مدارك الأحكام - ج ٥

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي

مدارك الأحكام - ج ٥

المؤلف:

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٩

ولو ادعى الفقر ، فإن عرف صدقه أو كذبه عومل بما عرف منه ، وإن جهل الأمران أعطي من غير يمين ، سواء كان قويا أو ضعيفا.

______________________________________________________

وجهه ووجه عياله ، أو آمره ببيع غلامه أو جمله وهو معيشته وقوته؟! بل يأخذ الزكاة فهي له حلال ولا يبيع داره ولا غلامه ولا جمله » (١).

ولو كانت دار السكنى تزيد عن حاجته بحيث تكفيه قيمة الزيادة حولا وأمكنه بيعها منفردة فالأظهر خروجه بذلك عن حدّ الفقر ، أما لو كانت حاجته تندفع بالأقل منها قيمة فالأظهر أنه لا يكلف بيعها وشراء الأدون ، لإطلاق النص ، ولما في التكليف بذلك من العسر والمشقة ، وبه قطع في التذكرة ثم قال : وكذا الكلام في العبد والفرس (٢).

ولو فقدت هذه المذكورات استثني له أثمانها مع الحاجة إليها ، ولا يبعد إلحاق ما يحتاج إليه في التزويج بذلك مع حاجته إليه.

قوله : ( ولو ادعى الفقر فإن عرف صدقه أو كذبه عومل بما عرف منه ، وإن جهل الأمران أعطي من غير يمين ، سواء كان قويا أو ضعيفا ).

أما أنه يعامل مدعي الفقر بما يعلم من صدقه وكذبه فلا ريب فيه ، فيعطى إذا عرف صدقه ، ويمنع إذا عرف كذبه. وأما أنه يجوز إعطاؤه مع جهالة حاله من غير يمين ، سواء كان قويا أو ضعيفا فهو المعروف من مذهب الأصحاب ، بل ظاهر المصنف في المعتبر (٣) والعلاّمة في كتبه الثلاثة (٤) أنه موضع وفاق ، واستدل عليه في المعتبر بأنه مسلم ادّعى أمرا ممكنا ولم يظهر ما ينافي دعواه فكان قوله مقبولا. واستدل عليه في المنتهى بأنه ادّعى ما يوافق‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٦٢ ـ ١٠ ، الوسائل ٦ : ١٦٢ أبواب المستحقين للزكاة ب ٩ ح ٣.

(٢) التذكرة ١ : ٢٣٦.

(٣) المعتبر ٢ : ٥٦٨.

(٤) التذكرة ١ : ٢٣١ ، والمنتهى ١ : ٥٢٦ ، والمختلف : ١٨٥.

٢٠١

______________________________________________________

الأصل ، وهو عدم المال ، وبأن الأصل عدالة المسلم فكان قوله مقبولا.

وربما ظهر من كلام الشيخ في المبسوط تحقق الخلاف في قبول دعوى القويّ الحاجة لأجل عياله فإنه قال : لو ادّعى القويّ الحاجة إلى الصدقة لأجل عياله ففيه قولان : أحدهما يقبل قوله بلا بيّنة ، والثاني لا يقبل إلاّ ببيّنة لأنه لا يتعذر ، وهذا هو الأحوط (١) ، لكن قال العلاّمة في المختلف : إن الظاهر أن مراد الشيخ بالقائل من الجمهور قال : وصيرورته إلى القول الثاني ليس بجيد ، لأن قوله مقبول عملا بظاهر العدالة المستندة إلى أصل الإسلام (٢).

ويتوجه عليه أولا أن الشيخ لم يصر إلى القول الثاني بل جعله أحوط ، ولا ريب أنه كذلك.

وثانيا أن ما استدل به على القبول من ظاهر العدالة أو أصالة العدالة غير جيد ، لأنها عنده أمر وجودي وهو الملكة المخصوصة فلا معنى للاستناد فيها إلى الأصل ولا إلى الظاهر ، بل إنما ( تحصل ) (٣) بالعشرة المفيدة للظن الغالب بوجودها ، أو التزكية ، كما حقق في محله.

والمسألة محل إشكال من اتفاق الأصحاب ظاهرا على جواز الدفع إلى مدعي الفقر إذا لم يعلم له أصل مال من غير تكليف له بيّنة ولا يمين ، وورود بعض الأخبار بذلك (٤) ، وكون الدعوى موافقة للأصل ، واستلزام التكليف بإقامة البينة على الفقر الحرج والعسر في أكثر الموارد (٥) ، ومن أن الشرط اتصاف المدفوع إليه بأحد الأوصاف الثمانية فلا بد من تحقق الشرط كما في نظائره ،

__________________

(١) المبسوط ١ : ٢٤٧.

(٢) المختلف : ١٨٥.

(٣) في « ض » ، « م » ، « ح » : يعلم حصولها.

(٤) في « ح » زيادة : وإن ضعف سندها.

(٥) في « م » و « ح » زيادة : مع خلوّ الأخبار من ذلك ، بل ورود الأمر بإعطاء السائل ولو كان على ظهر فرس.

٢٠٢

وكذا لو كان له أصل مال وقيل : بل يحلف على تلفه.

ولا يجب إعلام الفقير أن المدفوع إليه زكاة ، فلو كان ممن يترفع عنها وهو مستحق جاز صرفها إليه على وجه الصلة.

______________________________________________________

والاحتياط يقتضي عدم الاكتفاء بمجرد الدعوى إلاّ مع عدالة المدعي أو ( الظن الغالب بصدقه ) (١).

قوله : ( وكذا لو كان له أصل مال وادعى تلفه وقيل : بل يحلف على تلفه ).

القول بتوقف قبول قوله على اليمين منقول عن الشيخ لأصالة بقاء المال ، وحكى عنه المصنف في المعتبر أنه لم يكتف باليمين بل قال : إنه يكلّف البيّنة ، ثم قال المصنف ـ رحمه‌الله ـ : والأشبه أنه لا يكلّف بيّنة تعويلا على ظهور عدالته (٢). ويتوجه على هذا الاستدلال ما سبق. وما ذهب إليه الشيخ لا يخلو من قوة ، نعم لو كان المدعي عدلا فالظاهر قبول قوله.

قوله : ( ولا يجب إعلام الفقير أن المدفوع إليه زكاة ، فلو كان ممن يترفع عنها وهو مستحق جاز صرفها إليه على وجه الصلة ).

إنما جاز ذلك لأن المفروض كون المدفوع إليه مستحقا ، والدفع مشتملا على الأمور المعتبرة فيه من النية الصادرة من المالك أو وكيله عند الدفع أو بعده مع بقاء العين ، وليس ثمّ ما يتخيل كونه مانعا إلاّ عدم الإعلام وهو لا يصلح للمانعية تمسكا بمقتضى الأصل ، وما رواه الكليني وابن بابويه ، عن أبي بصير قال ، قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : الرجل من أصحابنا يستحيي أن يأخذ الزكاة فأعطيه من الزكاة ولا أسمّي له أنها من الزكاة؟ فقال : « أعطه ولا تسمّ ولا تذلّ المؤمن » (٣).

__________________

(١) بدل ما بين القوسين ، في « ض » و « م » : ظن صدقه.

(٢) المعتبر ٢ : ٥٦٨.

(٣) الكافي ٣ : ٥٦٣ ـ ٣ ، الفقيه ٢ : ٨ ـ ٢٥ ، الوسائل ٦ : ٢١٩ أبواب المستحقين للزكاة ب ٥٨ ح ١.

٢٠٣

ولو دفعها إليه على أنه فقير فبان غنيا ارتجعت مع التمكن.

______________________________________________________

ومقتضى الرواية استحباب الدفع إلى المترفع عنها على هذا الوجه ، وبه جزم العلاّمة في التذكرة وقال : إنه لا يعرف فيه خلافا (١). لكن الرواية ضعيفة السند باشتراك الراوي بين الثقة والضعيف ، ومع ذلك فهي معارضة بما رواه الكليني في الحسن ، عن محمد بن مسلم قال ، قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : الرجل يكون محتاجا فنبعث إليه بالصدقة فلا يقبلها على وجه الصدقة يأخذه من ذلك ذمام واستحياء وانقباض ، أفنعطيها إياه على غير ذلك الوجه وهي منّا صدقة؟ فقال : « لا ، إذا كانت زكاة فله أن يقبلها ، فإن لم يقبلها على وجه الزكاة فلا تعطها إياه ، وما ينبغي له أن يستحيي ممّا فرض الله عزّ وجلّ ، إنما هي فريضة الله فلا يستحيي منها » (٢) ويمكن حملها على الكراهة.

وروى الكليني بعدّة طرق عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : « تارك الزكاة وقد وجبت له مثل مانعها وقد وجبت عليه » (٣).

قوله : ( ولو دفعها إليه على أنه فقير فبان غنيا ارتجعت مع التمكن ).

لا ريب في جواز ارتجاعها إذا كان القابض عالما بالحال ، ومع تلفها يلزم القابض مثلها أو قيمتها ، لأنه والحال هذه يكون غاصبا محضا فيتعلق به الضمان. أما مع انتفاء العلم فقد قطع المصنف في المعتبر بعدم جواز الارتجاع ، لأن الظاهر أنها صدقة (٤). وهو جيد إذا ظهر كونها كذلك.

واختلف كلام العلاّمة في هذه المسألة فقال في المنتهى : إنه ليس للمالك الرجوع والحال هذه ، لأن دفعه محتمل للوجوب والتطوع (٥). واستقرب في‌

__________________

(١) التذكرة ١ : ٢٣١.

(٢) الكافي ٣ : ٥٦٤ ـ ٤ ، الوسائل ٦ : ٢١٩ أبواب المستحقين للزكاة ب ٥٨ ح ٢.

(٣) الكافي ٣ : ٥٦٣ ـ ١ ، الوسائل ٦ : ٢١٨ أبواب المستحقين للزكاة ب ٥٧ ح ٢.

(٤) المعتبر ٢ : ٥٦٩.

(٥) المنتهى ١ : ٥٢٧.

٢٠٤

وإن تعذر كانت ثابتة في ذمة الآخذ. ولم يلزم الدافع ضمانها ، سواء كان الدافع المالك ، أو الإمام ، أو الساعي.

______________________________________________________

التذكرة جواز الاسترجاع ، لفساد الدفع ، ولأنه أبصر بنيته (١). وهو جيد مع بقاء العين وانتفاء القرائن الدالة على كون المدفوع صدقة.

قوله : ( فإن تعذر كانت ثابتة في ذمة الآخذ ، ولم يلزم الدافع ضمانها ، سواء كان الدافع المالك أو الإمام أو الساعي ).

أما بقاؤها في ذمة الآخذ مع تعذر الارتجاع فقد تقدم الكلام فيه ، وأما أنه لا يلزم الدافع ضمانها إذا تعذر ارتجاعها فقال في المنتهى : إنه لا خلاف فيه بين العلماء إن كان الدافع الإمام أو نائبه ، لأن المالك أدّى الواجب وهو الدفع إلى الإمام أو نائبه فيخرج عن العهدة ، والدافع فعل المأمور به وهو الدفع إلى من يظهر منه الفقر ، إذ الاطّلاع على الباطن متعذر ، وامتثال الأمر يقتضي الإجزاء (٢).

وإنما الخلاف فيما إذا كان الدافع هو المالك فقال الشيخ في المبسوط وجماعة : إنه لا ضمان عليه أيضا ، لأنه دفعها إلى من ظاهره الاستحقاق دفعا مشروعا فلم يلزمه الضمان كالإمام (٣).

وقال المفيد (٤) وأبو الصلاح (٥) : تجب عليه الإعادة ، لأنه دفعها إلى غير مستحقها فلا تقع مجزية كالدين ، ولما رواه الشيخ في الصحيح ، عن الحسين بن عثمان ، عمّن ذكره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في رجل يعطي زكاة ماله رجلا وهو يرى أنه معسر فوجده موسرا ، قال : « لا يجزي عنه » (٦).

__________________

(١) التذكرة ١ : ٢٤٥.

(٢) المنتهى ١ : ٥٢٧.

(٣) المبسوط ١ : ٢٦١.

(٤) المقنعة : ٤٢.

(٥) الكافي في الفقه : ١٧٣.

(٦) التهذيب ٤ : ٥١ ـ ١٣٢ ، الوسائل ٦ : ١٤٨ أبواب المستحقين للزكاة ب ٢ ح ٥.

٢٠٥

______________________________________________________

واستقرب المصنف في المعتبر والعلاّمة في المنتهى سقوط الضمان مع الاجتهاد وثبوته بدونه (١) ، واستدلاّ على هذا التفصيل بأن المالك أمين على الزكاة فيجب عليه الاجتهاد والاستظهار في دفعها إلى مستحقها ، وبما رواه الشيخ في الحسن ، عن عبيد بن زرارة قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل عارف أدّى الزكاة إلى غير أهلها زمانا ، هل عليه أن يؤدّيها ثانية إلى أهلها إذا علمهم؟ قال : « نعم » قلت : فإن لم يعرف لها أهلا فلم يؤدّها أو لم يعلم أنها عليه فعلم بعد ذلك؟ قال : « يؤدّيها إلى أهلها لما مضى » قال ، قلت : فإن لم يعلم أهلها فدفعها إلى من ليس هو لها بأهل وقد كان طلب واجتهد ثم علم بعد سوء ما صنع؟ قال : « ليس عليه أن يؤدّيها مرة أخرى » (٢).

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في التهذيب : وعن زرارة مثله غير أنه قال : « إن اجتهد فقد بري‌ء ، وإن قصّر في الاجتهاد والطلب فلا » (٣).

ويتوجه على الأول أنه إن أريد بالاجتهاد القدر المسوّغ لجواز الدفع ولو بسؤال الفقير فلا ريب في اعتباره إلاّ أن مثل ذلك لا يسمى اجتهادا ، ومع ذلك فيرجع هذا التفصيل بهذا الاعتبار إلى ما أطلقه الشيخ في المبسوط من انتفاء الضمان مطلقا (٤) ، وإن أريد به البحث عن حال المستحق زيادة على ذلك كما هو المتبادر من لفظ الاجتهاد فهو غير واجب إجماعا على ما نقله جماعة.

وعلى الروايتين أن موردها خلاف محل النزاع ، لكنهما يدلاّن بالفحوى على انتفاء الضمان مع الاجتهاد في محل النزاع ، أما الضمان مع انتفاء الاجتهاد فلا دلالة لهما عليه في المتنازع بوجه.

وكيف كان فينبغي القطع بسقوط الضمان مع الاجتهاد ، لتحقق‌

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٥٦٩ ، والمنتهى ١ : ٥٢٧.

(٢) التهذيب ٤ : ١٠٢ ـ ٢٩٠ ، الوسائل ٦ : ١٤٧ أبواب المستحقين للزكاة ب ٢ ح ١.

(٣) التهذيب ٤ : ١٠٣.

(٤) راجع ص ٢٠٥ هامش ٣.

٢٠٦

وكذا لو بان أن المدفوع إليه كافر ، أو فاسق ، أو ممن تجب نفقته ، أو هاشمي وكان الدافع من غير قبيله.

______________________________________________________

الامتثال ، وفحوى الروايتين ، وإنما يحصل التردد مع استناد الدفع إلى مجرد الدعوى من كون الدفع مشروعا فلا يستعقب الإعادة ، ومن عدم وصول الحق إلى مستحقه ، ولعل الأول أرجح.

قوله : ( وكذا لو بان أن المدفوع إليه كافر ، أو فاسق ، أو ممن تجب نفقته ، أو هاشمي وكان الدافع إليه من غير قبيله ).

أي وكذا يرتجع مع التمكن ، ولا يلزم الدافع ضمانها مع التعذر لو تبين أن المدفوع إليه كافر ، أو فاسق إن منعنا إعطاء الفاسق ، أو من تجب نفقته على الدافع ، أو هاشمي إذا كان الدافع من غير قبيله ، وقد قطع الشيخ (١) وأكثر الأصحاب (٢) بعدم لزوم الإعادة في جميع هذه الصور.

واستدل عليه في المعتبر بأن الدفع واجب فيكتفى في شرطه بالظاهر ، تعليقا للوجوب على الشرط الممكن فلم يضمن لعدم العدوان في التسليم المشروع (٣).

وحكى العلاّمة في المنتهى عن بعض العامّة قولا بلزوم الإعادة في جميع هذه الصور ، لعدم وصول الحق إلى مستحقه فيضمن كالدين إذا دفع إلى غير مالكه ، ولأن الاتصال بالرسول والقرابة والكفر والفسوق لا يخفى مع الاجتهاد والطلب ، بخلاف الغني فإن حاله يخفى في الأغلب كما قال الله تعالى : ( يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ) (٤).

ثم أجاب عن الأول بأن مستحق الدين متعين فلا يجوز دفعه إلاّ مع‌

__________________

(١) المبسوط : ٢٦١.

(٢) منهم أبو الصلاح في الكافي في الفقه : ١٧٣ ، وابن إدريس في السرائر : ١٠٦ ، والعلامة في المنتهى ١ : ٥٢٧.

(٣) المعتبر ٢ : ٥٧٠.

(٤) البقرة : ٢٧٣.

٢٠٧

والعاملون : وهم عمال الصدقات.

______________________________________________________

اليقين ، بخلاف الزكاة.

وعن الثاني بأن الخفاء والظهور متطرق إلى الجميع على سواء (١). وفي الجوابين نظر ، والمطابق للقواعد انتفاء الضمان مع الدفع المشروع مطلقا.

واستثنى المصنف (٢) والعلاّمة (٣) من ذلك ما لو ظهر المدفوع إليه عبدا للمالك فأوجبا الإعادة فيه مطلقا ، لأن المال لم يخرج عن ملك المالك بذلك فجرى مجرى عزلها من غير تسليم. ويشكل بأن ذلك آت بعينه في سائر الصور ، فإن غير المستحق لا يملك الزكاة في نفس الأمر سواء كان عبد المالك أو غيره ، والجواب عن الجميع واحد وهو تحقق التسليم المشروع المقتضي للإجزاء.

قوله : ( والعاملون ، وهم عمال الصدقات ).

أي الساعون في جبايتها وتحصيلها بأخذ وكتابة وحساب وحفظ وقسمة ونحو ذلك ، وقد أجمع علماؤنا وأكثر العامة (٤) على استحقاق هؤلاء نصيبا من الزكاة وإن كانوا أغنياء. لقوله (٥) تعالى ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها ) (٦) والعطف بالواو يقتضي التسوية في المعنى والإعراب.

وقال بعض العامة : إن ما يأخذه العامل يكون عوضا وأجرة لا زكاة ، لأنه لا يعطي إلاّ مع العمل والزكاة تدفع استحقاقا لا عوضا ، ولأنه يأخذها مع الغنى والصدقة لا تحل لغنيّ (٧).

__________________

(١) المنتهى ١ : ٥٢٧.

(٢) المعتبر ٢ : ٥٧٠.

(٣) المنتهى ١ : ٥٢٧ ، والتذكرة ١ : ٢٤٥.

(٤) منهم الشافعي في الأم ٢ : ٧٢ ، وابن قدامة في المغني ٢ : ٥١٦.

(٥) في « ض » ، « م » ، « ح » : لإطلاق قوله.

(٦) التوبة : ٦٠.

(٧) منهم الكاساني في بدائع الصنائع ٢ : ٤٤ ، وابن قدامة في المغني ٢ : ٥١٦.

٢٠٨

______________________________________________________

والجواب عن الأول أن توقف أخذهم على العمل لا ينافي استحقاقهم لها بشرط العمل ، وعن الثاني أن العامل يأخذ الزكاة باعتبار عمله لا باعتبار فقره فجاز له الأخذ مع الغنى كما يعطى ابن السبيل وإن كان غنيّا في بلده.

فائدة : روى الكليني ـ رضي‌الله‌عنه ـ عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حمّاد بن عيسى ، عن حريز ، عن بريد بن معاوية ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « بعث أمير المؤمنين عليه‌السلام مصدّقا من الكوفة إلى باديتها فقال له : انطلق يا عبد الله وعليك بتقوى الله وحده لا شريك له ، ولا تؤثرنّ دنياك على آخرتك ، وكن حافظا لما ائتمنتك عليه ، راعيا لحق الله فيه ، حتى تأتي نادي بني فلان ، فإذا قدمت فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ، ثم امض إليهم بسكينة ووقار حتى تقوم بينهم فتسلّم عليهم ، ثم قل لهم : يا عباد الله أرسلني إليكم وليّ الله لآخذ منكم حق الله في أموالكم ، فهل لله في أموالكم من حق فتؤدّوه إلى وليّه ، فإن قال لك قائل : لا ، فلا تراجعه ، وإن أنعم لك منعم منهم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو تعده إلاّ خيرا ، فإذا أتيت ماله فلا تدخله إلاّ بإذنه فإنّ أكثره له ، فقل له : يا عبد الله أتأذن لي في دخول مالك؟ فإن أذن فلا تدخل دخول متسلّط عليه ولا عنف به ، فاصدع (١) المال صدعين ثم خيّره أيّ الصدعين شاء ، فأيّهما اختار فلا تعرض له ، ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيّره فأيّهما اختار فلا تعرض له ، ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيّره فأيّهما اختار فلا تعرض له ، فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله عزّ وجلّ في ماله ، فإذا بقي ذلك فاقبض حق الله منه ، فإن استقالك فأقله ثم اخلطهما واصنع مثل ما صنعت أوّلا حتى تأخذ حق الله في ماله ، فإذا قبضته فلا توكّل به إلاّ ناصحا شفيقا أمينا حفيظا غير معنف بشي‌ء منها ، ثم احدر ما اجتمع عندك من كل ناد إلينا نصيّره حيث أمر الله عزّ وجلّ ، فإذا انحدر بها‌

__________________

(١) يقال صدعت الرداء صدعا إذا شققته والاسم الصدع بالكسر ، ومن الحديث إن المصدّق يجعل الغنم صدعين ثم يأخذ منهما الصدقة أي مرتين ـ النهاية لابن الأثير ٣ : ١٦ ـ ١٧.

٢٠٩

______________________________________________________

رسولك فأوعز إليه أن لا يحول بين ناقة وبين فصيلها ولا يفرّق بينهما ، ولا يصرّنّ لبنها فيضرّ ذلك بفصيلها ، ولا يجهد بها ركوبا ، وليعدل بينهنّ في ذلك ، وليوردهنّ كل ماء يمرّ به ، ولا يعدل بهنّ عن نبت الأرض إلى جوادّ الطرق في الساعة التي تريح فيها وتعنق ، وليرفق بهن جهده حتى يأتينا بإذن الله سجاحا سمانا غير متعبات ولا مجهدات فنقسمهنّ بإذن الله على كتاب الله وسنّة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى أولياء الله فإن ذلك أعظم لأجرك وأقرب لرشدك ، ينظر الله إليها وإليك وإلى جهدك ونصيحتك لمن بعثك وبعثت في حاجته ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ما ينظر الله إلى وليّ له يجهد نفسه بالطاعة والنصيحة لإمامه إلاّ كان معنا في الرفيق الأعلى.

قال : ثم بكى أبو عبد الله عليه‌السلام ثم قال : يا بريد ، والله ما بقيت لله حرمة إلاّ انتهكت ، ولا عمل بكتاب الله ولا سنّة نبيه في هذا العالم ، ولا أقيم في هذا الخلق حدّ منذ قبض الله أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولا عمل بشي‌ء من الحق إلى يوم الناس هذا ، ثم قال : أما والله لا تذهب الأيام والليالي حتى يحيي الله الموتى ، ويميت الأحياء ، ويردّ الحق إلى أهله ، ويقيم دينه الذي ارتضاه لنفسه ونبيّه ، فأبشروا ثمّ أبشروا ، فو الله ما الحق إلاّ في أيديكم » (١) وإنما نقلنا هذا الحديث بطوله لما فيه من الفوائد.

قال ابن إدريس ـ رحمه‌الله ـ في سرائره بعد أن أورد هذا الخبر : قوله عليه‌السلام : « ولا يعدل بهن عن نبت الأرض إلى جواد الطرق في الساعات التي تريح فيها وتعنق » قال محمد بن إدريس : سمعت من يقول : تريح وتغبق بالغين المعجمة والباء يعتقده أنه من الغبوق وهو الشرب بالعشي ، وهذا تصحيف فاحش وخطأ قبيح ، وإنما هو بالعين غير المعجمة والنون المفتوحة وهو ضرب من سير الإبل شديد ، قال الراجز : يا ناق سيري عنقا فسيحا إلى‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٣٦ ـ ١ ، الوسائل ٦ : ٨٨ أبواب زكاة الأنعام ب ١٤ ح ١ ، وأوردها في التهذيب ٤ : ٩٦ ـ ٢٧٤.

٢١٠

ويجب أن تستكمل فيهم أربع صفات : التكليف ، والإيمان ، والعدالة ، والفقه. ولو اقتصر على ما يحتاج إليه منه جاز. (١) وأن لا يكون هاشميّا

______________________________________________________

سليمان فتستريحا ، لأن معنى الكلام أنه لا يعدل بهنّ عن نبت الأرض إلى جوادّ الطرق في الساعات التي لها فيها راحة ، ولا في الساعات التي عليها فيها مشقة ، ولأجل هذا قال : « تريح » من الراحة ولو كان من الرواح لقال : تروح ، وما كان يقول : تريح ، ولأن الرواح عند العشي يكون وقريبا منه ، والغبوق وهو شرب العشي على ما ذكرناه ، ولم يبق له معنى ، وإنما المعنى ما قلناه ، وإنما أوردت هذه اللفظة في كتابي لأني سمعت جماعة من أصحابنا الفقهاء يصحّفونها (١). انتهى كلامه رحمه‌الله.

قوله : ( ويجب أن تستكمل فيهم أربع صفات : التكليف ، والإيمان ، والعدالة ، والفقه. ولو اقتصر على ما يحتاج إليه فيه جاز ).

لا ريب في اعتبار استجماع العامل لهذه الصفات ، لأن العمالة تتضمن الاستيمان على مال الغير ولا أمانة لغير العدل ، ولقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في الخبر المتقدم : « فإذا قبضته فلا توكّل به إلاّ ناصحا شفيقا أمينا حفيظا » (٢) وإنما يعتبر الفقه فيمن يتولى ما يفتقر إليه ، والمراد منه معرفته بما يحتاج إليه من قدر الواجب وصفته ومصرفه ، ويختلف ذلك باختلاف حال العامل بالنسبة إلى ما يتولاّه من الأعمال.

ويظهر من المصنف في المعتبر الميل إلى عدم اعتبار الفقه في العامل والاكتفاء فيه بسؤال العلماء (٣) ، واستحسنه في البيان (٤) ، ولا بأس به.

قوله : ( وأن لا يكون هاشميا ).

__________________

(١) السرائر : ١٠٨.

(٢) في ص ٢٠٩.

(٣) المعتبر ٢ : ٥٧١.

(٤) البيان : ١٩٤.

٢١١

وفي اعتبار الحرية تردد.

______________________________________________________

هذا الشرط إنما يعتبر في العامل الذي يأخذ النصيب ، لا في مطلق‌ العمالة ، فلو كان العامل من ذوي القربى وتبرع بالعمل أو دفع إليه الإمام شيئا من بيت المال جاز ، لأن المقتضي للمنع الأخذ من الزكاة وهو منتف هنا. وكذا لو تولى عمالة قبيلة ، أو مع قصور الخمس ، ويدل على اعتبار هذا الشرط ما رواه الشيخ في الصحيح ، عن العيص بن القاسم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « إن أناسا من بني هاشم أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألوه أن يستعملهم على صدقات المواشي ، وقالوا : يكون لنا هذا السهم الذي جعله الله عزّ وجلّ للعاملين عليها فنحن أولى به ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا بني عبد المطلب إن الصدقة لا تحل لي ولا لكم ، ولكن قد وعدت الشفاعة » ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « اللهم اشهد لقد وعدها ، فما ظنكم يا بني عبد المطلب إذا أخذت بحلقة باب الجنة أتروني مؤثرا عليكم غيركم؟! » (١).

وحكى الشيخ في المبسوط عن قوم جواز كون العامل هاشميا ، لأنه يأخذ على وجه الأجرة ، فكان كسائر الإجارات (٢). وهو ضعيف جدا ، قال في المختلف : والظاهر أن القوم الذي نقل الشيخ عنهم من الجمهور ، إذ لا أعرف قولا لعلمائنا في ذلك (٣).

قوله : ( وفي اعتبار الحرية تردد ).

اختلف الأصحاب في اعتبار هذا الشرط ، فذهب الشيخ إلى اعتباره (٤) ، واستدل له في المعتبر بأن العامل يستحق نصيبا من الزكاة ، والعبد لا يملك ومولاه لم يعمل ، ثم أجاب عنه بأن عمل العبد كعمل المولى (٥).

__________________

(١) التهذيب ٤ : ٥٨ ـ ١٥٤ ، الوسائل ٦ : ١٨٥ أبواب المستحقين للزكاة ب ٢٩ ح ١.

(٢) المبسوط ١ : ٢٤٨.

(٣) المختلف : ١٨٤.

(٤) المبسوط ١ : ٢٤٨ ، والاقتصاد : ٢٨٣.

(٥) المعتبر ٢ : ٥٧١.

٢١٢

والإمام بالخيار بين أن يقرر له جعالة مقدرة أو أجرة عن مدة مقدّرة.

والمؤلّفة :

وهم الكفار الذين يستمالون إلى الجهاد ، ولا نعرف مؤلفة غيرهم

______________________________________________________

وقوّى العلاّمة في المختلف عدم اعتبار هذا الشرط ، لحصول الغرض بعمله ، ولأن العمالة نوع إجارة والعبد صالح لذلك مع إذن سيده (١). ويظهر من المصنف في المعتبر الميل إليه (٢) ، ولا بأس به. أما المكاتب فلا ريب في جواز عمالته ، لأنه صالح للملك والتكسب.

قوله : ( والإمام مخيّر بين أن يقرر لهم جعالة مقدرة ، أو أجرة عن مدة مقررة ).

لا ريب في جواز كل من الأمرين ، مع ثالث وهو عدم التعيين وإعطاؤهم ما يراه الإمام عليه‌السلام كباقي الأصناف ، لما رواه الكليني في الحسن ، عن الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ، قلت له : ما يعطى المصدّق؟ قال : « ما يرى الإمام ولا يقدّر له شي‌ء » (٣).

قال الشهيد في البيان : ولو عيّن له أجرة فقصر السهم عن أجرته أتمّه الإمام من بيت المال أو من باقي السهام ، ولو زاد نصيبه عن أجرته فهو لباقي المستحقين (٤). هذا كلامه ـ رحمه‌الله ـ ولا يخفى أن ذلك إنما يتفرع على وجوب البسط على الأصناف على وجه التسوية وهو غير معتبر عندنا.

قوله : ( والمؤلّفة ، وهم الكفار الذين يستمالون للجهاد ، ولا نعرف مؤلفة غيرهم ).

__________________

(١) المختلف : ١٨٥.

(٢) المعتبر ٢ : ٥٧١.

(٣) الكافي ٣ : ٥٦٣ ـ ١٣ ، الوسائل ٦ : ١٧٨ أبواب المستحقين للزكاة ب ٢٣ ح ٣.

(٤) البيان : ١٩٤.

٢١٣

______________________________________________________

أجمع العلماء كافة على أن للمؤلّفة قلوبهم سهما من الزكاة ، والقرآن‌ الكريم ناطق بذلك (١) ، وإنما الخلاف في اختصاص التأليف بالكفّار أو شموله للمسلمين أيضا ، فقال الشيخ في المبسوط : ( وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) عندنا هم الكفّار الذين يستمالون بشي‌ء من مال الصدقات إلى الإسلام ويتألّفون ليستعان بهم على قتال أهل الشرك ، ولا يعرف أصحابنا مؤلفة أهل الإسلام (٢). واختاره المصنف في هذا الكتاب وجماعة (٣).

وقال المفيد ـ رحمه‌الله ـ : ( الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) ضربان : مسلمون ومشركون (٤).

وربما ظهر من كلام ابن الجنيد اختصاص التأليف بالمنافقين ، فإنه قال : ( الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) من أظهر الدين بلسانه وأعان المسلمين وإمامهم بيده وكان معهم إلاّ قلبه (٥).

وحكى المصنف في المعتبر عن الشافعي أنه قسّم المؤلّفة قسمة أوليّة إلى قسمين : مسلمين ومشركين وقال : إن المشركين ضربان : ضرب لهم قوّة وشوكة يخاف منهم فإن أعطوا كفّوا شرهم وكفّ غيرهم معهم ، وضرب لهم ميل إلى الإسلام فيعطون من سهم المصالح لتقوى نيّتهم في الإسلام ويميلون إليه.

والمسلمين أربعة : قوم لهم نظراء فإذا أعطوا رغب نظراؤهم ، وقوم في نيّاتهم ضعف فيعطون لتقوى نيّاتهم ، وقوم من الأعراب في أطراف بلاد الإسلام بإزائهم قوم من أهل الشرك فإذا أعطوا رغب الآخرون ، وقوم بإزائهم آخرون‌

__________________

(١) التوبة : ٦٠.

(٢) المبسوط ١ : ٢٤٩.

(٣) منهم ابن البراج في شرح الجمل : ٢٦٠ ، والعلامة في التحرير ١ : ٦٨ ، والشهيد الأول في البيان : ١٩٤.

(٤) نقله عنه في المعتبر ٢ : ٥٧٣.

(٥) حكاه عنه في المختلف : ١٨١.

٢١٤

______________________________________________________

من أصحاب الصدقات فإذا أعطوا جبوها وأغنوا الإمام عن عامل. ثم قال المصنف ـ رحمه‌الله ـ : ولست أرى بهذا التفصيل بأسا ، فإن ذلك مصلحة ، ونظر المصلحة موكول إلى الإمام (١).

وأقول : إنه لا ريب في جواز الدفع إلى جميع هذه الأقسام من الزكاة لكن مع عدم تحقق التأليف يكون الدفع من سهم المصالح أو من سهم العاملين.

وهل يسقط هذا السهم بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قيل : نعم ، وبه قطع ابن بابويه فيمن لا يحضره الفقيه (٢) ، وهو قول لبعض العامة ، معللين بأن الله سبحانه أعزّ الدين وقوّى شوكته فلا يحتاج إلى التأليف (٣).

وقال المصنف في المعتبر : إن الظاهر بقاؤه ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعتمد التأليف إلى حين وفاته ولا نسخ بعده (٤).

وقال الشيخ : إنه يسقط في زمن غيبة الإمام عليه‌السلام خاصة ، لأن الذي يتألفهم إنما يتألفهم للجهاد ، وأمر الجهاد موكول إلى الإمام عليه‌السلام وهو غائب (٥).

قال في المنتهى : ونحن نقول : قد يجب الجهاد في الجهاد في حال غيبة الإمام عليه‌السلام بأن يدهم المسلمين ـ والعياذ بالله ـ عدوّ يخاف منه عليهم فيجب عليهم الجهاد لدفع الأذى لا للدعاء إلى الإسلام ، فإن احتيج إلى التأليف حينئذ جاز صرف السهم إلى أربابه من المؤلّفة (٦). ولا ريب في قوّة هذا القول ، تمسكا بظاهر التنزيل السالم من المعارض.

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٥٧٣.

(٢) الفقيه ٢ : ٣.

(٣) منهم الكاساني في بدائع الصنائع ٢ : ٤٥ ، وابن رشد في بداية المجتهد ١ : ٢٧٥.

(٤) المعتبر ٢ : ٥٧٣ و ٥٧٤.

(٥) النهاية : ١٨٥.

(٦) المنتهى ١ : ٥٢٠.

٢١٥

( وَفِي الرِّقابِ ) :

وهم ثلاثة : المكاتبون ، والعبيد الذين تحت الشدّة ، والعبد يشترى ويعتق وإن لم يكن في شدّة لكن بشرط عدم المستحق.

______________________________________________________

قوله : ( وَفِي الرِّقابِ ).

إنما أتى المصنف هنا بلفظ « في » ولم يجعل المستحق نفس الرقاب على نهج ما قبله ، متابعة للآية الشريفة ، وذكر جمع من المفسرين أن الوجه في العدول فيها من « اللام » إلى « في » أن الأصناف الأربعة الأولى يصرف المال إليهم حتى يتصرّفوا فيه كيف شاؤا ، وأما الأربعة الأخيرة فلا يصرف المال إليهم كذلك ، بل إنما يصرف في جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا الزكاة ، ففي الرقاب يوضع في تخليص رقابهم من الرّقّ والأسر ، وفي ( الْغارِمِينَ ) يصرف المال إلى قضاء ديونهم ، وكذا ( فِي سَبِيلِ اللهِ ) و ( ابْنِ السَّبِيلِ ) (١).

وقال في الكشاف : إنما عدل للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ، لأن « في » للوعاء فنبّه به على أنهم أحقاء بأن يجعلوا مصبّا للصدقات ، وتكرير « في » في قوله ( وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب ( وَالْغارِمِينَ ) (٢).

قوله : ( وهم ثلاثة : المكاتبون ، والعبيد الذين تحت الشدة ، والعبد يشترى ويعتق وإن لم يكن في شدة ، لكن بشرط عدم المستحق ).

أما جواز الدفع من هذا السهم إلى المكاتبين والعبيد إذا كانوا في ضرّ وشدّة فهو قول علمائنا وأكثر العامة (٣) ، لظاهر قوله تعالى ( وَفِي الرِّقابِ ) والمراد إزالة رقّها فيتناول الجميع.

__________________

(١) منهم النيسابوري في غرائب القرآن ( جامع البيان للطبري ١٠ ) : ١١١ ، والبيضاوي في تفسيره ٣ : ٧٢.

(٢) الكشاف ٢ : ٢٨٣.

(٣) حكاه الكاساني في بدائع الصنائع ٢ : ٤٥ ، والقرطبي في بداية المجتهد ١ : ٢٧٧‌

٢١٦

______________________________________________________

قال في المعتبر (١) : وإنما شرطنا الشدة والضرّ لما رواه الأصحاب عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه‌السلام : في الرجل تجتمع عنده الزكاة يشتري بها نسمة يعتقها فقال : « إذن يظلم قوما آخرين حقوقهم » ثم قال : « إلاّ أن يكون عبدا مسلما في ضرورة يشتريه ويعتقه » (٢) وهذه الرواية أوردها الشيخ في الصحيح ، عن عمرو بن أبي نصر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

وأما جواز شراء العبد من الزكاة وعتقه وإن لم يكن في شدّة بشرط عدم المستحق فقال في المعتبر أيضا : إن عليه فقهاء الأصحاب (٣). ويدل عليه ما رواه الشيخ في الموثق ، عن عبيد بن زرارة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أخرج زكاة ماله ألف درهم فلم يجد لها موضعا يدفع ذلك إليه فنظر إلى مملوك يباع فاشتراه بتلك الألف الدرهم التي أخرجها من زكاته فأعتقه ، هل يجوز ذلك؟ قال : « نعم لا بأس بذلك » (٤).

وجوّز العلاّمة في القواعد الإعتاق من الزكاة مطلقا وشراء الأب منها (٥) ، وقوّاه ولده في الشرح (٦) ونقله عن المفيد وابن إدريس ، وهو جيد ، لإطلاق الآية الشريفة ، ويؤيده ما رواه ابن بابويه في كتاب علل الشرائع والأحكام عن أبيه ، عن سعد بن عبد الله ، عن هارون بن مسلم ، عن أيوب بن الحرّ أخي أديم بن الحرّ قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : مملوك يعرف هذا الأمر الذي نحن عليه أشتريه من الزكاة وأعتقه؟ قال ، فقال : « اشتره وأعتقه » قلت : فإن هو مات وترك مالا؟ قال ، فقال : « ميراثه لأهل الزكاة ، لأنه‌

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٥٧٤.

(٢) الكافي ٣ : ٥٥٧ ـ ٢ ، التهذيب ٤ : ١٠٠ ـ ٢٨٢ ، الوسائل ٦ : ٢٠٢ أبواب المستحقين للزكاة ب ٤٣ ح ١.

(٣) المعتبر ٢ : ٥٧٥.

(٤) التهذيب ٤ : ١٠٠ ـ ٢٨١ ، الوسائل ٦ : ٢٠٣ أبواب المستحقين للزكاة ب ٤٣ ح ٢.

(٥) القواعد ١ : ٥٧.

(٦) إيضاح الفوائد ١ : ١٩٦.

٢١٧

وروي رابع ، وهو من وجبت عليه كفارة ولم يجد ، فإنه يعتق عنه ، وفيه تردد.

______________________________________________________

اشتري بشيئهم (١) » قال : وفي حديث آخر : بما لهم (٢).

وما رواه الكليني ـ رضي‌الله‌عنه ـ عن عدّة من أصحابه ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسن بن محبوب ، عن أبي محمد الوابشي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سأله بعض أصحابنا عن رجل اشترى أباه من الزكاة زكاة ماله ، قال : « اشترى خير رقبة ، لا بأس بذلك » (٣).

وذكر الشارح أن اشتراط الضرورة أو عدم المستحق إنما هو في إعتاقه من سهم الرقاب ، فلو أعتق من سهم سبيل الله لم يتوقف على ذلك (٤). وهو غير جيد ، لعدم استفادته من النص بل ظهوره في خلافه ، إذ المتبادر من الرواية الأولى كون الشراء وقع بجميع الزكاة ، والأولى حملها على الكراهة. أما الثانية فلا دلالة لها على اعتبار هذا الشرط أعني عدم المستحق ، لأن ذلك إنما وقع في كلام السائل ، وليس في الجواب دلالة على اختصاص الحكم بالمسئول عنه كما هو واضح.

قوله : ( وروي رابع ، وهو من وجبت عليه كفارة ولم يجد ، فإنه يعتق عنه ، وفيه تردد ).

هذه الرواية أوردها عليّ بن إبراهيم في كتاب التفسير ، عن العالم عليه‌السلام ، قال : « ( وَفِي الرِّقابِ ) قوم لزمتهم كفّارات في قتل الخطأ وفي الظهار وفي الأيمان وفي قتل الصيد في الحرم وليس عندهم ما يكفّرون به وهم مؤمنون ،

__________________

(١) في « ح » والمصدر : بسهمهم.

(٢) علل الشرائع : ٣٧٢ ـ ١ ، الوسائل ٦ : ٢٠٣ أبواب المستحقين للزكاة ب ٤٣ ح ٣.

(٣) الكافي ٣ : ٥٥٢ ـ ١ ، الوسائل ٦ : ١٧٣ أبواب المستحقين للزكاة ب ١٩ ح ١.

(٤) المسالك ١ : ٦٠.

٢١٨

والمكاتب إنما يعطى من هذا السهم إذا لم يكن معه ما يصرفه في كتابته.

______________________________________________________

فجعل الله تعالى لهم سهما في الصدقات ليكفّر عنهم » (١).

ومقتضى الرواية جواز إخراج الكفّارة من الزكاة وإن لم يكن عتقا ، لكنها غير واضحة الإسناد ، لأن عليّ بن إبراهيم أوردها مرسلة ، ومن ثمّ تردد المصنف في العمل بها ، وهو في محله.

وقال الشيخ في المبسوط : الأحوط عندي أن يعطى ثمن الرقبة لكونه فقيرا فيشتري هو ويعتق عن نفسه (٢). ولا ريب في جواز الدفع إليه من سهم الفقراء إذا كان فقيرا.

وجوّز المصنف في المعتبر إعطاءه من سهم الغارمين أيضا ، لأن القصد بذلك إبراء ذمة المكفّر مما في عهدته (٣). وهو جيد ، لأن ذلك في معنى الغرم.

قوله : ( والمكاتب إنما يعطى من هذا السهم إذا لم يكن معه ما يصرفه في كتابته ).

مقتضى العبارة جواز إعطاء المكاتب من هذا السهم إذا لم يكن معه ما يصرفه في كتابته وإن كان قادرا على تحصيله بالتكسب ، وهو كذلك عملا بالإطلاق ، واعتبر الشهيد في البيان قصور كسبه عن مال الكتابة (٤).

والأظهر عدم توقف الإعطاء على حلول النجم (٥) للعموم ، وقيل : لا‌

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٩٩ ، الوسائل ٦ : ١٤٥ أبواب المستحقين للزكاة ب ١ ح ٧ ، ورواها في التهذيب ٤ : ٤٩ ـ ١٢٩.

(٢) المبسوط ١ : ٢٥٠.

(٣) المعتبر ٢ : ٥٧٤.

(٤) البيان : ١٩٥.

(٥) تنجيم الدّين : هو أن يقدّر عطاؤه في أوقات معلومة متتابعة. ومنه تنجيم المكاتب ونجوم الكتابة ـ لسان العرب ١٢ : ٥٧٠.

٢١٩

ولو صرفه في غيره والحال هذه جاز ارتجاعه ، وقيل : لا. ولو دفع إليه من سهم الفقراء لم يرتجع.

______________________________________________________

يجوز قبله ، لانتفاء الحاجة في الحال (١). وهو ضعيف.

قال في المنتهى : ويجوز الدفع إلى السيد بإذن المكاتب ، وإلى المكاتب بإذن السيد وبغير إذنه (٢). وهو حسن ، بل لا يبعد جواز الدفع إلى السيد بغير إذن المكاتب أيضا ، لعموم الآية.

قوله : ( ولو صرفه في غيره والحال هذه جاز ارتجاعه ، وقيل : لا ، ولو دفع إليه من سهم الفقراء لم يرتجع ).

إذا صرف المكاتب ما أخذه من سهم الرّقاب في مال كتابته وتحرّر فقد وقع موقعه إجماعا ، ولو دفعه إلى السيد ثم عجز عن الأداء في المشروطة فاسترقّ فقد قطع الشيخ (٣) وغيره بعدم جواز ارتجاعه ، لأن المالك مأمور بالدفع إلى المكاتب ليدفعه إلى سيده وقد فعل ، والامتثال يقتضي الإجزاء.

وحكى العلاّمة في التذكرة في ذلك وجها للشافعية بجواز ارتجاعه ، لأن القصد تحصيل العتق فإذا لم يحصل به وجب استرجاعه كما لو كان في يد المكاتب ، ثم قال : والفرق ظاهر ، لأن السيد ملك المدفوع بالدفع (٤). ولو لم يدفعه إلى السيد بأن أبرأه من مال الكتابة أو تطوّع عليه متطوّع قال الشيخ : لا يرتجع لأنه ملكه بالقبض فكان له التصرف فيه كيف شاء (٥).

واستشكله المصنف في المعتبر وقال : إن الوجه أنه إن دفعه إليه ليصرفه في مال الكتابة ارتجع بالمخالفة ، لأن للمالك الخيرة في صرف الزكاة في‌

__________________

(١) التذكرة ١ : ٢٣٦.

(٢) المنتهى ١ : ٥١١.

(٣) المبسوط ١ : ٢٥٠.

(٤) التذكرة ١ : ٢٣٧.

(٥) المبسوط ١ : ٢٥٤.

٢٢٠