مدارك الأحكام - ج ٨

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي

مدارك الأحكام - ج ٨

المؤلف:

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٧

فلو قدّم بعضها على بعض أثم ولا إعادة.

______________________________________________________

على وجوب الترتيب لا تخلو من ضعف في سند أو قصور في دلالة ، والمسألة محل تردد ، ولعل الوجوب أرجح.

واعلم أن الشيخ ـ رحمه‌الله ـ اكتفى في المبسوط والنهاية والتهذيب في جواز الحلق بحصول الهدي في رحله (١) ، واستدل عليه في التهذيب بما رواه عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « إذا اشتريت أضحيتك وقمطتها وصارت في رحلك فقد بلغ الهدي محله ، فإن أحببت أن تحلق فاحلق » (٢). وهي ضعيفة السند باشتراك الراوي بين الثقة والضعيف ، وبأن من جملة رجالها وهيب بن حفص ، وقال النجاشي : إنه كان واقفيا (٣). فلا تعويل على روايته ، لكنها مطابقة لظاهر القرآن. ولا ريب أن تأخير الحلق عن الذبح أولى وأحوط.

قوله : ( فلو قدّم بعضها على بعض أثم ولا إعادة ).

لا ريب في حصول الإثم بالإخلال بالترتيب بناء على القول بوجوبه. وإنما الكلام في الحكم الثاني أعني عدم الإعادة ، فإن عدم تحقق الامتثال مع الإخلال بالترتيب الواجب يقتضي الإعادة ، إلا أن الأصحاب قاطعون بعدم الوجوب. وأسنده في المنتهى إلى علمائنا مؤذنا بدعوى الإجماع عليه (٤) ، واستدل عليه بصحيحة جميل بن دراج المتقدمة وما في معناها. وهو مشكل جدا ، لأن تلك الأخبار محمولة على الناسي أو الجاهل عند القائلين بالوجوب ، فلا تبقى لها دلالة على حكم العامد بوجه ، ولو قيل بتناولها للعامد لدلت على ما ذهب إليه الشيخ في الخلاف وأتباعه من عدم وجوب الترتيب ، والمسألة محل تردد ، وإن كان المصير إلى ما ذهب إليه الأصحاب غير بعيد من الصواب.

__________________

(١) المبسوط ١ : ٣٧٤ ، والنهاية : ٢٦٢ ، والتهذيب ٥ : ٢٣٥.

(٢) التهذيب ٥ : ٢٣٥ ـ ٧٩٤ ، الوسائل ١٠ : ١٤١ أبواب الذبح ب ٣٩ ح ٧.

(٣) رجال النجاشي : ٤٣١ ـ ١١٥٩.

(٤) المنتهى ٢ : ٧٦٥.

١٠١

مسائل :

الأولى : مواطن التحليل ثلاثة. الأول : عقيب الحلق أو التقصير ، يحل من كل شي‌ء ، إلا الطيب والنساء والصيد.

______________________________________________________

قوله : ( مسائل ثلاث. الأولى : مواطن التحليل ثلاثة ، الأول : عقيب الحلق أو التقصير ، يحل من كل شي‌ء ، إلا الطيب والنساء والصيد ).

ما اختاره المصنف ـ رحمه‌الله ـ من التحلّل عقيب الحلق أو التقصير من كل شي‌ء إلا الطيب والنساء والصيد مذهب أكثر الأصحاب. واستثنى الشيخ في التهذيب الطيب والنساء خاصة (١) ، ومقتضى كلامه حل الصيد الإحرامي بذلك أيضا ، وقال ابنا بابويه : يتحلّل بالرمي إلا من الطيب والنساء (٢).

والمعتمد ما اختاره الشيخ في التهذيب ، للأخبار الكثيرة الدالة عليه ، كصحيحة معاوية بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « إذا ذبح الرجل وحلق فقد أحل من كل شي‌ء أحرم منه إلا النساء والطيب ، فإذا زار البيت وطاف وسعى بين الصفا والمروة فقد أحل من كل شي‌ء أحرم منه إلا النساء ، فإذا طاف طواف النساء فقد أحل من كل شي‌ء أحرم منه إلا الصيد » (٣) ، والمراد بالصيد هنا الصيد الحرمي لا الإحرامي كما هو واضح.

وصحيحة العلاء قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إني حلقت رأسي وذبحت وأنا متمتع أطلي رأسي بالحناء؟ قال : « نعم ، من غير أن تمس شيئا من الطيب » قلت : وألبس القميص وأتقنع؟ قال : « نعم » قلت : قبل أن أطوف بالبيت؟ قال : « نعم » (٤).

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٤٥.

(٢) الصدوق في الفقيه ١ : ٣٢٨. ونقله عن والده في المختلف : ٣٠٨.

(٣) الفقيه ٢ : ٣٠٢ ـ ١٥٠١ ، الوسائل ١٠ : ١٩٢ أبواب الحلق والتقصير ب ١٣ ح ١.

(٤) التهذيب ٥ : ٢٤٧ ـ ٨٣٦ ، الإستبصار ٢ : ٢٨٩ ـ ١٠٢٥ ، الوسائل ١٠ : ١٩٣ أبواب الحلق والتقصير ب ١٣ ح ٥.

١٠٢

______________________________________________________

ورواية عمر بن يزيد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « اعلم أنك إذا حلقت رأسك فقد حل لك كل شي‌ء إلا النساء والطيب » (١).

ورواية منصور بن حازم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل رمى وحلق ، أيأكل شيئا فيه صفرة ، قال : « لا حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ، ثم قد حل له كل شي‌ء إلا النساء حتى يطوف بالبيت طوافا آخر ، ثم قد حل له النساء » (٢).

وقد ورد في بعض الروايات حل الطيب عقيب الحلق أيضا ، كصحيحة سعيد بن يسار ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المتمتع إذا حلق رأسه يطليه بالحناء؟ قال : « نعم ، الحناء والثياب والطيب وكل شي‌ء إلا النساء » رددها علي مرتين أو ثلاث ، قال : وسألت أبا الحسن عليه‌السلام عنها فقال : « نعم ، الحناء والثياب والطيب وكل شي‌ء إلا النساء » (٣).

وصحيحة معاوية بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « سئل ابن عباس هل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتطيب قبل أن يزور البيت؟ قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يضمد رأسه بالمسك قبل أن يزول البيت » (٤).

وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : ولد لأبي الحسن عليه‌السلام مولود بمنى فأرسل إلينا يوم النحر بخبيص فيه زعفران وكنا قد حلقنا ، قال عبد الرحمن : فأكلت أنا وامتنع الكاهلي ومرازم أن يأكلا منه وقال : لم نزر‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٤٥ ـ ٨٣١ ، الإستبصار ٢ : ٢٨٧ ـ ١٠٢٠ ، الوسائل ١٠ : ١٩٣ أبواب الحلق والتقصير ب ١٣ ح ٤.

(٢) التهذيب ٥ : ٢٤٥ ـ ٨٢٩ ، الإستبصار ٢ : ٢٨٧ ـ ١٠١٨ ، الوسائل ١٠ : ١٩٣ أبواب الحلق والتقصير ب ١٣ ح ٢.

(٣) الكافي ٤ : ٥٠٥ ـ ١ ، التهذيب ٥ : ٢٤٥ ـ ٨٣٢ ، الإستبصار ٢ : ٢٨٧ ـ ١٠٢١ ، الوسائل ١٠ : ١٩٤ أبواب الحلق والتقصير ب ١٣ ح ٧.

(٤) التهذيب ٥ : ٢٤٦ ـ ٨٣٤ ، الوسائل ١٠ : ١٩٦ أبواب الحلق والتقصير ب ١٤ ح ٢.

١٠٣

______________________________________________________

البيت ، فسمع أبو الحسن كلامنا فقال : لمصادف ـ وكان هو الرسول الذي جاءنا ـ : « في أي شي‌ء كانوا يتكلمون؟ » فقال : أكل عبد الرحمن وأبى الآخران فقالا : لم نزر البيت بعد ، فقال : « أصاب عبد الرحمن » ثم قال : « أما تذكر حين أتينا به في مثل هذا اليوم فأكلت أنا منه وأبى عبد الله أخي أن يأكل منه ، فلما جاء أبي حرّشه علي فقال : يا أبت إن موسى أكل خبيصا فيه زعفران ولم يزر بعد ، فقال أبي : هو أفقه منك ، أليس قد حلقتم رؤوسكم » (١).

وأجاب الشيخ عن الرواية الأولى بالحمل على أنه عليه‌السلام أراد أن الحاج متى حلق وطاف طواف الحج وسعى فقد حل له هذه الأشياء ، وإن لم يذكره باللفظ ، لعلمه أن المخاطب عالم بذلك ، أو تعويلا على غيره من الأخبار (٢).

وعن الروايتين الأخيرتين بالحمل على الحاج غير المتمتع ، قال : لأنه يحل له استعمال كل شي‌ء إلا النساء فقط ، وإنما لا يحل استعمال الطيب مع ذلك للمتمتع دون غيره (٣) ، ثم استدل على هذا التأويل بما رواه عن محمد بن حمران ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحاج يوم النحر ما يحل له؟ قال : « كل شي‌ء إلا النساء » وعن المتمتع ما يحل له يوم النحر؟ قال : « كل شي‌ء إلا النساء والطيب » (٤).

وهذا الحمل غير بعيد لو صح سند الرواية المفصلة ، ( وفي الطريق عبد الرحمن ، وفيه نوع التباس ، وإن كان الظاهر أنه ابن أبي نجران ، فتكون‌

__________________

(١) الكافي ٤ : ٥٠٦ ـ ٤ ، التهذيب ٥ : ٢٤٦ ـ ٨٣٣ ، الإستبصار ٢ : ٢٨٨ ـ ١٠٢٢ ، الوسائل ١٠ : ١٩٦ أبواب الحلق والتقصير ب ١٤ ح ٣.

(٢) التهذيب ٥ : ٢٤٦.

(٣) التهذيب ٥ : ٢٤٦.

(٤) التهذيب ٥ : ٢٤٧ ـ ٨٣٥ ، الإستبصار ٢ : ٢٨٩ ـ ١٠٢٤ ، الوسائل ١٠ : ١٩٦ أبواب الحلق والتقصير ب ١٤ ح ٢.

١٠٤

الثاني : إذا طاف طواف الزيارة حلّ له الطيب.

______________________________________________________

الرواية صحيحة ) (١).

ولو قيل : يحل الطيب للمتمتع وغيره بالحلق على كراهة لم يكن بعيدا من الصواب إن لم ينعقد الإجماع على خلافه.

وإنما يحصل التحلل بالحلق أو التقصير إذا وقع أحدهما عقيب الرمي والذبح كما هو ظاهر رواية معاوية المتقدمة (٢) ، فلو وقع قبلهما أو بينهما توقف على فعل الثلاثة.

واعلم أن المصنف ذكر أن بالحلق بتحلل المحرم مما عدا الطيب والنساء والصيد ، ثم ذكر أن بطواف الزيارة يحل له الطيب وبطواف النساء يحل له النساء ، ولم يذكر بما ذا يحل الصيد ، وظاهر العلامة في المنتهى أن التحلل منه إنما يقع بطواف النساء (٣) ، لأنه استدل على عدم التحلل منه بالحلق بقوله تعالى ( لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) (٤) قال : والإحرام يتحقق بتحريم الطيب والنساء (٥). وحكى الشهيد في الدروس عن العلامة أنه قال : إن ذلك ـ يعني عدم التحلل من الصيد إلا بطواف النساء ـ مذهب علمائنا (٦). ولو لا ما أوردناه من العموم الذي لم يستثنى منه سوى الطيب والنساء لكان هذا القول متجها ، لظاهر الآية الشريفة.

قوله : ( الثاني : إذا طاف طواف الزيارة حل له الطيب ).

ظاهر العبارة عدم توقف حل الطيب على السعي ، وبه صرح في‌

__________________

(١) بدل ما بين القوسين في « م » و « ح » : لكن في الطريق عبد الرحمن ، وهو مشترك بين جماعة منهم الضعيف.

(٢) في ص ١٠٢.

(٣) المنتهى ٢ : ٧٦٦.

(٤) المائدة : ٩٥.

(٥) المنتهى ٢ : ٧٦٥.

(٦) الدروس : ١٣٣.

١٠٥

الثالث : إذا طاف طواف النساء حلّ له النساء.

______________________________________________________

المنتهى (١) ، والأصح أنه إنما يحل بالسعي الواقع بعد الطواف ، لقوله عليه‌السلام في صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة (٢) : « فإذا زار البيت وطاف وسعى بين الصفا والمروة فقد أحل من كل شي‌ء أحرم منه إلا النساء ».

وفي صحيحة أخرى لمعاوية : « ثم اخرج إلى الصفا فاصعد عليه واصنع كما صنعت يوم دخلت مكة ، ثم ائت المروة فاصعد عليها وطف بينهما سبعة أشواط ، فتبدأ بالصفا وتختم بالمروة ، فإذا فعلت ذلك فقد أحللت من كل شي‌ء أحرمت منه إلا النساء ، ثم ارجع إلى البيت وطف به أسبوعا آخر ، ثم تصلي ركعتين عند مقام إبراهيم عليه‌السلام ، ثم قد أحللت من كل شي‌ء وفرغت من حجك كله وكل شي‌ء أحرمت منه » (٣).

وإنما يحل الطيب بالطواف والسعي إذا تأخر عن الوقوفين ومناسك منى ، أما مع التقديم كما في القارن والمفرد مطلقا والمتمتع مع الاضطرار ، فالأصح عدم حله بذلك ، بل يتوقف على الحلق المتأخر عن باقي المناسك ، تمسكا باستصحاب حكم الإحرام إلى أن يثبت المحلل ، والتفاتا إلى إمكان كون المحلل هو المركب من الطواف والسعي وما قبلهما من الأفعال ، بمعنى كون السعي آخر العلة.

وذهب بعض الأصحاب إلى حل الطيب بالطواف وإن تقدم ، واستوجهه الشارح قدس‌سره (٤) ، وهو ضعيف.

قوله : ( الثالث : إذا طاف طواف النساء حلت له النساء ).

هذا الحكم إجماعي ، منصوص في عدة روايات ، وقد تقدم طرف منها‌

__________________

(١) المنتهى ٢ : ٧٦٦.

(٢) في ص ١٠٢.

(٣) الكافي ٤ : ٥١١ ـ ٤ ، التهذيب ٥ : ٢٥١ ـ ٨٥٣ ، الوسائل ١٠ : ٢٠٥ أبواب زيارة البيت ب ٤ ح ١.

(٤) المسالك ١ : ١١٩.

١٠٦

______________________________________________________

فيما سبق ، والكلام في التحلّل بفعله قبل الوقوفين كما في طواف الحج.

وينبغي القطع بتحريم الرجال على النساء إلى أن يتحللن بطواف النساء أيضا ، لعموم قوله تعالى ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ) (١) والرفث هو الجماع بالنص الصحيح عن الصادق عليه‌السلام (٢) ، والحج إنما يتم بطواف النساء.

ويظهر من العلامة في المختلف التوقف في هذا الحكم ، فإنه نقل ما ذكرناه عن علي بابويه واستشكله بعدم الظفر بدليل يدل عليه (٣). واستوجه الشارح هذا الإشكال ، نظرا إلى أن الأخبار الدالة على حل ما عدا الطيب والنساء والصيد بالحلق وما عدا النساء بالطواف ، متناولة للمرأة ، ومن جملة ذلك حل الرجال (٤).

وأقول : إنا قد بينا الدليل الدال بعمومه على التحريم ، مع أن أحكام النساء في مثل ذلك لا تذكر صريحا غالبا ، وإنما تذكر بالفحوى والكنايات ، كما وقع في الروايات المتضمنة لتحريم أصل الفعل عليهن. وما اعتبره الشارح غير واضح ، فإن الروايات المتضمنة لتلك الأحكام غير متناولة للنساء صريحا ، بل هي مختصة بالرجال ، وأحكام النساء إنما تستفاد من أدلة أخر ، كالإجماع على مساواتهن للرجال في ذلك أو غيره ، وبالجملة ، فهذا الإشكال ضعيف جدا ، والمعتمد مساواتهن للرجال في ذلك.

تنبيه :

ظهر مما حررناه أن الحاج لو طاف الطوافين وسعى قبل الوقوفين في موضع الجواز فتحلّله واحد : عقيب الحلق بمنى ، ولو قدم طواف الحج‌

__________________

(١) البقرة : ١٩٧.

(٢) الكافي ٤ : ٣٣٧ ـ ٣ ، التهذيب ٥ : ٢٩٦ ـ ١٠٠٣ ، الوسائل ١٠ : ١٠٨ أبواب تروك الإحرام ب ٣٢ ح ١.

(٣) المختلف : ٣٠٩.

(٤) المسالك ١ : ١٢٠.

١٠٧

ويكره لبس المخيط حتى يفرغ من طواف الزيارة.

______________________________________________________

والسعي خاصة كان له تحللان ، أحدهما : عقيب الحلق مما عدا النساء ، والآخر : بعد طواف النساء لهن. ولو قلنا إنه يتحلل من الطيب بطواف الحج ومن النساء بطوافهن وإن تقدم على الوقوفين كانت المحللات ثلاثة مطلقا.

قوله : ( ويكره لبس المخيط حتى يفرغ من طواف الزيارة ).

بل الأجود كراهة لبس المخيط وتغطية الرأس إلى أن يتم السعي ، لصحيحة محمد بن مسلم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل تمتع بالعمرة فوقف بعرفة ووقف بالمشعر ورمى الجمرة وذبح وحلق ، أيغطي رأسه؟ فقال : « لا ، حتى يطوف بالبيت وبالصفا والمروة » ، قيل له : فإن كان فعل؟ قال : « ما أرى عليه شيئا » (١).

وصحيحة معاوية بن عمار ، عن إدريس القمي قال ، قلت : لأبي عبد الله عليه‌السلام : إن مولى لنا تمتع فلما حلق لبس الثياب قبل أن يزور البيت ، فقال : « بئس ما صنع » فقلت : أعليه شي‌ء؟ قال : « لا » قلت : فإني رأيت ابن أبي سماك يسعى بين الصفا والمروة وعليه خفان وقباء ومنطقة فقال : « بئس ما صنع » قلت : أعليه شي‌ء؟ قال : « لا » (٢).

وإنما حملنا النهي المستفاد من هاتين الروايتين على الكراهة جمعا بينهما وبين ما أوردناه من الأخبار المتضمنة لإباحة ذلك بعد الحلق ، ويشهد لهذا الجمع ما رواه الشيخ في الصحيح ، عن منصور بن حازم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال في رجل كان متمتعا فوقف بعرفات وبالمشعر وذبح وحلق فقال : « لا يغطي رأسه حتى يطوف بالبيت وبالصفا والمروة ، فإن أبي عليه‌السلام كان يكره ذلك وينهى عنه ». فقلنا : فإن كان فعل؟ فقال : « ما‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٤٧ ـ ٨٣٧ ، الإستبصار ٢ : ٢٨٩ ـ ١٠٢٦ ، الوسائل ١٠ : ١٩٩ أبواب الحلق والتقصير ب ١٨ ح ٢.

(٢) التهذيب ٥ : ٢٤٧ ـ ٨٣٨ ، الاستبصار ٢ : ٢٨٩ ـ ١٠٢٧ ، المقنع : ٩٠ ، الوسائل ١٠ : ١٩٩ أبواب الحلق والتقصير ب ١٨ ح ٣.

١٠٨

وكذا يكره الطيب حتى يفرغ من طواف النساء.

الثانية : إذا قضى مناسكه يوم النحر فالأفضل المضيّ إلى مكة للطواف والسعي ليومه. فإن أخّره فمن غده. ويتأكد ذلك في حق المتمتع ، فإن أخّره أثم ، ويجزيه طوافه وسعيه. ويجوز للقارن والمفرد تأخير ذلك طول ذي الحجة على كراهية.

______________________________________________________

أرى عليه شيئا » (١).

قوله : ( وكذا يكره الطيب حتى يفرغ من طواف النساء ).

لأنه من دواعي شهوة النساء ، ولصحيحة محمد بن إسماعيل ، قال ، كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : هل يجوز للمحرم المتمتع أن يمس الطيب قبل أن يطوف طواف النساء؟ قال : « لا » (٢). وهي محمولة على الكراهة جمعا.

قوله : ( الثانية : إذا قضى مناسكه يوم النحر فالأفضل المضيّ إلى مكة للطواف والسعي ليومه ، فإن أخره فمن غده ، ويتأكد ذلك في حق المتمتع ، فإن أخره أثم ، ويجزيه طوافه وسعيه. ويجوز للقارن والمفرد تأخير ذلك طول ذي الحجة على كراهية ).

إذا قضى الحاج مناسكه بمنى من الرمي والذبح والحلق والتقصير وجب عليه الرجوع إلى مكة لطواف الحج وصلاة ركعتيه والسعي وطواف النساء وصلاة ركعتيه.

ويسمى طواف الحج طواف الزيارة لأن الحاج يأتي من منى فيزور البيت ولا يقيم بمكة بل يرجع إلى منى. وقد ورد في صحيحة علي بن يقطين‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٤٨ ـ ٨٣٩ ، الإستبصار ٢ : ٢٩٠ ـ ١٠٢٨ ، الوسائل ١٠ : ١٩٨ أبواب الحلق والتقصير ب ١٨ ح ١.

(٢) التهذيب ٥ : ٢٤٨ ـ ٨٤٠ ، الإستبصار ٢ : ٢٩٠ ـ ١٠٢٩ ، الوسائل ١٠ : ٢٠٠ أبواب الحلق والتقصير ب ١٩ ح ١.

١٠٩

______________________________________________________

إطلاق طواف الزيارة على طواف النساء (١).

والأفضل إيقاع ذلك يوم النحر بعد أداء المناسك بمنى ، فإن تعذر فمن الغد ، للأخبار الكثيرة الدالة عليه ، كصحيحة معاوية بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في زيارة البيت يوم النحر ، قال : « زره ، فإن شغلت فلا يضرك أن تزور البيت من الغد ، ولا تؤخر أن تزور من يومك ، فإنه يكره للمتمتع أن يؤخر ، وموسع للمفرد أن يؤخره » (٢).

وصحيحة عمران الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « ينبغي للمتمتع أن يزور البيت يوم النحر أو من ليلته ولا يؤخر ذلك اليوم » (٣).

واختلف الأصحاب في جواز تأخيره عن الغد للمتمتع اختيارا ، فقال المفيد (٤) والمرتضى (٥) وسلار (٦) والمصنف : لا يجوز للمتمتع أن يؤخر الزيارة والطواف عن اليوم الثاني من النحر ، تمسكا بظاهر النهي.

وقال ابن إدريس : يجوز تأخيره طول ذي الحجة (٧) ، وهو الظاهر من كلام الشيخ في الاستبصار (٨) ، واختاره العلامة في المختلف (٩) ، وسائر المتأخرين.

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٤١ ـ ٨١١ ، الوسائل ١٠ : ١٨٢ أبواب الحلق والتقصير ب ٤ ح ١.

(٢) الكافي ٤ : ٥١١ ـ ٤ ، التهذيب ٥ : ٢٥١ ـ ٨٥٣ ، الإستبصار ٢ : ٢٩٢ ـ ١٠٣٧ ، الوسائل ١٠ : ٢٠٠ أبواب زيارة البيت ب ١ ح ١.

(٣) الكافي ٤ : ٥١١ ـ ٣ ، التهذيب ٥ : ٢٤٩ ـ ٨٤٣ ، الإستبصار ٢ : ٢٩١ ـ ١٠٣٢ ، الوسائل ١٠ : ٢٠١ أبواب زيارة البيت ب ١ ح ٧.

(٤) المقنعة : ٦٦.

(٥) جمل العلم والعمل : ١١٠.

(٦) المراسم : ١١٤.

(٧) السرائر : ١٤٢.

(٨) الاستبصار ٢ : ٢٩٥.

(٩) المختلف : ٣٠٩.

١١٠

______________________________________________________

وقد تقدم في كلام المصنف في أوائل الكتاب جواز تأخير ذلك إلى النفر الثاني (١) ، فيكون حكمه هنا بالإثم بتأخيره عن الغد رجوعا عن ذلك الفتوى ، والمعتمد ما اختاره ابن إدريس.

لنا : قوله تعالى ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ) (٢) وقد سبق أن شهر ذي الحجة من أشهر الحج ، فيجوز إيقاع أفعاله فيه مطلقا إلا ما أخرجه الدليل.

وما رواه ابن بابويه في الصحيح ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « لا بأس بأن يؤخر زيارة البيت إلى يوم النفر » (٣).

وفي الصحيح عن عبيد الله الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل نسي أن يزور البيت حتى أصبح فقال : « لا بأس ، أنا ربما أخرته حتى تذهب أيام التشريق ، ولكن لا يقرب النساء والطيب ». (٤).

وفي الصحيح عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « لا بأس إن أخّرت زيارة البيت إلى أن تذهب أيام التشريق ، إلا أنك لا تقرب النساء ولا الطيب » (٥).

وما رواه الشيخ عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « لا بأس أن يؤخر زيارة البيت إلى يوم النفر ، وإنما يستحب تعجيل ذلك مخافة الأحداث والمعاريض » (٦).

__________________

(١) ج ٧ ص ١٥٧.

(٢) البقرة : ١٩٧.

(٣) الفقيه ٢ : ٢٤٥ ، ١١٧١ ، الوسائل ١٠ : ٢٠٢ أبواب زيارة البيت ب ١ ح ٩.

(٤) الفقيه ٢ : ٢٤٥ ـ ١١٧٢ ، التهذيب ٥ : ٢٥٠ ـ ٨٤٧ ، الإستبصار ٢ : ٢٩١ ـ ١٠٣٥ ، الوسائل ١٠ : ٢٠١ أبواب زيارة البيت ب ١ ح ٢.

(٥) الفقيه ٢ : ٢٤٥ ـ ١١٧٤ ، الوسائل ١٠ : ٢٠١ أبواب زيارة البيت ب ١ ح ٣.

(٦) التهذيب ٥ : ٢٥٠ ـ ٨٤٦ ، الإستبصار ٢ : ٢٩١ ـ ١٠٣٤ ، الوسائل ١٠ : ٢٠٢ أبواب زيارة البيت ب ١ ح ٩.

١١١

الثالثة : الأفضل لمن مضى إلى مكة للطواف والسعي : الغسل ، وتقليم الأظفار ، وأخذ الشارب ، والدعاء إذا وقف على باب المسجد.

______________________________________________________

وأجاب الأولون عن هذه الروايات بالحمل على المفرد أو القارن ، وهو بعيد جدا ، بل الأجود حمل ما تضمن النهي عن التأخير على الكراهة ، كما يدل عليه قوله عليه‌السلام في صحيحة معاوية : « فإنه يكره للمتمتع أن يؤخر » (١).

ويدل على جواز تأخير الزيارة للمفرد والقارن مضافا إلى ما سبق ، ما رواه الشيخ في الصحيح ، عن معاوية بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن المتمتع متى يزور البيت؟ قال : « يوم النحر أو من الغد ولا يؤخر ، والمفرد والقارن ليسا بسواء ، موسع عليهما » (٢).

قال الشهيد في الدروس : ولا يجوز تأخير الطواف والسعي عن ذي الحجة ، فيبطل الحج ، كما قاله ابن إدريس إن تعمد ذلك (٣). وهو كذلك.

قوله : ( الثالثة : الأفضل لمن مضى إلى مكة للطواف والسعي الغسل ، وتقليم الأظفار ، وأخذ الشارب ، والدعاء إذا وقف على باب المسجد ).

أما استحباب الغسل والتقليم الأظفار والأخذ من الشارب فيدل عليه قوله عليه‌السلام في رواية صحيحة عمر بن يزيد : « ثم احلق رأسك ، واغتسل ، وقلم أظفارك ، وخذ من شاربك ، وزر البيت » (٤).

__________________

(١) الكافي ٤ : ٥١١ ـ ٤ ، التهذيب ٥ : ٢٥١ ـ ٨٥٣ ، الإستبصار ٢ : ٢٩٢ ـ ١٠٣٧ ، الوسائل ١٠ : ٢٠٠ أبواب زيارة البيت ب ١ ح ١.

(٢) التهذيب ٥ : ٢٤٩ ـ ٨٤٤ ، الإستبصار ٢ : ٢٩١ ـ ١٠٣٦ ، الوسائل ١٠ : ٢٠٢ أبواب زيارة البيت ب ١ ح ٨.

(٣) الدروس : ١٣٤.

(٤) التهذيب ٥ : ٢٥٠ ـ ٨٤٨ ، الوسائل ١٠ : ٢٠٣ أبواب زيارة البيت ب ٢ ح ٢.

١١٢

______________________________________________________

وفي صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن الرجل يغتسل للزيارة ثم ينام ، أيتوضأ قبل أن يزور؟ قال : « يعيد غسله ، لأنه إنما دخل بوضوء » (١).

وأما استحباب الدعاء إذا وقف على باب المسجد ، فيدل عليه قوله عليه‌السلام في صحيحة معاوية بن عمار : « فإذا أتيت البيت يوم النحر فقمت على باب المسجد قلت : اللهم أعنى على نسكي ، وسلّمني له ، وسلّمه لي ، أسألك مسألة العليل الذليل المعترف بذنبه أن تغفر لي ذنوبي ، وأن ترجعني بحاجتي ، اللهم إني عبدك والبلد بلدك والبيت بيتك ، جئت أطلب رحمتك وأؤم طاعتك ، متبعا لأمرك ، راضيا بقدرك ، أسألك مسألة المضطر إليك ، المطيع لأمرك ، المشفق من عذابك ، الخائف لعقوبتك ، أن تبلغني عفوك ، وتجيرني من النار برحمتك ، ثم تأتي الحجر الأسود فتستلمه وتقبله ، فإن لم تستطع فاستقبله وكبر وقل كما قلت حين طفت بالبيت يوم قدمت مكة ، ثم طف بالبيت سبعة أشواط كما وصفت لك يوم قدمت مكة ، ثم صل عند مقام إبراهيم عليه‌السلام ركعتين ، تقرأ فيهما بقل هو الله وقل يا أيها الكافرون ، ثم ارجع إلى الحجر الأسود فقبله إن استطعت واستقبله وكبر ، ثم اخرج إلى الصفا فاصعد عليه واصنع كما صنعت يوم دخلت مكة ، ثم ائت المروة فاصعد عليها وطف بينهما سبعة أشواط تبدأ بالصفا وتختم بالمروة ، فإذا فعلت ذلك فقد أحللت من كل شي‌ء أحرمت منه إلا النساء ، ثم ارجع إلى البيت وطف به أسبوعا آخر ، ثم تصلي ركعتين عند مقام إبراهيم عليه‌السلام ، ثم قد أحللت من كل شي‌ء ، وفرغت من حجك كله وكل شي‌ء أحرمت منه » (٢).

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٥١ ـ ٨٥١ ، الوسائل ١٠ : ٢٠٤ أبواب زيارة البيت ب ٣ ح ٤.

(٢) الكافي ٤ : ٥١١ ـ ٤ ، التهذيب ٥ : ٢٥١ ـ ٨٥٣ ، الوسائل ١٠ : ٢٠٥ أبواب زيارة البيت ب ٤ ح ١.

١١٣

القول في الطواف

وفيه ثلاث مقاصد :

الأول : في المقدمات ، وهي واجبة ومندوبة :

فالواجبات الطهارة ،

______________________________________________________

قوله : ( القول في الطواف. وفيه ثلاث مقاصد ، الأول : في المقدمات ، وهي واجبة ومندوبة ، فالواجبات : الطهارة ).

أجمع علماؤنا كافة على اشتراط الطهارة في الطواف الواجب ، حكاه في المنتهى (١) ، ويدل عليه روايات كثيرة :

كصحيحة معاوية بن عمار قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « لا بأس أن يقضي المناسك كلها على غير الوضوء إلا الطواف بالبيت ، والوضوء أفضل » (٢).

وصحيحة علي بن جعفر ، عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل طاف بالبيت وهو جنب فذكر وهو في الطواف قال : « يقطع طوافه ولا يعتد بشي‌ء مما طاف » وسألته عن رجل طاف ثم ذكر أنه على غير وضوء ، قال : « يقطع طوافه ولا يعتد به » (٣).

وصحيحة محمد بن مسلم قال : سألت أحدهما عليهما‌السلام عن رجل طاف طواف الفريضة وهو على غير طهر ، قال : « يتوضأ ويعيد طوافه ، وإن كان تطوعا توضأ وصلى ركعتين » (٤).

ويستفاد من هذه الرواية عدم توقف الطواف المندوب على الطهارة ،

__________________

(١) المنتهى ٢ : ٦٩٠.

(٢) الفقيه ٢ : ٢٥٠ ـ ١٢٠١ ، الوسائل ٩ : ٤٤٣ أبواب الطواف ب ٣٨ ح ١.

(٣) الكافي ٤ : ٤٢٠ ـ ٤ ، التهذيب ٥ : ١١٧ ـ ٣٨١ ، الاستبصار ٢ : ٢٢٢ ـ ٧٦٥ ، قرب الإسناد : ١٠٤ ، الوسائل ٩ : ٤٤٤ أبواب الطواف ب ٣٨ ح ٤ ، البحار ١٠ : ٢٦٨.

(٤) الكافي ٤ : ٤٢٠ ـ ٣ ، الفقيه ٢ : ٢٥٠ ـ ١٢٠٢ ، التهذيب ٥ : ١١٦ ـ ٣٨٠ ، الإستبصار ٢ : ٢٢٢ ـ ٧٦٤ ، الوسائل ٩ : ٤٤٤ أبواب الطواف ب ٣٨ ح ٣.

١١٤

______________________________________________________

وهو أحد القولين في المسألة ، وأظهرهما.

وتدل عليه أيضا صحيحة حريز ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في رجل طاف تطوعا وصلى ركعتين وهو على غير وضوء ، قال : « يعيد الركعتين ولا يعيد الطواف » (١).

ورواية عبيد بن زرارة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : « لا بأس بأن يطوف الرجل النافلة على غير وضوء ثم يتوضأ ويصلي ، وإن طاف متعمدا على غير وضوء فليتوضأ وليصل ، ومن طاف تطوعا وصلى ركعتين على غير وضوء فليعد الركعتين ولا يعيد الطواف » (٢).

ونقل عن أبي الصلاح أنه اعتبر الطهارة في الطواف المندوب كالواجب ، تمسكا بإطلاق بعض الروايات المتضمنة لاعتبار الطهارة في الطواف (٣). وهو ضعيف ، لأن المفصّل يحكم على المجمل.

واعلم أن المعروف من مذهب الأصحاب استباحة الطواف بالطهارة الترابية كما يستباح بالمائية ، ويدل عليه عموم قوله عليه‌السلام في صحيحة جميل : « إن الله جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا » (٤) ، وفي صحيحة محمد بن مسلم : « وهو بمنزلة الماء » (٥).

وذهب فخر المحققين إلى أن التيمم لا يبيح للجنب الدخول في‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ١١٨ ـ ٣٨٥ ، الوسائل ٩ : ٤٤٥ أبواب الطواف ب ٣٨ ح ٧.

(٢) الفقيه ٢ : ٢٥٠ ـ ١٢٠٣ ، الوسائل ٩ : ٤٤٤ أبواب الطواف ب ٣٨ ح ٢.

(٣) الكافي في الفقه : ١٩٥.

(٤) الفقيه ١ : ٦٠ ـ ٢٢٣ ، التهذيب ١ : ٤٠٤ ـ ١٢٦٤ ، الوسائل ٢ : ٩٩٤ أبواب التيمم ب ٢٣ ح ١.

(٥) التهذيب ١ : ٢٠٠ ـ ٥٨١ ، الإستبصار ١ : ١٦٣ ـ ٥٦٦ ، الوسائل ٢ : ٩٩٥ أبواب التيمم ب ٢٣ ح ٢. وفي الجميع : عن حماد بن عثمان ، ولم نعثر على رواية بهذا النص عن محمد بن مسلم.

١١٥

وإزالة النجاسة عن الثوب والبدن ،

______________________________________________________

المسجدين ، ولا اللبث فيما عداهما من المساجد (١). ومقتضاه عدم استباحة الطواف به أيضا ، وهو ضعيف ، وقد تقدم الكلام في ذلك في كتاب الطهارة.

قوله : ( وإزالة النجاسة عن الثوب والبدن ).

إطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق في الطواف بين الواجب والندب ، ولا في النجاسة بين المعفو عنها وغيرها ، ونقل عن ابن إدريس التصريح بهذا التعميم (٢) ، وهو ظاهر المنتهى (٣). وذهب بعض الأصحاب إلى العفو هنا كما يعفى عنه في الصلاة (٤). ونقل عن ابن الجنيد (٥) وابن حمزة (٦) أنهما كرها الطواف في الثوب النجس.

احتج المانعون بقوله عليه‌السلام : « الطواف بالبيت صلاة » (٧) وبرواية يونس بن يعقوب ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل يرى في ثوبه الدم وهو في الطواف ، قال : « ينظر الموضع الذي رأى فيه الدم فيعرفه ، ثم يخرج فيغسله ، ثم يعود فيتم طوافه » (٨).

ويتوجه على الرواية الأولى أنها غير مسندة من طرق الأصحاب كما اعترف به العلامة في المختلف (٩) ، فلا يصح التعلق بها ، ومع ذلك فهي غير‌

__________________

(١) إيضاح الفوائد ١ : ٦٦.

(٢) السرائر : ١٣٥.

(٣) المنتهى ٢ : ٦٩٠.

(٤) كالمحقق الثاني في جامع المقاصد ١ : ١٦٥ ، والشهيد الثاني في المسالك ١ : ١٢٠.

(٥) نقله عنهما في المختلف : ٢٩١.

(٦) الوسيلة ( الجوامع الفقهية ) : ٦٩٠.

(٧) غوالي اللآلي ٢ : ١٦٧ ـ ٣ ، سنن الدارمي ٢ : ٤٤.

(٨) التهذيب ٥ : ١٢٦ ـ ٤١٥ ، الوسائل ٩ : ٤٦٢ أبواب الطواف ب ٥٢ ح ٢.

(٩) المختلف : ٢٩١.

١١٦

وأن يكون مختونا ولا يعتبر في المرأة.

______________________________________________________

واضحة الدلالة على المطلوب ، إذ التشبيه لا يقتضي التساوي من جميع الوجوه.

وعلى الرواية الثانية الطعن في السند باشتماله على عدة من المجاهيل ، وبأن راويها وهو يونس بن يعقوب قيل : إنه فطحي (١) ، مع أنها معارضة بما رواه الشيخ في الصحيح ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : رجل في ثوبه دم مما لا تجوز الصلاة في مثله فطاف في ثوبه ، فقال : « أجزأه الطواف فيه ، ثم ينزعه ويصلي في ثوب طاهر » (٢) ، ولا يضر إرسالها لأنها مطابقة لمقتضى الأصل ، وسالمة عما يصلح للمعارضة.

ومن هنا يظهر رجحان ما ذهب إليه ابن الجنيد وابن حمزة ، إلا أن الأولى اجتناب ما لم يعف عنه في الصلاة ، والأحوط اجتناب الجميع كما ذكره ابن إدريس.

قوله : ( وأن يكون مختونا ولا يعتبر في المرأة ).

هذا الحكم مقطوع به في كلام أكثر الأصحاب ، بل ظاهر المنتهى أنه موضع وفاق (٣) ، ويدل عليه روايات كثيرة :

كصحيحة معاوية بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « الأغلف لا يطوف بالبيت ، ولا بأس أن تطوف المرأة » (٤).

وصحيحة حريز بن عبد الله وإبراهيم بن عمر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « لا بأس أن تطوف المرأة غير مخفوضة ، فأما الرجل فلا‌

__________________

(١) كما في رجال الكشي ٢ : ٦٨٢.

(٢) التهذيب ٥ : ١٢٦ ـ ٤١٦ ، الوسائل ٩ : ٤٦٢ أبواب الطواف ب ٥٢ ح ٣.

(٣) المنتهى ٢ : ٦٩٠.

(٤) التهذيب ٥ : ١٢٦ ـ ٤١٣ ، الوسائل ٩ : ٣٦٩ أبواب مقدمات الطواف ب ٣٣ ح ١.

١١٧

______________________________________________________

يطوفن إلا وهو مختون » (١).

ورواية إبراهيم بن ميمون ، عن أبى عبد الله عليه‌السلام : في رجل يسلم فيريد أن يختتن وقد حضره الحج ، أيحج أم يختتن؟ قال : « لا يحج حتى يختتن » (٢).

ونقل عن ابن إدريس أنه توقف في هذا الحكم (٣). وهو جيد على أصله.

وجزم الشارح بأن الختان إنما يعتبر مع الإمكان ، فلو تعذر ولو بضيق الوقت سقط (٤). ويحتمل قويا اشتراطه مطلقا كما في الطهارة بالنسبة إلى الصلاة.

ومقتضى إخراج المرأة من هذا الحكم بعد اعتباره في مطلق الطائف استواء الرجل والصبي والخنثى في ذلك ، والرواية الأولى متناولة للجميع ، فما ذكره الشارح من أن الأخبار خالية من غير الرجل والمرأة (٥) غير واضح.

وفائدة اعتبار ذلك في الصبي مع عدم التكليف في حقه كون الختان شرطا في صحة الطواف كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة.

ولم يذكر المصنف من شرائط الطواف الستر ، وقد اعتبره الشيخ في الخلاف (٦) ، والعلامة في جملة من كتبه (٧) ، واستدل عليه في المنتهى بقوله‌

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٢٥٠ ـ ١٢٠٥ ، التهذيب ٥ : ١٢٦ ـ ٤١٤ ، الوسائل ٩ : ٣٦٩ أبواب مقدمات الطواف ب ٣٣ ح ٣.

(٢) الكافي ٤ : ٢٨١ ـ ١ ، الفقيه ٢ : ٢٥١ ـ ١٢٠٦ ، التهذيب ٥ : ٤٦٩ ـ ١٦٤٦ ، الوسائل ٩ : ٣٦٩ أبواب مقدمات الطواف ب ٣٣ ح ٢.

(٣) السرائر : ١٣٥ ، إلا أنه قال : ولا يجوز للرجل أن يطوف بالبيت وهو غير مختون على ما روى أصحابنا في الأخبار. ونقله عنه الشهيد في الدروس : ١١٢.

(٤ ، ٥) المسالك ١ : ١٢٠.

(٦) الخلاف ١ : ٤٤٦.

(٧) المنتهى ٢ : ٦٩٠ ، والتذكرة ١ : ٣٦١ ، والقواعد ١ : ٨٢.

١١٨

والمندوبات ثمانية : الغسل لدخول مكة ، فلو حصل عذر اغتسل بعد دخوله ، والأفضل أن يغتسل من بئر ميمون أو من فخّ وإلا ففي منزله.

______________________________________________________

عليه‌السلام : « الطواف بالبيت صلاة » (١). وقوله عليه‌السلام : « لا يحج بعد العام مشرك ولا عريان » (٢).

ويظهر من العلامة في المختلف التوقف في ذلك ، فإنه عزى الاشتراط إلى الشيخ وابن زهرة خاصة ، واحتج لهما بالرواية الأولى ثم قال : ولمانع أن يمنع ذلك ، وهذه الرواية غير مسندة من طرقنا فلا حجة فيها (٣). هذا كلامه رحمه‌الله وهو جيد.

والمسألة محل تردد ، والواجب التمسك بمقتضى الأصل إلى أن يثبت دليل الاشتراط ، وإن كان التأسي والاحتياط يقتضيه.

قوله : ( والمندوبات ثمانية : الغسل لدخول مكة ، فلو حصل عذر اغتسل بعد دخوله ، والأفضل أن يغتسل من بئر ميمون أو فخ ، وإلا ففي منزله ).

المستند في هذه المسألة ما رواه الشيخ ، عن أبان بن تغلب ، قال : كنت مع أبي عبد الله عليه‌السلام مزامله ما بين مكة والمدينة ، فلما انتهى إلى الحرم نزل واغتسل وأخذ نعليه بيديه ، ثم دخل الحرم حافيا ، فصنعت مثل ما صنع ، فقال : « يا أبان من صنع مثل ما صنعت تواضعا لله عزّ وجلّ محا الله عزّ وجلّ عنه مائة ألف سيئة ، وكتب له مائة ألف حسنة ، وبنى له مائة ألف درجة ، وقضى له مائة ألف حاجة » (٤).

__________________

(١) غوالي اللئالي ٢ : ١٦٧ ـ ٣ ، سنن الدارمي ٢ : ٤٤.

(٢) مسند أحمد بن حنبل ١ : ٣ ، وسنن الدارمي ١ : ٣٣٣. ورواها في علل الشرائع : ١٩٠ ـ ٢ ، الوسائل ٩ : ٤٦٣ أبواب الطواف ب ٥٣ ح ١.

(٣) المختلف : ٢٩١.

(٤) التهذيب ٥ : ٩٧ ـ ٣١٧ ، الوسائل ٩ : ٣١٥ أبواب مقدمات الطواف ب ١ ح ١.

١١٩

______________________________________________________

وفي الصحيح عن ذريح قال : سألته عن الغسل في الحرم ، قبل دخول مكة أو بعد دخوله؟ قال : « لا يضرك أي ذلك فعلت ، وإن اغتسلت بمكة فلا بأس ، وإن اغتسلت في بيتك حين تنزل بمكة فلا بأس » (١).

وفي الحسن عن معاوية بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « إذا انتهيت إلى الحرم إن شاء الله فاغتسل حين تدخله ، وإن تقدمت فاغتسل من بئر ميمون ، أو من فخ ، أو من منزلك بمكة » (٢).

وفي الحسن عن الحلبي ، قال : أمرنا أبو عبد الله عليه‌السلام أن نغتسل من فخ قبل أن ندخل إلى مكة (٣).

وعن محمد الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « إن الله عزّ وجلّ يقول في كتابه ( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) (٤) فينبغي للعبد أن لا يدخل مكة إلا وهو طاهر قد غسل عرقه والأذى وتطهر » (٥).

وعن عجلان أبي صالح قال ، قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : « إذا انتهيت إلى بئر ميمون أو بئر عبد الصمد فاغتسل واخلع نعليك وامش حافيا‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٩٧ ـ ٣١٨ ، الوسائل ٩ : ٣١٦ أبواب مقدمات الطواف ب ٢ ح ١ ، ورواها في الكافي ٤ : ٣٩٨ ـ ٥.

(٢) التهذيب ٥ : ٩٧ ـ ٣١٩ ، الوسائل ٩ : ٣١٦ أبواب مقدمات الطواف ب ٢ ح ٢ ، ورواها في الكافي ٤ : ٤٠٠ ـ ٤.

(٣) التهذيب ٥ : ٩٩ ـ ٣٢٣ ، الوسائل ٩ : ٣١٨ أبواب مقدمات الطواف ب ٥ ح ١ ، ورواها في الكافي ٤ : ٤٠٠ ـ ٥.

(٤) في جميع النسخ والكافي والوافي : وطهّر بيتي للطائفين والعاكفين والركع والسجود ، وفي التهذيب والوسائل : وطهّرا. ولعل هذا خلط وقع في أذهان النسّاخ بين آية ١٢٥ من سورة الحج وهي ( أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ )بين آية ٢٦ من سورة الحج ( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ )وهي التي أثبتناها في المتن.

(٥) التهذيب ٥ : ٩٨ ـ ٣٢٢ ، الوسائل ٩ : ٣١٨ أبواب مقدمات الطواف ب ٥ ح ٣ ، ورواها في الكافي ٤ : ٤٠٠ ـ ٣.

١٢٠