مستند الشّيعة - ج ٤

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ٤

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-79-5
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٥٥٤

١٨١

١٨٢

١٨٣

ثمَّ إنه وقع في المقام لكثير من الفقهاء ـ سيما الشيخ الجليل أبي الفضل شاذان بن جبرئيل في رسالته التي نقلها في البحار (١) ـ اختلافات كثيرة من حيث نفس العلامات المنفردة ، ومن حيث جمع بعضها مع بعض ، بحيث لا يحتمل حملها على التقريبات المغتفرة.

هذا أول الشهيدين أطلق كغيره جعل الثريا والعيّوق عند طلوعهما على اليمين والشمال علامة لأهل المغرب (٢).

وقيّده ثانيهما ـ رحمه‌الله ـ ببعضهم (٣).

__________________

(١) البحار ٨١ : ٧٣ ـ ٨٥.

(٢) انظر اللمعة ( الروضة ١ : ١٩٧ ) ، وكشف اللثام ١ : ١٧٤.

(٣) الروضة البهية ١ : ١٩٧.

١٨٤

وظاهر أنه غير معقول ، إذ الفصل بين مقابلي اليمين والشمال نصف الدور ، وبين مطلعي الكوكبين نصف عشره ، فلا يتأتّى وضع أحدهما على اليمين والآخر على الشمال في موضع واحد.

والتوجيه : بأنّ المراد أنّ قبلتهم بين مطلعيهما ، بحيث يكون الثريّا على جهة اليمين والعيّوق على جهة الشمال ، غير خال عن التكلّف والتخصيص الغير المرضي ، والبعد. وبأنّ العيوق علامة للغربي الشمالي ، والثريا للجنوبي غير صحيح ، لأنّ كليهما شماليان عن مشرق الاعتدال ، إلى غير ذلك ممّا في كلماتهم من الاختلافات التي يتمكن من استخراجها من أحاط بما ذكرنا.

وخامسة : بالقمر ، فجعلوا جعله بين العينين عند غروب الشمس في الليلة السابعة من كلّ شهر ، وعند انتصاف الليل في الرابعة عشرة منه ، وعند الفجر في إحدى وعشرين علامة لأهل العراق.

وفيه من التغريب من وجهين ما لا يخفى (١).

وسادسة : بمنازل القمر ، وهو في الحقيقة راجع إلى المعرفة بالكواكب ، فحكمها حكمها.

ومن الطرق المفيدة للظن : إخبار العدلين ، بل العدل ، بل جماعة الفسّاق ، بل الفاسق الواحد وإن كان في قبول الأخير نظر يظهر في ما سيأتي في الأعمى ، وإخبار أهل البيت بقبلة البيت ، سواء كان إخبارهم مستندا إلى المشاهدة أو الاجتهاد.

وليس التعويل على ذلك تقليدا ، لأنّه الأخذ بقول الغير تعبّدا من غير ملاحظة إفادته العلم أو الظن ، والمناط هنا تحصيل الظن المندرج في التحرّي. ولو عمّم التقليد بحيث يشمله أيضا فيكون بعض أفراده داخلا في التحرّي والاجتهاد أيضا ، فلا مانع من الأخذ به.

__________________

(١) أحدهما باعتبار بلاد العراق ، والآخر باعتبار سير القمر. منه رحمه الله تعالى.

١٨٥

نعم ، لو تمكن من الاجتهاد الأقوى ، لم يجز التعويل عليه كما يأتي.

وهذا مراد من منع من التقليد للمتمكن من الاجتهاد ، فأراد بالاجتهاد استعمال القواعد ، وبالتقليد العمل بخبر الغير وإن أفاد الظن ، وإلاّ فغير المفيد له لا يجوز التعويل عليه مع عدم التمكن من الاجتهاد أيضا.

ومنها : محاريب مساجد بلد الإسلام ، صغيرا كان أو كبيرا ، وقبوره وبيوته ، ومحاريب الطرق المسلوكة ، لبعد اتّفاق أهلها واستمرارهم على الخطأ.

وجعله من علائم القطع لذلك ـ كجماعة (١) ـ غير جيّد ، لإمكان بنائهم أوّلا على ما تمكنوا من الاجتهاد المجزئ لهم واستمرارهم عليه ، سيما في القرى الصغار ، إلاّ إذا كان من المواضع القريبة إلى الكعبة جدّا ، كمكّة وما يقربها ، فيمكن حصول العلم بما جرى عليه أهله من القبلة ، وأما في البعيد فلا.

ثمَّ على ما عرفت تعلم أنّ التعويل على ما لا يفيد العلم منها مختص بغير المتمكن من العلم ، وتعويله لأجل إفادته الظن أيضا لا تعبّدا ، لعدم دليل عليه بخصوصه ، وأمّا الإجماعات المنقولة فلا تفيد زيادة على ذلك.

وعلى هذا فلو لم يحصل الظن منها في موضع ، لظهور مخالفتها لما يحصل من بعض قواعد القبلة ، يسقط عن الاعتبار ويرجع إلى ما يحصل منه الظن.

نعم ، الظاهر سيما في بلد كبير كون الظن الحاصل من قبلته المتداولة أقوى من الحاصل من استعمال القواعد ، إلاّ إذا كانت المخالفة قليلة.

وأمّا الكثيرة الواصلة إلى قريب من ربع الدور ونحوه ، فإن فرض تحقّقها فالظاهر عدم سقوط الظن ، بل يظن الخطأ في إجراء القاعدة.

ومن هنا يظهر سرّ ما ذكره بعضهم من عدم جواز الاجتهاد في الجهة وجوازه‌

__________________

(١) منهم : الشهيد الأول في الذكرى : ١٦٣ ، والمحقق الثاني في جامع المقاصد ٢ : ٧٢ ، والشهيد الثاني في روض الجنان : ١٩٥.

١٨٦

في التيامن والتياسر (١) ، يعني أنه لو أدّى الاجتهاد إلى خلاف الجهة لا يعوّل عليه لحكم الحدس بخطئه.

المسألة الثالثة : هل يكتفي غير المتمكن من العلم بمطلق الظن ، فتكفيه أمارة محصّلة له ولو تمكّن من أمارة أقوى؟ أو يجب عليه تحصيل أقوى ما يتمكّن منه من الظنون؟

الظاهر الثاني ، كما به صرّح طائفة (٢) ، لأنه المفهوم من التحرّي وتعمّد الجهد ـ الواردين في النص ـ في العرف واللغة ، فإنّ التحرّي هو طلب ما هو أحرى بالاستعمال في غالب الظن ، ذكره الجوهري والطريحي (٣) ، أو الاجتهاد في الطلب ، ذكره ابن الأثير (٤) ، والاجتهاد : بذل الجهد واستفراغ الوسع ، كما ذكره أهل اللغة ، بل في النهاية الأثيرية : أنه استفراغ ما في الوسع والطاقة ، وقال أيضا : يقال جهد الرجل إذا جدّ فيه وبالغ (٥). والجهد هو الطاقة ، فتعمده : صرفها ، وهو بذل أقصى ما يمكن من السعي.

فلا يكفي للمتمكن من استعمال قواعد الهيئة الاقتصار على الإخبار ولا على قبلة منصوبة ، إلاّ إذا كان الظن الحاصل منها أقوى ، كقبلة المساجد الجامعة في البلاد ، أو إخبار جماعة كثيرة من أهل بلد. ولا يكفي إخبار الواحد مع إمكان الأزيد ، وهكذا. وبالجملة اللازم بذل الجهد وصرف ما في الوسع.

الرابعة : لو اجتهد فأخبر واحد بخلاف اجتهاده ، عمل بالأوثق عنده ولو‌

__________________

(١) كما في الذكرى : ١٦٣.

(٢) منهم الفيض في المفاتيح ١ : ١١٤ ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ١ : ١٨٠ ، وصاحب الرياض ١ : ١١٨.

(٣) الصحاح ٦ : ٢٣١١ ، ومجمع البحرين ١ : ٩٨.

(٤) النهاية ١ : ٣٧٦.

(٥) النهاية ١ : ٣١٩.

١٨٧

كان الخبر ، وفاقا لجماعة (١) ، لوجوب العمل بظنّه. وخلافا للشيخ (٢) ، وأتباعه (٣) ، لكونه تقليدا غير جائز للمجتهد. وضعفه ظاهر.

ولو تساويا فيصلّي بهما ، كما يأتي.

الخامسة : الأعمى وفاقد الأمارات وغير العارف بها والعارف الغير المتمكن من استعمالها لضيق وقت أو مانع ، يعوّل على قول الغير وجوبا ، وفاقا لظاهر الإسكافي (٤) ، والمبسوط والجامع والشرائع والدروس والتحرير (٥) ، بل الأكثر ، لأنّه التحرّي بالنسبة إليه وتعمّد الجهد.

ولصحيحة الحلبي : « لا بأس بأن يؤمّ الأعمى للقوم إن كانوا هم الذين يوجّهونه » (٦).

وبهما يندفع استصحاب الشغل ، وتقيّد مرسلة خراش ، المتقدّمة (٧).

وخلافا للخلاف ، فأوجب الصلاة إلى الأربع مع السعة وخيّر مع الضيق ، للمرسلة (٨). وجوابه ظاهر.

ولمن قال بالأول في الأعمى ، وبالثاني أو تردّد في غيره (٩).

ولمن قال بالأول لغير العارف بالاجتهاد ، وبالثاني للعارف الغير المتمكن‌

__________________

(١) منهم المحقق في الشرائع ١ : ٦٦ ، والشهيد في البيان : ١١٦ ، والذكرى : ١٦٤ ، وصاحب المدارك ٣ : ١٣٣.

(٢) كما في المبسوط ١ : ٨٠.

(٣) منهم القاضي البراج في المهذب ١ : ٨٧.

(٤) انظر المختلف ١ : ٧٧.

(٥) المبسوط ١ : ٧٩ ، الجامع : ٦٣ ، الشرائع ١ : ٦٦ ، الدروس ١ : ١٥٩ ، التحرير ١ : ٢٨.

(٦) التهذيب ٣ : ٣٠ ـ ١٠٥ ، الوسائل ٤ : ٣١٠ أبواب القبلة ب ٧ ح ١ ( وردت بتفاوت ).

(٧) راجع ص ١٦٨.

(٨) الخلاف ١ : ٣٠٢.

(٩) قال في القواعد ١ : ٢٧ : والأعمى يقلّد المسلم العارف بأدلة القبلة ، ولو فقد المبصر العلم والظن قلد كالأعمى مع احتمال تعدد الصلاة.

١٨٨

منه (١). ويدفعان بعموم ما ذكر.

نعم يمكن الخدش في قبول قول الفاسق ، لآية النبإ ، فهي للروايتين معارضة ، وكلّ خبر لم يوافق كتاب الله فهو زخرف ، ولذا منع من قبول قوله جماعة ، كما عن الإسكافي (٢) ، والمبسوط والإصباح والمهذب ونهاية الإحكام والتذكرة والذكرى والدروس والبيان (٣). وهو قويّ.

السادسة : هل يجب تعلّم طرق معرفة القبلة عينا مطلقا؟ أو مع ظهور الحاجة إلى التعلّم والتمكن منه؟

الظاهر الثاني ، للأصل ، ووجوب مقدمة الواجب. والأولى للمسافر إذا ورد بلدة أو قرية معلومة القبلة أو مظنونها أن يعيّن كوكبا أو نحوه علامة لقبلة ما يقربها من الطرق.

السابعة : قد يوجد في بعض العبارات سهولة الخطب في أمر القبلة (٤).

ويستند فيها تارة إلى ما ورد من قولهم : « ما بين المشرق والمغرب قبلة » (٥) وأخرى إلى ما يوجد في كلمات الأصحاب من الخلف والاختلاف ، وثالثة إلى استنادهم بالعلامات الغير المفيدة لغير الظن غالبا ، ورابعة إلى عدم ورود غير خبر (٦) في خصوص قبلة البعيد وبيان علامتها.

__________________

(١) قال الشيخ في موضع من المبسوط ( ١ : ٧٩ ) : إنّ فاقد أمارات القبلة أو الذي لا يحسن ذلك يجوز له التقليد والرجوع إلى قول الغير. ثمَّ قال في موضع آخر منه ( ١ : ٨٠ ) : إن العالم بأمارات القبلة متى اشتبه عليه الأمر لا يجوز له التقليد ، بل يصلي إلى أربع جهات.

(٢) حكاه عنه في المختلف ١ : ٧٧.

(٣) المبسوط ١ : ٨٠ ، المهذب ١ : ٨٧ ، نهاية الاحكام ١ : ٣٩٥ ، التذكرة ١ : ١٠٣ ، الذكرى : ١٦٤ ، الدروس ١ : ١٥٩ ، البيان : ١١٦.

(٤) كما في مجمع الفائدة ٢ : ٥٩ ، والمدارك ٣ : ١٢١ ، والحدائق ٦ : ٣٨٧.

(٥) انظر الوسائل ٤ : ٣١٤ أبواب القبلة ب ١٠.

(٦) راجع ص ١٧٦.

١٨٩

وهو كلام خال عن التحقيق بعيد عن الصواب ، لأنّ بعد التصريح في الكتاب والسنّة بأنّ الكعبة أو مع المسجد والحرم قبلة يجب استقبالها ما الذي يسهل خطبها ويجوّز التسامح فيها؟

وأمّا كون ما بين المشرق والمغرب قبلة ، فقد عرفت ما يعارضه وما يراد منه (١) ، مع أنك تراهم لا يعملون بذلك أبدا ويبطلون الصلاة بأدنى انحراف عمّا أدّى إليه العلامات عمدا.

وأمّا الخلف والاختلاف ، فهو ناش إمّا عن الخطأ في مقتضى العلامة أو الاختلاف في فهم مقتضياتها.

وأما الاستناد إلى العلامات : فلأنّه المرجع عند سدّ باب العلم ، بتصريح الأخبار.

وأما عدم تعيين العلامات في الأخبار : فلأنّه من باب تعيين الموضوع ، وهو على المكلّف نفسه ، ولا اهتمام للشارع في بيانه ، فالواجب هو استقبال الكعبة بحيث يصدق عليه عرفا أنه استقبلها وتوجّه إليها ، ولا تجوز المسامحة في ذلك.

نعم ، كما أنه إذا كانت هناك منارة رفيعة قطرها ذراعان مثلا ، يخرج في قربها بعض من الصفّ المشتمل على العشرة عن الاستقبال العرفي لها ، ولا يخرج في بعد فرسخين منها مثلا أحد من الصفّ المشتمل على المائة ، ويقال لكلّ منهم : إنّه متوجّه إلى المنارة ، ولا في بعد مائة فرسخ أحد من الصف المشتمل على الألف بل عشرة آلاف ، كما مرّ بيانه (٢) ، تتّسع دائرة صدق الاستقبال العرفي في البعيد ، لا بمعنى أنّ جهة توجّه شخص واحد متّسعة يجوز له الميل إلى كلّ جزء منها ، لأنّ الميل اليسير من البعيد يوجب الانحراف الكثير غاية الكثرة عن الكعبة بحيث ينتفي صدق الاستقبال العرفي ، ولذا لا يجوّزون لأحد ميلا عمّا اقتضته العلامة‌

__________________

(١) راجع ص ١٦٧.

(٢) راجع ص ١٤٨.

١٩٠

أبدا ، بل بمعنى أنّ سمت توجّه الأشخاص المتوازية الكثيرة في البعيد واحد ، ويكون سمت توجّه الأماكن القريبة متّحد ، ويزداد الاتّساع بذلك المعنى بزيادة البعد.

وسبب التفرقة ما مرّ من أنّ بميل شخص واحد في خراسان مثلا بقدر شبر عمّا اقتضته العلامة قد يصير البعد بين طرف خط العلامة وطرف خط سمت الميل في مكة أزيد من مائة فرسخ ، بخلاف الشخصين المتوازيين اللذين بينهما فرسخ مثلا ، فإنّ البعد بين سمتي توجّههما لا يزيد عن الفرسخ وإن ذهب السمتان إلى غير النهاية.

الثامنة : المشهور رجحان التياسر قليلا لأهل العراق ، إمّا مع وجوبه كما هو ظاهر جماعة من القدماء منهم : الشيخ في كثير من كتبه منها الخلاف مدّعيا فيه عليه الإجماع (١) ، وابن حمزة (٢) ، والشيخان أبو الفتوح (٣) ، وأبو الفضل شاذان بن جبرئيل (٤). أو استحبابه كما هو المشهور عند القائلين بالرجحان ، وهو المحكي عن الشيخ في المصباح (٥) ومختصره ، وابن سعيد مبدلا للعراقي بالمشرقيين (٦).

لرواية المفضل : عن التحريف لأصحابنا ذات اليسار عن القبلة وعن السبب فيه ، فقال : « إنّ الحجر الأسود لمّا أنزل من الجنة ووضع في موضعه ، جعل أنصاب الحرم من حيث يلحقه النور نور الحجر ، فهي عن يمين الكعبة أربعة أميال ، وعن يسارها ثمانية أميال ، كلّه اثنا عشر ميلا ، فإذا انحرف الإنسان ذات‌

__________________

(١) كما في الاقتصاد : ٢٥٧ ، والمبسوط ١ : ٧٨ ، والجمل والعقود : ١٧٦ ، النهاية : ٦٣ ، الخلاف ١ : ٢٩٧.

(٢) الوسيلة : ٨٥.

(٣) تفسير روح الجنان ١ : ٤٢٢.

(٤) رسالة إزاحة العلة المنقولة في البحار ٨١ : ٧٧.

(٥) مصباح المتهجد : ٢٤.

(٦) الجامع للشرائع : ٦٣ قال فيه : يستحب للعراقيين والمشرقيين أن يتياسروا قليلا.

١٩١

اليمين خرج عن القبلة لقلة أنصاب الحرم ، وإذا انحرف الإنسان ذات اليسار لم يكن خارجا من حدّ القبلة » (١).

ومرفوعة محمد : لم صار الرجل ينحرف في الصلاة إلى اليسار؟ فقال : « إن للكعبة ستة حدود ، أربعة منها على يسارك ، واثنان منها على يمينك ، فمن أجل ذلك وقع التحريف على اليسار » (٢).

وفي الفقه الرضوي : « إذا أردت توجّه القبلة فتياسر [ مثلي ] ما تيامن ، فإنّ الحرم عن يمين الكعبة أربعة أميال وعن يسارها ثمانية أميال » (٣).

والمراد بيمين الكعبة ويسارها يمين مستقبلها ويساره ، كما تدلّ عليه المرفوعة.

خلافا لجماعة ، كالمحكي عن روض الجنان والمحقّق الثاني والنافع وظاهر الدروس (٤) ، وجملة ممّن تأخّر عنهم (٥) ، فبين مانع من الرجحان مطلقا ، ومتردّد ، لكونه ـ كما هو ظاهر التعليل ، وصريح الأكثر ـ مبنيا على اعتبار الحرم ، ولذا عدّ من أدلّته. وقد عرفت ضعفه.

وقد يمنع الابتناء ويحتمل اطّراده على القولين ، بل الاطّراد ظاهر الفاضل في المختلف والتحرير والإرشاد والقواعد (٦) ، والشهيد في الذكرى (٧) ، وغيرهما (٨) ،

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٧٨ ـ ٨٤٢ ، التهذيب ٢ : ٤٤ ـ ١٤٢ ، الوسائل ٤ : ٣٠٥ أبواب القبلة ب ٤ ح ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٤٨٧ الصلاة ب ١٠٥ ح ٦ ، التهذيب ٢ : ٤٤ ـ ١٤١ ، الوسائل ٤ : ٣٠٥ أبواب القبلة ب ٤ ح ١.

(٣) فقه الرضا عليه‌السلام : ٩٨ ، مستدرك الوسائل ٣ : ١٨٠ أبواب القبلة ب ٣ ح ١ ، وبدل ما بين المعقوفين في النسخ : مثل ، وما أثبتناه موافق للمصادر.

(٤) روض الجنان : ١٩٨ ، جامع المقاصد ٢ : ٥٦ ، النافع : ٢٤ ، الدروس ١ : ١٥٩.

(٥) كالفاضل المقداد في التنقيح ١ : ١٧٦ ، والفيض في مفاتيح الشرائع ١ : ١١٣.

(٦) المختلف ١ : ٧٧ ، التحرير ١ : ٢٨ ، الإرشاد ١ : ٢٤٥ ، القواعد ١ : ٢٦.

(٧) الذكرى : ١٦٢.

(٨) كصاحب كشف الغطاء : ٢١٧.

١٩٢

حيث صرّحوا بهذا الحكم مع اختيارهم اعتبار جهة الكعبة دون الحرم ، لأنّ فيها من السعة ما لا يخفى ، فيمكن استحباب التياسر ولو لم يعتبر الحرم.

ولا ينافيه التعليل ، إذ استقبال الأقرب إلى الحرم فالأقرب راجح ، وتحصيل الظن به مع الإمكان مندوب ، فمع أكثرية أنصاب الحرم على اليسار يوجب التياسر ـ عند استعمال العلائم المحصّلة للجهة ـ قوة الظن بالأقربية منه.

أقول : لا يخفى ضعف كلّ ما ذكروه من الابتناء والاطّراد ورجحان التياسر.

أمّا الأول : فلأنّه إنّما يتمّ إذا كانت علامات القبلة مفيدة للظن بعين الكعبة واستحب توسيط الحرم ، فحينئذ يمكن أن يقال : إنه يستحب له التياسر حتى يحصل التوسيط ، إذ لو لا الأول فلا تفيد أكثرية الحرم ذات اليسار رجحان التياسر ، إذ لا يعلم المصلّي إلاّ أنه متوجّه إلى عين الحرم أو جهته ، فلعلّه يكون متوجّها إلى يسار الحرم بحيث لو تياسر خرج عن الحرم ، أو وقع في أواخر اليسار ، فلا يفيد التعليل. ولو لا الثاني فلا فائدة في التياسر ، لأنّ استقبال الحرم عينا أو جهة حاصل ، وخصوص موضع المستقبل إليه من الحرم غير معلوم ولا مظنون حتى يفيد التياسر فيه شيئا.

وشي‌ء من الأمرين لا يثبت.

أمّا الأول : فلما مرّ من عدم إمكان الظن بإصابة عين الكعبة.

وأمّا الثاني : فلعدم دليل عليه.

هذا ، مع أنه لو سلّم حصول ذلك الظن فيحصل التوسيط بالتياسر الذي تبلغ نهايته عند الحرم نحو ميلين حتى يحصل التوسيط ، وذلك محال في حق العراقي قطعا ، إذ لو حصل التياسر بأدنى ما يمكن أن يتصوّر ويحسّ به ، يزيد التفاوت في الحرم عن فرسخ وفرسخين بل عشرة فراسخ.

والقول بأنّ ذلك يقدح على اعتبار عين الحرم دون الجهة ، إذ الممكن ـ على اعتبارها ـ إيجابه الأبعدية عن العين دون الخروج عن الجهة ، إلاّ أنّ احتمال إيجابه‌

١٩٣

الأقربية إليها أظهر ، لأكثرية الأنصاب في اليسار. مدفوع : بأنّا لو سلّمنا عدم إيجاب التياسر الخروج عن الجهة ، مع أنه غير مسلّم سيما على ما ذكرنا من معنى الجهة ، فليس الكلام في الخروج عن القبلة ، بل في موافقة التعليل. وإيجاب أكثرية الأنصاب بقدر ميلين في جانب لأظهرية الأقربية إليها في هذا البعد البعيد ظاهر البطلان.

وأمّا الثاني : فلأنّ جهة الكعبة وإن كانت متّسعة ، واستقبال الأقرب فالأقرب إلى الحرم راجحا ، وتحصيل الظن به مع الإمكان مندوبا ، إلاّ أنّ هذه الأمور غير مفيدة لرجحان التياسر ولو كانت أنصاب الحرم في جانب اليسار أكثر إلاّ إذا كان استعمال العلائم المحصّلة للجهة موجبا للظن بإصابة خارج الحرم عن اليمين ، فالتياسر يوجب الأقربية ، ولم يقل بذلك أحد ، بل يمكن أن تكون الإصابة مع استعمالها على يسار الحرم فيبعد عنه بالتياسر.

نعم ، لو قلنا بأنّ استعمال العلائم يفيد الظن بعين الكعبة ويستحب توسيط الحرم ، لكان لذلك وجه أيضا ، ولكن فيه ما مرّ.

وبالجملة لا يتصوّر معنى للتياسر وما يضاف التياسر إليه موافقا للتعليل المذكور أصلا ، ومنه يحصل في التعليل الإجمال المخرج له عن الاعتبار بالمرة.

بل في متن الأخبار في أصل الحكم أيضا إجمال ـ لا من وجهين ـ لا يمكن الاستناد إليها أصلا ، لأنّ المتياسر عنه فيها غير معلوم ، فإنه وإن كان القبلة ـ كما به صرّح في الرواية الاولى ـ ولكن المراد من القبلة فيها لا يمكن أن يكون ما جعله الشارع قبلة من الكعبة أو مع المسجد والحرم أو مع جهتها أيضا ، لأنّ التحريف عنها عمدا غير جائز إجماعا. بل المراد إمّا ما تقتضيه العلامات ويظن به من الأمارات ، أو ما كانوا يتوجّهون إليه في زمان الخطاب أو بخصوص بلدة أيضا وكان عليه بناء قبلتهم ، لكون المعنى : لم وقع التحريف لأصحابنا ذات اليسار عن القبلة التي يستقبلونها في بلادهم؟ ولعلّه كان لعلم الإمام بحصول تيامن في‌

١٩٤

قبلتهم ، كما يؤيّده ما ورد في وصف مسجد غنى وأنّ قبلته لقاسطة (١) ، وما ورد من أنه إذا قام القائم سوّى قبلة مسجد الكوفة (٢) ، وما ورد في إخبار أمير المؤمنين ببناء مسجد الكوفة من المطبوخ وتغيير قبلته والذم عليه (٣).

ويعضده أيضا ما ذكره بعض مشايخنا من أن انحراف قبلة مسجد الكوفة إلى اليمين أزيد ممّا تقتضيه القواعد بعشرين درجة تقريبا ، وكذا مسجد سهلة ومسجد يونس (٤).

ولمّا كان أكثر تلك المحاريب مبنية في زمان خلفاء الجور لم يمكنهم القدح فيها ، فأمروا بالتياسر وعلّلوه بعلّة يمكن إظهارها لكلّ أحد ويرتضيها المخالف أيضا.

وعلى هذا فلا يثبت الاستحباب لأهل سائر البلاد ، بل لأهل بلد السائل أو السؤال في هذا الزمان أيضا.

ومن هذا يظهر وجه ضعف الثالث وعدم رجحان التياسر أيضا.

التاسعة : الفاقد للظن يصلّي إلى أربع جوانب على الأظهر ، وفاقا للجليلين : شاذان بن جبرئيل (٥) ، وعلي بن إبراهيم (٦) والشيخين (٧) والسيدين (٨)

__________________

(١) البحار ٨٠ : ٣٦٠ ـ ١٣ نقلا عن كتاب الغارات.

(٢) البحار ٥٢ : ٣٦٤ ـ ١٣٩.

(٣) البحار ٥٢ : ٣٣٢ ـ ٦٠.

(٤) البحار ٨١ : ٥٣. ونقله عنه في الحدائق ٦ : ٣٨٦.

(٥) رسالة إزاحة العلّة نقلها في البحار ٨١ : ٨١.

(٦) تفسير القمي ١ : ٨٠.

(٧) المفيد في المقنعة : ٩٦ ، والطوسي في النهاية : ٦٣ ، والاقتصاد : ٥٧ ، والجمل والعقود : ١٧٦ ، والخلاف ١ : ٣٠٢.

(٨) المرتضى في جمل العلم والعمل ( نقله عنه في شرح الجمل ) : ٧٦ ، وابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٥٦.

١٩٥

والفاضلين (١) والإسكافي (٢) والحلّي والحلبي والقاضي والديلمي (٣) ، وغيرهم (٤) ، بل هو الأشهر كما صرّح به جماعة (٥) ، بل عليه الإجماع في المعتبر والمنتهى والتذكرة وعن الغنية (٦).

لا لاستصحاب الشغل الغير المندفع إلاّ بالصلاة إلى الأربع ، لعدم اندفاعه بها أيضا ، إذ لا يحصل العلم معها بالاستقبال الذي هو المحاذاة العرفية لمكة ولا الظن.

مضافا إلى إمكان منع الاشتغال اليقيني باستقبال القبلة حينئذ ، لتقييد أوامره بالعلم قطعا (٧).

والعلم بحصر المكلّف به بين أمور يمكن الإتيان بها بسهولة وإن كان كافيا ، إلاّ أنه هنا غير حاصل ، لعدم محصورية موضع القبلة ـ بالمعنى الذي ذكرنا ـ عرفا ، مع أنّ وجوب الإتيان بهذا المعلوم منفي إجماعا (٨).

ولا لما قيل من وجوب الأربع من باب المقدمة (٩) ، لما ذكر من عدم وجوب‌

__________________

(١) المحقق في الشرائع ١ : ٦٦ ، والنافع : ٢٤ ، والمعتبر ٢ : ٧٠ ، والعلامة في المختلف ١ : ٧٧ ، والتبصرة : ٢٢ ، والمنتهى ١ : ٢١٩.

(٢) حكاه عنه في المختلف : ٧٧.

(٣) الحلي في السرائر ١ : ٢٠٥ ، الحلبي في الكافي : ١٣٩ ، القاضي في المهذب ١ : ٨٥ ، وشرح الجمل : ٧٧ ، الديلمي في المراسم : ٦١.

(٤) كابن سعيد في الجامع للشرائع : ٦٣ ، والشهيد في البيان : ١١٥.

(٥) انظر البيان : ١١٥ ، والبحار ٨١ : ٦٥.

(٦) المعتبر ٢ : ٧٠ ، المنتهى ١ : ٢١٩ ، التذكرة ١ : ١٠٣ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٥٦.

(٧) والتكليف بهذا العلم هنا منتف ، وغيره غير متحقق. منه رحمه‌الله.

(٨) وقد يردّ دليل الاشتغال بعدم الإجماع على حصول البراءة بالأربع أيضا ، لاحتمال تعين القرعة كما قيل بها. وفيه : ان القول بالقرعة مخالف للإجماع ، لعدم قدح مخالفة من قال بها فيه ، لندرته. منه رحمه‌الله.

(٩) انظر : كشف اللثام ١ : ١٧٩ ، ورياض المسائل ١ : ١١٨.

١٩٦

ذي المقدمة ، وعدم حصول العلم من الأربع (١).

بل لمرسلة خراش ، المتقدّمة (٢).

وتضمّن المرسلة لنفي الاجتهاد الثابت إجماعا ونصّا ، وهو يخرجه عن الحجّية ، ممنوع ، لما مرّ في توجيهها (٣).

مع أنّه لو سلّم فلا يلزم من خروج جزء من الحديث عن الحجية خروج الباقي أيضا.

ومرسلة الكافي : وروي أيضا « أنّه يصلّي إلى أربعة جوانب » (٤) والفقيه : وقد روي فمن لا يهتدي القبلة في مفازة أن « يصلّي إلى أربعة جوانب » (٥).

وضعف تلك الروايات ـ لو كان ـ بما مرّ منجبر ، وقصور بعضها عن إفادة الوجوب ـ بعد انتفاء القول بالرجحان المجرد بل الجواز ـ غير مضرّ ، وإشعار ظاهر ما في الكافي بالتخيير ـ لو سلّم ـ في الإجماع المركّب لا يقدح ، مع أنّ أولاها في الوجوب صريحة.

خلافا للمحكي عن العماني (٦) ، وظاهر الصدوق طاب ثراهما (٧) ، فقالا : يصلّي على جهة واحدة أيّها شاء ، ومال إليه في المختلف والذكرى (٨) ، وقوّاه الأردبيلي وصاحب المدارك والمحقّق الخوانساري في شرح الروضة (٩) ، وجمع آخر‌

__________________

(١) وقد يردّ دليل وجوب المقدمة بتيقن البراءة بثلاث صلوات ، لأن ما بين المشرق والمغرب قبلة كما في الأخبار ، سيما في المتحيّر. وقد عرفت ضعفه ، وعدم دلالة الأخبار عليه ومعارضته مع غيره. منه رحمه‌الله.

(٢) راجع ص ١٦٨.

(٣) راجع ص ١٦٨.

(٤) الكافي ٣ : ٢٨٦ الصلاة ب ٨ ح ١٠ ، الوسائل ٤ : ٣١١ أبواب القبلة ب ٨ ح ٤.

(٥) الفقيه ١ : ١٨٠ ـ ٨٥٤ ، الوسائل ٤ : ٣١٠ أبواب القبلة ب ٨ ح ١.

(٦) حكاه عنه في المختلف : ٧٧.

(٧) الفقيه ١ : ١٧٩.

(٨) المختلف : ٧٨ ، الذكرى : ١٦٦.

(٩) مجمع الفائدة ٢ : ٦٧ ، المدارك ٣ : ١٣٦ ، الحواشي على شرح اللمعة : ١٧٩.

١٩٧

من متأخّري المتأخّرين منهم الحدائق (١) ، ووالدي العلاّمة ، قدّس الله أسرارهم.

للأصل ، وصحيحة زرارة ومحمد : « يجزئ المتحيّر أبدا أينما توجّه إذا لم يعلم وجه القبلة » (٢).

ومرسلة ابن أبي عمير : عن قبلة المتحيّر ، فقال : « يصلّي حيث شاء » (٣).

وصحيحة ابن عمار المروية في الفقيه : الرجل يقوم في الصلاة ، ثمَّ ينظر بعد ما فرغ ، فيرى أنه قد انحرف عن القبلة يمينا وشمالا ، قال : « قد مضت صلاته ، وما بين المشرق والمغرب قبلة ، ونزلت هذه الآية في قبلة المتحيّر ( وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) » (٤).

والجواب : أمّا عن الأصل : فباندفاعه بما مرّ.

وأمّا عن الأخبار : فبأنّ ـ مع عدم صلاحيتها لمقاومة ما ذكر ، لمخالفتها للشهرة التي يخرج بها الخبر عن الحجية. ووهن الأول : بأنّ زرارة قد رواه أيضا بتبديل المتحيّر بالتحرّي ، فيمكن كون الأصل ذلك ، وإن ضعف هذا الاحتمال بنوع اختلاف في السندين ، بل في المتن في غير موضع التبديل أيضا (٥) ، وبأنه يدلّ على عدم وجوب التحرّي إذا فقد العلم وإن أمكن للمتحيّر تحصيل الظن ، وهو خلاف الإجماع والأخبار ، وحمل المتحيّر على من كان عاجزا من العلم والظن كما هو المتبادر يوجب زيادة قوله « إذا لم يعلم » إلى آخره ، بل حزازته ، وهذا وهن من جهة أخرى. والثالث : بأنّ ذيله الذي هو محل الدلالة يمكن كونه من كلام‌

__________________

(١) الحدائق ٦ : ٤٠٠ ، وانظر مفاتيح الشرائع ١ : ١١٤ ، والذخيرة : ٢١٨.

(٢) الفقيه ١ : ١٧٩ ـ ٨٤٥ ، الوسائل ٤ : ٣١١ أبواب القبلة ب ٨ ح ٢.

(٣) الكافي ٣ : ٢٨٦ الصلاة ب ٨ ح ١٠ ، الوسائل ٤ : ٣١١ أبواب القبلة ب ٨ ح ٣.

(٤) الفقيه ١ : ١٧٩ ـ ٨٤٦ ، الوسائل ٤ : ٣١٤ أبواب القبلة ب ١٠ ح ١.

(٥) وإليك متنها : « قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : يجزي التحري أبدا إذا لم يعلم أين وجه القبلة » الكافي ٣ : ٢٨٥ الصلاة ب ٨ ح ٧ ، التهذيب ٢ : ٤٥ ـ ١٤٦ ، الاستبصار ١ : ٢٩٥ ـ ١٠٨٧ ، الوسائل ٤ : ٣٠٧ أبواب القبلة ب ٦ ح ١.

١٩٨

الفقيه ، بل هذا أظهر من سياق الخبر ، ومن روايته في التهذيب من غير هذه الزيادة (١) ، وبمعارضة المستفيضة المروية في المجمع ، وتفسيري القمي والعياشي في أنّ هذه الآية نزلت في النافلة خاصة (٢) ـ أنها لا تنافي ما مرّ.

أمّا الأولان وذيل الثالث ـ لو كان من الحديث ـ فلأنّه لا كلام في أنّ المتحيّر يجزئه أينما توجّه ويصلّي حيث شاء ، وإنّما الكلام في أنه هل يصلّي صلاة واحدة كذلك أو أربع ، والمقيّد مقدّم على المطلق.

نعم غاية الأمر أنّ بعد إتيانه بصلاة واحدة حيث شاء يتعيّن عليه جعل الجهات بعضها مقابلا لبعض بدليل آخر.

وأمّا صدر الثالث : فلإطلاقه بالنسبة إلى كون ما استقبل ما ظنّه بعد التحرّي أو لا ، فيجب تقييده.

هذا كلّه ، مع أنّ لهذه الروايات عموما بالنسبة إلى آخر الوقت الذي لا يسع الأربع ، وما مرّ مخصوص بغيره كما يأتي ، والخاص مقدّم على العام قطعا.

فضعف هذا القول ظاهر جدّا.

وأضعف منه ما حكي عن ابن طاوس (٣) ، ونفى عنه البأس في المدارك (٤) ، من وجوب القرعة ، لأنّها لكلّ أمر مشكل ، لانتفاء الإشكال هنا على كلّ من القولين ، لاستناد كلّ منهما إلى حجة شرعية.

فروع :

أ : لو اجتمع فرضان في وقت كالظهرين ، فهل يشرع في الثاني بعد إتمام أربع الأول ، أو يقدّم الأول من كلّ جهة على الثاني إليها؟ كل محتمل ، والأول‌

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٤٨ ـ ١٥٧ ، الوسائل ٤ : ٣١٤ أبواب القبلة ب ١٠ ح ١.

(٢) مجمع البيان ١ : ١٩١ ، تفسير القمي ١ : ٥٩ ، تفسير العياشي ١ : ٥٦ ـ ٨٠.

(٣) الأمان من أخطار الأسفار والأزمان : ٩٤.

(٤) المدارك ٣ : ١٣٧.

١٩٩

أحوط بل أظهر ، وعلى هذا فلو بقي من الوقت قدر أربع صلوات اختصت بالعصر ، فتأمّل.

ب : لو ضاق الوقت عن الأربع ، فهل يجب الإتيان بالممكن من الثلاث فنازلا ، أو يكفي الواحدة مطلقا؟

مقتضى أصل الاشتغال ، واستصحاب وجوب ما أمكن إذا تقدّمت الحيرة على الضيق ، ونحو قوله : « الميسور لا يسقط بالمعسور » (١) : الأول.

ومقتضى أصالة عدم وجوب الزائد على الواحدة الثابتة إجماعا حين سقوط الأربع بعدم التكليف بما لا يطاق : الثاني. وهو الحقّ ، لذلك ، وضعف ما تقدّم :

أمّا أصل الاشتغال : فبمنعه إن أريد بالزائد عن ماهية الصلاة هنا ، وزواله بالواحدة إن أريد بها.

وأمّا الاستصحاب : فلأنّ الثابت وجوب الأقلّ من الأربع في ضمن الأربع أي لتحقّقها ، فالواجب هو ذلك المقيّد ، فإذا انتفى القيد لا يمكن الاستصحاب.

وأما الأخير : فلعدم الدلالة ، كما بيّنّاه في كتاب عوائد الأيام (٢).

ج : من وظيفته الأربع لو صلّى البعض وظهر في الأثناء كونه إلى القبلة ، سقط الباقي ، لخروجه عن الموضوع.

وفي إجزاء ما صلاّه ، وعدمه فيعيده إليها وجهان ، المصرّح به في كلام بعضهم الأول (٣).

وفيه نظر : لأنّ ما ثبت أجزاؤه الصلاة إلى القبلة المعلومة. والإعادة إليها أحوط.

__________________

(١) عوالي اللئالي ٤ : ٥٨ ـ ٢٠٥.

(٢) عوائد الأيام : ٩٠.

(٣) البيان : ١١٧.

٢٠٠