مدارك الأحكام - ج ٧

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي

مدارك الأحكام - ج ٧

المؤلف:

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٠

ولو دخل الصبيّ المميز والمجنون في الحجّ ندبا ثم كمل كل واحد منهما وأدرك المشعر أجزأ عن حجة الإسلام على تردد.

______________________________________________________

قول العلماء كافة (١). ويدل عليه مضافا إلى استحالة توجه الخطاب إلى غير الكامل قوله عليه‌السلام : « رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق » (٢).

وأما إنهما إذا حجا أو حج عنهما فزال نقصهما بعد انقضاء الحج لم يجزهما عن حجة الإسلام فقال في المنتهى : إنه لا يعرف فيه خلافا (٣). ويدل عليه روايات كثيرة ، منها ما رواه ابن بابويه في الصحيح ، عن صفوان ، عن إسحاق بن عمار ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن ابن عشر سنين يحج؟ قال : « عليه حجة الإسلام إذا احتلم ، وكذلك الجارية عليها الحج إذا طمثت » (٤).

وما رواه الشيخ ، عن مسمع بن عبد الملك ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « ولو أنّ غلاما حج عشر سنين ثم احتلم كانت عليه فريضة الإسلام » (٥).

وعن شهاب ، قال : سألته عن ابن عشر سنين يحج؟ قال : « عليه حجة الإسلام إذا احتلم ، وكذلك الجارية عليها الحج إذا طمثت » (٦).

قوله : ( ولو دخل الصبي المميز والمجنون في الحج ندبا ثم كمل كل واحد منهما وأدرك المشعر أجزأ عن حجة الإسلام على تردد ).

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٧٤٧.

(٢) الخصال : ١٧٥ ـ ٢٣٣ ، الوسائل ١ : ٣٢ أبواب مقدمة العبادات ب ٤ ح ١١.

(٣) المنتهى ٢ : ٦٤٨.

(٤) الفقيه ٢ : ٢٦٦ ـ ١٢٩٦ ، الوسائل ٨ : ٣٠ أبواب وجوب الحج وشرائطه ب ١٢ ح ١.

(٥) التهذيب ٥ : ٦ ـ ١٥ ، الإستبصار ٢ : ١٤٦ ـ ٤٧٧ ، الوسائل ٨ : ٣٠ أبواب وجوب الحج وشرائطه ب ١٣ ح ٢.

(٦) الكافي ٤ : ٢٧٦ ـ ٨ ، التهذيب ٥ : ٦ ـ ١٤ ، الإستبصار ٢ : ١٤٦ ـ ٤٧٦ ، الوسائل ٨ : ٣٠ أبواب وجوب الحج وشرائطه ب ١٢ ح ٢.

٢١

______________________________________________________

إذا دخل الصبي المميز أو المجنون في الحج ندبا ثم كمل في أثنائه ، فإن كان بعد الوقوف بالموقفين أتم تطوعا ، ولم يجزيه عن حجة الإسلام إجماعا ، قاله في التذكرة (١) ، لأصالة عدم إجزاء المندوب عن الواجب. وإن أدرك المشعر كاملا فقد ذكر الشيخ وأكثر الأصحاب أنه يدرك الحج بذلك ويجزيه عن حجة الإسلام (٢) ، ونقل فيه في التذكرة الإجماع ، واستدل عليه بالروايات المتضمنة للإجزاء في العبد إذا أدرك المشعر معتقا (٣). وهو قياس مع الفارق.

واستدل عليه في المنتهى بأنه زمان يصح إنشاء الحج فيه فكان مجزيا بأن يجدد فيه نية الوجوب (٤).

ويتوجه عليه أن جواز إنشاء الحج في ذلك الزمان على بعض الوجوه بنص خاص لا يقتضي إلحاق غيره به ، خصوصا مع مصادمته لمقتضى الأصل من عدم إجزاء المندوب عن الواجب. ومن ثم تردد في ذلك المصنف رحمه‌الله هنا وفي المعتبر (٥) وهو في محله. ثم إن قلنا بالإجزاء فيجب تجديد نية الوجوب لباقي الأفعال.

وهل يعتبر فيه كون الصبي أو المجنون مستطيعا قبل ذلك الحج من حيث الزاد والراحلة؟ قيل : نعم ، وبه قطع الشهيدان (٦) ، لأن البلوغ والعقل أحد الشرائط الموجبة ، كما إنّ الاستطاعة كذلك ، فوجود أحدهما دون الآخر‌

__________________

(١) التذكرة ١ : ٢٨٣.

(٢) النهاية : ٢٠٢.

(٣) التذكرة ١ : ٢٩٩.

(٤) المنتهى ٢ : ٦٤٩.

(٥) المعتبر ٢ : ٧٤٩.

(٦) الشهيد الأول في الدروس : ٨٣ ، والشهيد الثاني في المسالك ١ : ٨٧ ، والروضة ٢ : ١٦٥.

٢٢

ويصحّ إحرام الصبي المميّز وإن لم يجب عليه.

______________________________________________________

غير كاف في الوجوب ، وقيل : لا (١) ، وهو ظاهر الأكثر ، حيث لم يتعرضوا لاشتراط ذلك ، تمسكا بالإطلاق ، والتفاتا إلى النصوص الصحيحة المتضمنة للإجزاء في العبد إذا أدرك المشعر معتقا ، مع امتناع الاستطاعة السابقة في حقه عند من قال بإحالة ملكه.

ثم إن قلنا باعتبار الاستطاعة فيكفي حصولها من الميقات ، بل لا يبعد الاكتفاء بحصولها من حين التكليف ، وظاهر الشهيدين اعتبار حصولها من البلد (٢) ، وهو غير واضح لما سنبينه إن شاء الله تعالى من عدم اعتبار ذلك مطلقا.

واعلم أنّ إطلاق كلام الأصحاب يقتضي عدم الفرق في الإجزاء عند القائلين به بين حج التمتع وغيره ، وهو ظاهر اختيار الشهيد في الدروس حيث قال : ويعتد بالعمرة المتقدمة لو كان الحج تمتعا في ظاهر الفتوى (٣). ونقل عن شارح ترددات الكتاب أنه قوّى اختصاص ذلك بالقارن والمفرد ، استبعادا لإجزاء العمرة الواقعة بتمامها على وجه الندب عن الواجب (٤) ، ولا بأس به قصرا لما خالف الأصل على موضع الوفاق إن تم ، وإلا اتجه عدم الإجزاء مطلقا.

قوله : ( ويصح إحرام الصبي المميّز وإن لم يجب عليه ).

أما انتفاء الوجوب عليه فقد تقدم الكلام فيه ، وأما صحة إحرامه فظاهر التذكرة والمنتهى أنه لا خلاف فيه بين العلماء (٥) ، ويدل عليه روايات كثيرة سيجي‌ء طرف منها إن شاء الله في غضون هذا الباب. وإنما يصح إحرام الصبي المميز مع إذن وليه ، لأن الإحرام عقد يؤدي إلى لزوم مال ، فجرى‌

__________________

(١) قاله العلامة في التبصرة : ٨٦.

(٢) الشهيد الأول في الدروس : ٨٣ ، والشهيد الثاني في المسالك ١ : ٨٧.

(٣) الدروس : ٨٣.

(٤) المسالك ١ : ٨٧.

(٥) التذكرة ١ : ٢٩٧ ، والمنتهى ٢ : ٦٤٨.

٢٣

ويصح أن يحرم عن غير المميز وليه ندبا ، وكذا المجنون.

______________________________________________________

مجرى سائر عقوده التي لا تصح إلا بإذن وليه.

واختلف الأصحاب في توقف الحج المندوب من الولد البالغ على إذن الأب أو الأبوين ، فأطلق الشيخ عدم اعتبار استئذانهما (١) ، وهو ظاهر اختيار الشهيد في الدروس (٢). واعتبر العلامة في القواعد إذن الأب خاصة (٣) ، وقوى الشارح توقفه على إذن الأبوين (٤). وقال في الروضة : إنّ عدم اعتبار إذنهما حسن إذا لم يكن الحج مستلزما للسفر المشتمل على الخطر ، وإلا فالاشتراط أحسن (٥). ولم أقف في هذه المسألة على نص بالخصوص ، ومقتضى الأصل عدم الاشتراط ، والواجب المصير إليه إلى أن يثبت المخرج عنه.

قوله : ( ويصح أن يحرم عن غير المميز وليه ندبا ، وكذا المجنون ).

ليس المراد بإحرام الولي عن غير المميز والمجنون كونه نائبا عنهما في ذلك ، بل جعلهما محرمين ، سواء كان هو محلا أو محرما ، كما صرح به الأصحاب ، ونطقت به الأخبار ، كصحيحة زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام : قال : « إذا حج الرجل بابنه وهو صغير فإنه يأمره أن يلبّي ويفرض الحج ، فإن لم يحسن أن يلبي لبوا عنه ، ويطاف به ، ويصلى عنه » قلت : ليس لهم ما يذبحون عنه ، قال : « يذبح عن الصغار ويصوم الكبار ، ويتقى ما يتقي المحرم من الثياب والطيب ، فإن قتل صيدا فعلى أبيه » (٦).

__________________

(١) الخلاف ١ : ٤٩٥.

(٢) الدروس : ٨٢.

(٣) القواعد ١ : ٧٣.

(٤) المسالك ١ : ٨٧.

(٥) الروضة البهية ٢ : ١٦٤.

(٦) الكافي ٤ : ٣٠٣ ـ ١ ، الفقيه ٢ : ٢٦٥ ـ ١٢٩١ ، التهذيب ٥ : ٤٠٩ ـ ١٤٢٤ ، الوسائل ٨ : ٢٠٨ أبواب أقسام الحج ب ١٧ ح ٥.

٢٤

______________________________________________________

وصحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « انظروا من كان معكم من الصبيان فقدموه إلى الجحفة ، أو إلى بطن مرو ، يصنع بهم ما يصنع بالمحرم ، ويطاف بهم ، ويرمى عنهم ، ومن لم يجد الهدي فليصم عنه وليه » (١).

ويستفاد من هاتين الروايتين وما في معناهما أنّ الولي يأمر الصبي بالتلبية ، فإن لم يحسنها لبى عنه ، ثم يلبسه ثوبي الإحرام ، ويجنبه ما يجتنبه المحرم ، ويحضره الموقفين ومنى ، ويرمي عنه إن لم يحسن الرمي ، ويطوف به إن لم يتمكن من المباشرة ، وإذا طاف به فليكونا متطهرين ، واحتمل في الدروس الاجتزاء بطهارة الولي (٢). ولا يخلو من قوة.

ولو أركبه دابة فيه أو في السعي قيل : وجب كونه سائقا به أو قائدا ، إذ لا قصد لغير المميز (٣).

وينبغي القطع بجواز الاستنابة في ذلك ، لإطلاق الأمر بالطواف به ، ولصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام المتضمنة لكيفية حج الصبيان حيث قال فيها : « ثم مروا الخادم أن يطوف به بالبيت وبين الصفا والمروة » (٤).

ويستفاد من إطلاق الأمر بالصلاة عن الصبي أنه لا يؤمر بإيقاع صورة الصلاة كما يؤمر بالإتيان بالطواف ، واحتمل في الدروس أمره بالإتيان بصورة‌

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣٠٤ ـ ٤ ، الفقيه ٢ : ٢٦٦ ـ ١٢٩٤ ، التهذيب ٥ : ٤٠٩ ـ ١٤٢٣ ، الوسائل ٨ : ٢٠٧ أبواب أقسام الحج ب ١٧ ح ٣.

(٢) الدروس : ٨٢.

(٣) قال به الشهيد الأول في الدروس : ٨٢.

(٤) الكافي ٤ : ٣٠٠ ـ ٥ ، التهذيب ٥ : ٤١٠ ـ ١٤٢٥ ، الوسائل ٨ : ٢٠٧ أبواب أقسام الحج ب ١٧ ح ١ ، في الكافي والوسائل بتفاوت يسير.

٢٥

والوليّ : هو من له ولاية المال ، كالأب ، والجدّ للأب ، والوصيّ. وقيل : للأمّ ولاية الإحرام بالطفل.

______________________________________________________

الصلاة أيضا كالطواف (١). وهو غير بعيد ، إلا أن ظاهر النص الفرق بين الأمرين.

واعلم أنّ ما وقفت عليه في هذه المسألة من الروايات مختص بالصبي (٢) ، ولا ريب أن الصبية في معناه.

وألحق به الأصحاب المجنون ، واستدل عليه في المنتهى بأنه ليس أخفض حالا منه (٣). وهو مشكل ، لأنه قياس مع الفارق.

قوله : ( والولي من له ولاية المال ، كالأب والجد للأب والوصي ).

أما ولاية الأب والجد للأب في ذلك فقال في التذكرة : إنه قول علمائنا أجمع (٤) ، وفي الأخبار دلالة عليه. وأما ولاية الوصي فمقطوع بها في كلام الأصحاب ، واستدل عليه بأن له ولاية المال على الطفل فكان له ولاية الإذن في الحج. وهو حسن ، وفي النصوص بإطلاقها دلالة عليه أيضا.

وربما ظهر من قول المصنف رحمه‌الله : والولي من له ولاية المال ، ثبوت الولاية في ذلك للحاكم أيضا ، ونقل عن الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في بعض كتبه التصريح بذلك (٥) ، ولا بأس به لأنه كالوصي.

قوله : ( وقيل ، للأم ولاية الإحرام بالطفل ).

القول للشيخ (٦) ـ رحمه‌الله ـ وأكثر الأصحاب ، واستدلوا عليه بما رواه‌

__________________

(١) الدروس : ٨٢.

(٢) الوسائل ٨ : ٢٠٧ أبواب أقسام الحج ب ١٧.

(٣) المنتهى ٢ : ٦٤٩.

(٤) التذكرة ١ : ٢٨١.

(٥) المبسوط ١ : ٣٢٨.

(٦) المبسوط ١ : ٣٢٩.

٢٦

ونفقته الزائدة تلزم الولي دون الطفل.

______________________________________________________

الشيخ في الصحيح ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال ، سمعته يقول : « مر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برويثة وهو حاج ، فقامت إليه امرأة ومعها صبي لها ، فقالت يا رسول الله : أيحج عن مثل هذا؟ قال : نعم ، ولك أجره » (١) ولا يضاف إليها الأجر إلا لتبعيته لها في الأفعال. وقال ابن إدريس : لا ولاية لها في ذلك ، لانتفاء ولايتها في المال والنكاح ، فتنتفي هنا (٢). وقواه فخر المحققين (٣). وهو مدفوع بالرواية المتقدمة.

قوله : ( ونفقته الزائدة تلزم الولي دون الطفل ).

المراد بها : ما يغرمه زائدا عما كان يغرمه لو كان حاضرا في بلده ، كأجرة الدابة ، وآلات السفر ، ونحوهما. وإنما كانت النفقة الزائدة على الولي لأنه غرم أدخله عليه فلزمه بالتسبيب ، ولأن الولي يلزمه كفارة الصيد على ما تضمنته صحيحة زرارة المتقدمة (٤) فالنفقة أولى.

وألحق الأكثر بالنفقة الزائدة الفدية التي تلزم المكلف في حالتي العمد والخطأ ، وهي كفارة الصيد. وجزم في التذكرة بلزومها للصبي للزومها بجنايته ، فكان كما لو أتلف مال غيره (٥). وتدفعه صحيحة زرارة.

واختلف الأصحاب أيضا فيما يختلف حكم عمده وسهوه في البالغ ، كالوطء واللبس إذا تعمده الصبي ، فقال الشيخ رحمه‌الله : الظاهر أنه تتعلق به الكفارة على وليه ، وإن قلنا لا يتعلق به شي‌ء لما روي عنهم‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٦ ـ ١٦ ، الإستبصار ٢ : ١٤٦ ـ ٤٧٨ ، الوسائل ٨ : ٣٧ أبواب وجوب الحج وشرائطه ب ٢٠ ح ١.

(٢) السرائر : ١٥٠.

(٣) إيضاح الفوائد ١ : ٢٦٤.

(٤) في ص ٢٤.

(٥) التذكرة ١ : ٢٩٧.

٢٧

الثاني : الحريّة ، فلا يجب على المملوك ولو أذن له مولاه. ولو تكلّفه بإذنه صحّ حجّه ، لكن لا يجزيه عن حجة الإسلام.

______________________________________________________

عليهم‌السلام : « إنّ عمد الصبي وخطأه واحد » (١) والخطأ في هذه الأشياء لا يتعلق به كفارة من البالغين كان قويا (٢). وهو جيد لو ثبت اتحاد عمد الصبي وخطائه على وجه العموم ، لكنه غير واضح ، لأن ذلك إنما ثبت في الديات خاصة.

وقيل بالوجوب ، تمسكا بالإطلاق ، ونظرا إلى أن الولي يجب عليه منع الصبي عن هذه المحظورات ، ولو كان عمده خطأ لما كان وجب عليه المنع ، لأن الخطأ لا يتعلق به حكم ، ولا يجب المنع منه (٣). والمسألة محل تردد ، وإن كان الأقرب عدم الوجوب اقتصارا فيما خالف الأصل على موضع النص وهو الصيد.

وذكر الشيخ ـ رحمه‌الله ـ أنه يتفرع على الوجهين ما لو وطئ قبل أحد الموقفين متعمدا ، فإن قلنا إنّ عمده وخطأه سواء لم يتعلق به فساد الحج ، وإن قلنا إن عمده عمد فسد حجه ولزمه القضاء. ثم قال : والأقوى الأول ، لأن إيجاب القضاء يتوجه إلى المكلف ، وهذا ليس بمكلف (٤). وهو جيد.

ثم إن قلنا بالإفساد فلا يجزئه القضاء حتى يبلغ ( فيما قطع به الأصحاب ، ولا يجزئه عن حج الإسلام ) (٥) إلا أن يكون بلغ في الفاسد قبل الوقوف بالمشعر أن اجتزأنا بذلك.

قوله : ( الثاني ، الحرية ، فلا يجب على المملوك وإن أذن له مولاه ، ولو تكلّفه بإذنه صح حجه ، لكن لا يجزيه عن حجة

__________________

(١) التهذيب ١٠ : ٢٣٣ ـ ٩٢٠ ، الوسائل ١٩ : ٣٠٧ أبواب العاقلة ب ١١ ح ٢.

(٢) المبسوط ١ : ٣٢٩.

(٣) قال به العلامة في التذكرة ١ : ٢٩٧.

(٤) المبسوط ١ : ٣٢٩.

(٥) بدل ما بين القوسين في « ض » : ولا يجزي حج الإسلام.

٢٨

______________________________________________________

الإسلام ).

أما عدم وجوب الحج على المملوك وإن أذن له مولاه ، فقال في‌المعتبر : إنّ عليه إجماع العلماء (١). ويدل عليه روايات ، منها رواية آدم بن علي ، عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : « ليس على المملوك حج ولا عمرة حتى يعتق » (٢).

وأما إنه إذا تكلف الحج بإذن مولاه يصح حجه ولا يجزئه عن حجة الإسلام ، فقال في المنتهى : إنه قول كل من يحفظ عنه العلم (٣). ويدل عليه روايات كثيرة ، كصحيحة علي بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام ، قال : « المملوك إذا حج ثم عتق فإن عليه إعادة الحج » (٤).

وصحيحة عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « المملوك إذا حج وهو مملوك ثم مات قبل أن يعتق أجزأه ذلك ، وإن أعتق أعاد الحج » (٥).

ورواية إسحاق بن عمار ، قال : سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن أم الولد يكون الرجل قد أحجها ، أيجزيها ذلك عن حجة الإسلام؟ قال : « لا » قلت : لها أجر في حجتها ، قال : « نعم » (٦).

ولا ينافي ذلك ما رواه الشيخ عن حكم الصيرفي ، قال : سمعت أبا‌

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٧٤٩.

(٢) التهذيب ٥ : ٤ ـ ٥ ، الوسائل ٨ : ٣٢ أبواب وجوب الحج ب ١٥ ح ٤ ، بتفاوت يسير.

(٣) المنتهى ٢ : ٦٥٠.

(٤) التهذيب ٥ : ٤ ـ ٧ ، الإستبصار ٢ : ١٤٧ ـ ٤٧٩ ، الوسائل ٨ : ٣٣ أبواب وجوب الحج ب ١٦ ح ٣.

(٥) التهذيب ٥ : ٤ ـ ٨ ، الإستبصار ٢ : ١٤٧ ـ ٤٨٠ ، الوسائل ٨ : ٣٣ أبواب وجوب الحج ب ١٦ ح ٤.

(٦) الفقيه ٢ : ٢٦٥ ـ ١٢٨٨ ، التهذيب ٥ : ٥ ـ ١٠ ، الإستبصار ٢ : ١٤٧ ـ ٤٨٢ ، الوسائل ٨ : ٣٤ أبواب وجوب الحج ب ١٦ ح ٦.

٢٩

فإن أدرك الوقوف بالمشعر معتقا أجزأه.

______________________________________________________

عبد الله عليه‌السلام يقول : « أيما عبد حج به مواليه فقد قضى حجة الإسلام » (١) لأنا نجيب عنه بالحمل على من استمر به العبودية إلى وفاته ، أو على من أدرك العتق قبل الوقوف ، كما ذكره العلامة في المنتهى ، قال : لأن الأمّة لم تخالف في هذا الحكم ، فيحمل مثل هذا الخبر الواحد الذي لا يبلغ المعارضة للإجماع على مثل هذا التأويل (٢). وهو حسن.

ويستفاد من قول المصنف : ولو تكلفه بإذنه صح حجه ، أنه لو حج بغير إذن سيده لم يصح ، وهو كذلك ، لأن منافعه مستحقة للسيد ، فصرفها فيما لم يأذن فيه يكون منهيا عنه ، فلا يقع عبادة ، لتضاد الوجهين.

قوله : ( فإن أدرك الوقوف بالمشعر معتقا أجزأه ).

هذا قول علمائنا أجمع ، حكاه في المنتهى (٣). والمستند فيه ما رواه ابن بابويه في الصحيح ، عن معاوية بن عمار ، قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : مملوك أعتق يوم عرفة ، قال : « إذا أدرك أحد الموقفين فقد أدرك الحج » (٤).

وفي الصحيح عن الحسن بن محبوب ، عن شهاب ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في رجل أعتق عشية عرفة عبدا له ، قال : « يجزى العبد حجة الإسلام ، ويكتب للسيد أجران : ثواب العتق ، وثواب الحج » (٥).

وإنما جزم المصنف هنا بالاجتزاء وتردد في الصبي والمجنون لوجود‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٥ ـ ١١ ، الإستبصار ٢ : ١٤٧ ـ ٤٨٣ ، الوسائل ٨ : ٣٤ أبواب وجوب الحج ب ١٦ ح ٧.

(٢) المنتهى ٢ : ٦٥٠.

(٣) المنتهى ٢ : ٦٥٠.

(٤) الفقيه ٢ : ٢٦٥ ـ ١٢٩٠ ، الوسائل ٨ : ٣٥ أبواب وجوب الحج ب ١٧ ح ٢.

(٥) الفقيه ٢ : ٢٦٥ ـ ١٢٨٩ ، المحاسن : ٦٦ ـ ١٢٢ ، الوسائل ٨ : ٣٥ أبواب وجوب الحج ب ١٧ ح ١.

٣٠

______________________________________________________

النص في العبد دونهما.

وينبغي القطع بعدم اعتبار الاستطاعة هنا مطلقا ، لإطلاق النص ، خصوصا السابقة. واعتبر الشهيد في الدروس تقدم الاستطاعة وبقاءها مع حكمه بإحالة ملك العبد (١). وهو عجيب.

فروع :

الأول : لو أذن السيد لعبده في الحج لم يجب عليه التلبس به ، لكن لو تلبس وجب كغيره من أفراد المندوب. ويجوز لسيده الرجوع في الإذن قبل التلبس لا بعده.

ولو رجع قبل التلبس ولم يعلم العبد حتى أحرم فالظاهر وجوب الاستمرار ، لدخوله دخولا مشروعا ، فكان رجوع المولى كرجوع الموكل قبل التصرف ولم يعلم الوكيل.

وقال الشيخ : إنه يصح إحرامه ، وللسيد أن يحلله (٢) ، وضعفه ظاهر ، لأن صحة الإحرام إنما هو لبطلان رجوع المولى ، فكان كما لو لم يرجع ، والإحرام ليس من العبادات الجائزة ، وإنما يجوز الخروج منه في مواضع مخصوصة ، ولم يثبت أن هذا منها.

الثاني : لو أحرم العبد بإذن مولاه ثم باعه صح البيع إجماعا ، لأن الإحرام لا يمنع التسليم ، فلا يمنع صحة البيع. ثم إن كان المشتري عالما بذلك فلا خيار له ، وإن لم يعلم ثبت له الخيار على الفور ، إلا مع قصر الزمان بحيث لا يفوته شي‌ء من المنافع.

الثالث : لا فرق في المملوك بين القن والمكاتب المطلق الذي لم يؤد والمشروط وأم الولد والمبعض. نعم لو تهايا المبعض مع المولى ووسعت‌

__________________

(١) الدروس : ٨٣.

(٢) المبسوط ١ : ٣٢٧.

٣١

______________________________________________________

نوبته للحج وانتفى الخطر والضرر كان له الحج ندبا بغير إذن السيد ، كما يجوز له غيره من الأعمال.

الرابع : لو جنى العبد في إحرامه بما يلزم به الدم كاللباس والطيب وحلق الشعر وقتل الصيد قال الشيخ رحمه‌الله : إنه يلزم العبد ، لأنه فعل ذلك بدون إذن مولاه ، ويسقط الدم إلى الصوم ، لأنه عاجز ففرضه الصيام ، ولسيده منعه منه ، لأنه فعل موجبه بدون إذن مولاه (١). وقال المفيد رحمه‌الله : على السيد الفداء في الصيد (٢). وقال المصنف ـ رحمه‌الله ـ في المعتبر : إن جناياته كلها على السيد ، لأنها من توابع إذنه في الحج (٣).

ولما رواه الشيخ وابن بابويه ـ رضي الله عنهما ـ في الصحيح ، عن حريز ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « كلما أصاب العبد وهو محرم في إحرامه فهو على السيد إذا أذن له » (٤).

ويظهر من كلام الشيخ في التهذيب اختيار ذلك ، فإنه قال بعد نقل هذه الرواية : ولا يعارض هذا الحديث ما رواه سعد بن عبد الله ، عن محمد بن الحسن ، عن محمد بن الحسين ، عن عبد الرحمن بن أبي نجران ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن عبد أصاب صيدا وهو محرم ، هل على مولاه شي‌ء من الفداء؟ فقال : « لا شي‌ء على مولاه » لأن هذا الخبر ليس فيه أنه كان قد أذن له في الإحرام أو لم يأذن ، وإذا لم يكن في ظاهره حملناه على من أحرم من غير إذن مولاه فلا يلزمه حينئذ حسب ما تضمنه الخبر (٥).

واستوجه العلامة في المنتهى سقوط الدم ولزوم الصوم ، إلا أن يأذن له‌

__________________

(١) المبسوط ١ : ٣٢٨.

(٢) المقنعة : ٦٩.

(٣) المعتبر ٢ : ٧٥١.

(٤) الفقيه ٢ : ٢٦٤ ـ ١٢٨٤ ، التهذيب ٥ : ٣٨٢ ـ ١٣٣٤ ، الإستبصار ٢ : ٢١٦ ـ ٧٤١ ، الوسائل ٩ : ٢٥١ أبواب كفارات الصيد ب ٥٦ ح ١.

(٥) التهذيب ٥ : ٣٨٣.

٣٢

ولو أفسد حجه ثم أعتق مضى في الفاسد وعليه بدنة وقضاؤه ، وأجزأه عن حجة الإسلام. وإن أعتق بعد فوات الموقفين وجب القضاء ، ولم يجزئه عن حجة الإسلام.

______________________________________________________

السيد في الجناية ، فيلزمه الفداء (١). والمسألة محل تردد ، وإن كان مختار المعتبر لا يخلو من قوة.

قوله : ( ولو أفسد حجه ثم أعتق مضى في الفاسد وعليه بدنة وقضاؤه ، وأجزأه عن حجة الإسلام ، وإن أعتق بعد فوات الموقفين وجب القضاء ، ولم يجزه عن حجة الإسلام ).

إذا أفسد العبد حجة المأذون فيه وجب عليه المضي فيه وبدنة والقضاء كالحر ، لأنه حج صحيح ، وإحرام متعبد به ، فيترتب عليه أحكامه.

وهل يجب على السيد تمكينه من القضاء؟ قيل : نعم (٢) ، لأن إذنه في الحج إذن في مقتضياته ، ومن جملتها القضاء لما أفسده. وقيل : لا (٣) ، لأن المأذون فيه الحج لا إفساده ، وليس الإفساد من لوازم معنى الحج ، بل من منافيات المأذون فيه ، لأن الإذن في العبادة الموجبة للثواب دون ما يترتب على فعله العقاب.

وربما بني الوجهان على أن القضاء هل هو الفرض والفساد عقوبة أم بالعكس؟ فعلى الثاني لا يجب التمكين ، لعدم تناول الإذن له ، وعلى الأول يجب ، لأن الإذن بمقتضى الإفساد انصرفت إلى القضاء ، وقد لزم بالشروع ، فلزمه التمكين (٤) ، ويشكل بأن الإذن لم تتناول الحج ثانيا وإن قلنا إنه الفرض ، لأنها إنما تعلقت بالأول خاصة. والمسألة محل تردد ، وإن كان‌

__________________

(١) المنتهى ٢ : ٦٥١.

(٢) قال به العلامة في التذكرة ١ : ٣٠٠ ، والشهيد الثاني في المسالك ١ : ٨٨.

(٣) قال به المحقق الثاني في جامع المقاصد ١ : ١٥٩ ، واحتمله واستدل له فخر المحققين في الإيضاح ١ : ٢٦٦.

(٤) كما في جامع المقاصد ١ : ١٥٩.

٣٣

الثالث : الزاد والراحلة ، وهما يعتبران فيمن يفتقر إلى قطع المسافة.

______________________________________________________

القول بعدم وجوب التمكين لا يخلو من قوة.

ولو أعتقه المولى في الفاسد قبل الوقوف بالمشعر أتم حجه وقضى في القابل ، وأجزأه عن حجة الإسلام ، سواء قلنا إن الأولى عقوبة والثانية حجة الإسلام ، أم قلنا بالعكس ، أما على الأول فظاهر ، لوقوع حجة الإسلام في حال الحرية التامة ، وأما على الثاني فلما سبق من أن العتق على هذا الوجه يقتضي إجزاء الحج من حج الإسلام (١).

ولو كان العتق بعد فوات الموقفين كان عليه إتمام الحجة والقضاء ، ولا يجزئه عن حجة الإسلام ، بل تجب عليه مع الاستطاعة ، ويجب تقديمها على القضاء ، للنص والإجماع على فوريتها ، فلو بدأ بالقضاء قال الشيخ : انعقد عن حجة الإسلام ، ولو كان القضاء في ذمته ، وإن قلنا لا يجزي عن واحدة منهما كان قويا (٢). هذا كلامه رحمه‌الله ، وهو جيد إن قلنا باقتضاء الأمر بالشي‌ء النهي عن ضده الخاص ، وإلاّ اتّجه صحة القضاء وإن أثم بتأخير حج الإسلام. وإنما يجب عليه حجة الإسلام مع الاستطاعة الشرعية ، فلو لم تكن حاصلة وجب القضاء خاصة ، إذ يكفي فيه الاستطاعة العادية.

قوله : ( الثالث ، الزاد والراحلة ، وهما معتبران فيمن يفتقر إلى قطع المسافة ).

أجمع العلماء كافة على أن الاستطاعة شرط في الحج ، قال الله تعالى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (٣) وقال عزّ وجلّ ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها ) (٤).

__________________

(١) راجع ص ٣٠.

(٢) المبسوط ١ : ٣٢٨.

(٣) آل عمران : ٩٧.

(٤) البقرة : ٢٨٦.

٣٤

______________________________________________________

قال في المنتهى : وقد اتفق علماؤنا على أن الزاد والراحلة شرطان في الوجوب ، فمن فقدهما أو أحدهما مع بعد مسافته لم يجب عليه الحج وإن تمكن من المشي (١).

ويدل على اعتبارهما مضافا إلى عدم تحقق الاستطاعة عرفا بدونهما غالبا صحيحة محمد بن يحيى الخثعمي ، قال : سأل حفص الكناسي أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا عنده عن قول الله عزّ وجلّ ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ما يعني بذلك؟ قال : « من كان صحيحا في بدنه ، مخلا سربه ، له زاد وراحلة ، فهو ممن يستطيع الحج ـ أو قال ـ : ممن كان له مال » فقال له حفص الكناسي : وإذا كان صحيحا في بدنه ، مخلا سربه ، له زاد وراحلة ، فلم يحج فهو ممن يستطيع الحج؟ قال : « نعم » (٢).

وصحيحة محمد بن مسلم قال ، قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : قوله تعالى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) قال : « يكون له ما يحج به » قلت : فإن عرض عليه الحج فاستحيا؟ قال : « هو ممن يستطيع ، ولم يستحيي؟! ولو على حمار أجذع أبتر. قال : فإن كان يستطيع أن يمشي بعضا ويركب بعضا فليفعل » (٣).

وحسنة الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في قول الله عزّ وجلّ : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ما السبيل؟ قال : « أن يكون له ما يحج به ». قال ، قلت : من عرض عليه ما يحج به فاستحيا من ذلك ، أهو ممن يستطيع إليه سبيلا؟ قال : « نعم ، ما شأنه يستحي؟! ولو‌

__________________

(١) المنتهى ٢ : ٦٥٢.

(٢) التهذيب ٥ : ٣ ـ ٢ ، الإستبصار ٢ : ١٣٩ ـ ٤٥٤ ، الوسائل ٨ : ٢٢ أبواب وجوب الحج وشرائطه ب ٨ ح ٤.

(٣) التهذيب ٥ : ٣ ـ ٤ ، الإستبصار ٢ : ١٤٠ ـ ٤٥٦ ، الوسائل ٨ : ٢٢ أبواب وجوب الحج وشرائطه ب ٨ ح ١.

٣٥

______________________________________________________

يحج على حمار أبتر ، فإن كان يستطيع أن يمشي بعضا ويركب بعضا فليحج » (١).

قال في المنتهى : وإنما يشترط الزاد والراحلة في حق المحتاج إليهما لبعد مسافته ، أما القريب فيكفيه اليسير من الأجرة بنسبة حاجته ، والمكي لا تعتبر الراحلة في حقه ، ويكفيه التمكن من المشي (٢). ونحوه قال في التذكرة ، وصرح بأن القريب إلى مكة لا يعتبر في حقه وجود الراحلة إذا لم يكن محتاجا إليها (٣). وهو جيد ، لكن في تحديد القرب الموجب لذلك خفاء ، والرجوع إلى اعتبار المشقة وعدمها جيد ، إلا أن اللازم منه عدم اعتبار الراحلة في حق البعيد أيضا إذا تمكن من المشي من غير مشقة شديدة ، ولا نعلم به قائلا.

ومقتضى روايتي محمد بن مسلم والحلبي المتقدمتين وجوب الحج على من يتمكن من المشي في بعض الطريق والركوب في بعض ، بل ورد في كثير من الروايات وجوب الحج على من أطاق المشي ، كصحيحة معاوية بن عمار ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل عليه دين ، أعليه أن يحج؟ قال : « نعم ، إن حجة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين » (٤).

ورواية أبي بصير قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : قول الله عزّ وجلّ ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) قال : « يخرج ويمشي إن لم يكن عنده » قلت : لا يقدر على المشي ، قال :

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٣ ـ ٣ ، الإستبصار ٢ : ١٤٠ ـ ٤٥٥ ، الوسائل ٨ : ٢٢ أبواب وجوب الحج وشرائطه ب ٨ ح ٣.

(٢) المنتهى ٢ : ٦٥٢.

(٣) التذكرة ١ : ٣٠١.

(٤) الفقيه ٢ : ١٩٣ ـ ٨٨٢ ، التهذيب ٥ : ١١ ـ ٢٧ ، الإستبصار ٢ : ١٤٠ ـ ٤٥٨ ، الوسائل ٨ : ٢٩ أبواب وجوب الحج وشرائطه ب ١١ ح ١.

٣٦

ولا تباع ثياب مهنته ،

______________________________________________________

« يمشي ويركب » قلت : لا يقدر على ذلك ، يعجز عن المشي ، قال : « يخدم القوم ويخرج معهم » (١).

وأجاب عنهما الشيخ في التهذيب بالحمل على الاستحباب (٢). وهو مشكل ، خصوصا في الرواية الثانية ، حيث وقع السؤال فيها عن معنى الآية الشريفة.

وبالجملة فالمسألة قوية الإشكال ، إذ المستفاد من الآية الشريفة تعلق الوجوب بالمستطيع ، وهو القادر على الحج ، سواء كانت استطاعته بالقدرة على تحصيل الزاد والراحلة ، أو بالقدرة على المشي ، كما اعترف به الأصحاب في حق القريب ، والأخبار غير منافية لذلك ، فإن الاستطاعة مفسرة (٣) في صحيحة محمد بن مسلم وحسنة الحلبي المتقدمتين (٤) بأن يكون له ما يحج به. ورواية محمد بن يحيى الخثعمي المتضمنة لاعتبار الراحلة (٥) يمكن حملها على من يشق عليه المشي كما هو شأن البعيد غالبا. وكيف كان فلا ريب في اعتبار الراحلة إذا شق المشي مطلقا.

ولا يخفى أن الراحلة إنما تعتبر مع توقف قطع المسافة عليها ، فلو أمكن السفر في البحر من غير مشقة شديدة اعتبر قدرته على أجرة المركب خاصة.

قوله : ( ولا تباع ثياب مهنته ).

المهنة ـ بالفتح ـ : الخدمة. ونقل الجوهري عن الكسائي الكسر ،

__________________

(١) الفقيه ٢ : ١٩٤ ـ ٨٨٣ ، التهذيب ٥ : ١٠ ـ ٢٦ ، الإستبصار ٢ : ١٤٠ ـ ٤٥٧ ، الوسائل ٨ : ٢٩ أبواب وجوب الحج وشرائطه ب ١١ ح ٢.

(٢) التهذيب ٥ : ١١.

(٣) في « م » : معتبرة.

(٤) في ص ٣٥.

(٥) المتقدمة في ص ٣٥.

٣٧

ولا خادمه ، ولا دار سكناه للحج.

______________________________________________________

يقال : امتهنت الشي‌ء إذا ابتذلته (١). والمراد بثياب المهنة ما يبتذل من الثياب.

وربما أشعرت العبارة بعدم استثناء ثياب التجمل ، وقيل باستثناء الثياب مطلقا إذا كانت لائقة بحاله بحسب زمانه ومكانه (٢).

وذكر الشارح أن حليّ المرأة المعتاد لها بحسب حالها وزمانها ومكانها في حكم الثياب (٣).

وعندي في جميع ذلك توقف ، لعموم ما دل على وجوب الحج على المستطيع ، وفقد النص المقتضي لاستثناء ذلك على الخصوص. والأجود استثناء ما تدعو الضرورة إليه من ذلك خاصة ، اقتصارا في تقييد الآية الشريفة على موضع الضرورة والوفاق.

قوله : ( ولا خادمه ، ولا دار سكناه للحج ).

هذا الحكم مجمع عليه بين العلماء كافة ، حكاه في المنتهى ، واستدل عليه بأن ذلك مما تمس الحاجة إليه ، وتدعو إليه الضرورة ، فلا يكلف ببيعه (٤).

وألحق بذلك فرس الركوب ، وكتب العلم ، وأثاث البيت من فراش وبساط وآنية ونحو ذلك. ولا ريب في استثناء جميع ما تدعو الضرورة إليه من ذلك ، لما في التكليف ببيعه مع الحاجة الشديدة إليه من الحرج المنفي.

ولو غلت هذه المستثنيات وأمكنه بيعها وشراء ما يليق به من ذلك بأقل من ثمنها فالأقرب وجوب البيع وشراء الأدون ، تمسكا بإطلاق الآية الشريفة ،

__________________

(١) الصحاح ٦ : ٢٢٠٩.

(٢) قال به الشهيد الثاني في المسالك ١ : ٨٨.

(٣) المسالك ١ : ٨٨.

(٤) المنتهى ٢ : ٦٥٣.

٣٨

والمراد بالزاد : قدر الكفاية من القوت والمشروب ذهابا وعودا. وبالراحلة : راحلة مثله.

______________________________________________________

السالم من معارضة الحرج المنفي.

ولو زادت أعيانها من قدر الحاجة وجب بيع الزائد قطعا (١).

وجزم الشارح ـ قدس‌سره ـ بأن من لم يكن له هذه المستثنيات يستثنى له أثمانها (٢). وهو جيد إذا دعت الضرورة إليه ، أما مع الاستغناء عنها أو عن بعضها باستئجار ونحوه ، ووثق بحصوله عادة ، ولم يكن عليه في ذلك مشقة فمشكل. ولا يتوجه ( عليه ) (٣) مثل ذلك إذا كانت له هذه المستثنيات وأمكنه الاستغناء عنها بتحصيل بدلها بإجارة ونحوها ، حيث لا يجب عليه بيعها للمشقة اللازمة من وجوب البيع. ولو لا الإجماع على الاستثناء مطلقا أمكن المناقشة فيه في هذا الفرض.

وبالجملة فمقتضى الآية الشريفة والأخبار المستفيضة وجوب الحج على كل من تمكن من تحصيل الزاد والراحلة ، بل قد عرفت أن مقتضى كثير من الأخبار الوجوب على من أطاق المشي ، فيجب الاقتصار في تخصيصها أو تقييدها على قدر الضرورة ، والله تعالى أعلم.

قوله : ( والمراد بالزاد قدر الكفاية من القوت والمشروب ذهابا وعودا ، وبالراحلة راحلة مثله ).

المعتبر في القوت والمشروب تمكنه من تحصيلهما إما بالشراء في المنازل ، أو بالقدرة على تحميلهما من بلده ، أو من غيره.

وقال العلامة في التذكرة والمنتهى : إن الزاد إذا لم يجده في كل منزل وجب حمله ، بخلاف الماء وعلف البهائم ، فإنهما إذا فقدا من المواضع‌

__________________

(١) في « م » : مطلقا.

(٢) المسالك ١ : ٨٨.

(٣) زيادة من « م ».

٣٩

______________________________________________________

المعتادة لهما لم يجب حملهما من بلده ، ولا من أقرب البلدان إلى مكة كأطراف الشام ، ويسقط الحج إذا توقف على ذلك (١). وهو مشكل ، والمتجه عدم الفرق في وجوب حمل الجميع مع الإمكان وسقوطه مع المشقة الشديدة.

وقول المصنف : ( وبالراحلة راحلة مثله ) يمكن أن يريد المماثلة في القوة والضعف ، وبه قطع الشهيد في الدروس حيث قال : والمعتبر في الراحلة ما يناسبه ولو محملا إذا عجز عن القتب ، ولا يكفي علو منصبه في اعتبار المحمل والكنيسة ، فإن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام حجوا على الزوامل (٢). ويمكن أن يريد المماثلة في الرفعة والضعة ، وهو ظاهر اختيار العلامة في التذكرة (٣) والأصح الأول ، لقوله عليه‌السلام فيمن عرض عليه الحج فاستحيا : « هو ممن يستطيع ، ولم يستحي ولو على حمار أجذع أبتر » (٤).

وعلى هذا فمن كان يستمسك على الراحلة من غير محمل ولا يلحقه من ذلك ضرر ولا مشقة لم يعتبر في حقه إلا وجدان الراحلة ، وإن لحقه من ذلك مشقة اعتبر في حقه وجود المحمل ، ولو وجد مشقة عظيمة في ركوب المحمل اعتبر في حقه الكنيسة ، ولا فرق في ذلك كله بين الرجل والمرأة.

وفي حكم الزاد والراحلة الآلات والأوعية التي يحتاج إليها في الطريق ، كالغرائر وأوعية الماء من القربة ونحوها ، والسفرة وشبهها ، لأن ذلك كله مما يحتاج إليه في السفر ، فلا تتحقق الاستطاعة بدونه.

وإطلاق العبارة وغيرها يقتضي اعتبار قدر الكفاية من الزاد والراحلة ذهابا‌

__________________

(١) التذكرة ١ : ٣٠٠ ، والمنتهى ٢ : ٦٥٣.

(٢) الدروس : ٨٤.

(٣) التذكرة ١ : ٣٠١.

(٤) التهذيب ٥ : ٣ ـ ٤ ، الإستبصار ٢ : ١٤٠ ـ ٤٥٦ ، الوسائل ٨ : ٢٦ أبواب وجوب الحج وشرائطه ب ١٠ ح ١.

٤٠