مدارك الأحكام - ج ٧

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي

مدارك الأحكام - ج ٧

المؤلف:

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٠

______________________________________________________

فمتى فعلا ذلك فإن لم يجدّدا التلبية يصيرا محلّين ولا يجوز ذلك ، فلأجله أمر المفرد والسائق بتجديد التلبية عند الطواف ، مع أن السائق لا يحلّ وإن كان قد طاف بسياقه الهدي (١).

ثم استدل على عدم تحلل القارن بما رواه عن يونس بن يعقوب ، عمن أخبره ، عن أبي الحسن عليه‌السلام قال ، قال : « ما طاف بين هذين الحجرين الصفا والمروة أحد إلاّ أحلّ ، إلاّ السائق للهدي » (٢) وضعف هذه الرواية بالإرسال وغيره يمنع من العمل بها.

قال الشهيد في الشرح بعد أن أورد هذه الروايات : وبالجملة فدليل التحلل ظاهر ، والفتوى مشهورة ، والمعارض منتف. وهو كذلك ، لكن ليس في الروايات دلالة على صيرورة الحجة مع التحلل عمرة كما ذكره الشيخ (٣) وأتباعه (٤) ، نعم ورد في روايات العامة التصريح بذلك ، لأنهم رووا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « إذا أهلّ الرجل بالحج ثم قدم إلى مكة وطاف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد أحلّ وهي عمرة » (٥).

احتج العلاّمة في المختلف (٦) بأنه دخل في الحج دخولا مشروعا فلا يجوز الخروج عنه إلاّ بدليل شرعي ، وبقوله عليه السلام : « إنما الأعمال بالنيات » (٧).

والجواب عن الأول أن الدليل على الخروج ثابت كما بيّناه ، وعن‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٤٤.

(٢) التهذيب ٥ : ٤٤ ـ ١٣٣ ، الوسائل ٨ : ١٨٤ أبواب أقسام الحج ب ٥ ح ٦.

(٣) النهاية : ٢٠٨ ، والمبسوط ١ : ٣١١.

(٤) كالقاضي ابن البراج في المهذب ١ : ٢١٠.

(٥) سنن أبي داود ٢ : ١٥٦ ـ ١٧٩١.

(٦) المختلف : ٢٦٢.

(٧) التهذيب ١ : ٨٣ ـ ٢١٨ ، الوسائل ١ : ٣٤ أبواب مقدمة العبادات ب ٥ ح ٧.

٢٠١

______________________________________________________

الثاني أن توقف العمل على النية لا يقتضي عدم حصول التحلل بما عدّه الشارع محللا.

وينبغي التنبيه لأمور :

الأول : الظاهر أن المراد بالنية في قول المصنف ومن قال بمقالته : إن المفرد لا يحلّ إلا بالنية ، نية العدول إلى العمرة ، والمعنى أن المفرد لا يتحلل قبل إكمال أفعال الحج إلاّ بنية العدول إلى العمرة ، فيتحلل مع العدول بإتمام أفعالها ، وعلى هذا فلا يتحقق التحلل بالنية إلاّ في موضع يسوغ فيه العدول إلى العمرة.

وذكر المحقق الشيخ علي في حواشيه أن المراد بالنية نية التحلل بالطواف ، ثم قال : إن اعتبار النية لا يكاد يتحقق ، لأن الطواف منهي عنه إذا قصد به التحلل ، فيكون فاسدا ، فلا يعتدّ به في كونه محللا ، لعدم صدق الطواف الشرعي حينئذ (١). ويتوجه عليه أيضا أن اعتبار النية لا دليل عليه أصلا ، بل العمل بالروايات المتضمنة للتحلل بترك التلبية يقتضي حصول التحلل بمجرد الترك ، واطراحها يقتضي عدم التحلل بالطواف وإن نوى به التحلل مع انتفاء نية العدول كما هو واضح.

الثاني : حيث قلنا بانقلاب الحج عمرة فيجب الإتيان بأفعالها. قال المحقق الشيخ علي في حواشي القواعد : وهل يحتاج إلى طواف العمرة أم لا؟ وجهان كل منهما مشكل ، أما الأول فلأنه لو احتيج إليه لم يكن لهذا الطواف أثر في الإحلال وهو باطل ، وأما الثاني فلأن إجزاءه عن طواف العمرة بغير نية أيضا معلوم البطلان (٢). وهذا الإشكال إنما يتوجه على المعنى الذي ذكره ، أما على ما ذكرناه فلا ورود له ، ومتى قلنا بانقلاب الحج عمرة صار متمتعا ولم يكن الإتيان به مجزيا عن الفرض إذا كان الإفراد أو القران متعينا‌

__________________

(١) جامع المقاصد ١ : ١٥٧.

(٢) جامع المقاصد ١ : ١٥٧.

٢٠٢

ويجوز للمفرد إذا دخل مكة أن يعدل إلى التمتع ، ولا يجوز ذلك للقارن.

______________________________________________________

عليه ، لأنه عدول اختياري.

الثالث : المستفاد من الروايات المتقدمة توقف البقاء على الإحرام على التلبية بعد ركعتي الطواف ، وعلى هذا فتكون التلبية مقتضية لعدم التحلل ، لا أن التحلل يتحقق بالطواف ثم ينعقد الإحرام بالتلبية كما توهمه بعض المتأخرين (١). وذكر الشارح أن محل التلبية بعد الطواف (٢). ولم أقف له على مستند.

الرابع : ذكر جمع من الأصحاب أن المتمتع لو قدّم طوافه للضرورة وجب عليه تجديد التلبية ، وكذا لو طاف ندبا قبل الوقوف إن سوّغنا له ذلك كما هو الظاهر ، ويدل عليه إطلاق قوله عليه‌السلام في رواية زرارة : « من طاف بالبيت وبالصفا والمروة أحلّ أحبّ أو كره » (٣) لكنها قاصرة من حيث السند (٤) ، والروايتان الأخيرتان مختصتان بالقارن والمفرد ، والمسألة محل تردد وطريق الاحتياط واضح.

قوله : ( ويجوز للمفرد إذا دخل مكة أن يعدل إلى التمتع ، ولا يجوز ذلك للقارن ).

هذا الحكم مقطوع به في كلام الأصحاب ، وأسنده المصنف في المعتبر إلى علمائنا مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ، قال : وزعم فقهاء الجمهور أن نقل حج الإفراد إلى التمتع منسوخ (٥). وذكر الشارح أن هذه هي المتعة‌

__________________

(١) كالشهيد الثاني في الروضة البهية ٢ : ٢١٢.

(٢) المسالك ١ : ١٠٢.

(٣) التهذيب ٥ : ٤٤ ـ ١٣٢ ، الوسائل ٨ : ١٨٤ أبواب أقسام الحج ب ٥ ح ٥.

(٤) لوقوع حسن بن علي بن فضال وابن بكير في طريقها وهما فطحيان ـ الفهرست : ٤٧ و ١٠٦.

(٥) المعتبر ٢ : ٧٩٧.

٢٠٣

______________________________________________________

التي أنكرها الثاني (١).

والأصل في جواز العدول ما رواه الأصحاب وغيرهم بطرق متعددة وصحيحة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أصحابه حين دخلوا مكة محرمين بالحج فقال : « من لم يسق الهدي فليحلّ وليجعلها عمرة » فطافوا وسعوا وأحلّوا ، وسئل عن نفسه فقال : « إني سقت الهدي ، ولا ينبغي لسائق الهدي أن يحلّ حتى يبلغ الهدي محلّه » (٢).

وما رواه الشيخ في الصحيح ، عن معاوية بن عمار ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل لبّي بالحج مفردا ثم دخل مكة وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة قال : « فليحلّ وليجعلها متعة ، إلاّ أن يكون ساق الهدي فلا يستطيع أن يحلّ حتى يبلغ الهدي محلّه » (٣).

وإنما يجوز للمفرد العدول إذا لم يتعين عليه الإفراد بأصل الشرع أو بنذر وشبهه ، فإن تعيّن لم يجز العدول قطعا ، لعموم ما دل على وجوب الوفاء بالنذر (٤) ، وعلى أن أهل مكة وحاضريها لا يجزيهم التمتع عن فرضهم (٥).

ولا ينافي ذلك أخبار العدول ، أما رواية معاوية فلانتفاء العموم فيها على وجه يتناول من تعين عليه ذلك ، وأما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه بذلك فلأنه لم يتعلق بالحاضر وإنما تعلق بالبعيد ، وكان ذلك قبل مشروعية التمتع فنزل جبرائيل عليه‌السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو‌

__________________

(١) المسالك ١ : ١٠٢.

(٢) الوسائل ٨ : ١٤٩ أبواب أقسام الحج ب ٢.

(٣) التهذيب ٥ : ٨٩ ـ ٢٩٣ ، الإستبصار ٢ : ١٧٤ ـ ٥٧٥ ، الوسائل ٨ : ٣٢ أبواب الإحرام ب ٢٢ ح ٥.

(٤) الوسائل ١٦ : ٢٤٧ أبواب النذر والعهد ب ٢٥.

(٥) الوسائل ٨ : ١٨٦ أبواب أقسام الحج ب ٦.

٢٠٤

والمكّي إذا بعد عن أهله وحج حجة الإسلام على ميقات أحرم منه وجوبا.

______________________________________________________

على المروة وأمره أن يأمر الناس بالإحلال إلاّ من ساق الهدي وأنزل الله في ذلك ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) (١) الآية (٢).

ومن هنا يظهر أن ما ذكره الشارح ـ قدس‌سره ـ من أن تخصيص الحكم بمن لم يتعين عليه الإفراد بعيد عن ظاهر النص (٣). غير جيد.

ولا يخفى أن العدول إنما يتحقق إذا لم يكن ذلك في نية المفرد ابتداء ، وإلاّ لم يقع الحج من أصله صحيحا ، لعدم تعلق النية بحج الإفراد فلا يتحقق العدول عنه كما هو واضح.

قوله : ( والمكّي إذا بعد عن أهله وحجّ حجة الإسلام على ميقات أحرم منه وجوبا ).

هذا مما لا خلاف فيه بين الأصحاب ، ويدل عليه أنه لا يجوز لقاصد مكة مجاوزة الميقات إلاّ محرما ، وقد صار هذا ميقاتا له باعتبار مروره عليه وإن كان ميقاته في الأصل دويرة أهله ، كغيره إذا مرّ على غير ميقاته.

والأخبار الواردة بذلك كثيرة : منها صحيحة صفوان بن يحيى ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام إنه كتب إليه : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقّت المواقيت لأهلها ومن أتى عليها من غير أهلها ، وفيها رخصة لمن كانت به علة ، فلا يجاوز الميقات إلاّ من علة » (٤).

واعلم أنه ليس في العبارة دلالة على تعيين النوع الذي يحرم به المكّي من الميقات ، والظاهر أنه يحرم بما هو فرضه.

__________________

(١) البقرة : ١٩٦.

(٢) في « ض » زيادة : الحكم بغير الحاضر.

(٣) المسالك ١ : ١٠٢.

(٤) الكافي ٤ : ٣٢٣ ـ ٢ ، الوسائل ٨ : ٢٤٠ أبواب المواقيت ب ١٥ ح ١.

٢٠٥

ولو أقام من فرضه التمتع بمكة سنة أو سنتين لم ينتقل فرضه ، وكان عليه الخروج إلى الميقات إذا أراد حجة الإسلام. ولو لم يتمكن من ذلك خرج إلى خارج الحرم ، فإن تعذر أحرم من موضعه.

______________________________________________________

واختلف الأصحاب في جواز التمتع له والحال هذه ، فذهب الأكثر ومنهم الشيخ في جملة من كتبه (١) والمصنف في المعتبر ، والعلاّمة في المنتهى (٢) إلى الجواز ، لصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وعبد الرحمن بن أعين قالا : سألنا أبا الحسن موسى عليه‌السلام عن رجل من أهل مكة خرج إلى بعض الأمصار ثم رجع فمرّ ببعض المواقيت التي وقّت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أله أن يتمتّع؟ فقال : « ما أزعم أن ذلك ليس له ، والإهلال بالحج أحبّ إليّ » (٣) ومقتضى الرواية رجحان الإهلال بالحج بالنسبة إليه ، ولا ريب أنه أولى.

وقال ابن أبي عقيل : لا يجوز له التمتع ، لأنه لا متعة لأهل مكة ، لقول الله عزّ وجلّ ( ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) (٤) (٥) وهو جيد لو لا ورود الرواية الصحيحة بالجواز.

قوله : ( ولو أقام من فرضه التمتع بمكة سنة أو سنتين لم ينتقل فرضه ، وكان عليه الخروج إلى الميقات إذا أراد حجة الإسلام ، ولو لم يتمكن من ذلك خرج إلى خارج الحرم ، فإن تعذر أحرم من موضعه ).

لا ريب أن من فرضه التمتع إذا أقام بمكة أو ما في حكمها إقامة لا تقتضي انتقال فرضه إلى الإفراد أو القران يجب عليه التمتع ، وقد قطع‌

__________________

(١) النهاية : ٢٠٦ ، والمبسوط ١ : ٣٠٨.

(٢) المعتبر ٢ : ٧٩٨ ، والمنتهى ٢ : ٦٦٤.

(٣) التهذيب ٥ : ٣٣ ـ ١٠٠ ، الإستبصار ٢ : ١٥٨ ـ ٥١٨ ، الوسائل ٨ : ١٨٩ أبواب أقسام الحج ب ٧ ح ١.

(٤) البقرة : ١٩٦.

(٥) نقله عنه في المختلف : ٢٦١.

٢٠٦

______________________________________________________

الأصحاب بأن من هذا شأنه إذا أراد حج الإسلام يخرج إلى الميقات مع الإمكان فيحرم منه بعمرة التمتع ، فإن تعذّر خرج إلى أدنى الحل ، فإن تعذّر أحرم من مكة.

أما وجوب الخروج إلى الميقات فاستدل عليه بأن فرضه لم ينتقل عن فرض إقليمه فلزمه الإحرام من ميقاتهم ، وبرواية سماعة ، عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن المجاور ، أله أن يتمتع بالعمرة إلى الحج؟ قال : « نعم ، يخرج إلى مهلّ أرضه فليلبّ إن شاء » (١).

وأما الاجتزاء بالخروج إلى أدنى الحلّ مع تعذر الوصول إلى الميقات ، والإحرام من مكة مع تعذر الخروج إلى أدنى الحل فاستدل عليه بأن خارج الحرم ميقات مع الضرورة ، والإحرام من مكة سائغ معها أيضا كما تدل عليه رواية الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ، قلت له : رجل ترك الإحرام حتى دخل مكة ، قال : « يرجع إلى ميقات أهل بلاده الذين يحرمون منه فيحرم ، وإن خشي أن يفوته الحج فليحرم من مكانه ، فإن استطاع أن يخرج من الحرم فليخرج » (٢).

ويحتمل ( قويّا ) (٣) الاكتفاء بالخروج إلى أدنى الحلّ مطلقا ، لصحيحة عمر بن يزيد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من أراد أن يخرج من مكة ليعتمر أحرم من الجعرانة والحديبية وما أشبههما » (٤) وصحيحة الحلبي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، لأهل مكة أن يتمتعوا؟ فقال : « لا ، ليس لأهل مكة أن يتمتعوا » قال ، قلت : فالقاطنين بها؟ قال : « إذا أقاموا سنة أو سنتين صنعوا كما يصنع أهل مكة ، فإذا أقاموا شهرا فإن لهم أن‌

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣٠٢ ـ ٧ ، التهذيب ٥ : ٥٩ ـ ١٨٨ ، الوسائل ٨ : ١٩٠ أبواب أقسام الحج ب ٨ ح ١.

(٢) التهذيب ٥ : ٥٨ ـ ١٨٠ ، الوسائل ٨ : ٢٣٩ أبواب المواقيت ب ١٤ ح ٧.

(٣) ليست في « ض ».

(٤) الفقيه ٢ : ١٧٦ ـ ١٣٥٠ ، الوسائل ٨ : ٢٤٧ أبواب المواقيت ب ٢٢ ح ١.

٢٠٧

______________________________________________________

يتمتعوا » قلت : من أين؟ قال : « يخرجون من الحرم » قلت : من أين يهلّون بالحج؟ قال : « من مكة نحوا مما يقول الناس » (١) ولا ريب أن الاحتياط يقتضي المصير إلى ما ذكره الأصحاب.

واعلم أن ( أقصى ) (٢) ما يستفاد من الأدلة الشرعية تحقق الاستطاعة بالنسبة إلى المقيم في مكة وغيرها بتمكنه من الحج على الوجه المعتبر من موضع الإقامة والعود إلى بلده.

واعتبر الشارح ـ قدس‌سره ـ في وجوب الحج الاستطاعة من البلد إلاّ مع انتقال الفرض فتنتقل الاستطاعة ثم قال : ولو قيل : إن الاستطاعة تنتقل مع نية الدوام من ابتداء الإقامة أمكن ، لفقد النص المنافي هنا (٣). وما ذكره ـ قدس‌سره ـ من فقد النص المنافي لذلك جيد ، لكن اعتبار نية الدوام لا دليل عليه ، إذ المستفاد من الآية الشريفة (٤) وجوب الحج على كل متمكن منه ، والأخبار غير منافية لذلك ، بل مؤكّدة له ، إذ غاية ما يستفاد منها اعتبار الزاد والراحلة مع الحاجة إليهما لا مطلقا ، بل قد ورد في عدّة أخبار أن حجة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين (٥).

وروى معاوية بن عمار في الصحيح قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يمرّ مجتازا يريد اليمن أو غيرها من البلدان وطريقه بمكة فيدرك الناس وهم يخرجون إلى الحج فيخرج معهم إلى المشاهد ، أيجزيه ذلك من حجة الإسلام؟ قال : « نعم » (٦) وقد بيّنّا ذلك كله مفصلا فيما‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٣٥ ـ ١٠٣ ، الوسائل ٨ : ١٩٢ أبواب أقسام الحج ب ٩ ح ٣.

(٢) ليست في « م ».

(٣) المسالك ١ : ١٠٢.

(٤) آل عمران : ٩٧.

(٥) الوسائل ٨ : ٢٨ أبواب وجوب الحج ب ١١.

(٦) الكافي ٤ : ٢٧٥ ـ ٦ ، الفقيه ٢ : ٢٦٤ ـ ١٢٨٣ ، الوسائل ٨ : ٤٠ أبواب وجوب الحج ب ٢٢ ح ٢.

٢٠٨

فإن دخل في الثالثة مقيما ثم حج انتقل فرضه إلى القران أو الافراد.

______________________________________________________

سبق (١).

قوله : ( فإن دخل في الثالثة مقيما ثم حجّ انتقل فرضه إلى القران أو الإفراد ).

لا يخفى أن الحكم بانتقال الفرض بالدخول في الثالثة مناف لما حكم به أولا من أن إقامة السنتين لا توجب انتقال الفرض ، فإن إقامة السنتين إنما تتحقق بالدخول في الثالثة ، والأصح ما ذهب إليه ( أكثر الأصحاب ) (٢) من انتقال الفرض بإقامة السنتين ، لصحيحة زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « من أقام بمكة سنتين فهو من أهل مكة لا متعة له » فقلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أرأيت إن كان له أهل بالعراق وأهل بمكة؟ قال : « فلينظر أيّهما الغالب عليه فهو من أهله » (٣) وصحيحة عمر بن يزيد قال ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « المجاور بمكة يتمتع بالعمرة إلى الحج إلى سنتين ، فإذا جاوز سنتين كان قاطنا وليس له أن يتمتّع » (٤).

وقال الشيخ في النهاية : لا ينتقل الفرض حتى يقيم ثلاثا (٥). ولم نقف له على مستند.

نعم ورد في كثير من الروايات انتقال الفرض بإقامة ما دون السنتين ، كصحيحة الحلبي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، لأهل مكة أن يتمتّعوا؟ فقال : « لا ، ليس لأهل مكة أن يتمتعوا » قال ، قلت : فالقاطنين بها؟ قال : « إذا أقاموا سنة أو سنتين صنعوا كما يصنع أهل مكة ، فإذا أقاموا شهرا فإن لهم أن يتمتعوا » قلت : من أين؟ قال : « يخرجون من الحرم » ‌

__________________

(١) راجع ص ٤١.

(٢) في « ض » : الأكثر.

(٣) التهذيب ٥ : ٣٤ ـ ١٠١ و ٤٩٢ ـ ١٧٦٧ ، الاستبصار ٢ : ١٥٩ ـ ٥١٩ ، الوسائل ٨ : ١٩١ أبواب أقسام الحج ب ٩ ح ١.

(٤) التهذيب ٥ : ٣٤ ـ ١٠٢ ، الوسائل ٨ : ١٩٢ أبواب أقسام الحج ب ٩ ح ٢.

(٥) النهاية : ٢٠٦.

٢٠٩

______________________________________________________

قلت : من أين يهلّون بالحج؟ قال : « من مكة نحوا مما يقول الناس » (١).

وصحيحة محمد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « من أقام بمكة سنة فهو بمنزلة أهل مكة » (٢).

وصحيحة حفص وهو ابن البختري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في المجاور بمكة يخرج إلى أهله ثم يرجع إلى مكة بأيّ شي‌ء يدخل؟ فقال : « إن كان مقامه بمكة أكثر من ستة أشهر فلا يتمتع ، وإن كان أقل من ستة أشهر فله أن يتمتع » (٣).

ويمكن الجمع بينهما بالتخيير بعد السنة والستّة الأشهر بين الفرضين.

وإطلاق النص وكلام الأصحاب يقتضي عدم الفرق في الإقامة الموجبة لانتقال الفرض بين كونها بنية الدوام أو المفارقة ، وربما قيل : إن الحكم مخصوص بالمجاور بغير نية الإقامة ، أما لو كان بنيتها انتقل فرضه من أول سنة. وإطلاق النص يدفعه.

وذكر الشارح (٤) وغيره (٥) أن انتقال الفرض إنما يتحقق إذا تجددت الاستطاعة بعد الإقامة المقتضية للانتقال ، فلو كانت سابقه لم ينتقل الفرض وإن طالت المدة ، لاستقرار الأول. وفي استفادة ذلك من الأخبار نظر ، لكن على هذا يبعد انتقال الفرض على ما ذكرناه من الاكتفاء بحصول الاستطاعة من مكة مطلقا ، لأن استطاعة مكة سهلة غالبا. ولو انعكس الفرض بأن أقام المكي في الآفاق لم ينتقل فرضه بذلك إلاّ مع نية الدوام وصدق خروجه من حاضري مكة عرفا ، واحتمل بعض الأصحاب إلحاقه بالمقيم في مكة في‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٣٥ ـ ١٠٣ ، الوسائل ٨ : ١٩٢ أبواب أقسام الحج ب ٩ ح ٣.

(٢) التهذيب ٥ : ٤٧٦ ـ ١٦٨٠ ، الوسائل ٨ : ١٩١ أبواب أقسام الحج ب ٨ ح ٤.

(٣) التهذيب ٥ : ٤٧٦ ـ ١٦٧٩ ، الوسائل ٨ : ١٩١ أبواب أقسام الحج ب ٨ ح ٣.

(٤) المسالك ١ : ١٠٢.

(٥) كالأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ٦ : ٤٠.

٢١٠

ولو كان له منزلان بمكة وغيرها من البلاد لزمه فرض أغلبهما عليه ، وإن تساويا كان له الحج بأي الأنواع شاء.

______________________________________________________

انتقال الفرض بإقامة السنتين (١). وهو ضعيف.

قوله : ( ولو كان له منزلان بمكة وغيرها من البلاد لزمه فرض أغلبهما عليه ، فإن تساويا كان له الحج بأيّ الأنواع شاء ).

إنما لزمه فرض أغلبهما إقامة ، لأن مع غلبة أحدهما يضعف جانب الآخر فيسقط اعتباره كما في نظائره ، ومع التساوي لا يكون حكم أحدهما أرجح من الآخر فيتحقق التخيير. ويدل على اعتبار الأغلب قول زرارة في صحيحته المتقدمة : فقلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أرأيت إن كان له أهل بالعراق وأهل بمكة؟ قال : « فلينظر أيّهما الغالب عليه فهو من أهله » (٢) ويستفاد منها أن الاعتبار بالأهل لا بالمنزل.

ويجب تقييد هذا الحكم بما إذا لم تكن إقامته في مكة سنتين متواليتين ، فإنه حينئذ يلزمه حكم أهل مكة وإن كانت إقامته في النائي أكثر ، لما تقدم من أن إقامة السنتين توجب انتقال حكم النائي الذي ليس له بمكة مسكن أصلا ، فمن له مسكن أولى.

ولو اشتبه الحال فلم يعلم هل كان هناك أغلب أم لا فالظاهر التخيير ، لانتفاء شرط التعيين ولا يجب عليه حجان. واحتمل الشارح وجوب التمتع ، ولا ريب أن اختياره أولى قال : وفي حكم الاستطاعة حينئذ إشكال ، من أصالة براءة الذمة من الوجوب حيث لا يتحقق الزائد ، ومن أن جواز النوع الخاص يقتضي الحكم باستطاعته ، ويتوجه على تقدير التخيير أن يكون إيجاب الحج باختيار المكلف لو فرض استطاعته من مكة خاصة (٣).

__________________

(١) كالشهيد الثاني في المسالك ١ : ١٠٢.

(٢) في ص ٢٠٩.

(٣) المسالك ١ : ١٠٣.

٢١١

ويسقط الهدي عن القارن والمفرد وجوبا ، ولا تسقط التضحية استحبابا.

ولا يجوز القران بين الحج والعمرة بنيّة واحدة ، ولا إدخال أحدهما على الآخر ،

______________________________________________________

وأقول : إن هذا الإشكال منتف على ما قررناه من عدم اعتبار الاستطاعة من البلد وتحققها بمجرد التمكن من موضع الإقامة على الوجه المعتبر كما لا يخفى.

قوله : ( ويسقط الهدي عن القارن والمفرد وجوبا ، ولا تسقط التضحية استحبابا ).

هذان الحكمان إجماعيان عندنا ، والمراد بالهدي هنا هدي التمتع ، وسيجي‌ء تمام الكلام في ذلك إن شاء الله (١).

قوله : ( ولا يجوز القران بين الحج والعمرة بنيّة واحدة ).

نبّه بذلك على خلاف ابن أبي عقيل حيث جوّز ذلك وجعله تفسيرا للقران وقال : من هذا شأنه لا يحلّ من عمرته حتى يحلّ من حجه إذا طاف طواف الزيارة ، ولا يجوز قران الحج مع العمرة إلاّ لمن ساق الهدي (٢). وقد تقدم الكلام في ذلك (٣).

قوله : ( ولا إدخال أحدهما على الآخر ).

بأن ينوي الإحرام بالحج قبل التحلل من العمرة ، أو بالعمرة قبل الفراغ من أفعال الحج وإن تحلل فإن ذلك غير جائز عند علمائنا ، ونقل الشارح فيه الإجماع (٤) ، ويدل عليه مضافا إلى أن العبادات موقوفة على النقل ولم يرد‌

__________________

(١) في ج ٨ ص ١٥.

(٢) نقله عنه في المعتبر ٢ : ٨٠.

(٣) راجع ص ١٩٢.

(٤) المسالك ١ : ١٠٣.

٢١٢

ولا نيّة حجتين ولا عمرتين ، ولو فعل قيل : تنعقد واحدة ، وفيه تردد.

______________________________________________________

التعبد بذلك ، قوله تعالى ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ) (١) ومع الإدخال لا يتحقق الإتمام ، وصحيحة عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام إنه سأله عن رجل متمتع نسي أن يقصّر حتى أحرم بالحج قال : « يستغفر الله » (٢).

ومتى امتنع الإدخال وقع الثاني فاسدا ، إلاّ إذا وقع الإحرام بالحج بعد السعي وقبل التقصير من العمرة ، فإنه يصح في المشهور ، وتصير الحجة مفردة وسيأتي تحقيقه.

قوله : ( ولا نية حجتين ولا عمرتين ، ولو فعل قيل : تنعقد واحدة ، وفيه تردد ).

القول بالانعقاد للشيخ ـ رحمه‌الله ـ في الخلاف فإنه قال : من أهلّ بحجتين انعقد إحرامه بواحدة منهما ، وكان وجود الأخرى وعدمها سواء ولا يتعلق بها حكم ، فلا يجب قضاؤها ولا الفدية ، وهكذا من أهلّ بعمرتين (٣). وردّ بقوله : فلا يجب قضاؤها ، على أبي حنيفة حيث ذهب إلى وجوب قضاء إحداهما ، لأنه أحرم بهما ولم يتمهما (٤).

وذكر الشارح أن منشأ التردد من اشتمال النية على الأمرين معا ، فإذا بطل أحدهما وقع الآخر صحيحا ، ومن تساويهما في الصحة والبطلان ، فبطلان أحدهما دون الآخر ترجيح من غير مرجح كالمختلفين (٥).

والحق أنه إن كان المراد بنية الحجتين والعمرتين الإتيان بالحجة الثانية‌

__________________

(١) البقرة : ١٩٦.

(٢) الكافي ٤ : ٤٤٠ ـ ١ ، الفقيه ٢ : ٢٣٧ ـ ١١٢٩ بتفاوت يسير ، التهذيب ٥ : ٩٠ ـ ٢٩٧ ، الإستبصار ٢ : ١٧٥ ـ ٥٧٧ ، الوسائل ٩ : ٧٢ أبواب الإحرام ب ٥٤ ح ١.

(٣) الخلاف ١ : ٤٧٣.

(٤) حكاه عنه الكاساني في بدائع الصنائع ٢ : ١٧٠ ، وابن قدامة في الشرح الكبير ٣ : ٢٦١.

(٥) المسالك ١ : ١٠٣.

٢١٣

المقدمة الرابعة : في المواقيت

والكلام في : أقسامها وأحكامها‌

والمواقيت ستة :

______________________________________________________

أو العمرة بعد التحلل من الأولى اتجه ما ذكره الشيخ ، لأن الأولى وقعت نيتها صحيحة ، وضميمة نية الإتيان بالثانية بعد التحلل من الأولى لا يقتضي الفساد. وإن كان المراد به الإتيان بالثانية قبل التحلل من الأولى واحتساب الفعل الواحد عنهما فلا ريب في فساده.

قوله : ( المقدمة الرابعة في المواقيت ، والكلام في أقسامها وأحكامها ، والمواقيت ستة ).

المواقيت : جمع ميقات ، وهو الوقت المضروب للفعل والموضع يقال : هذا ميقات أهل الشام للموضع الذي يحرمون منه ، قاله الجوهري (١). وقال في القاموس : الوقت المقدار من الدهر ، وأكثر ما يستعمل في الماضي كالميقات ، ثم قال : وميقات الحاج مواضع إحرامهم (٢).

وما ذكره المصنف من حصر المواقيت في ستة حصر جعلي وإلاّ فهي تزيد على ذلك ، وذكر الشهيد في الدروس أنها عشرة : الستة التي ذكرها المصنف ـ رحمه‌الله ـ ومكة لحج التمتع ، ومحاذاة الميقات لمن لم يمرّ به وحاذاه ، وأدنى الحلّ أو مساواة أقرب المواقيت إلى مكة لمن لم يحاذ ميقاتا ، وفخّ (٣) لإحرام الصبيان (٤). وهذه المواقيت الأربعة مذكورة في تضاعيف كلام المصنف ـ رحمه‌الله ـ وربما كان الوجه في تخصيص هذه الستة تقدم ذكر مكة في كلامه ـ رحمه‌الله ـ ورجوع المحاذاة وما في معناها إلى هذه الستة ،

__________________

(١) الصحاح ١ : ٢٦٩.

(٢) القاموس المحيط ١ : ١٦٦.

(٣) موضع عند مكة ـ النهاية لابن الأثير ٣ : ٤١٨.

(٤) الدروس : ٩٤.

٢١٤

______________________________________________________

وكون فخّ ليس ميقاتا للحج الواجب ، والأمر في ذلك هيّن.

وقد أجمع الأصحاب على أن هذه المواقيت الستة منصوصة من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأخبارهم ناطقة بذلك ، فروى الشيخ في الصحيح ، عن معاوية بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « من تمام الحج والعمرة أن تحرم من المواقيت التي وقّتها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا تجاوزها إلاّ وأنت محرم ، فإنه وقّت لأهل العراق ـ ولم يكن يومئذ عراق ـ بطن العقيق من قبل العراق ، ووقّت لأهل اليمن يلملم ، ووقّت لأهل الطائف قرن المنازل ، ووقّت لأهل المغرب الجحفة وهي مهيعة ، ووقّت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ومن كان منزله خلف هذه المواقيت مما يلي مكة فوقته منزله » (١).

وفي الحسن ، عن الحلبي قال ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « الإحرام من مواقيت خمسة وقّتها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا ينبغي لحاجّ ولا لمعتمر أن يحرم قبلها ولا بعدها ، وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة وهو مسجد الشجرة يصلّي فيه ويفرض الحج ، ووقّت لأهل الشام الجحفة ، ووقّت لأهل نجد العقيق ، ووقّت لأهل الطائف قرن المنازل ، ووقّت لأهل اليمن يلملم ، ولا ينبغي لأحد أن يرغب عن مواقيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٢).

وفي الصحيح ، عن أبي أيوب الخزّاز قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : حدثني عن العقيق أوقت وقّته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو شي‌ء صنعه الناس؟ فقال : « إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ووقّت لأهل المغرب الجحفة وهي عندنا مكتوبة مهيعة ، ووقّت لأهل اليمن يلملم ، ووقّت لأهل الطائف قرن المنازل ، ووقّت لأهل نجد‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٥٤ ـ ١٦٦ ، الوسائل ٨ : ٢٢٢ أبواب المواقيت ب ١ ح ٢.

(٢) التهذيب ٥ : ٥٥ ـ ١٦٧ ، الوسائل ٨ : ٢٢٢ أبواب المواقيت ب ١ ح ٣.

٢١٥

لأهل العراق : العقيق ، وأفضله المسلح ، ويليه غمرة ، وآخره ذات عرق.

______________________________________________________

العقيق وما أنجدت » (١) والأخبار الواردة بذلك كثيرة جدا.

وقال بعض العامة : إن ميقات أهل العراق لم يثبت بالنص من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنما ثبت قياسا ، لأن أهل العراق كانوا مشركين في زمانه (٢). ولا حجة فيه ، لعلمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنهم يسلمون أو يمرّ على هذا الميقات مسلمون.

قال في التذكرة : واعلم أن أبعد المواقيت ذو الحليفة على عشر مراحل من مكة ، ويليه في البعد الجحفة ، والمواقيت الثلاثة على مسافة واحدة بينها وبين مكة ليلتان قاصدتان (٣).

قوله : ( لأهل العراق العقيق ، وأفضله المسلح ، ويليه غمرة ، وآخره ذات عرق ).

مقتضى العبارة أن العقيق كله ميقات فيجوز الإحرام من كل جهاته ، وبه صرح المصنف في المعتبر (٤) ، ويدل عليه إطلاق الأخبار المتقدمة. وذكر الأصحاب أن الأفضل الإحرام من المسلح ويليه غمرة وآخره ذات عرق ، واستدلوا عليه بما رواه ابن بابويه مرسلا عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : « وقّت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهل العراق العقيق ، وأوّله المسلح ، وأوسطه غمرة ، وآخره ذات عرق ، وأوله أفضل » (٥) وما رواه الشيخ ، عن أبي بصير قال ، سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « حدّ العقيق : أوله‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٥٥ ـ ١٦٨ ، الوسائل ٨ : ٢٢١ أبواب المواقيت ب ١ ح ١.

(٢) كالشافعي في كتاب الأم ٢ : ١٣٨.

(٣) التذكرة ١ : ٣٢٠.

(٤) المعتبر ٢ : ٨٠٣.

(٥) الفقيه ٢ : ١٩٩ ـ ٩٠٧ ، الوسائل ٨ : ٢٢٧ أبواب المواقيت ب ٣ ح ٤.

٢١٦

______________________________________________________

المسلح وآخره ذات عرق » (١).

وحكى الشهيد في الدروس عن ظاهر عليّ بن بابويه والشيخ في النهاية أنهما منعا من تأخير الإحرام إلى ذات عرق إلاّ لتقية أو مرض (٢). وربما كان مستندهما صحيحة عمر بن يزيد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « وقّت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهل المشرق العقيق ، نحوا من بريدين ما بين بريد البعث إلى غمرة » (٣) وروى معاوية بن عمار في الحسن ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : « أول العقيق بريد البعث ، وهو دون المسلح بستة أميال مما يلي العراق ، وبينه وبين غمرة أربعة وعشرون ميلا بريدان » (٤) ولا ريب أن الاحتياط يقتضي أن لا يتجاوز غمرة إلاّ محرما ، لضعف الخبرين المتضمنين لتحديده بذات عرق.

والظاهر الاكتفاء في معرفة هذه المواقيت بالشياع المفيد للظن الغالب ، كما يدل عليه صحيحة معاوية بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « يجزيك إذا لم تعرف العقيق أن تسأل الناس والأعراب عن ذلك » (٥).

واعلم أنا لم نقف في ضبط المسلح وغمرة على شي‌ء يعتدّ به ، وقال في التنقيح : إن المسلح بالسين والحاء المهملتين واحد المسالح وهو المواضع العالية (٦). ونقل الشارح عن بعض الفقهاء أنه ضبط المسلح بالخاء المعجمة من السلخ وهو النزع ، لأنه تنزع فيه الثياب للإحرام ، ومقتضى ذلك‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٥٦ ـ ١٧١ ، الوسائل ٨ : ٢٢٦ أبواب المواقيت ب ٢ ح ٧ ، وفيهما : المسلخ بدل : المسلح.

(٢) الدروس : ٩٤ ، وهو في النهاية : ٢١٠.

(٣) التهذيب ٥ : ٥٦ ـ ١٧٠ ، الوسائل ٨ : ٢٢٣ أبواب المواقيت ب ١ ح ٦.

(٤) الكافي ٤ : ٣٢١ ـ ١٠ ، التهذيب ٥ : ٥٧ ـ ١٧٥ ، الوسائل ٨ : ٢٢٥ أبواب المواقيت ب ٢ ح ٢ ، وفيها : المسلخ بدل : المسلخ.

(٥) الفقيه ٢ : ١٩٨ ـ ٩٠٥ ، الوسائل ٨ : ٢٢٨ أبواب المواقيت ب ٥ ح ١.

(٦) التنقيح الرائع ١ : ٤٤٦.

٢١٧

ولأهل المدينة : مسجد الشجرة ،

______________________________________________________

تأخر التسمية عن وضعه ميقاتا (١).

وأما ذات عرق فقال في القاموس : أنها بالبادية ميقات العراقيين (٢). وقيل : إنها كانت قرية فخربت (٣). ونقل العلاّمة في المنتهى (٤) عن سعيد بن جبير أنه رأى رجلا يريد أن يحرم بذات عرق فأخذ بيده حتى أخرجه من البيوت وقطع به الوادي فأتى به المقابر ثم قال : هذه ذات عرق الأولى (٥).

قوله : ( ولأهل المدينة مسجد الشجرة ).

مقتضى العبارة أن الميقات نفس المسجد ، وهو ظاهر اختيار العلاّمة ـ رحمه‌الله ـ في جملة من كتبه (٦). وجعل بعضهم الميقات الموضع المسمّى بذي الحليفة ، وهو موضع على ستة أميال من المدينة على ما قاله في القاموس (٧) ، وبه قطع الشهيد ـ رحمه‌الله ـ في اللمعة والدروس (٨) ، والمحقق الشيخ علي في حواشي القواعد وقال : إن جواز الإحرام من الموضع المسمى بذي الحليفة وإن كان خارج المسجد لا يكاد يدفع (٩). ويدل عليه إطلاق قوله عليه‌السلام في عدة أخبار صحيحة : « ووقّت لأهل المدينة ذا الحليفة » (١٠) لكن مقتضى رواية الحلبي الصحيحة عن الصادق عليه‌السلام أن ذا الحليفة عبارة عن نفس المسجد فإنه عليه‌السلام قال فيها :

__________________

(١) المسالك ١ : ١٠٣.

(٢) القاموس المحيط ٣ : ٢٧٢.

(٣) كما في مغني المحتاج ١ : ٤٧٣.

(٤) في « ح » : التذكرة.

(٥) المنتهى ٢ : ٦٧١ ، وفي التذكرة ١ : ٣٢٢.

(٦) المنتهى ٢ : ٦٦٥ ، والتذكرة ١ : ٣٢٠ ، والقواعد ١ : ٧٩.

(٧) القاموس المحيط ٣ : ١٣٣.

(٨) اللمعة : ٦٨ ، والدروس : ٩٤.

(٩) جامع المقاصد ١ : ١٦٢.

(١٠) الوسائل ٨ : ٢٢١ أبواب المواقيت ب ١.

٢١٨

وعند الضرورة الجحفة.

______________________________________________________

« ووقت لأهل المدينة ذا الحليفة وهو مسجد الشجرة » (١) وعلى هذا فتصير الأخبار متفقة في المعنى ، ويتعين الإحرام من نفس المسجد. ولو كان المحرم جنبا أو حائضا أحرما به مجتازين ، فإن تعذر الاجتياز أحرما من خارجه.

قوله : ( وعند الضرورة الجحفة ).

قال في القاموس : الجحفة ميقات أهل الشام ، وكانت قرية جامعة على اثنين وثمانين ميلا من مكة ، وكانت تسمى مهيعة ، فنزل بنو عبيد وهم إخوة عاد وكان أخرجهم العماليق من يثرب فجاءهم سيل فاجتحفهم فسميت الجحفة (٢).

وقال الجوهري : جحفة موضع بين مكة والمدينة ، وهو ميقات أهل الشام ، وكان اسمها مهيعة فأجحف السيل بأهلها فسمّيت جحفة (٣).

وقد أجمع علماؤنا على جواز تأخير المدني الإحرام إلى الجحفة عند الضرورة ( وهي المشقة التي يعسر تحملها ) (٤) واحتج عليه في المعتبر (٥) بما رواه الشيخ عن أبي بصير قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : خصال عابها عليك أهل مكة قال : « وما هي؟ » قلت : قالوا : أحرم من الجحفة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحرم من الشجرة فقال : « الجحفة أحد الوقتين ، فأخذت بأدناهما وكنت عليلا » (٦).

وفي الصحيح ، عن الحلبي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام من أين يحرم الرجل إذا جاوز الشجرة؟ فقال : « من الجحفة ، ولا يتجاوز‌

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣١٩ ـ ٢ ، الفقيه ٢ : ١٩٨ ـ ٩٠٣ ، التهذيب ٥ : ٥٥ ـ ١٦٧ ، الوسائل ٨ : ٢٢٢ أبواب المواقيت ب ١ ح ٣.

(٢) القاموس المحيط ٣ : ١٢٥.

(٣) الصحاح ٤ : ١٣٣٥.

(٤) ما بين القوسين ليس في « ض ».

(٥) المعتبر ٢ : ٨٠٣.

(٦) التهذيب ٥ : ٥٧ ـ ١٧٦ ، الوسائل ٨ : ٢٢٩ أبواب المواقيت ب ٦ ح ٤.

٢١٩

______________________________________________________

الجحفة إلاّ محرما » (١).

وليس في هاتين الروايتين تصريح باشتراط الضرورة في جواز الإحرام من الجحفة ، بل ربما ظهر منهما الجواز اختيارا كما هو المنقول عن ظاهر الجعفي (٢) ، ويدل عليه أيضا صحيحة معاوية بن عمار : أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل من أهل المدينة أحرم من الجحفة فقال : « لا بأس » (٣).

وصحيحة عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن إحرام أهل الكوفة وأهل خراسان وما يليهم وأهل الشام ومصر من أين هو؟ قال : « أما أهل الكوفة وخراسان وما يليهم فمن العقيق ، وأهل المدينة من ذي الحليفة والجحفة ، وأهل الشام ومصر من الجحفة ، وأهل اليمن من يلملم ، وأهل السند من البصرة » يعني من ميقات أهل البصرة (٤).

وكيف كان فينبغي القطع بصحة الإحرام من الجحفة وإن حصل الإثم بتأخيره عن ذي الحليفة. وإنما يتوقف التأخير على الضرورة على القول به مع مروره على ذي الحليفة ، فلو عدل ابتداء عن ذلك الطريق أجزأ وكان الإحرام من الجحفة اختياريا.

ولا ينافي ذلك ما رواه الشيخ ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام قال : سألته عن قوم قدموا المدينة فخافوا كثرة البرد وكثرة الأيام ـ يعني الإحرام من الشجرة ـ فأرادوا أن يأخذوا منها إلى ذات عرق فيحرموا منها قال : « لا ـ وهو مغضب ـ من دخل المدينة فليس له أن يحرم إلاّ من المدينة » (٥) لأنا نجيب أولا بالطعن في السند بأن راويها وهو إبراهيم بن‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٥٧ ـ ١٧٧ ، الوسائل ٨ : ٢٢٩ أبواب المواقيت ب ٦ ح ٣.

(٢) نقله عنه الشهيد الأول في الدروس : ١٤٧.

(٣) الفقيه ٢ : ١٩٩ ـ ٩٠٨ ، الوسائل ٨ : ٢٢٩ أبواب المواقيت ب ٦ ح ١.

(٤) التهذيب ٥ : ٥٥ ـ ١٦٩ ، الوسائل ٨ : ٢٢٣ أبواب المواقيت ب ١ ح ٥.

(٥) التهذيب ٥ : ٥٧ ـ ١٧٩ ، الوسائل ٨ : ٢٣٠ أبواب المواقيت ب ٨ ح ١.

٢٢٠