مدارك الأحكام - ج ٧

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي

مدارك الأحكام - ج ٧

المؤلف:

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٠

______________________________________________________

نركب؟ فقال : « تركبون أحب إلى ، فإن ذلك أقوى على الدعاء والعبادة » (١).

وللأصحاب في هذه المسألة وجوه أخر في الجمع بين الأخبار :

منها : أن المشي أفضل لمن كان قد ساق معه ما إذا أعيا ركبه ، ذكره الشيخ في كتابي الأخبار وقال : من أضعفه المشي ولم يكن معه ما يلجأ إلى ركوبه عند إعيائه فلا يجوز له أن يخرج إلا راكبا (٢). واستدل على هذا الجمع بما رواه عن موسى بن القاسم ، عن صفوان ، عن عبد الله بن بكير قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنا نريد الخروج إلى مكة فقال : « لا تمشوا واركبوا » فقلت : أصلحك الله بلغنا أن الحسن بن علي عليهما‌السلام حج عشرين حجة ماشيا فقال : « إن الحسن بن علي عليهما‌السلام كان يمشي وتساق معه محامله ورحاله » (٣).

ومنها : أن الركوب أفضل من المشي لمن يضعف بالمشي عن التقدم للعبادة ، ذكره الشيخ في كتابي الأخبار احتمالا (٤) ، واختاره الشهيد في الدروس (٥) ، واستدل عليه الشيخ بما رواه عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن علي ، عن هشام بن سالم ، قال : دخلنا على أبي عبد الله عليه‌السلام أنا وعنبسة بن مصعب وبضعة عشر رجلا من أصحابنا فقلت : جعلني الله فداك أيهما أفضل المشي أو الركوب؟ فقال : « ما عبد الله بشي‌ء أفضل من المشي » فقلنا : أيما أفضل نركب إلى مكة فنعجل فنقيم بها إلى أن‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ١٢ ـ ٣٢ ، الإستبصار ٢ : ١٤٢ ـ ٤٦٤ ، الوسائل ٨ : ٥٨ أبواب وجوب الحج ب ٣٣ ح ٥.

(٢) التهذيب ٥ : ١٢ ، والاستبصار ٢ : ١٤٢.

(٣) التهذيب ٥ : ١٢ ـ ٣٣ ، الإستبصار ٢ : ١٤٢ ـ ٤٦٥ ، الوسائل ٨ : ٥٨ أبواب وجوب الحج ب ٣٣ ح ٦.

(٤) التهذيب ٥ : ١٣ ، الاستبصار ٢ : ١٤٣.

(٥) الدروس : ٨٦.

٨١

مسائل أربع :

الأولى : إذا استقرّ الحج في ذمته ثم مات قضي عنه من أصل تركته. فإن كان عليه دين وضاقت التركة قسّمت على الدين وأجرة المثل بالحصص.

______________________________________________________

يقدم الماشي أو نمشي؟ فقال : « الركوب أفضل » (١).

ومنها : أن الركوب أفضل لمن كان الحامل له على المشي توفير المال مع استغنائه عنه ، والمشي أفضل إن كان الحامل له عليه كسر النفس ومشقة العبادة ، اختاره الإمام الرباني ميثم البحراني في شرح النهج (٢) ، وهو جيد ، لأن الشّح جامع لمساوي العيوب كما ورد في الخبر (٣) ، فيكون دفعه أولى من العبادة بالمشي. ويدل عليه أيضا ما رواه الكليني ، عن أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المشي أفضل أو الركوب؟ فقال : « إن كان الرجل موسرا يمشي ليكون أقل لنفقته فالركوب أفضل » (٤).

ولا فرق في ذلك كله بين حجة الإسلام وغيرها وان كانت العبارة تشعر باختصاص الحكم بها.

قوله : ( الأولى ، إذا استقر الحج في ذمته ثم مات قضي عنه من أصل تركته ، فإن كان عليه دين وضاقت التركة قسّمت على الدين وأجرة المثل بالحصص ).

أما وجوب القضاء عن الميت من أصل تركته مع استقرار الحج في ذمته فقال العلامة في التذكرة والمنتهى : إنه قول علمائنا أجمع (٥). ووافقنا عليه‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ١٣ ـ ٣٤ ، الإستبصار ٢ : ١٤٣ ـ ٤٦٦ ، الوسائل ٨ : ٥٤ أبواب وجوب الحج ب ٣٢ ح ٢.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ : ٢٢٥.

(٣) نهج البلاغة ( محمد عبده ) : ٢٤٥ ـ الكلمات القصار ـ رقم ٣٧٨.

(٤) الكافي ٤ : ٤٥٦ ـ ٣ ، الوسائل ٨ : ٥٩ أبواب وجوب الحج ب ٣٣ ح ١٠.

(٥) التذكرة ١ : ٣٠٦ ، والمنتهى ٢ : ٨٧١.

٨٢

______________________________________________________

أكثر العامة (١). والمستند فيه الأخبار المستفيضة ، كصحيحة الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « يقضى عن الرجل حجة الإسلام من جميع ماله » (٢).

وصحيحة معاوية بن عمار ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يموت ولم يحج حجة الإسلام ويترك مالا ، قال : « عليه أن يحج عنه من ماله رجلا صرورة لا مال له » (٣).

وصحيحة محمد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل مات ولم يحج حجة الإسلام يحج عنه؟ قال : « نعم » (٤).

وموثقة سماعة بن مهران ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يموت ولم يحج حجة الإسلام ، ولم يوص بها ، وهو موسر ، فقال : « يحج عنه من صلب ماله ، لا يجوز غير ذلك » (٥).

وأما أنه مع ضيق التركة يجب قسمتها على الدين ، وأجرة المثل بالحصص فواضح ، لاشتراك الجميع في الثبوت وانتفاء الأولوية.

ثم إن قامت حصة الحج من التوزيع أو من جميع التركة مع انتفاء الدين بأجرة الحج فواضح ، ولو قصرت عن الحج والعمرة من أقرب المواقيت ووسعت لأحدهما فقد أطلق جمع من الأصحاب وجوبه.

__________________

(١) منهم المزني في مختصره : ٦٢ ، وابن حزم في المحلى ٧ : ٦٢ ، وابن قدامة في المغني ٣ : ١٩٦.

(٢) التهذيب ٥ : ٤٠٣ ـ ١٤٠٥ ، الوسائل ٨ : ٥٠ أبواب وجوب الحج ب ٢٨ ح ٣.

(٣) الكافي ٤ : ٣٠٦ ـ ٣ ، التهذيب ٥ : ١٥ ـ ٤٢ ، الوسائل ٨ : ٤٩ أبواب وجوب الحج ب ٢٨ ح ١.

(٤) الفقيه ٢ : ٢٧٠ ـ ١٣٢٠ وفيه زيادة : ولم يوص بها ، وكذا في « م » ، التهذيب ٢ : ١٥ ـ ٤٣ ، الوسائل ٨ : ٥٠ أبواب وجوب الحج ب ٢٨ ح ٢.

(٥) التهذيب ٥ : ١٥ ـ ٤١ ، الوسائل ٨ : ٥٠ أبواب وجوب الحج ب ٢٨ ح ٤.

٨٣

الثانية : يقضى الحج من أقرب الأماكن ، وقيل : يستأجر من بلد الميت ، وقيل : إن اتسع المال فمن بلده ، وإلا فمن حيث يمكن ، والأول أشبه.

______________________________________________________

ولو تعارضا احتمل التخيير لعدم الأولوية ، وتقديم الحج لأنه أهم في نظر الشرع ، ويحتمل قويا سقوط الفرض مع القصور عن الحج والعمرة إن كان الفرض التمتع لدخول العمرة في الحج على ما سيجي‌ء بيانه (١).

ولو قصر نصيب الحج عن أحد الأمرين وجب صرفه في الدين إن كان معه ، وإلا عاد ميراثا ، ولا يجب صرفه في شي‌ء من أفعال الحج والعمرة ، لعدم ثبوت التعبد بذلك على الخصوص.

قوله : ( الثانية ، يقضى الحج من أقرب الأماكن ، وقيل : يستأجر من بلد الميت ، وقيل : إن اتسع المال فمن بلده ، وإلا فمن حيث يمكن ، والأول أشبه ).

ما اختاره المصنف ـ رحمه‌الله ـ من الاكتفاء بقضاء الحج من أقرب الأماكن قول أكثر الأصحاب. والمراد بأقرب الأماكن أقرب المواقيت إلى مكة إن أمكن الاستيجار منه ، وإلا فمن غيره مراعيا للأقرب فالأقرب ، فإن تعذر الاستيجار من أحد المواقيت وجب الاستيجار من أقرب ما يمكن الحج منه إلى الميقات. وقال ابن إدريس : لا يجزي إلا من بلده إن خلّف سعة ، وإن قصرت التركة حج عنه من الميقات (٢). وهو ظاهر اختيار الشيخ في النهاية (٣). والمعتمد الأول.

لنا : أن الواجب قضاء الحج ، وهو عبارة عن المناسك المخصوصة ، وقطع المسافة ليس جزءا منه ، بل ولا واجبا لذاته ، وإنما وجب لتوقف الواجب عليه ، فإذا انتفى التوقف انتفى الوجوب. على أنه لو سلمنا وجوبه‌

__________________

(١) في ص ١٦٨.

(٢) السرائر : ١٢٠.

(٣) النهاية : ٢٠٣.

٨٤

______________________________________________________

لم يلزم من ذلك وجوب قضائه ، لأن القضاء إنما يجب بدليل من خارج ، وهو إنما قام على وجوب قضاء الحج خاصة.

واستدل المصنف في المعتبر على هذا القول بأن الواجب في الذمة ليس إلا الحج ، فلا يكون قطع المسافة معتبرا ، وبأن الميت لو اتفق حضوره بعض المواقيت لا بقصد الحج أجزأه الحج من الميقات ، فكذا لو قضي عنه (١). ونحوه قال في المختلف ، وقال : إن المسافر لو اتفق قربه من الميقات فحصلت له الشرائط وجب عليه أن يحج من ذلك الموضع ، وكذا لو استطاع في غير بلده لم يجب عليه قصد بلده وإنشاء الحج منه بلا خلاف ، فعلم أن قطع المسافة ليس واجبا فلا يجب الاستيجار منه (٢).

ويمكن أن يستدل على ذلك أيضا بما رواه الشيخ في الصحيح ، عن حريز بن عبد الله ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أعطى رجلا حجة يحج عنه من الكوفة فحج عنه من البصرة ، قال : « لا بأس ، إذا قضى جميع المناسك فقد تم حجه » (٣).

وفي الصحيح عن علي بن رئاب ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في رجل أوصى أن يحج عنه حجة الإسلام ، فلم يبلغ جميع ما ترك إلا خمسون درهما ، قال : « يحج عنه من بعض الأوقات التي وقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قرب » (٤) أطلق عليه‌السلام الحج عنه من بعض المواقيت ولم يستفصل عن إمكان الحج بذلك من البلد أو غيره مما هو أبعد من الميقات ، فدل على عدم وجوبه.

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٧٦٠.

(٢) المختلف : ٢٥٧.

(٣) التهذيب ٥ : ٤١٥ ـ ١٤٤٥ ، الوسائل ٨ : ١٢٧ أبواب النيابة في الحج ب ١١ ح ١.

(٤) التهذيب ٥ : ٤٠٥ ـ ١٤١١ ، الإستبصار ٢ : ٣١٨ ـ ١١٢٨ ، الوسائل ٨ : ١١٧ أبواب النيابة في الحج ب ٢ ح ١ ، ورواها عن ابن رئاب في الكافي ٤ : ٣٠٨ ـ ٤.

٨٥

______________________________________________________

وعن زكريا بن آدم ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل مات وأوصى بحجة ، أيجزيه أن يحج عنه من غير البلد الذي مات فيه؟ فقال : « ما كان دون الميقات فلا بأس » (١).

ولا ينافي ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح ، عن الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : « وإن أوصى أن يحج عنه حجة الإسلام ولم يبلغ ماله ذلك فليحج عنه من بعض المواقيت » (٢) وما رواه الكليني ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، عن محمد بن عبد الله ، قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الرجل يموت فيوصي بالحج من أين يحج عنه؟ قال : « على قدر ماله ، إن وسعه ماله فمن منزله ، وإن لم يسعه ماله من منزله فمن الكوفة ، فإن لم يسعه من الكوفة فمن المدينة » (٣).

لأنا نجيب عنهما بأنهما إنما تضمنتا الحج من البلد مع الوصية ، ولعل القرائن الحالية كانت دالة على إرادة الحج من البلد ، كما هو الظاهر من الوصية عند الإطلاق في زماننا ، فلا يلزم مثله مع انتفاء الوصية.

احتج ابن إدريس على وجوب الحج من البلد بتواتر الأخبار بذلك ، وبأن المحجوج عنه كان يجب عليه الحج من بلده ونفقة طريقه ، فمع الموت لا تسقط النفقة (٤).

وأجاب المصنف في المعتبر عن الأول بالمنع من تواتر الأخبار بذلك ، قال : ودعوى المتأخرين تواتر الأخبار غلط ، فإنا لم نقف في ذلك على خبر شاذ ، فكيف يدعى التواتر؟!

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣٠٨ ـ ١ ، الوسائل ٨ : ١١٧ أبواب النيابة في الحج ب ٢ ح ٤.

(٢) التهذيب ٥ : ٤٠٥ ـ ١٤١٠. ولكنه من كلام الشيخ ، وعدّه من رواية الحلبي السابقة عليه غفلة منه رحمه‌الله. وقد ورد بهذا المعنى روايات كثيرة ـ راجع الوسائل ٨ : ١١٧ أبواب النيابة في الحج ب ٢.

(٣) الكافي ٤ : ٣٠٨ ـ ٣ ، الوسائل ٨ : ١١٧ أبواب النيابة في الحج ب ٢ ح ٣.

(٤) السرائر : ١٢١.

٨٦

______________________________________________________

وعن الثاني بأنه ليس بشي‌ء ، لأنا لا نسلم وجوب الحج من البلد ، بل لو أفاق المجنون عند بعض المواقيت أو استغنى الفقير وجب أن يحج من موضعه ، على أنه يحصل (١) إلى أن الإنسان يجب عليه أن ينشئ حجه من بلده ، فدعواه هذه غلط ، فما رتبه عليه أشد غلطا (٢).

وينبغي التنبيه لأمور :

الأول : الموجود فيما وقفت عليه من كتب الأصحاب حتى في كلام المصنف في المعتبر (٣) أن في المسألة قولين كما نقلناه ، وقد جعل المصنف هنا الأقوال ثلاثة ، ولا يتحقق الفرق بين القولين الأخيرين إلا على تقدير القول بسقوط الحج مع عدم سعة المال للحج من البلد على القول الثاني ، ولا نعرف بذلك قائلا ، مع أنه مخالف للروايات كلها.

الثاني : الظاهر أن المراد من البلد الذي يجب الحج منه على القول به محل الموت حيث كان ، كما صرح به ابن إدريس (٤) ، ودل عليه دليله. وقال في التذكرة : لو كان له موطنان قال الموجبون للاستنابة من البلد يستناب من أقربهما (٥). وهو غير واضح ، لأن دليل الموجبين إنما يدل على ما ذكرناه.

الثالث : أوجب الشهيد في الدروس القضاء من المنزل مع السعة ، ثم قال : ولو قضي مع السعة من الميقات أجزأ وإن أثم الوارث ، ويملك المال الفاضل ، ولا يجب صرفه في نسك أو بعضه ، أو في وجوه البر (٦). ويشكل بعدم الإتيان بالمأمور به على وجهه على هذا التقدير ، فلا يتحقق الامتثال.

__________________

(١) أي : يرجع ، والموجود في المعتبر : على أنه لم يذهب محصل إلى.

(٢ ، ٣) المعتبر ٢ : ٧٦٠.

(٤) السرائر : ١٢٠.

(٥) التذكرة ١ : ٣٠٧.

(٦) الدروس : ٨٦.

٨٧

الثالثة : من وجب عليه حجة الإسلام لا يحج عن غيره ، ولا تطوعا

______________________________________________________

الرابع : موضع الخلاف ما إذا لم يوص بالحج من البلد ، أو يطلق وتدل القرائن الحالية أو المقالية على إرادته ، أما مع الوصية به كذلك فيجب قضاؤه من البلد الذي تعلقت به الوصية ، سواء كانت بلد الموت أو غيرها بغير إشكال.

الخامس : لو أوصى بالحج من البلد فإن قلنا بوجوبه كذلك بدون الوصية كانت أجرة المثل لذلك خارجة من أصل المال ، وإن قلنا الواجب الحج من الميقات كان ما زاد على أجرة ذلك محسوبا من الثلث إن أمكن الاستيجار من الميقات ، وإلا وجب الإخراج من حيث يمكن ، وكانت أجرة الجميع خارجة من الأصل كما هو واضح.

قوله : ( الثالثة ، من وجب عليه حجة الإسلام لا يحج عن غيره ، ولا تطوعا ).

أما المنع من التطوع فواضح ، لمنافاته الواجب الفوري المقدور عليه بالتمكن من التطوع. وأما المنع من الحج عن الغير فإنما يتم مع التمكن من الإتيان بالواجب ، فلو تعذر جازت الاستنابة (١). لجواز تأخير ذلك الواجب الفوري بالعجز عنه ، ومتى جاز التأخير انتفى المنع (٢) من الاستنابة كما هو ظاهر.

وقد قطع الأصحاب بفساد التطوع والحج عن الغير والحال هذه ، وهو إنما يتم إذا ورد فيه نهي على الخصوص ، أو قلنا باقتضاء الأمر بالشي‌ء النهي عن ضده الخاص.

وربما ظهر من صحيحة سعد بن أبي خلف خلاف ذلك ، فإنه قال : سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام عن الرجل الصرورة يحج عن الميت ،

__________________

(١) بأن كان غير متمكنا من الحج بعد استقراره عليه ولو متسكعا ، أو كان غير عالم بالاستطاعة.

(٢) في « م » و « ح » : المانع.

٨٨

وكذا من وجب عليه بنذر أو إفساد.

الرابعة : لا يشترط وجود المحرم في النساء ، بل يكفي غلبة ظنها بالسلامة ،

______________________________________________________

قال : « نعم إذا لم يجد الصرورة ما يحج به عن نفسه ، فإن كان له ما يحج به عن نفسه فليس يجزي عنه حتى يحج من ماله ، وهو يجزي للميت إن كان للصرورة مال وإن لم يكن له مال » (١) والمسألة محل تردد.

قوله : ( وكذا من وجب عليه بنذر أو إفساد ).

الكلام في الواجب بالإفساد كما سبق في حج الإسلام ، لأن ظاهر الأخبار وكلام الأصحاب مساواته له في الفورية. وأما الواجب بالنذر فإنما يتم الحكم فيه إذا كان معينا أو مطلقا وقلنا باقتضاء الإطلاق الفورية ، وإلا أمكن القول بجواز الاستنابة مع الإطلاق ، بل والتطوع أيضا إن لم يثبت النهي عن التطوع ممن في ذمته واجب هنا كما في الصلاة والصوم.

قوله : ( الرابعة ، لا يشترط وجود المحرم في النساء ، بل يكفي غلبة ظنها بالسلامة ).

هذا الحكم مجمع عليه بين الأصحاب ، حكاه في المنتهى (٢). ويدل عليه مضافا إلى الأوامر المطلقة أخبار كثيرة ، كصحيحة معاوية بن عمار ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المرأة تخرج إلى مكة بغير ولي فقال : « لا بأس ، تخرج مع قوم ثقات » (٣).

وصحيحة سليمان بن خالد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في المرأة‌

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣٠٥ ـ ٢ ، التهذيب ٥ : ٤١٠ ـ ١٤٢٧ ، الإستبصار ٢ : ٣١٩ ـ ١١٣١ ، الوسائل ٨ : ١٢١ أبواب النيابة في الحج ب ٥ ح ١.

(٢) المنتهى ٢ : ٦٥٨.

(٣) الكافي ٤ : ٢٨٢ ـ ٥ ، الفقيه ٢ : ٢٦٨ ـ ١٣٠٨ ، الوسائل ٨ : ١٠٩ أبواب وجوب الحج ب ٥٨ ح ٣.

٨٩

______________________________________________________

تريد الحج وليس معها محرم ، هل يصلح لها الحج؟ فقال : « نعم إذا كانت مأمونة » (١).

وصحيحة صفوان الجمال قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : قد عرفتني بعملي ، تأتيني المرأة أعرفها بإسلامها وحبها إياكم وولايتها لكم ليس لها محرم فقال : « إذا جاءت المرأة المسلمة فاحملها ، فإن المؤمن محرم المؤمنة ، ثم تلا هذه الآية ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) (٢) » (٣) والظاهر أن المراد من قوله عليه‌السلام : « المؤمن محرم المؤمنة » أن المؤمن كالمحرم في جواز مرافقته للمرأة.

ومقتضى هذه الروايات الاكتفاء في المرأة بوجود الرفقة المأمونة ، وهي التي يغلب ظنها بالسلامة معها ، فلو انتفى الظن المذكور بأن خافت على النفس أو البضع أو العرض ولم يندفع ذلك إلا بالمحرم اعتبر وجوده قطعا ، لما في التكليف بالحج مع الخوف من فوات شي‌ء من ذلك من الحرج والضرر المنفيين بالآية والرواية ، بل يحتمل قويا اعتبار المحرم في من تشق عليها مخاطبة الأجانب من النساء مشقة شديدة ، دفعا للحرج اللازم من عدم اعتباره.

والمراد بالمحرم هنا الزوج ومن يحرم عليه نكاحها مؤبدا بنسب أو رضاع أو مصاهرة ، ومع الاحتياج إليه يشترط في الوجوب عليها سفره معها ، ولا يجب عليها إجابتها إليه تبرعا ولا بأجرة ، ولو طلب الأجرة وجب عليها دفعها مع القدرة ، لكونها جزء من استطاعتها.

ولو ادعى الزوج الخوف عليها وأنكرت عمل بشاهد الحال مع انتفاء‌

__________________

(١) الكافي ٤ : ٢٨٢ ـ ٤ ، الفقيه ٢ : ٢٦٨ ـ ١٣٠٩ ، الوسائل ٨ : ١٠٨ أبواب وجوب الحج ب ٥٨ ح ٢.

(٢) التوبة : ٧١.

(٣) الفقيه ٢ : ٢٦٨ ـ ١٣٠١ ، الوسائل ٨ : ١٠٨ أبواب وجوب الحج ب ٥٨ ح ١.

٩٠

ولا يصحّ حجها تطوعا إلا بإذن زوجها ، ولها ذلك في الواجب كيف كان ،

______________________________________________________

البينة ، ومع فقدهما يقدم قولها. وفي اعتبار اليمين وجهان ، من أصالة عدم سلطته عليها في ذلك ، ومن أنها لو اعترفت لنفعه اعترافها. وقرب الشهيد في الدروس انتفاء اليمين (١). وهو قريب (٢).

وهل يملك الزوج والحال هذه منعها باطنا؟ قيل : نعم ، لأنه محق عند نفسه (٣) ، وقيل : لا ، لتوجه الوجوب إليها ومخاطبتها بالسفر شرعا لظنها السلامة (٤). ولعل هذا أقرب.

قوله : ( ولا يصح حجها تطوعا إلا بإذن زوجها ).

هذا قول علمائنا أجمع ، بل قال في المنتهى : إنه لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم ، واستدل عليه بأن حق الزوج واجب فلا يجوز لها تفويته بما ليس بواجب (٥) ، وبما رواه ابن بابويه في الموثق ، عن إسحاق بن عمار ، عن أبي إبراهيم عليه‌السلام ، قال : سألته عن المرأة الموسرة قد حجت حجة الإسلام تقول لزوجها حجني (٦) مرة أخرى ، أله أن يمنعها؟ قال : « نعم ، يقول لها : حقي عليك أعظم من حقك عليّ في ذا » (٧).

وقد يقال : إن الدليل الأول إنما يقتضي المنع من الحج إذا استلزم تفويت حق الزوج ، والمدعى أعم من ذلك ، والرواية إنما تدل على أن للزوج المنع ، ولا يلزم منه التوقف على الإذن ، إلا أنه لا خروج عما عليه الأصحاب.

قوله : ( ولها ذلك في الواجب كيف كان ).

__________________

(١) الدروس : ٨٥.

(٢) في « ض » : أقرب.

(٣) كما في المسالك ١ : ٩٢ ، والروضة البهية ٢ : ١٧٠.

(٤) كما في المبسوط ١ : ٣٠٣.

(٥) المنتهى ٢ : ٦٥٩.

(٦) في « م » : حج بي ، وفي المصدر : أحجني.

(٧) الفقيه ٢ : ٢٦٨ ـ ١٣٠٧ ، الوسائل ٨ : ١١٠ أبواب وجوب الحج ب ٥٩ ح ٢.

٩١

وكذا لو كانت في عدّة رجعيّة ،

______________________________________________________

يستفاد من هذا التعميم أنه لا فرق في الواجب بين المضيق وغيره ، وهو‌ كذلك. وربما قيل بأن للزوج المنع في الموسع إلى محل التضييق. وهو ضعيف ، لأصالة عدم سلطنته عليها في ذلك.

ويدل على عدم اعتبار إذن الزوج في حجة الإسلام صريحا روايات ، منها ما رواه ابن بابويه في الصحيح ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن امرأة لها زوج وهي صرورة ولا يأذن لها في الحج ، قال : « تحج وإن لم يأذن لها » (١) قال الصدوق ـ رحمه‌الله ـ بعد نقل هذه الرواية : وفي رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « تحج وإن رغم أنفه » (٢).

قوله : ( وكذا لو كانت في عدّة رجعية ).

المراد أن المعتدة رجعية كالزوجة في توقف حجها المندوب على إذن الزوج دون الواجب. ويدل على الحكمين ما رواه الشيخ في الصحيح ، عن منصور بن حازم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « المطلقة إن كانت صرورة حجت في عدتها ، وإن كانت حجت فلا تحج حتى تنقضي عدتها » (٣) ولعل المراد أنها لا تحج بدون إذنه كما يدل عليه قوله عليه‌السلام في حسنة الحلبي : « لا ينبغي للمطلقة أن تخرج إلا بإذن زوجها حتى تنقضي عدتها » (٤) وفي رواية معاوية بن عمار : « المطلقة تحج في عدتها إن طابت نفس زوجها » (٥).

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٢٦٨ ـ ١٣٠٥ ، الوسائل ٨ : ١١١ أبواب وجوب الحج ب ٥٩ ح ٤.

(٢) الفقيه ٢ : ٢٦٨ ـ ١٣٠٦ ، الوسائل ٨ : ١١١ أبواب وجوب الحج ب ٥٩ ح ٥.

(٣) التهذيب ٥ : ٤٠٢ ـ ١٣٩٩ ، الإستبصار ٢ : ٣١٨ ـ ١١٢٥ ، الوسائل ٨ : ١١٢ أبواب وجوب الحج ب ٦٠ ح ٢.

(٤) الكافي ٦ : ٨٩ ـ ١ ، التهذيب ٨ : ١١٦ ـ ٤٠٢ ، الإستبصار ٣ : ٣٣٣ ـ ١١٨٤ ، الوسائل ١٥ : ٤٣٤ أبواب العدد ب ١٨ ح ١.

(٥) الكافي ٦ : ٩١ ـ ١٢ ، التهذيب ٨ : ١٣١ ـ ٤٥٢ ، الإستبصار ٣ : ٣٣٣ ـ ١١٨٧ ، الوسائل ١٥ : ٤٣٩ أبواب العدد ب ٢٢ ح ٢.

٩٢

وفي البائنة لها المبادرة من دون إذنه.

القول في شرائط ما يجب بالنذر ، واليمين ، والعهد

وشرائطها اثنان :

الأول : كمال العقل ، فلا ينعقد نذر الصبي ، ولا المجنون.

الثاني : الحرية ، فلا يصح نذر العبد إلا بإذن مولاه.

______________________________________________________

قوله : ( وفي البائنة لها ذلك من دون إذنه ).

وذلك لانقطاع العصمة بينه وبينها وصيرورته أجنبيا منها ، فلا تعتبر إذنه كسائر الأجانب. ويدل على جواز الحج لها مطلقا في عدة الوفاة ما رواه ابن بابويه في الصحيح ، عن زرارة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أنه سأله عن التي يتوفى عنها زوجها ، أتحج في عدتها؟ قال : « نعم » (١).

قوله : ( القول في شرائط ما يجب بالنذر واليمين والعهد ).

هذه الشرائط مذكورة على التفصيل في كتاب الإيمان والنذور ، وقد جرت عادة الأصحاب بذكر طرف منها في هذا الباب. واعلم أنه لا يشترط في الحج الواجب بالنذر وما في معناه شرائط حج الإسلام ، بل يكفي في وجوبه التمكن منه من غير مشقة شديدة.

قوله : ( وشرائطها اثنان ).

أي : شرائط النذر والعهد واليمين.

قوله : ( الأول ، كمال العقل ، فلا ينعقد نذر الصبي ولا المجنون ).

هذا مما لا خلاف فيه بين العلماء ، لارتفاع القلم عنهما ، وسقوط حكم عبادتهما ، وكما لا ينعقد نذرهما لا ينعقد يمينهما ولا عهدهما.

قوله : ( الثاني الحرية ، فلا يصح نذر العبد إلا بإذن مولاه ).

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٢٦٩ ـ ١٣١٢ ، الوسائل ٨ : ١١٣ أبواب وجوب الحج ب ٦١ ح ٢.

٩٣

ولو أذن له في النذر فنذر وجب وجاز له المبادرة ولو نهاه. وكذا الحكم في ذات البعل.

______________________________________________________

لا يخفى ما في عنوان هذا الشرط من القصور وعدم الملائمة للتفريع ، وكان الأولى جعل الشرط الحرية أو إذن المولى. وقد أجمع الأصحاب على أن المملوك لا يصح نذره ولا يمينه ولا عهدة إلا بإذن مولاه. ويدل عليه مضافا إلى عموم ما دل على الحجر عليه (١) صحيحة منصور بن حازم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يمين لولد مع والده ، ولا لمملوك مع مولاه ، ولا للمرأة مع زوجها » (٢) وغير ذلك من الأخبار.

قوله : ( ولو أذن له في النذر وجب وجاز له المبادرة ولو نهاه ).

المراد أن المولى إذا أذن لمملوكه في النذر أو ما في معناه فأتى به وقع صحيحا ، ووجب على المملوك الوفاء به ، وجاز له المبادرة إلى الإتيان بالواجب إذا كان وقته موسعا ولو نهاه المولى عن ذلك ، وهو كذلك ، تمسكا بأصالة عدم سلطنة المولى في الواجب.

وجزم العلامة في المنتهى بأنه يجب على المولى إعانة المملوك على أداء الحج بالحمولة إن احتاج إليها ، لأنه السبب في شغل ذمته (٣). وهو غير واضح ، لأن سببيته في شغل الذمة لا تقتضي ذلك. نعم لو قيل بوجوب تمكينه من تحصيل ما يتوقف عليه الحج لتوقف الواجب (٤) عليه كان وجها قويا.

قوله : ( وكذا الحكم في ذات البعل ).

__________________

(١) الوسائل ١٣ : ١٤٤ أبواب الحج ب ٤ وص ٤٦٦ أبواب الوصايا ب ٧٨.

(٢) الكافي ٧ : ٤٤٠ ـ ٦ ، الفقيه ٣ : ٢٢٧ ـ ١٠٧٠ ، التهذيب ٨ : ٢٨٥ ـ ١٠٥٠ ، الوسائل ١٦ : ١٥٥ أبواب الأيمان ب ١٠ ح ٢.

(٣) المنتهى ٢ : ٨٧٥.

(٤) في « م » : السبب.

٩٤

مسائل ثلاث :

الأولى : إذا نذر الحج مطلقا فمنعه مانع أخّره حتى يزول المانع.

______________________________________________________

أي : لا يصح نذرها إلا بإذن بعلها ، ومتى أذن لها في النذر فنذرت وجب‌ وجاز لها المبادرة ولو نهاها.

والوجه في هذه الأحكام معلوم مما سبق ، لكن يمكن المناقشة في توقف نذر الزوجة على إذن الزوج ، لأن الروايات إنما تضمنت توقف اليمين على ذلك ، والنذر خلاف اليمين.

وقد يقال إن نذر الزوجة وإن لم يتوقف على إذن الزوج على وجه العموم لكن يجب اعتبار الإذن هنا من حيث إن من شرائط المنذور أن يكون مشروعا قبل النذر ، وقد تقدم أن حج المرأة تطوعا إنما يصح بإذن زوجها (١).

ويتوجه عليه أن اللازم من ذلك اعتبار الإذن في الحج لا النذر ، وأحدهما غير الآخر.

ولم يذكر المصنف حكم توقف يمين الولد وعهده ونذره على إذن الوالد ، ولا ريب في توقف اليمين على الإذن ، للأخبار الصحيحة الدالة عليه (٢). وفي النذر والعهد قولان ، يلتفتان إلى اختصاص النص باليمين ، وإلى إطلاق اليمين على النذر في بعض الروايات فيثبت له حكمه. لكن لا يخفى ضعف الوجه الثاني ، لأن الإطلاق أعم من الحقيقة. وسيجي‌ء تمام الكلام في ذلك مفصلا إن شاء الله تعالى.

قوله : ( الأولى ، إذا نذر الحج مطلقا فمنعه مانع أخّره حتى يزول المانع ).

المراد بنذر الحج مطلقا : عدم تعيينه بوقت مقابل الوقت (٣) الذي‌

__________________

(١) في ص ٩١.

(٢) الوسائل ١٦ : ١٥٥ أبواب الأيمان ب ١٠ وص ٢٣٧ أبواب النذر والعهد ب ١٥.

(٣) في « ض » : القيد.

٩٥

ولو تمكن من أدائه ثم مات قضي عنه من أصل تركته. ولا يقضى عنه قبل التمكن.

______________________________________________________

بعده ، وقد قطع الأصحاب بأن من نذر الحج مطلقا يجوز له تأخيره إلى أن يتضيق وقته بظن الوفاة ، بل قال الشارح قدس‌سره : إنه لا خلاف فيه (١).

واضح ، إذ ليس في الأدلة النقلية ما يدل على اعتبار الفورية ، والأمر المطلق إنما يدل على طلب الماهية من غير إشعار بفور ولا تراخ ، كما بيناه مرارا.

وإنما قيد المصنف التأخير بالمانع ليترتب عليه ما بعده من الفروع ، وذكر الشارح ـ قدس‌سره ـ أن وجه التقييد دفع توهم بطلان النذر مع المانع لكون المنذور غير مقدور عليه حينئذ ، وذلك لأن المعتبر في بطلانه سلب القدرة في جميع الأوقات التي تدخل تحت الإطلاق (٢). وهذا الوهم بعيد جدا ، ودفعه بهذا التقييد أبعد. والمتجه ما ذكرناه.

قوله : ( ولو تمكن من أدائه ثم مات قضي عنه من أصل تركته ، ولا يقضى عنه قبل التمكن ).

أما أنه لا يقضى عنه إذا مات قبل التمكن من أدائه فظاهر ، للأصل السالم من المعارض.

وأما وجوب قضائه من أصل التركة إذا مات بعد التمكن من الحج فمقطوع به في كلام أكثر الأصحاب ، واستدلوا عليه بأنه واجب مالي ثابت في الذمة فيجب قضاؤه من أصل ماله كحج الإسلام ، وهو استدلال ضعيف ، أما أولا فلأن النذر إنما اقتضى وجوب الأداء ، والقضاء يحتاج إلى أمر جديد كما في حج الإسلام ، وبدونه يكون منفيا بالأصل السالم من المعارض.

وأما ثانيا فلمنع كون الحج واجبا ماليا ، لأنه عبارة عن المناسك المخصوصة ، وليس بذل المال داخلا في ماهيته ولا في ضرورياته ، وتوقفه‌

__________________

(١) المسالك ١ : ٩٣.

(٢) المسالك ١ : ٩٣.

٩٦

فإن عين الوقت فأخل [ به ] مع القدرة قضي عنه. وإن منعه عارض لمرض أو عدو حتى مات لم يجب قضاؤه عنه.

______________________________________________________

عليه في بعض الصور كتوقف الصلاة عليه على بعض الوجوه ، كما إذا احتاج إلى شراء الماء واستيجار المكان والساتر ونحو ذلك مع القطع بعدم وجوب قضائها من التركة.

وذهب جمع من الأصحاب إلى وجوب قضاء الحج المنذور من الثلث ، ومستنده غير واضح أيضا.

وبالجملة فالنذر إنما تعلق بفعل الحج مباشرة ، وإيجاب قضائه من الأصل أو الثلث يتوقف على الدليل. وسيجي‌ء تمام الكلام في ذلك إن شاء الله عند ذكر المصنف الخلاف في المسألة (١).

قوله : ( فإن عيّن الوقت فأخل به مع القدرة قضي عنه ، وإن منعه عارض كمرض أو عدو حتى مات لم يجب قضاؤه عنه ).

إذا نذر الحج في وقت معيّن وجب على الناذر الإتيان به في ذلك الوقت مع الإمكان ، فإن أخل به مع القدرة وجب عليه الكفارة والقضاء فيما قطع به الأصحاب. ويتوجه على وجوب القضاء ما سبق من الإشكال.

ولو لم يتمكن الناذر من الإتيان بالمنذور بأن منعه عارض كمرض أو عدو حتى مات لم يجب قضاؤه عنه إجماعا ، تمسكا بمقتضى الأصل السالم من المعارض.

ولا يخفى أن طرو المانع من فعل المنذور في وقته لا يقتضي بطلان النذر ، لوقوعه صحيحا ابتداء وإن سقط الواجب بالعجز عنه ، وهذا بخلاف نذر غير المقدور ابتداء كالطيران ونحوه ، فإن النذر يقع فاسدا من أصله كما هو واضح.

__________________

(١) في ص ١٥٢.

٩٧

ولو نذر الحج أو أفسد حجه وهو معضوب ، قيل : يجب أن يستنيب ، وهو حسن.

الثانية : إذا نذر الحج ، فإن نوى حجة الإسلام تداخلا ،

______________________________________________________

قوله : ( ولو نذر الحج أو أفسد حجه وهو معضوب قيل : يجب أن يستنيب ، وهو حسن ).

الظاهر أن قوله : وهو معضوب ، جملة حالية من فاعل نذر وأفسد فيفيد اعتبار وقوع النذر والإفساد في حال العضب. والقول بوجوب الاستنابة فيهما للشيخ (١) وأتباعه ، وهو متوجه في الإفساد إن قلنا إن الثانية حجة الإسلام ، لما بيناه فيما سبق من وجوب الاستنابة فيها مع العضب.

وأما في النذر فمشكل ، أما أولا فلسقوط الواجب بالعجز عنه ، واختصاص الروايات المتضمنة لوجوب الاستنابة بحج الإسلام (٢).

وأما ثانيا فلأن النذر إذا وقع في حال العضب فإن كان مقيدا بوقت معين واستمر المانع إلى ذلك الوقت بطل النذر ، وإن كان مطلقا توقع المكنة ، ومع اليأس يبطل ، ولا تجب الاستنابة في الصورتين ، نعم لو لاحظ في نذره الاستنابة وجبت قولا واحدا.

ولو حصل العضب بعد النذر والتمكن من الفعل فقد قطع الشارح (٣) وغيره (٤) بوجوب الاستنابة ( في الصورتين ) (٥) ونحن نطالبهم بدليله.

قوله : ( الثانية ، إذا نذر الحج ، فإن نوى حجة الإسلام تداخلا ،

__________________

(١) المبسوط ١ : ٢٩٩.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٣ أبواب وجوب الحج ب ٢٤.

(٣) المسالك ١ : ٩٣.

(٤) كالشهيد في الدروس : ٨٤.

(٥) ما بين القوسين ليس في « م ».

٩٨

وإن نوى غيرها لم يتداخلا. وان أطلق ، قيل : إن حج ونوى النذر أجزأه عن حجة الإسلام ، وإن نوى حجة الإسلام لم يجز عن النذر ، وقيل : لا يجزي إحداهما عن الأخرى ، وهو الأشبه.

______________________________________________________

وإن نوى غيرها لم يتداخلا ، وأن أطلق قيل : إن حج ونوى النذر أجزأه عن حجة الإسلام ، وإن نوى حجة الإسلام لم يجز عن النذر ، وقيل : لا تجزي إحداهما عن الأخرى. وهو الأشبه ).

إذا نذر المكلف الحج ، فإما أن ينوي حجة الإسلام ، أو غيرها ، أو يطلق بأن لا ينوي شيئا منهما ، فالصور ثلاث :

الأولى : أن ينذر حج الإسلام ، والأصح انعقاد نذره للعموم ، وفائدة النذر زيادة الانبعاث على الفعل ، ووجوب الكفارة مع تأخيره عن الوقت المعين. وإنما يجب الحج مع الاستطاعة كما لو تجرد عن النذر ، ولا يجب تحصيلها قطعا ، لأن المنذور ليس أمرا زائدا على حج الإسلام ، إلا أن ينذر تحصيلها فيجب. ولو قيد النذر بسنة معيّنة فتخلفت الاستطاعة عنها بطل النذر.

الثانية : أن ينذر حجا غير حجة الإسلام ، ولا ريب في عدم التداخل على هذا التقدير.

ثم إن كان مستطيعا حال النذر وكانت حجة النذر مطلقة أو مقيدة بزمان متأخر عن ذلك العام قدّم حج الإسلام ، وإن قيدها بسنة الاستطاعة وقصد الحج عن النذر مع بقاء الاستطاعة بطل النذر من أصله ، لأنه نذر ما لا يصح فعله ، وإن قصد الحج مع فقد الاستطاعة صح ، ولو خلا عن القصد احتمل البطلان ، لأنه نذر في عام الاستطاعة غير حج الإسلام ، والصحة حملا للنذر على الوجه المصحح ، وهو ما إذا فقدت الاستطاعة.

وإن تقدم النذر على الاستطاعة وجب الإتيان بالمنذور مع القدرة وإن لم تحصل الاستطاعة الشرعية كما في غيره من الواجبات.

ولو اتفق حصول الاستطاعة قبل الإتيان بالحج المنذور قدمت حجة‌

٩٩

______________________________________________________

الإسلام إن كان النذر مطلقا أو مقيدا بما يزيد عن تلك السنة أو بمغايرها ، لأن وجوبها على الفور بخلاف المنذورة على هذا الوجه ، وإلا قدّم النذر ، لعدم تحقق الاستطاعة في تلك السنة ، لأن المانع الشرعي كالمانع العقلي. وعلى هذا فيراعى في وجوب حج الإسلام بقاء الاستطاعة إلى السنة الثانية.

واعتبر الشهيد في الدروس في حج النذر الاستطاعة الشرعية ، وحكم بتقديم حج النذر مع حصول الاستطاعة بعده وإن كان مطلقا (١). وكلا الحكمين مشكل ، أما الأول فلأن الاستطاعة بهذا المعنى إنما ثبت اعتبارها في حج الإسلام ، وغيره من الواجبات يراعى فيه التمكن من الفعل خاصة.

وأما الثاني فلأن النذر المطلق موسع وحجة الإسلام مضيقة ، والمضيق مقدم على الموسع.

الثالثة : أن يطلق النذر ، بأن لا يقصد حجة الإسلام ولا غيرها. وقد اختلف الأصحاب في هذه المسألة ، فذهب الأكثر ومنهم الشيخ في الجمل والخلاف (٢) وابن البراج (٣) وابن إدريس (٤) إلى أن حكمها كالثانية ، تعويلا على أن اختلاف السبب يقتضي اختلاف المسبب. وهو احتجاج ضعيف ، فإن هذا الاقتضاء إنما يتم في الأسباب الحقيقية دون المعرفات الشرعية ، ولذا حكم كل من قال بانعقاد نذر الواجب بالتداخل إذا تعلق النذر بحج الإسلام من غير التفات إلى اختلاف الأسباب.

وقال الشيخ في النهاية : إن نوى حج النذر أجزأ عن حج الإسلام ، وإن نوى حجة الإسلام لم يجزئه عن المنذورة (٥). ومرجع هذا القول إلى التداخل مطلقا ، وإنما لم يكن الحج المنوي به حج الإسلام خاصة مجزيا‌

__________________

(١) الدروس : ٨٦.

(٢) الجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : ٢٢٤ ، والخلاف ١ : ٤٧٨.

(٣) المهذب ١ : ٢٦٨ ، وجواهر الفقه ( الجوامع الفقهية ) : ٤٨٠.

(٤) السرائر : ١٢١.

(٥) النهاية : ٢٠٥.

١٠٠