مدارك الأحكام - ج ٤

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي

مدارك الأحكام - ج ٤

المؤلف:

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٩

______________________________________________________

وبأنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على وجوب التعلم على الوجه الذي اعتبره المتأخرون ، بل المستفاد منهما خلاف ذلك كما يرشد إليه تيمم عمار وطهارة أهل قبا ونحو ذلك (١). ثم أطال الكلام في ذلك وقوى عدم الوجوب والاكتفاء في الاعتقادات الكلامية بإصابة الحق كيف اتفق وإن لم يكن عن دليل. وهو قوي متين.

وهنا مباحث :

الأول : لو كان السفر واجبا كالحج والغزو أو مضطرا إليه انتفى التحريم قطعا.

الثاني : لو كان بين يدي المسافر جمعة أخرى يعلم إدراكها في محل الترخص فهل يكون السفر سائغا أم لا؟ الأظهر العدم ، تمسكا بالعموم.

وقيل بالجواز ، واختاره المحقق الشيخ علي في شرح القواعد ، لحصول الغرض وهو فعل الجمعة بناء على أن السفر الطاري على الوجوب لا يسقطه ، كما يجب الإتمام في الظهر على من خرج بعد الزوال (٢).

ويضعف ( بإطلاق الأخبار المتضمنة لسقوط ) (٣) الجمعة عن المسافر (٤) ، وبطلان القياس (٥) ، مع إنّ الحق تعيّن القصر في صورة الخروج بعد الزوال ، كما سيجي‌ء بيانه إن شاء الله تعالى.

الثالث : لو كان بعيدا عن الجمعة بفرسخين فما دون فخرج مسافرا في صوب الجمعة ، قيل : يجب عليه الحضور عينا وإن صار في محل الترخص ، لأنه لولاه لحرم عليه السفر ، ولأن من هذا شأنه يجب عليه السعي قبل الزوال‌

__________________

(١) مجمع الفائدة ٢ : ٣٧٣.

(٢) جامع المقاصد ١ : ١٣٨.

(٣) بدل ما بين القوسين في « م » : بسقوط.

(٤) الوسائل ٥ : ٢ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ١.

(٥) الذكرى : ٢٣٣.

٦١

ويكره بعد طلوع الفجر.

الرابعة : الإصغاء إلى الخطبة هل هو واجب؟ فيه تردد.

______________________________________________________

فيكون سبب الوجوب سابقا على السفر ، كما في الإتمام لو خرج بعد الزوال.

واحتمل الشهيد في الذكرى عدم كون هذا المقدار محسوبا من المسافة لوجوب قطعة على كل تقدير (١).

ويضعف بأن وجوب قطعه على كل تقدير لا يخرجه عن كونه جزءا من المسافة المقصودة.

ولو قيل باختصاص تحريم السفر بما بعد الزوال ، وأن وجوب السعي إلى الجمعة قبله للتعبد إنما يثبت مع عدم إنشاء المكلف سفرا مسقطا للوجوب لم يكن بعيدا من الصواب.

قوله : ( ويكره بعد طلوع الفجر ).

أي : ويكره السفر بعد طلوع الفجر قبل الزوال ، لما فيه من منع نفسه من أكمل الفرضين ، ولإطلاق النهي عنه في الخبر النبوي المتقدم (٢). وهذا الحكم مجمع عليه بين علمائنا وأكثر العامة (٣) ، حكاه في التذكرة ، ثم قال : ولا يكره السفر ليلة الجمعة إجماعا (٤).

قوله : ( الرابعة ، الإصغاء : هل هو واجب؟ فيه تردد ).

أراد بالإصغاء : الاستماع ، سواء كان المصغي مع ذلك متكلما أم لا. ومن ثم جمع بينه وبين تحريم الكلام ، لعدم الملازمة بينهما. وذكر في القاموس‌

__________________

(١) في « م » ، « س » ، « ح » : للبعيد.

(٢) في ص ٥٩.

(٣) منهم الشافعي في الأم ١ : ١٨٩ ، وابنا قدامة في المغني والشرح الكبير ٢ : ١٦١ ، ٢١٧ ، والغمراوي في السراج الوهاج : ٤٨.

(٤) التذكرة ١ : ١٤٤.

٦٢

وكذا تحريم الكلام في أثنائها ، لكن ليس بمبطل للجمعة.

______________________________________________________

أن الإصغاء الاستماع مع ترك الكلام (١). فيكون ذكره مغنيا عن ذكره ، والأمر في ذلك هيّن.

واختلف الأصحاب في وجوب الإنصات ، فذهب الأكثر إلى الوجوب ، لأن فائدة الخطبة إنما تتم بذلك. وقال الشيخ في المبسوط : إنه مستحب (٢). واختاره في المعتبر (٣) ، لأن الوجوب منفي بالأصل ولا معارض.

والجواب أنّ المعارض موجود ، وهو انتفاء فائدة الخطبة بدون الاستماع.

قوله : ( وكذا تحريم الكلام في أثنائها ، لكن ليس بمبطل للجمعة ).

أي : وكذا التردد في تحريم الكلام في أثناء الخطبة ، وهو بإطلاقه يتناول الكلام من السامع والخطيب. ومنشأ التردد من أصالة الإباحة ، وقوله عليه‌السلام في صحيحة ابن سنان : « فهي صلاة حتى ينزل الإمام » (٤) والتسوية بين المثلين تقتضي المماثلة في الأحكام إلا ما خرج بدليل.

والتحريم مذهب الأكثر ، ونقل عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي أنه قال في جامعه : إذا قام الإمام يخطب فقد وجب على الناس الصمت (٥).

وقال الشيخ في المبسوط وموضع من الخلاف ، والمصنف في المعتبر بالكراهة (٦) ، استضعافا لأدلة التحريم ، وتعويلا على ما رواه محمد بن مسلم في الصحيح ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « إذا خطب الإمام يوم الجمعة فلا ينبغي لأحد أن يتكلم حتى يفرغ من خطبته ، فإذا فرغ تكلم ما بينه وبين‌

__________________

(١) القاموس المحيط ٤ : ٣٥٤.

(٢) المبسوط ١ : ١٤٨.

(٣) المعتبر ٢ : ٢٩٤.

(٤) التهذيب ٣ : ١٢ ـ ٤٢ ، الوسائل ٥ : ١٥ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٦ ح ٤.

(٥) نقله عنه في المعتبر ٢ : ٢٩٥ ، والمختلف : ١٠٤.

(٦) المبسوط ١ : ١٤٧ ، والخلاف ١ : ٢٤٨ ، والمعتبر ٢ : ٢٩٥.

٦٣

الخامسة : يعتبر في إمام الجمعة : كمال العقل ، والإيمان ، والعدالة ، وطهارة المولد ، والذكورة.

______________________________________________________

أن تقام الصلاة » (١) ولفظ لا ينبغي صريح في الكراهة.

وكيف كان فلا تبطل الصلاة ولا الخطبة بالكلام وإن كان منهيا عنه ، لأنه خارج عن العبادة.

والظاهر أن كراهة الكلام أو تحريمه متناول لمن يمكن في حقه الاستماع وغيره ، وأن حالة الجلوس بين الخطبتين كحال الخطبتين كما تدل عليه صحيحة محمد بن مسلم السابقة.

ونقل عن المرتضى ـ رضي‌الله‌عنه ـ أنه حرم من الأفعال ما لا يجوز مثله في الصلاة (٢). قال في المعتبر : ولعله ظن ذلك لكونها بدلا من الركعتين ، لكنه ضعيف (٣).

قوله : ( الخامسة ، يعتبر في إمام الجمعة كمال العقل ، والإيمان ، والعدالة ، وطهارة المولد ، والذكورة ).

يشترط في إمام الجمعة أمور :

الأول : البلوغ ، وقد أدرجه المصنف في كمال العقل. وقال العلامة في المنتهى : إنه لا خلاف في اعتباره (٤) ، وذهب الشيخ في المبسوط والخلاف إلى جواز إمامة الصبي المراهق المميز العاقل في الفرائض (٥). والظاهر أن مراده بالفرائض ما عدا الجمعة.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٢١ ـ ٢ ، التهذيب ٣ : ٢٠ ـ ٧١ ، الوسائل ٥ : ٢٩ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ١٤ ح ١.

(٢) المعتبر ٢ : ٢٩٥.

(٣) المعتبر ٢ : ٢٩٦.

(٤) المنتهى ١ : ٣٢٤.

(٥) المبسوط ١ : ١٥٤ ، والخلاف ١ : ٢١٢.

٦٤

______________________________________________________

وكيف كان فالأصح اعتبار البلوغ مطلقا ، لأصالة عدم سقوط التكليف بالقراءة بفعل الصبي ، ولأن غير المكلف لا يؤمن إخلاله بواجب أو فعله لمحرم فلا يتحقق الامتثال. ويؤيده رواية إسحاق بن عمار عن الصادق ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن علي عليهم‌السلام أنه قال : « لا بأس أن يؤذّن الغلام قبل أن يحتلم ولا يؤم حتى يحتلم » (١).

الثاني : العقل ، فلا تنعقد إمامة المجنون ، لعدم الاعتداد بفعله. ولو كان يعتوره أدوارا فالأقرب كراهة إمامته وقت إفاقته. وهو اختيار العلامة في باب الجماعة من التذكرة (٢) ، لنفرة النفس منه الموجبة لعدم كمال الإقبال على العبادة. وقطع في باب الجمعة من التذكرة بالمنع من إمامته ، لأنه لا يؤمن عروضه له في أثناء الصلاة ، ولجواز احتلامه في جنته بغير شعوره (٣).

والجواب أن تجويز العروض لا يرفع تحقق الأهلية ، والتكليف يتبع العلم.

الثالث : الإيمان ، والمراد به هنا : الإقرار بالأصول الخمسة على وجه يعدّ إماميا. ولا خلاف في اعتبار ذلك ، لعموم الأدلة الدالة على بطلان عبادة المخالف (٤) ، وخصوص صحيحة أبي عبد الله البرقي ، قال : كتبت إلى أبي جعفر عليه‌السلام : أتجزي ـ جعلت فداك ـ الصلاة خلف من وقف على أبيك وجدك صلوات الله عليهم؟ فأجاب : « لا تصل وراءه » (٥).

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٢٩ ـ ١٠٣ ، الاستبصار ١ : ٤٢٣ ـ ١٦٣٢ ، وفي الفقيه ١ ـ ٢٥٨ ـ ١١٦٩ ، مرسلا ، الوسائل ٥ : ٣٩٨ أبواب صلاة الجماعة ب ١٤ ح ٧.

(٢) التذكرة ١ : ١٧٦ قال : ولو كان الجنون يعتوره أدوارا صحت الصلاة خلفه حال إفاقته لحصول الشرائط فيه ، لكن يكره لإمكان أن يكون قد احتلم حال جنونه ولا يعلم ، ولئلا يعرض الجنون في الأثناء.

(٣) التذكرة ١ : ١٤٤.

(٤) الوسائل ١ : ٩٠ أبواب مقدمة العبادات ب ٢٩.

(٥) الفقيه ١ : ٢٤٨ ـ ١١١٣ ، التهذيب ٣ : ٢٨ ـ ٩٨ ، الوسائل ٥ : ٣٨٩ أبواب صلاة الجماعة ب ١٠ ح ٥.

٦٥

_________________________________________________________

الرابع : العدالة ، وقد نقل جمع من الأصحاب (١) الإجماع على أنها شرط في الإمام وإن اكتفى بعضهم في تحققها بحسن الظاهر أو عدم معلومية الفسق ، واحتجوا على ذلك برواية أبي علي بن راشد قال ، قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إن مواليك قد اختلفوا فأصلي خلفهم جميعا؟ فقال : « لا تصل إلا خلف من تثق بدينه وأمانته » (٢).

ورواية سعيد بن إسماعيل ، عن أبيه ، قال : سألته عن الرجل يقارف الذنوب يصلى خلفه أم لا؟ قال : « لا » (٣).

وصحيحة عمر بن يزيد ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن إمام لا بأس به في جميع أموره عارف ، غير أنه يسمع أبويه الكلام الغليظ الذي يغيظهما ، أقرأ خلفه؟ قال : « لا تقرأ خلفه ما لم يكن عاقا قاطعا » (٤).

وهذه الأخبار لا تخلو من ضعف في سند أو قصور في دلالة. والمستفاد من إطلاق كثير من الروايات وخصوص بعضها الاكتفاء في ذلك بحسن الظاهر والمعرفة بفقه الصلاة ، بل المنقول من فعل السلف الاكتفاء بما دون ذلك ، إلا أن المصير إلى ما ذكره الأصحاب أحوط ، وقد روى الأصحاب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « إمام القوم وافدهم ، فقدّموا أفضلكم » (٥) وقال عليه‌السلام : « إن سرّكم أن تزكوا صلاتكم فقدموا خياركم » (٦).

__________________

(١) منهم العلامة الحلي في التذكرة ١ : ١٤٤ ، والشهيد الأول في الذكرى : ٢٣٠ ، والشهيد الثاني في روض الجنان : ٢٨٩.

(٢) الكافي ٣ : ٣٧٤ ـ ٥ ، التهذيب ٣ : ٢٦٦ ـ ٧٥٥ ، الوسائل ٥ : ٣٨٨ أبواب صلاة الجماعة ب ١٠ ح ٢.

(٣) الفقيه ١ : ٢٤٩ ـ ١١١٦ ، التهذيب ٣ : ٣١ ـ ١١٠ ، الوسائل ٥ : ٣٩٣ أبواب صلاة الجماعة ب ١١ ح ١٠.

(٤) الفقيه ١ : ٢٤٨ ـ ١١١٤ ، التهذيب ٣ : ٣٠ ـ ١٠٦ ، الوسائل ٥ : ٣٩٢ أبواب صلاة الجماعة ب ١١ ح ١.

(٥) الفقيه ١ : ٢٤٧ ـ ١١٠٠ ، الوسائل ٥ : ٤١٦ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٦ ح ٢.

(٦) الفقيه ١ : ٢٤٧ ـ ١١٠١ ، علل الشرائع : ٣٢٦ ـ ٣ ، المقنع : ٣٥ ، الوسائل ٥ : ٤١٦ أبواب صلاة الجماعة ب ٢٦ ح ٣.

٦٦

______________________________________________________

والعدالة لغة : الاستواء والاستقامة ، وعرّفها المتأخرون شرعا : بأنها هيئة راسخة في النفس تبعث على ملازمة التقوى والمروّة.

وتتحقق التقوى بمجانبة الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر. وللأصحاب في تعداد الكبائر اختلاف ، والمروي عن الصادق عليه‌السلام في حسنة عبيد بن زرارة أنها سبع : الكفر بالله ، وقتل النفس ، وعقوق الوالدين ، وأكل الربا بعد البينة ، وأكل مال اليتيم ظلما ، والفرار من الزحف ، والتعرب بعد الهجرة. قال ، قلت : فأكل درهم من مال اليتيم أكبر أم ترك الصلاة؟ قال : « ترك الصلاة » قلت فما عددت في الكبائر؟ فقال : « أي شي‌ء أول ما قلت لك؟ » قال ، قلت : الكفر ، قال : « فإنّ تارك الصلاة كافر » يعني من غير علة (١).

وروى الكليني ـ رحمه‌الله ـ في الصحيح ، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني ـ وكان مرضيا ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام : إن أباه عليه‌السلام سمع جده موسى بن جعفر عليه‌السلام يقول : « أكبر الكبائر : الإشراك بالله ، ثم الإياس من روح الله ، ثم الأمان من مكر الله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزحف ، وأكل الربا ، والسحر ، والزنا ، واليمين الغموس ، والغلول ، ومنع الزكاة المفروضة ، وشهادة الزور ، وكتمان الشهادة ، وترك الصلاة متعمدا أو شي‌ء مما فرض الله ، ونقض العهد ، وقطيعة الرحم » (٢).

والمراد بالإصرار على الصغيرة العزم على فعلها بعد الفراغ منها ، وفي معناه المداومة على نوع واحد منها بلا توبة.

وأما المروّة فالمراد بها : تنزيه النفس من الدناءة التي لا تليق بأمثاله ، ويحصل ذلك بالتزام محاسن العادات وترك الرذائل المباحة ، كالبول في الشوارع‌

__________________

(١) الكافي ٢ : ٢٧٨ ـ ٨ ، الوسائل ١١ : ٢٥٤ أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب ٤٦ ح ٤.

(٢) الكافي ٢ : ٢٨٥ ـ ٢٤ ، الوسائل ١١ : ٢٥٢ أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب ٤٦ ح ٢.

٦٧

___________________________________________________________

وقت مرور الناس ، والأكل في الأسواق في غير المواضع المعدة له ، وكثرة الضحك ، والإفراط في المزاح ، ولبس الفقيه ثياب الجندي ، ونحو ذلك مما يدل على عدم الحياء وقلة المبالاة.

ولم يعتبر المصنف ـ رحمه‌الله ـ في كتاب الشهادات من هذا الكتاب هذا القيد في مفهوم العدالة ، بل اقتصر على عدم مواقعة الكبائر والإصرار على الصغائر (١). وله وجه وجيه وإن (٢) كان تحقق التقوى ممن لا يقع فيه تنزيه النفس من الدناءة التي لا تليق بأمثاله نادرا.

واعلم أنا لم نقف للأصحاب في هذا التعريف على نص يدل عليه صريحا ، والذي وقفت عليه في هذه المسألة من الأخبار المعتبرة ما رواه ابن بابويه في كتابه من لا يحضره الفقيه بسند لا تبعد صحته ، عن الثقة الجليل عبد الله بن أبي يعفور قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : بم تعرف عدالة الرجل من المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال : « أن تعرفوه بالستر والعفاف وكف البطن والفرج واليد واللسان ، وتعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عزّ وجلّ عليها النار من شرب الخمر والزنا والربا وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وغير ذلك ، والدلالة على ذلك كله أن يكون ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه وتفتيش ما وراء ذلك ، ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته في الناس ، ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن وحفظ مواقيتهن بحضور جماعة المسلمين وأن لا يختلف عن جماعتهم في مصلاهم إلا من علة ، فإذا كان كذلك لازما لمصلاه عند حضور الصلوات الخمس ، فإذا سئل عنه في قبيلته ومحلته قالوا : ما رأينا منه إلا خيرا مواظبا على الصلاة متعاهدا لأوقاتها في مصلاه ، فإن ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين » (٣).

__________________

(١) شرائع الإسلام ٤ : ١٢٦.

(٢) في « م » : إن.

(٣) الفقيه ٣ : ٢٤ ـ ٦٥ ، الوسائل ١٨ : ٢٨٨ أبواب الشهادات ب ٤١ ح ١.

٦٨

___________________________________________________________

ويستفاد من هذه الرواية أنه يقدح في العدالة فعل الكبيرة التي أوعد الله تعالى عليها النار ، وأنه يكفي في الحكم بها أن يظهر من حال المكلف كونه ساترا لعيوبه ملازما لجماعة المسلمين.

وقريب منها في الدلالة ما رواه ابن بابويه في الصحيح ، عن عبد الله بن المغيرة ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، قال : « من ولد على الفطرة وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته » (١).

دلت الرواية على أن من عرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته ، ويلزم من قبول شهادته ثبوت عدالته ، إذ لا خلاف في اعتبار عدالة الشاهد وإن وقع الخلاف فيما تتحقق به العدالة.

وأوضح منها دلالة ما رواه الشيخ في الحسن ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، عن أبي الحسن عليه‌السلام أنه قال له : جعلت فداك كيف طلاق السنة؟ قال : « يطلقها إذا طهرت من حيضها قبل أن يغشاها بشاهدين عدلين ، كما قال الله في كتابه » ثم قال عليه‌السلام في آخر الرواية : « من ولد على الفطرة أجيزت شهادته على الطلاق بعد أن يعرف منه خير » (٢).

وهذه الروايات (٣) مع اعتبار سندها مطابقة لمقتضى العرف ، بل لو نوقش في ثبوت المعنى الشرعي للعدل لوجب المصير إلى المعنى العرفي ، ( وهو ) (٤) أقرب إلى ما تضمنته هذه الروايات من التعريف المتقدم. والله تعالى أعلم.

الخامس : طهارة المولد ، وهو أن لا يعلم كونه ولد زنا. واشتراط ذلك مذهب الأصحاب لا نعلم فيه مخالفا ، ويدل عليه حسنة زرارة ، عن أبي جعفر‌

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٢٨ ـ ٨٣ ، الوسائل ١٨ : ٢٩٠ أبواب الشهادات ب ٤١ ح ٥.

(٢) التهذيب ٨ : ٤٩ ـ ١٥٢ ، الوسائل ١٥ : ٢٨٢ أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ب ١٠ ح ٤.

(٣) في « ح » : الرواية.

(٤) بدل ما بين القوسين في « م » ، « س » ، « ح » : إذا المعنى اللغوي غير مراد ، والظاهر أن المعنى العرفي.

٦٩

ويجوز أن يكون عبدا.

______________________________________________________

عليه‌السلام ، قال : « قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا يصلين أحدكم خلف المجذوم والأبرص والمجنون والمحدود وولد الزنا » (١).

ولا منع فيمن تناله الألسن ، ولا ولد الشبهة ، ولا من جهل أبوه ، لكن يكره لنفرة النفس منهم الموجبة لعدم كمال الإقبال على العبادة.

السادس : الذكورة ، ولا ريب في اشتراطها بناء على أن الجمعة لا تنعقد بالمرأة. وقال في التذكرة : إنه يشترط في إمامة الرجال الذكورة عند علمائنا أجمع وبه قال عامة العلماء (٢).

قوله : ( ويجوز أن يكون عبدا ).

هذا مبني على القول بانعقاد الجمعة به مع الحضور ، كما اختاره في الخلاف (٣) ، وقد تقدم الكلام فيه.

واختلف الأصحاب في إمامة العبد ، فقال الشيخ في الخلاف (٤) وابن الجنيد (٥) ، وابن إدريس (٦) : إنها جائزة ، عملا بمقتضى الأصل ، والعمومات ، وما رواه محمد بن مسلم في الصحيح ، عن أحدهما عليهما‌السلام : إنه سئل عن العبد ، يؤم القوم إذا رضوا به وكان أكثرهم قرآنا؟ قال : « لا بأس به » (٧).

وقال الشيخ في النهاية والمبسوط : لا يجوز أن يؤم الأحرار ويجوز أن يؤم‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٧٥ ـ ٤ ، الفقيه ١ : ٢٤٧ ـ ١١٠٦ ، الوسائل ٥ : ٤٠٠ أبواب صلاة الجماعة ب ١٥ ح ٦.

(٢) التذكرة ١ : ١٧٧.

(٣) الخلاف ١ : ٢٤٩.

(٤) الخلاف ١ : ٢٤٩.

(٥) نقله عنه في المختلف : ١٥٣.

(٦) السرائر : ٦١.

(٧) التهذيب ٣ : ٢٩ ـ ٩٩ ، الإستبصار ١ : ٤٢٣ ـ ١٦٢٨ ، الوسائل ٥ : ٤٠٠ أبواب صلاة الجماعة ب ١٦ ح ٢.

٧٠

وهل يجوز أن يكون أبرص أو أجذم؟ فيه تردد ، والأشبه الجواز.

______________________________________________________

مواليه إذا كان أقرأهم (١).

وأطلق ابن حمزة أن العبد لا يؤم الحر (٢) ، واختاره العلامة في النهاية ، لأنه ناقص فلا يليق بهذا المنصب الجليل (٣).

وقال ابن بابويه في المقنع : لا يؤم العبد إلا أهله (٤). تعويلا على رواية السكوني ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن علي عليه‌السلام ، قال : « لا يؤم العبد إلا أهله » (٥) وهي قاصرة من حيث السند (٦) ، فلا تصلح لمعارضة الخبر الصحيح المطابق للإطلاقات المتواترة.

قوله : ( وهل يجوز أن يكون أبرص أو أجذم؟ فيه تردد ، والأشبه الجواز ).

اختلف الأصحاب في جواز إمامة الأبرص والأجذم في الجمعة وغيرها ، فقال الشيخ في النهاية والخلاف بالمنع من إمامتهما مطلقا (٧). وقال المرتضى في الانتصار (٨) ، وابن حمزة (٩) بالكراهة ، وقال الشيخ في المبسوط (١٠) ، وابن البراج (١١) ، وابن زهرة (١٢) بالمنع من إمامتهما إلا لمثلهما. وقال ابن إدريس : تكره‌

__________________

(١) النهاية : ١١٢ ، والمبسوط ١ : ١٥٥.

(٢) الوسيلة ( الجوامع الفقهية ) : ٦٧٥.

(٣) نهاية الأحكام ٢ : ١٥.

(٤) المقنع : ٣٥.

(٥) التهذيب ٣ : ٢٩ ـ ١٠٢ ، الإستبصار ١ : ٤٢٣ ـ ١٦٣١ ، الوسائل ٥ : ٤٠١ أبواب صلاة الجماعة ب ١٦ ح ٤.

(٦) لعل وجه الضعف هو أن راويها السكوني عامي ـ راجع عدة الأصول ١ : ٣٨٠ ، وخلاصة العلامة : ٣٥ ، ١٩٩.

(٧) النهاية : ١١٢ ، والخلاف ١ : ٢١٦.

(٨) الانتصار : ٥٠.

(٩) الوسيلة ( الجوامع الفقهية ) : ٦٧٥.

(١٠) المبسوط ١ : ١٥٥.

(١١) المهذب ١ : ٨٠.

(١٢) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٦٠.

٧١

______________________________________________________

إمامتهما في ما عدا الجمعة والعيدين ، أما فيهما فلا تجوز (١). والمعتمد الأول.

لنا : الأخبار المستفيضة كحسنة زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : « قال أمير المؤمنين لا يصلين أحدكم خلف المجذوم والأبرص والمجنون والمحدود وولد الزنا » (٢).

وصحيحة أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : « خمسة لا يؤمون الناس على كل حال : المجذوم ، والأبرص ، والمجنون ، وولد الزنا ، والأعرابي » (٣).

ورواية محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : « خمسة لا يؤمون الناس ولا يصلون بهم صلاة فريضة في جماعة : الأبرص ، والمجذوم ، وولد الزنا ، والأعرابي حتى يهاجر ، والمحدود » (٤).

ولا ينافي ذلك ما رواه عبد الله بن يزيد ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المجذوم والأبرص يؤمان المسلمين؟ قال : « نعم » قلت : هل يبتلي الله بهما المؤمنين؟ قال : « نعم ، وهل كتب الله البلاء إلا على المؤمن » (٥) لأنا نجيب عنها بالطعن في السند بجهالة الراوي ، وحملها الشيخ في التهذيب على الضرورة ، بأن لا يوجد غيرهما ، أو أن يكون إمامين لأمثالهما. وفيه بعد.

نعم لو صح السند لأمكن حمل النهي الواقع في الأخبار المتقدمة على‌

__________________

(١) السرائر : ٦٠.

(٢) الكافي ٣ : ٣٧٥ ـ ٤ ، الفقيه ١ : ٢٤٧ ـ ١١٠٦ ، الوسائل ٥ : ٤٠٠ أبواب صلاة الجماعة ب ١٥ ح ٦.

(٣) الكافي ٣ : ٣٧٥ ـ ١ ، التهذيب ٣ : ٢٦ ـ ٩٢ ، الإستبصار ١ : ٤٢٢ ـ ١٦٢٦ ، الوسائل ٥ : ٣٩٩ أبواب صلاة الجماعة ب ١٥ ح ٥.

(٤) الفقيه ١ : ٢٤٧ ـ ١١٠٥ ، الوسائل ٥ : ٣٩٩ أبواب صلاة الجماعة ب ١٥ ح ٣.

(٥) التهذيب ٣ : ٢٧ ـ ٩٣ ، الإستبصار ١ : ٤٢٢ ـ ١٦٢٧ ، الوسائل ٥ : ٣٩٩ أبواب صلاة الجماعة ب ١٥ ح ١.

٧٢

وكذا الأعمى.

______________________________________________________

الكراهة كما هو مذهب المرتضى رضي‌الله‌عنه ، وأما تفصيل ابن إدريس فلم نقف على مستنده.

قوله : ( وكذا الأعمى ).

أي وكذا التردد في الأعمى ، والجواز أشبه. ومنشأ التردد في ذلك من أصالة الجواز وقول الصادق عليه‌السلام في صحيحة الحلبي : « لا بأس بأن يصلي الأعمى بالقوم وإن كانوا هم الذين يوجهونه » (١) ، ومن أنه ناقص فلا يليق بهذا المنصب الجليل. وضعف الوجه الثاني من وجهي التردد ظاهر فالمعتمد الجواز.

وأعلم أنه قد وقع في كلام العلامة ـ رحمه‌الله ـ في هذه المسألة اختلاف عجيب ، فقال في باب الجمعة من التذكرة : اشترط أكثر علمائنا كون الإمام سليما من الجذام والبرص والعمى ، لقوله عليه‌السلام : « خمسة لا يؤمون الناس على كل حال : المجذوم والأبرص والمجنون وولد الزنا والأعرابي » والأعمى لا يتمكن من الاحتراز عن النجاسات غالبا ، ولأنه ناقص فلا يليق بهذا المنصب الجليل (٢).

وقال في باب الجماعة من الكتاب المذكور : ولا خلاف بين العلماء في جواز إمامة الأعمى بمثله وللمبصر (٣).

وقال في باب الجمعة من المنتهى : وتجوز إمامة الأعمى ، وهو قول أكثر أهل العلم (٤).

وقال في باب الجماعة : ولا بأس بإمامة الأعمى إذا كان من ورائه من يسدده ويوجهه إلى القبلة ، وهو مذهب أهل العلم لا نعلم فيه خلافا إلا ما نقل‌

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٣٠ ـ ١٠٥ ، الوسائل ٥ : ٤٠٩ أبواب صلاة الجماعة ب ٢١ ح ١.

(٢) التذكرة ١ : ١٤٥.

(٣) التذكرة ١ : ١٧٩.

(٤) المنتهى ١ : ٣٢٤.

٧٣

السادسة : المسافر إذا نوى الإقامة في بلد عشرة أيام فصاعدا وجبت عليه الجمعة. وكذا إذا لم ينو الإقامة ومضى عليه ثلاثون يوما في مصر واحد.

السابعة : الأذان الثاني يوم الجمعة بدعة ، وقيل : مكروه ، والأول أشبه.

______________________________________________________

عن أنس أنه قال : ما حاجتهم إليه (١). ومع ذلك فأفتى في النهاية بالمنع من إمامته (٢).

قوله : ( السادسة ، المسافر إذا نوى الإقامة في بلد عشرة أيام فصاعدا وجبت عليه الجمعة ، وكذا إذا لم ينو الإقامة ومضى عليه ثلاثون يوما في مصر واحد ).

الوجه في ذلك ظاهر ، فإن المسافر يجب عليه الإتمام بكلا الأمرين ، وسقوط الجمعة دائر مع وجوب التقصير كما بيناه فيما سبق.

قوله : ( السابعة ، الأذان الثاني يوم الجمعة بدعة ، وقيل : مكروه ، والأول أشبه ).

اختلف الأصحاب في الأذان الثاني يوم الجمعة ، فقال الشيخ في المبسوط والمصنف في المعتبر : إنه مكروه (٣). وقال ابن إدريس : إنه محرم (٤). وبه قال عامة المتأخرين (٥) ، لأن الاتفاق واقع على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يفعله ولا أمر بفعله ، وإذا لم تثبت مشروعيته كان بدعة ، كالأذان للنافلة ، لأن‌

__________________

(١) المنتهى ١ : ٣٧١.

(٢) نهاية الأحكام ٢ : ١٥.

(٣) المبسوط ١ : ١٤٩ ، والمعتبر ٢ : ٢٩٦.

(٤) السرائر : ٦٤.

(٥) منهم العلامة الحلي في القواعد ١ : ٣٨ ، والشهيد الأول في الدروس : ٤٣ ، والسيوري في التنقيح الرائع ١ : ٢٣٠ ، والشهيد الثاني في المسالك ١ : ٣٥.

٧٤

______________________________________________________

العبادات إنما تستفاد من التوقيف. وقد روي أن أول من فعل ذلك عثمان (١) ، قال الشافعي : ما فعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبو بكر وعمر أحب إليّ (٢). وقال عطاء : أول من فعل ذلك معاوية (٣).

واستدلوا عليه أيضا بما رواه حفص بن غياث ، عن جعفر ، عن أبيه عليه‌السلام ، قال : « الأذان الثالث يوم الجمعة بدعة » (٤).

قيل : وإنما سمي ثالثا ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شرع للصلاة أذانا وإقامة فالزيادة ثالث (٥).

وردها المصنف ـ رحمه‌الله ـ في المعتبر بضعف الراوي (٦).

قال في الذكرى : ولا حاجة إلى الطعن في السند مع قبول الرواية التأويل ، وتلقي الأصحاب لها بالقبول ، بل الحق أن لفظ البدعة ليس بصريح في التحريم ، فإن المراد بالبدعة ما لم يكن في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم تجدد بعده ، وهو ينقسم إلى محرم ومكروه (٧).

وفيه نظر ، فإن البدعة من العبادة لا تكون إلا محرمة. وقد روى زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل في الصحيح ، عن الصادقين عليهما‌السلام أنهما قالا : « ألا وإن كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة سبيلها إلى النار » (٨).

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ : ١٠ ، الأم ١ : ١٩٥.

(٢) الأم ١ : ١٩٥.

(٣) نقله عنه في كتاب الأم ١ : ١٩٥.

(٤) الكافي ٣ : ٤٢١ ـ ٥ ، التهذيب ٣ : ١٩ ـ ٦٧ ، الوسائل ٥ : ٨١ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٤٩ ح ١.

(٥) قال به ابن إدريس في السرائر : ٦٤ ، والمحقق الحلي في المعتبر ٢ : ٢٩٦ ، والعلامة الحلي في التذكرة ١ : ١٥٥.

(٦) المعتبر ٢ : ٢٩٦.

(٧) الذكرى : ٢٣٧.

(٨) الفقيه ٢ : ٨٧ ـ ٣٩٤ ، التهذيب ٣ : ٦٩ ـ ٢٢٦ ، الإستبصار ١ : ٤٦٧ ـ ١٨٠٧ ، الوسائل ٥ : ١٩١ أبواب نافلة شهر رمضان ب ١٠ ح ١.

٧٥

الثامنة : يحرم البيع يوم الجمعة بعد الأذان ،

______________________________________________________

إذا تقرر ذلك فالظاهر أن المراد بالأذان الثاني : ( ما يقع ثانيا بالزمان والقصد ، لأن الواقع أولا هو المأمور به والمحكوم بصحته ، ويبقى التحريم متوجها إلى الثاني ) (١).

وقيل (٢) : إنه ما لم يكن بين يدي الخطيب ، لأنه الثاني باعتبار الإحداث ، سواء وقع أولا أو ثانيا بالزمان ، لما رواه عبد الله بن ميمون ، عن جعفر ، عن أبيه عليهم‌السلام ، قال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا خرج إلى الجمعة قعد على المنبر حتى يفرغ المؤذنون » (٣) وهذه الرواية مع قصورها من حيث السند (٤) معارضة بما رواه محمد بن مسلم في الحسن ، قال : سألته عن الجمعة فقال : « أذان وإقامة ، يخرج الإمام بعد الأذان فيصعد المنبر فيخطب » (٥) الحديث ، وهو صريح في استحباب الأذان قبل صعود الإمام المنبر فيكون المحدث خلافه.

وقال ابن إدريس : الأذان الثاني ما يفعل بعد نزول الإمام مضافا إلى الأذان الأول الأول الذي عند الزوال (٦). وهو غريب.

قوله : ( الثامنة ، يحرم البيع يوم الجمعة بعد الأذان ).

أجمع العلماء كافة على تحريم البيع بعد النداء للجمعة قاله في التذكرة (٧) ، والقرآن الكريم ناطق بذلك ، قال الله تعالى :

__________________

(١) بدل ما بين القوسين في « س » ، ونسخة في « م » ، « ح » : الثاني بالزمان ، وهو ما يقع بعد أذان سابق واقع في الوقت من مؤذن واحد مطلقا أو من غيره مع قصد التوظيف أو كونه ثانيا.

(٢) كما في جامع المقاصد ١ : ١٣٨.

(٣) التهذيب ٣ : ٢٤٤ ـ ٦٦٣ ، الوسائل ٥ : ٤٣ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٢٨ ح ٢.

(٤) لعل وجهه هو قول راويها بالتزيد ـ راجع رجال الكشي ٢ : ٦٨٧.

(٥) الكافي ٣ : ٤٢٤ ـ ٧ ، التهذيب ٣ : ٢٤١ ـ ٦٤٨ ، الوسائل ٥ : ٣٩ أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب ٢٥ ح ٣.

(٦) السرائر : ٦٤.

(٧) التذكرة ١ : ١٥٦.

٧٦

فإن باع أثم وكان البيع صحيحا على الأظهر.

______________________________________________________

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ) (١) أوجب تركه فيكون فعله حراما

وهل يحرم غير البيع من العقود؟ قال في المعتبر : الأشبه بالمذهب لا خلافا لطائفة من الجمهور ـ لاختصاص النهي بالبيع فلا يتعدى إلى غيره (٢).

واستشكله العلامة رحمه‌الله في جملة من كتبه ، نظرا إلى المشاركة في العلة المومى إليها بقوله ( ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ) (٣) وهو في محله.

قال في الذكرى : لو حملنا البيع على المعاوضة المطلقة التي هي معناه الأصلي كان مستفادا من الآية تحريم غيره ، ويمكن تعليل التحريم بأن الأمر بالشي‌ء يستلزم النهي عن ضده ، ولا ريب أن السعي مأمور به فيتحقق النهي عن كل ما ينافيه من بيع وغيره (٤).

ويتوجه على الأول أن حمل البيع على مطلق المعاوضة على الأعيان والمنافع خلاف المعنى الشرعي والعرفي.

وعلى الثاني أنه خلاف ما ذهب إليه في مواضع من كتابه من أن الأمر بالشي‌ء لا يقتضي النهي عن ضده الخاص ، ومع ذلك فهو إنما يقتضي تحريم المنافي من ذلك خاصة لا مطلق المعاوضات.

قوله : ( فإن باع أثم وكان صحيحا على الأظهر ).

أما الإثم فلدلالة النهي على التحريم.

وأما الصحة فلأنه عقد صدر من أهله في محله فيجب الوفاء به ، لعموم ما دل على وجوب الوفاء بالعقد اللازم ، وقد ثبت في الأصول أن النهي في‌

__________________

(١) الجمعة : ٩.

(٢) المعتبر ٢ : ٢٩٧.

(٣) المنتهى ١ : ٣٣١ ، والتذكرة ١ : ١٥٦.

(٤) الذكرى : ٢٣٨.

٧٧

ولو كان أحد المتعاقدين من لا يجب عليه السعي كان البيع سائغا بالنظر إليه ، حراما بالنظر إلى الآخر.

______________________________________________________

المعاملات لا يقتضي الفساد ، وإنما يقتضي التحريم خاصة ، ولهذا لم يتناقض النهي عن البيع مثلا مع التصريح بترتب أثره عليه ، بخلاف العبادة ، لأن الفعل الواحد الشخصي يستحيل كونه مأمورا به منهيا عنه على ما بيناه غير مرة (١).

وقال الشيخ في المبسوط والخلاف ، وابن الجنيد بعدم الانعقاد (٢) ، ومال إليه شيخنا المعاصر (٣) ، إما لأن النهي في المعاملات يقتضي الفساد كما ذكره الشيخ ، أو لأن العقد المحرم لم يثبت كونه سببا في النقل كما ادعاه شيخنا سلمه الله ، قال : ولا يمكن الاستدلال على سببيته بقوله تعالى ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (٤) لأنه محرم كما هو المفروض ، ولا بالإجماع لأن ذلك محل الخلاف.

والجواب منع الحصر ، فإنه قوله تعالى ( إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) (٥) يتناوله ، وكذا قوله عليه‌السلام : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » (٦) وغير ذلك من الأخبار الكثيرة (٧) يشمله قطعا.

قوله : ( ولو كان أحد المتعاقدين من لا يجب عليه السعي كان البيع سائغا بالنظر إليه ، حراما بالنظر إلى الآخر ).

بل الأظهر تحريمه عليه أيضا ، لأنه معاونة على المحرم ، وقد قال تعالى :

__________________

(١) راجع ٣ : ١٧٤ ، ٢١٧.

(٢) المبسوط ١ : ١٥٠ ، والخلاف ١ : ٢٥١ ، ونقله عن ابن الجنيد في المختلف : ١٠٨.

(٣) مجمع الفائدة ٢ : ٣٨٠.

(٤) البقرة : ٢٧٥.

(٥) النساء : ٢٩.

(٦) الكافي ٥ : ١٧٠ ـ ٦ ، التهذيب ٣ : ٢٠ ـ ٨٥ ، الاستبصار ٣ : ٧٢ ـ ٢٤٠ ، الخصال : ١٢٧ ـ ١٢٨ ، الوسائل ١٢ : ٣٤٦ أبواب الخيار ب ١ ح ٣.

(٧) الوسائل ١٢ : ٣٤٥ أبواب الخيار ب ١.

٧٨

التاسعة : إذا لم يكن الإمام موجودا ولا من نصّبه للصلاة وأمكن الاجتماع والخطبتان ، قيل : يستحب أن يصلّى جمعة ، وقيل : لا يجوز ، والأول أظهر.

______________________________________________________

( وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) (١).

قوله : ( التاسعة ، إذا لم يكن الإمام موجودا ولا من نصبه للصلاة وأمكن الاجتماع والخطبتان ، قيل : يستحب أن يصلّى جمعة ، وقيل : لا يجوز ، والأول أظهر ).

المراد باستحباب الجمعة كونها أفضل الفردين الواجبين لا كونها مندوبة ، لأنها متى صحت أجزأت عن الظهر بإجماع العلماء ، والمندوب لا يجزئ عن الواجب قطعا. وهذا القول اختيار الشيخ في المبسوط والخلاف (٢) وجمع من الأصحاب.

واحتجوا (٣) عليه بعموم الأوامر الواردة بالجمعة من الكتاب والسنة وهي تقتضي الوجوب ، لكن لما انتفى العيني في حال الغيبة بالإجماع تعيّن التخييري.

ويتوجه عليه ما حققناه سابقا (٤).

والقول بعدم جواز فعلها في زمن الغيبة لسلار (٥) وابن إدريس (٦) ، وهو ظاهر اختيار المرتضى في بعض رسائله (٧).

واحتجوا عليه بأن من شرط انعقاد الجمعة الإمام أو من نصبه الإمام للصلاة إجماعا ، وهو منتف فتنتفي الصلاة ، وبأن الظهر ثابتة في الذمة بيقين فلا يبرأ المكلف إلا بفعلها.

__________________

(١) المائدة : ٢.

(٢) المبسوط ١ : ١٥١ ، والخلاف ١ : ٢٤٩.

(٣) منهم الكركي في جامع المقاصد ١ : ١٣١.

(٤) في ص ٨.

(٥) المراسم : ٧٧.

(٦) السرائر : ٦٦.

(٧) جواب المسائل الميافارقيات ( رسائل الشريف المرتضى ) : ٢٧٢.

٧٩

العاشرة : إذا لم يتمكن المأموم من السجود مع الإمام في الأولى ، فإن أمكنه السجود واللحاق به قبل الركوع وجب ، وإلا اقتصر على متابعته في السجدتين وينوي بهما الأولى ، فإن نوى بهما الثانية ، قيل : تبطل الصلاة ، وقيل : يحذفهما ويسجد للأولى ويتم ثنائية ، والأول أظهر.

______________________________________________________

والجواب عن الأول ما قررناه مرارا من أن الإجماع إنما يكون حجة مع العلم القطعي بدخول قول المعصوم في جملة أقوال المجمعين ، وهذا مما يقطع بتعذره في زمن ابن إدريس وما شاكله ، خصوصا مع تحقق الخلاف في المسألة.

وعن الثاني بمنع تيقن وجوب الظهر في صورة النزاع ، بل الظاهر أن المتيقن يوم الجمعة هو صلاة الجمعة كما يدل عليه الكتاب والسنة المتواترة.

وبالجملة فالأخبار الواردة بوجوب الجمعة مستفيضة بل متواترة ، وتوقفها على الإمام أو نائبه غير ثابت ، بل قد بينا أنه لا دليل عليه ، واللازم من ذلك الوجوب العيني إن لم ينعقد الإجماع القطعي على خلافه ، ودون إثباته خرط القتاد ، والله الموفق للسداد.

قوله : ( العاشرة ، إذا لم يتمكن المأموم من السجود مع الإمام في الأولى ، فإن أمكنه السجود واللحاق به قبل الركوع وجب ، وإلا اقتصر على متابعته في السجدتين وينوي بهما الأولى ، فإن نوى بهما الثانية ، قيل : تبطل صلاته ، وقيل : يحذفهما ويسجد للأولى ويتم ثنائية ، والأول أظهر ).

إذا زوحم المأموم في سجود الأولى فلم يمكنه متابعة الإمام لم يجز له السجود على ظهر غيره أو رجليه إجماعا ، بل ينتظر حتى يتمكن من السجود على الأرض ، فإن تمكن قبل ركوع الإمام في الثانية سجد ولحق الإمام ، وإن تعذر ذلك لم يكن له الركوع مع الإمام في الثانية لئلا يزيد ركنا ، بل يسجد مع الإمام السجدتين وينوي بهما الأولى فتسلم له ركعة ثم يتم بركعة بعد تسليم الإمام. قال في المعتبر : هذا متفق عليه (١).

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٢٩٩.

٨٠