والسنّة ، فليس هذا معنى قوله : ( وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ).

مع أن اللّه سبحانه أبان ما هو أوضح من هذا القيد فيما هو دون هذه الطاعة المفترضة ، كقوله في الوالدين : ( وَوَصَّيْنَا الاْءِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا ) (١) ، فما باله لم يظهر شيئاً من هذه القيود في آية تشتمل على أُس أساس الدين ، وإليها تنتهي عامة أعراق السعادة الإنسانية؟ (٢)

إلى هنا تحصّل من الدليلين المتقدمين ثبوت العصمة لأُولي الأمر ، وبما أنه لم يقم الدليل على عصمة أحد بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام ، والتي ثبتت من خلال آية التطهير وآية المودة وحديث الثقلين وغيرها ، فهم إذن أُولو الأمر الذين أمر اللّه تعالى بطاعتهم دون غيرهم من أفراد الأمّة ، ويساعد على ذلك سبب نزول الآية على ما قدّمناه.

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٨.

(٢) الميزان / الطباطبائي ٤ : ٤٠١.

١٢٨

مناقشة في المصداق

اختلف جمهور المسلمين في تحديد مصداق أُولي الأمر اختلافاً شديداً ، وظهرت آراء واجتهادات عديدة في ذلك منذ صدر الإسلام ولحدّ الآن ، ولم يستقرّوا على رأيٍ واحدٍ فيه إلى هذه الساعة ، فلهم في كلّ عصر رأي جديد تفرضه عليهم معطيات ذلك العصر وظروفه الفكرية والسياسية والمذهبية ، حتى إنّ بعض تلك الآراء هجرها أصحابها لعدم واقعيتها أو لكونها وليدة الاجتهاد الشخصي والظروف الخاصّة بها ، فلم تصمد أمام البحث والنقد العلمي.

هذا في الوقت الذي نجد فيه الشيعة وتبعاً لأئمتهم عليهم‌السلام وهم عليهم‌السلام تبعاً لجدّهم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد شخّصوا المصداق من لحظة نزول الآية ولهذه الساعة ، لم يغيّروا ولم يبدّلوا ، ثابتين لثبات القرآن في مراده ، وكونه صالحاً لكلّ عصر ، ممّا يعكس حقّانية قولهم وانطباقه على الآية بحكم النقل والعقل والوجدان.

أمّا آراء الجمهور في تحديد مصداق أُولي الأمر في الآية ، فيمكن حصرها في أربعة آراء غير معتبرة ، وهي : ١ ـ الخلفاء الراشدون ٢ ـ الصحابة ٣ ـ أمراء السرايا والحكام ٤ ـ العلماء ، ورأي واحد معتبر عندهم ، وهو كونهم أهل الحلّ والعقد ، أو إجماع الأُمّة.

أمّا الآراء الأربعة الأُولى فهي آراء ظاهرة الوهن لا نطيل الحديث عنها ، ويكفي في دفعها إيرادان :

الأول : إنّ أصحاب هذه الآراء اشترطوا في طاعة من قالوا بأنهم أُولي الأمر أن تكون أوامرهم مطابقة للكتاب والسنّة ، وهذا الاشتراط مخالفٌ لإطلاق

١٢٩

الآية في طاعة أُولي الأمر.

الثاني : إنّ الآية أثبتت العصمة لأُولي الأمر ، والذين أُشير لهم بالأقوال الأربعة لم يدّعِ أحدٌ منهم العصمة ، ولم يرد نصّ على ذلك ، بل ورد ما يعارض ذلك.

أمّا الرأي القائل بأن أُولي الأمر هم أهل الحلّ والعقد ، فقد ذهب إليه جملة من المفسّرين منهم : الرازي في تفسيره ، ومحمد عبده في تفسير المنار لتلميذه محمد رشيد رضا ، ونظام الدين النيسابوري في تفسيره وآخرون تأثروا بأقوالهم. ويرد على هذا الرأي كثير من الإشكالات التي تسقطه من الاعتبار منها :

١ ـ تحقق اجتماع أهل الحل والعقد بالصورة المدعاة لم يحدث في التاريخ ، ولا يعقل أنّ الآية تأمر بطاعة مصداق لا وجود له.

٢ ـ على فرض تحقق الاجتماع بالكيفية المذكورة ، فإن العادة والوجدان والتجربة قضت بأن اتفاقهم حول الأمور السياسية والاجتماعية قليل الوقوع ، والآية بصدد بيان مصداق دائم التحقق.

٣ ـ لا توجد لدينا أدلّة تثبت عصمة إجماع الأمّة ، بل هناك أدلة على حجيّة الإجماع سواء ما يسمى بإجماع الأُمة أو الإجماع الاصطلاحي في علم الأصول ، وكلّها موهونة مدفوعة سواء الآيات أو الروايات. (١)

٤ ـ بعد أن ثبت أن أُولي الأمر المشار إليهم في الآية معصومون ، نسأل من هم

__________________

(١) راجع : الأصول العامّة للفقه المقارن / محمد تقي الحكيم : ٢٥٥ وما بعدها تقف على حال الاجماع بشكل أوضح ، مؤسسة آل البيت للطباعة والنشر ، ط٢ ـ ١٩٧٩م.

١٣٠

المعصومون على هذا القول؟ هل هم أفراد الحلّ والعقد فرداً فرداً ، أم الهيئة الحاصلة منهم؟ والأول لا يقولُ به أحدٌ منهم ، والثاني لا يجوز ، لأنّ صفة العصمة حقيقيّة ، والهيئة أمرٌ اعتباري ، ولا يتلبس الأمر الاعتباري بالأمر الحقيقي.

ولو قيل : إنّ الصواب في رأي إجماع الأُمة ناشيءٌ من أمرٍ خارجي ، وهو تسديد اللّه تعالى لهم ، وإلهامهم الصواب تكريماً لهم.

لقلنا : لو كان هذا ثابتاً لكان إعجازاً كالقرآن ، ولجرى التأكيد عليه وتوضيحه بما يتناسب ودوره في بناء الأُمة الإسلامية ، ولسأل عنه الصحابة لِعِظَمِهِ وأهميته ، فهم سألوا عن الأقلّ منه شأناً كما يذكر لنا القرآن ذلك ، ولاحتُجّ به في الاختلافات والنزاعات ، ولتناقلته الأجيال ووصل إلينا بنحو القطع والتواتر وغدا من الوضوح بما لا يحتاج إلى بيان ولا يختلف فيه اثنان ، لكن اقتصر ذكره على بعض المفسّرين ، فإن أول من قال به الرازي المتوفّى سنة ٦٠٤ هـ ، وتبعه في ذلك نظام الدين النيسابوري المتوفى سنة ٧٢٨ هـ في تفسيره وبعض المتأخرين.

ومما يؤكد هذا التحديد في تبني هذا الرأي ، هو ما ذكره محمد عبده على ما نقله عنه تلميذه محمد رشيد رضا في تفسيره (المنار) حيث قال : ذكر الأستاذ الإمام في الدرس أنّ ما اهتدى إليه في تفسير أُولي الأمر من كونهم جماعة أهل الحل والعقد ، لم يكن يظنّ أن أحداً من المفسرّين سبقه إليه حتى رآه في تفسير النيسابوري (١).

__________________

(١) تفسير المنار ٥ : ١٨٢.

١٣١

وعلى هذا لا يبقى لتحديد المراد من أُولي الأمر إلاّ الرأي الذي قدّمناه ، وهو قول الشيعة بأنهم الأئمة الاثنا عشر المعصومون عليهم‌السلام ، وهو التفسير الصحيح المنسجم مع روح القرآن والواقع الإسلامي والمدعوم بالأثر المتواتر الصحيح.

شبهات حول القول بأنهم الأئمة الاثنا عشر

أُثيرت حول هذا القول شبهات عديدة ، كان أهمها ما ذكره الرازي في تفسيره ، حيث قال : وأما حمل الآية على الأئمة المعصومين ، كما تقوله الروافض ، ففي غاية البعد لوجوه :

أحدها : ما ذكرناه أن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول إليهم ، فلو أوجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم ، كان هذا تكليف ما لا يطاق ، ولو أوجب علينا طاعتهم إذا صرنا عارفين بهم وبمذاهبهم ، صار هذا الايجاب مشروطاً ، وظاهر قوله : ( أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) يقتضي الإطلاق.

وأيضاً ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال ، وذلك أنه أمر بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر في لفظةٍ واحدةٍ ، وهي قوله : ( وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) واللفظة الواحدة لا يجوز أن تكون مطلقة ومشروطة معاً ، فلما كانت هذه اللفظة مطلقة في حق الرسول ، وجب أن تكون مطلقة في حق أولي الأمر.

الثاني : إنه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر ، وأُولو الأمر جمع ، وعندهم لا يكون في الزمان إلاّ إمام واحد ، وحمل الجمع على المفرد خلاف الظاهر.

وثالثها : إنه قال : ( فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى اللّه والرسول ) ولو كان المراد بأولي الأمر الإمام المعصوم ، لوجب أن يقال : فإن تنازعتم في شيء

١٣٢

فردّوه إلى الإمام. (١)

جواب الوجه الأول

١ ـ إنّ معرفة الإمام المعصوم والوصول إليه ، إذا كانت الأمة غير قادرة عليها ، فهي في عدم قدرتها على معرفة أهل الحلّ والعقد والوصول إليهم بالكيفية والكمية المدعاة آكد وأشدّ.

٢ ـ إنّ اللّه تعالى ورسوله المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تكفلاّ تعريف الإمام المعصوم بشكل واضح ، ولو جئت إلى الكتاب والسنّة لوجدت أنهما شخّصاه بما لا ريب فيه ، وإن آيات الولاية والتطهير والإكمال وغيرها ، وأحاديث الغدير والثقلين والسفينة والدار ، وغيرها كثير ، ليست بعيدة على من سعى لمعرفة الحق ، لذا فان صعوبة معرفة الإمام المعصوم والوصول إليه ، لم تحصل بالأصالة ، بل بالعرض ، نظراً لكثرة أعدائهم من الحاكمين وغيرهم ممَن يحجب الناس عن سماع حديث أهل البيت عليهم‌السلام وما قاله فيهم جدّهم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلهذا تعذّر على الأُمة معرفتهم والوصول إليهم ، كما كانت تفعل قريش في منع الناس من الوصول إلى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعرفته ، ومع ذلك فلم يسقط عنهم التكليف بلزوم معرفته والوصول إليه للدخول في الإسلام.

٣ ـ إنّ المعرفة التي جعلها شرطاً في طاعة الإمام المعصوم ، كذلك ترد على قولكم بأهل الحل والعقد ، فتكون طاعتهم مشروطة بمعرفتهم أيضاً بلا فرق ، فالشرط هو الشرط ، والاختلاف فقط في المصداق.

__________________

(١) تفسير الرازي ٤ : ١١٤.

١٣٣

والطريف في المقام أنّ محمد رشيد رضا الذي يتبنى رأي الرازي ويستشهد بأقواله عندما وصل إلى قوله : إننا في زماننا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم. علّق على قوله هذا بتعليقة جعلها بين قوسين قال : (أقول : ومثله المجتهدون في الفقه) (١) أي كذلك عاجزون عن معرفة المجتهدين في الفقه.

٤ ـ إنّ المعرفة التي يعدّها شرطاً في الطاعة ليست شرطاً في أصل التكليف ، بل هي شرط في متعلق التكليف ، وإن ثبوت التكليف لا يتوقف على امتثال متعلّقه ، بمعنى أنّ الذي يتوقف على المعرفة هو امتثال التكليف لا أصل التكليف.

وعلى هذا تكون طاعة الإمام المعصوم ثابتة في ذمة المكلف ، وعليه أنه يسعى لمعرفته وأداء حق الطاعة له ، وهذا ما يسمى في عرف أُصول الفقه بأن المكلف مسؤول عن مقدمة الواجب وغير مسؤول عن مقدمة الوجوب. (٢)

جواب الوجه الثاني

إنّ ما يخالف الظاهر هو استعمال صيغة الجمع وإرادة الفرد الواحد فقط ، أما إذا أردنا منه استغراقه لجميع الأفراد واحداً بعد واحد ، وهو ما يسمى حسب الاصطلاح بالعموم الاستغراقي ، فهو ليس بخلاف الظاهر ، إنما الذي خلاف الظاهر هو العموم المجموعي ، وهو نادر الاستعمال في القرآن ، أما العموم الاستغراقي فهو الغالب فيكون هو الظاهر ، ومنه قوله تعالى : ( إنّا أطعنا ساداتنا وكبراءنا ) (٣) ، وقوله تعالى : ( فلا تطع

__________________

(١) تفسير المنار ٥ : ١٨٣.

(٢) راجع : الأصول العامة للفقه المقارن / محمد تقي الحكيم : ١٦١.

(٣) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٦٧.

١٣٤

المكذبين ) (١) ، وقوله تعالى : ( حافِظُوا على الصلوات ) (٢) ، وقوله تعالى : ( واخفض جناحك للمؤمنين ) (٣) إلى غير ذلك من الآيات.

هذا مضافاً إلى أنّ الآية لم تأتِ لتحديد مسؤولية الناس في زمان واحد ، بل جاءت لجميع الأزمنة ، فمجموع الأئمة لهذه الأزمنة يشكل جماعة يصحّ استعمال اللفظ فيهم.

جواب الوجه الثالث

للجواب على هذه الشبهة يقتضي التأمل في النقاط التالية :

١ ـ إن المشرّع الوحيد هو اللّه تعالى ، وقد شرّع تشريعاً كاملاً في كل شيء ، قال تعالى : ( ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ) (٤) وكل ما شرعه عزوجلّ فهو في كتابه العزيز ، ولا يوجد تشريع غيره.

٢ ـ دور الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو تبليغ التشريع وتبيينه للناس وهدايتهم له ، قال تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (٥).

٣ ـ دور أُولي الأمر هو نقل سنّة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبياناته إلى الناس وهدايتهم لها والمحافظة على استمرار هذه السنّة كما هي بدون تغيير أو تبديل.

وهذه الحلقات الثلاث تشكل نظام التشريع المتكامل حتى قيام الساعة ،

__________________

(١) سورة القلم : ٦٨ / ٨.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٣٨.

(٣) سورة الحجر : ١٥ / ٨٨.

(٤) سورة النحل : ١٦ / ٨٩.

(٥) سورة النحل : ١٦ / ٤٤.

١٣٥

ولكي تحقق هذه الحلقات الثلاث أدوارها بشكل كامل لابدّ من فرض طاعتها بلا فرق ، لأنّها حلقات تكمل بعضها بعضاً ، فتخلّف إحداهنّ يُفقد النظام توازنه ودوره الكامل والصحيح في أداء مهمته في إسعاد البشرية ، ومن هنا أكّد القرآن الكريم على وجوب طاعتهم بلا فرق.

أمّا الردّ فالكل تردُّ إلى كتاب اللّه تعالى بلا فرق ، فلا شرع إلاّ شرعه تعالى ، ولا دستور إلاّ كتابه عزّوجل ، لذلك أمرنا بالردّ إلى اللّه تعالى ، أي إلى كتابه عزّوجلّ ، أمّا الردّ إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبلحاظ بياناته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فان التشريع لا ينفكّ عنها ، وبدونها لا يستطيع الناس إدراك المراد الواقعي للّه تعالى ، وعليه يكون الردّ إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجهاً آخر للردّ إلى اللّه تعالى ، وإنما ذكره تعالى لإلفات نظر الناس إلى أنّ الشخص الوحيد الذي له حقّ تبيين مراد اللّه تعالى هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (١).

أمّا أُولي الأمر فليس لهم إلاّ نقل بيانات رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالردّ إليهم يكون تحصيل حاصل ، لذا لم يذكرهم في الردّ ، ومنه اتّضح السبب في ذكر أُولي الأمر في الطاعة وعدم ذكرهم في الردّ.

المبحث الثالث : حق الإتّباع

أكدّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إتباع أهل بيته وملازمتهم والتمسك بهم والسير على هديهم بأحاديث متواترة وصريحة في هذا المعنى ، منها : حديث

__________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٤٤.

١٣٦

الثقلين ،فقد أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري وزيد بن أرقم قالا : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضِلّوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر : كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » (١).

ومنها : حديث السفينة ، فقد أخرج الطبراني عن أبي سعيد الخدري ، قال : سمعت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « إنما مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، إنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل من دخله غفر له » (٢).

وهذان الحديثان كافيان في إثبات وجوب الرجوع لأهل البيت عليهم‌السلام واتباعهم والالتزام بهديهم ، فحديث الثقلين يصرّح بلزوم التمسك بالكتاب والعترة على حدّ واحد ، بمعنى أن التمسك بالعترة على حدّ التمسك بالكتاب ، فكما أن التمسك بالكتاب معناه السير على هديه والائتمار بأوامره في كل شيء ، فكذلك العترة ، وعدم التمسك بالكتاب معناه الضلال ، حيث لا هدي إلاّ هدي كتاب اللّه تعالى ، فكذلك عدم التمسك بالعترة.

ودلالة أُخرى من الحديث صريحة واضحة ، وهي حصر الهداية بهذين الثقلين ولا ثالث لهما ، وهذا ظاهر بأدنى تأملٍ بسياق الحديث ودلالة ألفاظه.

يقول عبد العزيز الدهلوي : إنّ الكتاب معدن العلوم الدينية ، والأسرار

__________________

(١) الجامع الصحيح / الترمذي ٦ : ١٢٥ / ٣٧٨٨.

(٢) المعجم الأوسط / الطبراني ٦ : ٤٠٦ / ٥٨٦٦ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٦٨ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٦٣ / ٤٧٢٠.

١٣٧

اللدنية ، والحكم الشرعية ، وكنوز الحقائق ، وخفايا الدقائق ، فالتمسك به إنما يكون بالعمل بما فيه ، وهو الائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه ، ولأنّ العترة معدن النزاهة والطهارة وحسن الأخلاق لطيب عنصرهم ، فالتمسك بهم إنما يكون بمحبتهم والاهتداء بهديهم ، والاتصاف بسيرهم ، وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إني تارك فيكم ... الى آخره » إشارة إلى أنهما بمنزلة التوأمين الخليفتين عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنه يوصي الأُمة بحسن السيرة معهما وإيثار حقهما على أنفسهم ... إلى أن قال : « فانظروا كيف تخلفوني فيهما » أي تأمّلوا في استخلافي إياكم هل تكونون خَلَف صدق أو خَلَف سوء. (١)

أما حديث السفينة فتشبيهه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهل البيت عليهم‌السلام بسفينة نوح ، يعني كما أنّ سفينة نوح كانت السبيل الوحيد الذي ينجي المؤمنين من العذاب ، ويأخذهم إلى برّ الأمان والهدى ، ومن لم يركب فأنه لا يجد غير الغرق في الدنيا وجهنم في الآخرة ، فكذلك أهل البيت عليهم‌السلام لا يوجد سبيل غير سبيلهم يمكن اتباعه ينجي من الهلكة والضلال ويوصل إلى الهدى والأمان ، فمن تركهم فمصيره مصير من ترك سفينة نوح.

وفي ذلك يقول ابن حجر : ووجه تشبيههم بالسفينة أن من أحبّهم وعظّمهم شكراً لنعمة مشرّفهم وأخذ بهدي علمائهم ، نجا من ظلمة المخالفات ، ومن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم ، وهلك في مفاوز الطغيان. (٢)

__________________

(١) سعادة الدارين في شرح حديث الثقلين / عبد العزيز الدهلوي ، ترجمة وتعليق محمود الآلوسي : ٥١٢ منشور في مجلة الحكمة العدد ٢٠ شوال ١٤٢٠ه (بريطانيا ـ ليدز).

(٢) الصواعق المحرقة / ابن حجر ٢ : ٤٤٦ـ٤٤٧.

١٣٨

ومما تقدم يتحصل لنا أن اتباع أهل البيت عليهم‌السلام قد أمرنا به رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أمرنا باتباع كتاب اللّه تعالى ، وجعل الاعتصام بهم أماناً من الضلال كالاعتصام بالكتاب الكريم ، ومنه يتّضح بشكل صريح أنه لا يوجد طريق يمكنه أن يحقق لنا الهداية سوى الكتاب والعترة الطاهرة عليهم‌السلام.

ومن هنا لابدّ إذن من وجوب اتباع أهل البيت عليهم‌السلام واقتفاء أثرهم ، والتعبّد بقولهم ، والتخلق بأخلاقهم ، فنقبل ما يقبلون ونرفض ما يرفضون ، ونحب من يحبّون ونبغض من يبغضون ، ونتولى من يتولون ونتبرأ ممن يتبرؤون.

ولأمير المؤمنين عليه‌السلام خطبة في هذا المعنى يقول فيها عليه‌السلام : « انظروا أهل بيت نبيكم ، فالزموا سمتهم ، واتبعوا أثرهم ، فلن يخرجوكم من هدى ، ولن يعيدوكم في ردى ، فإن لبدوا فالبدوا ، وإن نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلّوا ، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا » (١).

وأخرج الطبراني بسنده إلى ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من سرّه أن يحيا حياتي ويموت مماتي ، ويسكن جنّة عدن غرسها ربّي ، فليوال علياً من بعدي ، وليوال وليه ، وليقتد بأهل بيتي من بعدي ، فإنهم عترتي ، خلقوا من طينتي ، ورزقوا فهمي وعلمي ، فويلٌ للمكذبين بفضلهم من أُمتي ، القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم اللّه شفاعتي » (٢).

الاتباع في الكتاب الكريم

وهذا المعنى قد جاء به القرآن الكريم ، وأكّد عليه في العديد من الآيات

__________________

(١) شرح نهج البلاغة / الخطبة ٩٣.

(٢) المعجم الكبير / الطبراني ، حلية الأولياء / أبي نعيم الأصفهاني ١ : ٨٦ / ٤ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٠٨ ، ترجمة الإمام علي عليه‌السلام.

١٣٩

البينات ، وجاء الأثر في تفسير وتأييد معنى هذه الآيات.

وفيما يلي نذكر بعضها :

أولاً : قوله تعالى : ( إهْدِنا الْصِّراطَ الْمُستَقِيمَ ) (١).

ورد في تفسير هذه الآية عدّة روايات وأخبار تؤكّد أن المراد من الصراط المستقيم هم أهل البيت عليهم‌السلام ، أي صراط أهل البيت وهديهم ، ومنها :

١ ـ أخرج الحاكم الحسكاني بسنده إلى أبي بريدة في تفسير قوله تعالى : ( إهْدِنا الْصِّراطَ الْمُستَقِيمَ ) ، أي صراط محمد وآل محمد. (٢)

وأورده ابن شهرآشوب نقلاً عن تفسير الثعلبي ، وكتاب ابن شاهين ، وهما أخرجاه بسندهما إلى بريدة. (٣)

وأورده أيضاً الإربلي قائلاً : ونقلت مما خرّجه صديقنا العزّ المحدث الحنبلي الموصلي في قوله تعالى : ( إهْدِنا الْصِّراطَ الْمُستَقِيمَ ) قال بريدة : هو صراط محمد وآله عليهم‌السلام (٤).

٢ ـ أخرج الحاكم الحسكاني بسنده إلى ابن عباس في قوله تعالى : ( إهْدِنا الْصِّراطَ الْمُستَقِيمَ ) قال : يقول معاشر العباد : اهدنا إلى حبِّ النبي وأهل بيته. (٥)

__________________

(١) سورة الفاتحة : ١ / ٦.

(٢) شواهد التنزيل / الحاكم ١ : ٧٤ / ٨٦.

(٣) مناقب آل أبي طالب / ابن شهرآشوب المازندراني ٣ : ٨٩.

(٤) كشف الغمّة ١ : ٣١٠.

(٥) شواهد التنزيل ١ : ٧٥ / ٨٧ ، مناقب آل أبي طالب / ابن شهرآشوب ٢ : ٨٩ نقلاً عن تفسير وكيع بن الجراح بسنده إلى ابن عباس.

١٤٠