مستند الشّيعة - ج ٤

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ٤

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-79-5
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٥٥٤

فيهما (١).

وتدلّ على الأول أيضا موثّقة ابن سنان ، المتقدّمة (٢) ، وصحيحة خالد بن [ أبي ] إسماعيل : الرجل يصلّي على أبي قبيس مستقبل القبلة ، قال : « لا بأس » (٣).

وفي دلالتها نظر.

وعليهما مرسلة الفقيه : « أساس البيت من الأرض السابعة السفلى إلى السماء السابعة العليا » (٤).

ب : المتمكن من تحصيل العلم باستقبال العين عرفا يجب عليه تحصيله ما لم يلزم الحرج ، لعدم حصول العلم ببراءة الذمة الواجب تحصيله إلاّ به. فالمصلّي في مكة يجب عليه صعود السطح ، وفي الحرم ونواحيه صعود الجبل ، إن أمكن بدون حرج ، وجعله حرجا مطلقا ـ كما في المدارك (٥) ـ لا وجه له.

نعم ، لو علم بدون الصعود والمشاهدة لكفى ، إذ لا تجب عليه المشاهدة بنفسها ، لعدم دليل عليه ، وعلى ذلك ينزّل كلام من أطلق وجوب المشاهدة للمتمكن منها.

ج : هل الحجر من الكعبة بعضا أو كلا ، حتّى يكفي استقباله كذلك لمن في المسجد أم لا؟ صريح الفاضل في النهاية والتذكرة الأول (٦).

وفي الذكرى : إن ظاهر كلام الأصحاب أنه من الكعبة ، قال : وقد دلّ‌

__________________

(١) شرح المفاتيح للوحيد البهبهاني ( المخطوط ).

(٢) في ص ١٥١.

(٣) الكافي ٣ : ٣٩١ الصلاة ب ٦٣ ح ١٩ وفيه : خالد عن أبي إسماعيل ، التهذيب ٢ : ٣٧٦ ـ ١٥٦٥ ، الوسائل ٤ : ٣٣٩ أبواب القبلة ب ١٨ ح ٢.

(٤) الفقيه ٢ : ١٦٠ ـ ٦٩٠ ، الوسائل ٤ : ٣٣٩ أبواب القبلة ب ١٨ ح ٣. وفيهما : « إلى الأرض السابعة العليا ».

(٥) المدارك ٣ : ١٢٢.

(٦) نهاية الإحكام ١ : ٣٩٢ ، التذكرة ١ : ٣٤٥.

١٦١

عليه النقل أنه كان في زمن إبراهيم وإسماعيل إلى أن بنت القريش الكعبة ، فأعوزتهم الآلات ، فاختصروها بحذفه ، وكان ذلك في عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاهتمام بإدخاله في بناء الكعبة ، وبذلك احتجّ ابن الزبير حيث أدخله فيها ، ثمَّ أخرجه الحجّاج بعده وردّه إلى مكانه (١). انتهى.

وردّه في المدارك وغيره : بعدم ثبوت ذلك النقل من طرق الأصحاب وإن ذكره العامة (٢). وهو كذلك ، إلاّ أنّ في مرفوعة علي بن إبراهيم ومرسلة الفقيه : « إنّ طول بناء إبراهيم كان ثلاثين ذراعا » (٣) وهو قد يعطي دخول شي‌ء من الحجر فيه ، لأنّ الطول الآن ـ على ما حكي ـ خمس وعشرون ذراعا ، ولا خلاف في عدم خروج شي‌ء منه عن الطرف المقابل للحجر.

ولكن بإزاء ذلك أخبار أخر مستفيضة تدلّ على خلاف ذلك ، ففي صحيحة معاوية بن عمّار : عن الحجر أمن البيت هو أو فيه شي‌ء من البيت؟ قال : « لا ، ولا قلامة ظفر ، ولكن إسماعيل دفن فيه أمّه ، فكره أن توطأ ، فحجر عليها حجرا وفيه قبور الأنبياء » (٤) وقريبة من صدرها صحيحة زرارة (٥).

وفي مرسلة الفقيه : « وصار الناس يطوفون حول الحجر ولا يطوفون فيه ، لأنّ أمّ إسماعيل دفنت في الحجر ففيه قبرها ، فطيف كذلك كي لا يوطأ قبرها » (٦).

__________________

(١) الذكرى : ١٦٤.

(٢) المدارك ٣ : ١٢٣ ، الحدائق ٦ : ٣٨٢ ، وانظر سنن الترمذي ٢ : ١٨١ ، والسيرة الحلبية ١ : ١٦٩.

(٣) مرفوعة علي بن إبراهيم : الكافي ٤ : ٢١٧ الحج ب ٩ ح ٤ ، الوسائل ١٣ : ٢١٤ أبواب مقدمات الطواف ب ١١ ح ١٠ ، مرسلة الفقيه : الفقيه ٢ : ١٦١ ـ ٦٩٥ ، الوسائل ١٣ : ٢١٧ أبواب مقدمات الطواف ب ١١ ح ١٤.

(٤) الكافي ٤ : ٢١٠ الحج ب ٧ ح ١٥ ، الوسائل ١٣ : ٣٥٣ أبواب الطواف ب ٣٠ ح ١.

(٥) التهذيب ٥ : ٤٦٩ ـ ١٦٤٣ ، الوسائل ٥ : ٢٧٦ أبواب أحكام المساجد ب ٥٤ ح ٢.

(٦) الفقيه ٢ : ١٢٤ ـ ٥٤١ ، الوسائل ١٣ : ٣٥٤ أبواب الطواف ب ٣٠ ح ٥.

١٦٢

وروي : « أن فيه قبور الأنبياء ، وما في الحجر شي‌ء من البيت ولا قلامة ظفر » (١).

ورواية يونس بن يعقوب : إني كنت أصلّي في الحرج ، فقال رجل : لا تصلّ المكتوبة في هذا الموضع ، فإنّ في الحجر من البيت ، فقال : « كذب ، صلّ فيه حيث شئت » (٢).

وهذه الأخبار أكثر عددا ، وأصح سندا ، وأوضح دلالة ، وأوفق بأصالة عدم براءة الذمة ، ولذلك أفتى الأكثر بعدم جواز استقباله ، وهو كذلك. ووجوب كون الطواف خارجه لا يدلّ على كونه من البيت بوجه.

د : لا خلاف في جواز النافلة مطلقا ، والفريضة مع الاضطرار داخل الكعبة ، وعليه الإجماع في المنتهى والمدارك وعن المعتبر (٣).

للأصل ، وإطلاقات فضل الصلاة في المسجد الحرام (٤) ، مع دلالة المعتبرة على أن الكعبة منه (٥) ، ومجوّزات الفريضة فيها ، الآتية ، المثبتة للأولى بعدم الفصل ، وللثانية بالإطلاق ، وروايات استحباب الصلاة للداخل فيها ، في الأولى بانضمام عدم الفرق بين النوافل ، وصحيحة محمد في الثانية : « لا تصلح صلاة المكتوبة جوف الكعبة ، وأمّا إذا خاف فوت الصلاة فلا بأس أن يصلّيها في جوف الكعبة » (٦).

__________________

(١) الفقيه ٢ : ١٢٦ ـ ٥٤٢ ، الوسائل ١٣ : ٣٥٥ أبواب الطواف ب ٣٠ ح ٦.

(٢) التهذيب ٥ : ٤٧٤ ـ ١٦٧٠ ، الوسائل ٥ : ٢٧٦ أبواب أحكام المساجد ب ٥٤ ح ١.

(٣) المنتهى ١ : ٢١٨ ، المدارك ٣ : ١٢٣ ، المعتبر ٢ : ٦٧.

(٤) انظر : الوسائل ٥ : ٢٧٠ أبواب أحكام المساجد ب ٥٢.

(٥) انظر الوسائل ١٣ : ٣٨٨ أبواب الطواف ب ٤٦.

(٦) التهذيب ٥ : ٢٧٩ ـ ٩٥٤ ، الاستبصار ١ : ٢٩٨ ـ ١١٠١ ولم يرد فيه الذيل : ( وأما إذا خاف .. ) ونقلها من التهذيب مع الزيادة في الوافي ٧ : ٤٧١ ـ ١٠ ، ١١. ولكن الذي يظهر من ملاحظة التهذيب أنّ الذيل من كلام الشيخ (ره) قد أدرج في الرواية ولهذا لم يروه في الوسائل ٤ : ٣٣٧ أبواب القبلة ب ١٧ ح ٤ ، وكذا في جامع الأحاديث ٤ : ٥٨٦ ـ ١٧٨٨ ويؤكده عدم وروده في موضع آخر من التهذيب ٢ : ٣٨٣ ـ ١٥٩٧ حيث نقل فيه الرواية بسند آخر عن محمّد بن مسلم. فراجع.

١٦٣

والأظهر عدم جواز الفريضة فيه اختيارا ، وفاقا للخلاف والمهذب (١) ، بل عن الكليني (٢) ، وغيره ، واختياره بعض مشايخنا المحقّقين (٣) ، ومال إليه بعض آخر من متأخّري المتأخّرين (٤) ، وعليه الإجماع في الأول.

للصحيحة المتقدّمة منطوقا ومفهوما ، والصحيحين الآخرين : « لا تصلّ المكتوبة في الكعبة » كما في أحدهما (٥) ، و « في وجوب الكعبة » كما في الآخر (٦) ، ولوجوب استقبال الكعبة التي هي اسم للمجموع ، بمعنى وقوع الجميع في القدّام كما هو المتبادر من استقبالها وإن لم يكن الجميع محاذيا للمصلّي ، وهو في جوفها غير ممكن ، ولذا ورد في بعض الأخبار : « الصلاة فيه إلى الأربع » (٧) ، وفي آخر : « إلى الفضاء إيماء » (٨) ، وفي ثالث : « إنّ القائم فوق الكعبة ليس له قبلة » (٩).

خلافا للشيخ في النهاية بل سائر كتبه (١٠) ، والحلّي مدّعيا عليه الإجماع (١١) ، بل معظم المتأخّرين (١٢) ، لدعوى الإجماع ، والأصل ، وموثّقة يونس : حضرت‌

__________________

(١) الخلاف ١ : ٤٣٩ ، المهذب ١ : ٧٦.

(٢) الكافي ٣ : ٣٩١.

(٣) الوحيد البهبهاني في حاشية المدارك ( المدارك ) : ١٥٢.

(٤) كصاحب الحدائق ٦ : ٣٧٨ ـ ٣٨٠.

(٥) الكافي ٣ : ٣٩١ الصلاة ب ٦٣ ح ١٨ ، التهذيب ٢ : ٣٧٦ ـ ١٥٦٤ ، الوسائل ٤ : ٣٣٦ أبواب القبلة ب ١٧ ح ١.

(٦) التهذيب ٢ : ٣٨٢ ـ ١٥٩٦ ، الاستبصار ١ : ٢٩٨ ـ ١١٠١ ، الوسائل ٤ : ٣٣٧ أبواب القبلة ب ١٧ ح ٣.

(٧) الوسائل ٤ : ٣٣٦ أبواب القبلة ب ١٧ ح ٢.

(٨) الوسائل ٤ : ٣٣٨ أبواب القبلة ب ١٧ ح ٧.

(٩) الوسائل ٤ : ٣٤٠ أبواب القبلة ب ١٩ ح ٢.

(١٠) النهاية : ١٠١ ، المبسوط ١ : ٨٥ ، الجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : ١٧٨.

(١١) السرائر ١ : ٢٦٦.

(١٢) منهم المحقق في الشرائع ١ : ٧٢ ، والعلامة في القواعد ١ : ٢٨ ، والشهيد الأول في الدروس ١ :

١٦٤

الصلاة المكتوبة وأنا في الكعبة فأصلّي فيها؟ قال : « صلّ » (١).

ويضعّف : بأنّ الإجماع المنقول ليس بحجة ، مع أنه بمثله معارض.

والأصل بما مرّ مندفع. والموثّق ـ مع كونه أقلّ مما مرّ عددا ، وأضعف سندا ، وموافقا لجماعة من العامة منهم أبو حنيفة (٢) ـ أعم من الصحيحة المتقدّمة ، بل جميع الأخبار المانعة ، لتخصيصها بغير المضطر إجماعا ، فليخصّ بها (٣).

ثمَّ المضطر هل يصلّي قائما مستقبلا لأيّ جزء منه اتّفق كما هو ظاهر الأصحاب ، أو مستلقيا ، أو إلى الأربع ، كما ورد بهما الرواية؟! الظاهر الأول ، لظاهر الإجماع ، ووجوب القيام والركوع والسجود ، والأصل ، وانتفاء الاستقبال الثابت على جميع الأحوال. والروايتان شاذتان.

هـ : لو استطال صف المأمومين في المسجد الحرام حتى خرج بعضهم عن محاذاة الكعبة ، بطل صلاة ذلك البعض ، وكذا لو خرج بعض شخص عن المحاذاة.

المسألة الثانية : قد عرفت أنّ الواجب هو استقبال الكعبة ، أي التوجّه إليها عرفا ، الذي هو عبارة عن المحاذاة العرفية لها ، وأنه بعينه معنى التوجّه إلى جهتها.

ثمَّ الواجب هو تحصيل العلم بتلك المحاذاة والتوجّه ، كما هو مقتضى الأصول والنصوص والفتاوى ، من غير خلاف يعرف ، ولكن وجوبه مقيّد بإمكان‌

__________________

١٥٤ ، والكركي في جامع المقاصد ٢ : ١٣٦ ، والشهيد الثاني في المسالك ١ : ٢١ ، والمحقق السبزواري في كفاية الأحكام : ١٦.

(١) التهذيب ٥ : ٢٧٩ ـ ٩٥٥ ، الوسائل ٤ : ٣٣٧ أبواب القبلة ب ١٧ ح ٦.

(٢) انظر : المحلى لابن حزم ٤ : ٨٠ ، والفقه على المذاهب الأربعة ١ : ٢٠٤.

(٣) وحمل أخبار المنع على الكراهة وإن أمكن إلا أن قاعدة تقدم الخاص يأبى عنه مع أن قوله في الموثقة « صلّ » حقيقة في الوجوب الممكن إرادته حال الاضطرار ، ولو أبقيت على العموم لوجب حمله على الجواز الخالي عن الرجحان ، لعدم القول بالرجحان ، وهو مع كونه مجازا مرجوحا ليس بأولى من التخصيص ، بل هو أولى منه بوجوه. منه رحمه الله تعالى.

١٦٥

تحصيله قطعا ، فإن لم يمكن ـ كمن بعد عن مكة ـ وجب عليه أن يجتهد في تحصيل الظن بالمحاذاة العرفية ـ التي هي الاستقبال ـ من الأمارات المفيدة له ، بلا خلاف فيه ، بل هو اتّفاق أهل العلم كما في المعتبر (١) ، وعليه الإجماع كما في المنتهى والتحرير والتذكرة والذكرى (٢).

للمستفيضة ، كصحيحة زرارة : « يجزئ التحرّي أبدا إذا لم يعلم أين وجه القبلة » (٣).

وموثّقة سماعة : عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم تر الشمس ولا القمر ولا النجوم ، قال : « اجتهد برأيك وتعمّد القبلة جهدك » (٤).

وصحيحة أخرى : في الأعمى يؤمّ القوم وهو على غير القبلة ، قال : « يعيد ولا يعيدون ، فإنهم قد تحرّوا » (٥).

ومرسلة ابن المغيرة : في الرجل يكون في السفينة فلا يدري أين القبلة ، قال : « يتحرّى فإن لم يدر صلّى نحو رأسها » (٦).

والأخبار الآتية الدالّة على عدم الإعادة بعد خروج الوقت في صورة التحرّي (٧) ، إذ لو لم يكن كافيا لكانت صلاته باطلة.

ولا ينافيه الأمر بالإعادة في الوقت ، لأنها غير منحصرة في بطلان الصلاة ،

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٧٠.

(٢) المنتهى ١ : ٢١٩ ، التحرير ١ : ٢٩ ، التذكرة ١ : ١٠٢ ، الذكرى : ١٦٤.

(٣) الكافي ٣ : ٢٨٥ الصلاة ب ٨ ح ٧ ، التهذيب ٢ : ٤٥ ـ ١٤٦ ، الاستبصار ١ : ٢٩٥ ـ ١٠٨٧ ، الوسائل ٤ : ٣٠٧ أبواب القبلة ب ٦ ح ١.

(٤) الكافي ٣ : ٢٨٤ الصلاة ب ٨ ح ١ ، التهذيب ٢ : ٤٦ ـ ١٤٧ ، الاستبصار ١ : ٢٩٥ ـ ١٠٨٨ ، الوسائل ٤ : ٣٠٨ أبواب القبلة ب ٦ ح ٢.

(٥) الكافي ٣ : ٣٧٨ الصلاة ب ٥٩ ح ٢ ، الوسائل ٤ : ٣١٧ أبواب القبلة ب ١١ ح ٧.

(٦) الكافي ٣ : ٤٤٢ الصلاة ب ٨٨ ح ٣ ، الوسائل ٤ : ٣٢٣ أبواب القبلة ب ١٣ ح ١٥.

(٧) انظر : ص ٢٠٦ و ٢٠٧.

١٦٦

فلعلّها تعبّد على حدة.

وأمّا مرسلة الفقيه : قلت : أين حدّ القبلة؟ قال : « ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه » (١) وصحيحة ابن عمّار : الرجل يقوم في الصلاة ، ثمَّ ينظر بعد ما فرغ ، فيرى أنه قد انحرف من القبلة يمينا وشمالا ، قال : « قد مضت صلاته ، وما بين المشرق والمغرب قبلة » (٢) فهما غير مكافئين لما مرّ ، لعدم قائل بمضمونهما في حق العالم والمتمكن عن الاجتهاد ، مع معارضتهما لموثّقة عمّار ، المتقدمة في المسألة السابقة (٣).

مع أنه لا يمكن أن يكون المراد منهما أنّ ما بين المشرق والمغرب جنوبا وشمالا ، لأنّ معناه انتفاء القبلة رأسا ، وهو مخالف لضرورة الدين.

بل المراد إمّا أنه من أحد الطرفين قبلة للمصلّي في الطرف الآخر. وهو أيضا لا يمكن إبقاؤه على الإطلاق ، لعدم قائل به كذلك ، فإنّ صلاة من تنحرف قبلته عن الجنوب بقليل ـ كالعراقي ـ إلى قريب المغرب غير جائز قطعا ، ومخالف لطريقة المسلمين ، بل هو مناف لضروري الدين.

أو المراد أنّ كلّ جزء منه قبلة للمجتهد ، بمعنى أنّ كلّ جزء أدّى إليه ظنه قبلة له. أو أن كلّ جزء منه قبلة لغير المتمكن من الاجتهاد ، حيث إنّه يصلّي على أيّ جانب شاء.

وكلّ من هذين المعنيين أولى من الأول ، لما فيه من أقليّة التخصيص. غاية الأمر التساوي ، فلا تثبت المنافاة لما ذكرنا.

مضافا إلى أنه يمكن أن يكون المراد من الاولى عدم إمكان تحديد القبلة‌

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٨٠ ـ ٨٥٥ ، الوسائل ٤ : ٣١٢ أبواب القبلة ب ٩ ح ٢.

(٢) الفقيه ١ : ١٧٩ ـ ٨٤٦ ، التهذيب ٢ : ٤٨ ـ ١٥٧ ، الاستبصار ١ : ٢٩٧ ـ ١٠٩٥ ، الوسائل ٤ : ٣١٤ أبواب القبلة ب ١٠ ح ١.

(٣) راجع ص ١٥٩.

١٦٧

الذي سئل عنه ، يعني أنّ كلّ جزء ممّا بين المشرق والمغرب قبلة لموضع من الأرض ، فلا يمكن تحديدها بحدّ.

وبالجملة : المسألة واضحة جدّا.

نعم ، نقل نادر هنا المخالفة عن المبسوط ، وأنه أوجب الصلاة إلى أربع جهات. وعبارته ـ كما قيل (١) ـ غير ظاهرة في المخالفة (٢) ، لاحتمال إرادة صورة فقد أمارات الظن بالكلّية ، ولو سلّمت مخالفته فهي شاذة مخالفة للإجماع المحقّق والمحكي مستفيضا ، بل على خلافه إجماع المسلمين على ما صرّح به بعضهم حيث قال : وهل له الاجتهاد إذا أمكنه الصلاة إلى أربع جهات؟ الظاهر إجماع المسلمين على تقديمه وجوبا على الأربع قولا وفعلا ، وأنّ فعل الأربع حينئذ بدعة ، فإنّ غير المشاهد للكعبة ومن بحكمه ليس إلاّ مجتهدا أو مقلّدا ، فلو تقدّمت الأربع على الاجتهاد لوجبت على عامة الناس وهم غيرهما أبدا ، ولا قائل به .. إلى آخر ما قال (٣).

وما يستدل لقوله من كون لزوم الأربع موافقا لأصل الاشتغال ، ومرسلة خراش : جعلت فداك ، إنّ هؤلاء المخالفين علينا يقولون : إذا أطبقت السماء علينا أو أظلمت فلم نعرف السماء كنّا وأنتم سواء في الاجتهاد ، فقال : « ليس كما يقولون ، إذا كان ذلك فليصلّ إلى أربع وجوه » (٤) حيث إنها ظاهرة في نفي الاجتهاد من أصله.

ففيه : أنّ الأصل المذكور مع ما ذكر من الأخبار لا يفيد شيئا. والمرسلة غير‌

__________________

(١) انظر الرياض ١ : ١١٨.

(٢) انظر المبسوط ١ : ٧٨ و ٨٠.

(٣) كشف اللثام ١ : ١٧٧.

(٤) التهذيب ٢ : ٤٥ ـ ١٤٤ ، الاستبصار ١ : ٢٩٥ ـ ١٠٨٥ ، الوسائل ٤ : ٣١١ أبواب القبلة ب ٨ ح ٥.

١٦٨

دالّة ، إذ يمكن أن يكون المراد بالاستواء في الاجتهاد حينئذ الاستواء في كيفيته ، أو في الاجتهاد في مسألة قبلة فاقد العلم والظن ، وهو سقوط اعتبار القبلة ، وبالجملة ليس فيها دلالة واضحة على ما ذكره.

فائدة‌ : وإذ عرفت وجوب التحرّي في تحصيل الظن لغير المتمكن من العلم ، فلا بدّ له من معرفة الطرق المحصلة للظن.

فمنها : القواعد الهيوية ، وهي محصّلة للظن القوي بجهة القبلة بالمعنى الذي ذكرنا ، أي بالمسافة التي يكون البعيد المحاذي لأيّ جزء منها حقيقة محاذيا للكعبة عرفا ، وهي كما عرفت تتّسع بزيادة البعد عنها.

وما في كلام جماعة من أنها محصّلة للظن بالعين والقطع بالجهة (١) ، كلام غير محصّل جدّا ، فإنّه لا سبيل للقواعد الهيوية إلى تحصيل العين التي هي لا تزيد طولا وعرضا عن نحو من ثلاثين ذراعا بوجه من الوجوه ، وكيف يظن بتلك القواعد خصوص موضع هذا القدر من المكان في البعد؟! فإنه أمر لا سبيل إليه منها.

وكذا القطع بالجهة ، فإنّ تلك القواعد مأخوذة من كلام أهلها الذي يجوز على كلّ منهم الخطأ ، ومبنيّة على الأرصاد المختلفة عن بعض الآحاد ، مع بعض اختلاف فيها أيضا. ومع ذلك فيها وجوه أخر من منافيات القطع.

فالحاصل من تلك القواعد : تعيين الموضع الذي يظن المستقبل له المحاذاة العرفية للكعبة ، لكونه إمّا عينها أو ما يقاربها ، بحيث لا يخرج المحاذي له في البعد عن محاذاة الكعبة عرفا ، ويعدّ المتوجّه إليه متوجّها إليها كذلك.

ومقابل هذا القول ما قيل من أنها غير مفيدة للظن أيضا ، لابتنائها على كروية الأرض التي ليس عليها دليل ، بل لا توافق ظواهر الآيات. مضافا إلى أنها خالية عن الدليل التام ومأخوذة من كلام الهيويين الذين لا وثوق لنا بإسلامهم‌

__________________

(١) كما في الذكرى : ١٦٢.

١٦٩

فضلا عن عدالتهم ، فلا يفيد كلامهم علما ولا ظنّا (١).

وهو ضعيف غايته ، فإنها وإن كانت مبتنية على الكروية ولكن دعوى أنه لا دليل عليها إن أريد القطعي فلا بأس به ، وإن أريد الأعم فخلاف الواقع ، حيث إنّ إفادة الأدلة الآتية ـ المفصّلة في محالّها ـ للظن القوي بكرويتها ممّا لا مجال للريب فيها ، بل لا يبعد أن يحصل من اجتماعها العلم العادي للممارس المتفرّس.

وأمّا القول بأنها لا توافق ظواهر الشرع فلم نعثر على ظاهر واحد ينافيها ، وبعض الآيات التي ذكروها غير دالّة على خلافها جدّا.

مع أنّ أكثر عظماء علماء الشريعة صرّحوا بكرويتها ، منهم الفاضل في كتاب الصوم من التذكرة (٢) ، وولده فخر المحقّقين في الإيضاح (٣) ، وغيرهما (٤).

وأمّا أنّ شيئا من تلك القواعد ليس عليه دليل تام فكلام خارج عن الإنصاف جدّا ، كيف ومع أنّ أكثرها يثبت بالدلائل الهندسية والبراهين المجسطية (٥) التي لا يتطرق إليها ثبوت شبهة.

وأمّا حديث عدم الوثوق بأهله وعدم عدالتهم فلا يصلح الإصغاء إليه ، فإنه لا يشترط في ذلك حصول اليقين. ورجوع الفقهاء فيما يحتاجون إليه في كلّ فن إلى علمائه وتعويلهم على قواعدهم إذا لم يخالف الشرع شائع ذائع ، كما في مسائل النحو واللغة والطب والحساب ، من غير بحث عن عدالتهم. بل يأخذون تلك المسائل مسلّمة ، للظن الغالب بأنّ جماعة من حذّاق صناعة إذا اتّفقت كلمتهم‌

__________________

(١) قد أنكر صاحب الحدائق كروية الأرض في كتاب الصوم ( ج ١٣ ص ٢٢٦ ) وقال : إن ساعدني التوفيق أكتب رسالة شافية في دفع هذا القول. واستشكل صاحب المدارك من ناحية إسلام الهيويين وعدالتهم. المدارك ٣ : ١٢١.

(٢) التذكرة ١ : ٢٦٩.

(٣) إيضاح الفوائد ١ : ٢٥٢.

(٤) كالشهيد الثاني في المسالك ١ : ٥٩ ، والمجلسي في مرآة العقول ١٧ : ١١.

(٥) المجسطي : موسوعة فكلية برهانية ، ألّفها بطليموس ، وترجم إلى العربية أكثر من مرة.

١٧٠

على شي‌ء ممّا يتعلّق بها فهو أبعد عن الخطأ.

وليت شعري كيف يفيد كلام الجوهري ـ مثلا ـ الظن في اللغة ( ويتّبع ) (١) ولا يفيد كلام حجة الفرقة مع جمّ غفير من علماء الهيئة؟! بل كيف يعوّل على قول فلان اليهودي المتطبّب ، ولا يقبل قول جماعة من علماء الإسلام فيما يتعلّق بفنّهم؟! مع إطباق العام والخاص على بلوغ حذاقتهم في ذلك الشأن بما لا مزيد عليه ، وشهادة المشاهدات الكثيرة في رؤية الأهلّة والخسوف والكسوف ونحوها على صدق مقالهم ، واتّفاق جميع الفقهاء على الرجوع في ذلك إلى أقوالهم ، بل تصريح جماعة بإفادتها العلم بالجهة ، وبالجملة فذلك أمر ظاهر جدّا.

ثمَّ معرفة القبلة بالقواعد الهيوية يمكن من وجوه كثيرة نحن نذكر شطرا منها :

فتارة تعرف بالشمس ، وتوضيحه : إنّ الشمس تكون مارّة بسمت رأس مكة ـ شرّفها الله تعالى ـ حين كونها في الدرجة الثامنة من الجوزاء والثانية والعشرين من السرطان وقت انتصاف نهار مكة ، لأنّ ميل كلّ منهما عن المعدّل بقدر عرضها ، والتفاوت بين نصف نهار كلّ بلد ونصف نهارها بقدر الفصل بين طوليهما ، لأنه قوس من المعدّل واقع بين دائرتي نصف نهار البلدين.

وعلى هذا فإذا رصد يوم كون الشمس في إحدى الدرجتين وأخذ لكلّ خمس عشرة درجة من التفاوت بين الطولين ساعة ، ولكلّ درجة أربع دقائق ، ويجمع الحاصل ، فإذا مضى بقدره من نصف نهار البلد ، إن كان شرقيا من مكة أي زاد طوله على طولها ، وإذا بقي بقدره إليه إن كان غربيّا منها أي نقص طوله عن طولها ، فسمت ظلّ الشاخص حينئذ هو القبلة ، وهي إلى خلاف جهة الظل ، فإذا جعل المصلّي الظل بين قدميه وسجد عليه متوجّها إلى الشاخص يكون متوجّها إلى‌

__________________

(١) ليس في « ق ».

١٧١

القبلة.

وإن لم يكن فصل ما بين الطولين بل اتّحد طول البلد ومكة ، فيؤخذ الظل حال وصول الشمس إلى دائرة نصف النهار ، أو يؤخذ الشمس حال زوالها بلا مهلة على طرف الحاجب الأيمن ممّا يلي الأنف.

ثمَّ الطريقة المشهورة في استخراج سمت القبلة بالأسطرلاب ـ وهي أن تضع إحدى الدرجتين السابقتين من منطقة البروج على خط وسط السماء في صفحة البلد حال كون الشمس في تلك الدرجة ، وتعلم موضع المري من الحجرة ، ثمَّ تدير العنكبوت بقدر ما بين طول البلد ومكة إلى المغرب إن زاد طوله ، وإلى المشرق إن نقص ، فحيث انتهت الدرجة من مقنطرات الارتفاع رصد بلوغ ارتفاع الشمس عند المقنطرة ، فظل الشاخص حينئذ على سمت القبلة ـ لا تخرج عن الطريقة المذكورة ، بل هي هي في الحقيقة.

وأخرى تعرف بالدائرة الهندية ، ومعرفتها منها على نوعين :

أحدهما : إنّ بعد تسوية الأرض ، ورسم الدائرة ، واستخراج خطي الاعتدال والزوال القاسمين لها أرباعا على الطريقة المشهورة ، يقسّم كلّ ربع تسعين قسما متساوية ، ثمَّ يعدّ من نقطة الجنوب أو الشمال بقدر ما بين الطولين [ إلى المغرب ] (١) إن زاد طول البلد على طول مكة شرّفها الله تعالى ، وإلى المشرق إن نقص ، ومن نقطة المشرق أو المغرب بقدر ما بين العرضين إلى الشمال إن نقص عرضه ، وإلى الجنوب إن زاد. ويخرج من منتهى الأجزاء الطولية خطا موازيا لخط الزوال ، ومن منتهى الأجزاء العرضية خطا موازيا لخط الاعتدال ، ويتقاطع الخطان داخل الدائرة غالبا. فصل بين مركزها ونقطة التقاطع بخط منته إلى محيطها ، فهو على صوب القبلة.

هذا إذا كان البلد مخالفا لمكة طولا وعرضا. وإن اتّحدا طولا فخط الزوال‌

__________________

(١) أضفناه لتمامية المعنى.

١٧٢

على صوبها ، منتهيا إلى نقطة الجنوب إن زاد عرض البلد ، وإلى نقطة الشمال إن نقص. وإن اتّحدا عرضا فقط يعدّ من نقطة المغرب إلى الشمال بقدر العرض إن زاد طول البلد ، ومن نقطة المشرق إليه بقدره إن نقص ، فالخط الواصل بين مركز الدائرة ومنتهى الأجزاء العرضية على صوب القبلة.

وثانيهما : إنّ بعد رسم الدائرة واستخراج خط الزوال وتقسيم الأرباع ، يعدّ من القوس التي في جهة انحراف البلد بقدر أجزاء الانحراف ، ويوصل بين منتهاه ومركز الدائرة فهو خط صوب القبلة. وجهة الانحراف من الجنوب إلى المغرب إن كان البلد شرقيا شماليا من مكة ، أي زاد عليها طولا وعرضا. ومنه إلى المشرق إن كان غربيا كذلك ، أي نقص طولا وزاد عرضا ، ومن الشمال إلى المغرب إن كان شرقيا جنوبيا ، أي زاد طولا ونقص عرضا ، ومنه إلى المشرق إن كان غربيا كذلك ، أي نقص طولا وعرضا ، ولا انحراف مع الاتّحاد طولا كما مرّ ، ومع الاتّحاد عرضا من الشمال إلى المغرب بقدر تمام العرض إلى التسعين (١) إن زاد طول البلد ، ومنه إلى المشرق كذلك إن نقص.

وقد رسمنا جدولا على حدة مشتملا على أطوال البلاد المشهورة وعروضها وجهات انحرافها ومقادير الانحراف ، لئلاّ يحتاج الطالب إلى كتاب آخر. (٢)

__________________

(١) أي بقدر ثمان وستين درجة وعشرين دقيقة ، لأن عرض مكة ـ على ما في الجدول ـ إحدى وعشرون درجة وأربعون دقيقة.

(٢) سيأتي في ص ١٧٩. ولا يخفى أن القدماء اتفقوا على أنّ مبدأ الطول منتهى العمارة في جانب الغرب ، وكانت في عصرهم جزيرة من الجزائر المسماة بالخالدات ، الواقعة في مغرب إفريقيا قريبة من ساحل اقيانوس المسمى بالبحر المحيط ، وتابعهم المصنف ـ قدس‌سره ـ في ذلك. ولكن استقر اتفاق القوم في هذه الأعصار على أنّ المبدأ قرية بالجنوب الشرقي من لندن تسمّى ب « كرينويج » ومعرّبة : « جرينوش ». والاختلاف في مبدأ الطول لا يضرّ بمقدار انحراف القبلة ، لأن التفاوت بين طول البلد ومكّة على التقديرين واحد.

١٧٣

وثالثة : بالمشرق والمغرب أي بالشمس ، بجعل الأول على الأيسر والثاني على الأيمن ، فيكون المستقبل إليه قبلة لبلد كان مساويا لمكة طولا وزائدا عنها عرضا ، وإن نقص عرضا فيجعل الأول على الأيمن والثاني على الأيسر.

وقيّدهما الشهيدان (١) ، والمحقّق الشيخ علي (٢) ، وصاحب التنقيح (٣) ، وغيرهم (٤) بالاعتدالين ، أي مشرق أوّلي الحمل والميزان.

ونقل شيخنا البهائي عن والده عدم الاحتياج إلى التقييد ، معلّلا بأنّ الخط الواصل بين مشرق كلّ يوم ومغربه يقاطع خط الجنوب والشمال على القوائم ، فلو جعل مغرب أيّ يوم كان على اليمين ومشرقه على اليسار في الأول وعكس في الثاني يواجه القبلة. واستجوده (٥). وتبعهما على ذلك بعض من تأخّر عنهما (٦).

وهو غفلة واضحة ، لأنّ الفصل بين اليمين واليسار نصف الدور دائما لا ينقص عنه البتة ، والفصل بين مشرق كلّ يوم غير يوم الاعتدال ومغربه أقلّ من النصف البتة ، فلا يمكن جعلهما على اليمين واليسار ، بل ينحرف اليسار عن مغرب الاعتدال على خلاف جهة انحراف مشرق كلّ يوم عن مشرق الاعتدال بقدر انحرافه ، ففي أول الشتاء يكون البعد بين المشرقين بقدر الميل الكلّي إلى جانب الشمال أي أربع وعشرين درجة ، فإذا جعل على اليمين ينحرف اليسار عن المغرب إلى الجنوب بهذا القدر ، ويلزمه انحراف القبلة عن الجنوب إلى المشرق بهذا القدر ، وليس هذا تقريبيا حتى يتسامح فيه ، بل التفاوت بينهما بعد المشرقين.

__________________

(١) البيان : ١١٤ ، روض الجنان : ١٩٦.

(٢) جامع المقاصد ٢ : ٥٥.

(٣) التنقيح الرائع ١ : ١٧٤.

(٤) كصاحب المدارك ٣ : ١٢٨.

(٥) الحبل المتين : ١٩٣.

(٦) كالفيض الكاشاني في المفاتيح ١ : ١١٣.

١٧٤

فالصواب فيما ذكروه هو التقييد بارتكاب تقريب وتخصيص وتجوّز.

نعم ، يمكن أن يعرف بكلّ واحد من المشرق والمغرب الغير الاعتداليين منفردا لا مجتمعا قبلة بعض البلاد المنحرفة.

وبيانه : أنّ من جعل مشرق الاعتدال على اليسار يقابل المغرب يمينه ونقطة الجنوب بين عينيه ، فإذا انحرف مشرق جزء عن الاعتدال إلى الشمال كما في الربيع مثلا ينحرف يمينه بقدر سعة مشرق هذا الجزء من المغرب إلى الجنوب ، وبين عينيه من الجنوب إلى المشرق ، وإذا انحرف المشرق إلى الجنوب كما في الخريف ينحرف اليمين من المغرب إلى الشمال ، وبين العينين من الجنوب إلى المغرب ، ولمواجهة نقطة الشمال يلاحظ المغرب على اليسار أو المشرق على اليمين.

وعلى هذا فكلّ جزء من أجزاء المنطقة يساوي بعد مطلعة عن مطلع الاعتدال في بلد ـ أي سعة مشرقه ـ انحراف قبلة البلد ، فإذا جعل المشرق في يوم كانت الشمس في ذلك الجزء على اليسار يكون مواجها للقبلة إن كان البلد أكثر عرضا من مكة ، وإذا جعل على اليمين يكون مواجها لها إن كان أقل.

ورابعة : بالكواكب ، وتوضيحه : أنّ كلّ كوكب من الكواكب في أيّ ارتفاع كان من الارتفاعات يمكن أن يفرض له وضع خاص مع كلّ شخص بالنسبة إلى أجزاء بدنه ، بحيث يوجب ذلك الوضع كون هذا الشخص مواجها للقبلة. ولكن لمّا لم يكن جميع الكواكب معروفة بين الناس ، وجميع الارتفاعات معلومة بالسهولة ، وجميع الأوضاع منضبطة منقّحة ، اقتصروا في تعريف القبلة بهذه الطريقة على بعض الكواكب المعروفة حال كونه في نصف النهار ، أو المشرق أو المغرب ، لمعلوميته في بعض الأوضاع المنضبطة ، ككونه على أحد المنكبين ، أو بين الكتفين ، أو العينين وأمثالها.

والكواكب التي ذكروها سبعة : الجدي ، وبنات النعش ، وشولة ، والنسر الطائر ، والثريا ، والعيّوق ، وسهيل.

أما الأول فقد وردت به الروايات أيضا ، ففي موثّقة ابن مسلم : عن‌

١٧٥

القبلة ، قال : « ضع الجدي في قفاك وصلّ » (١).

وفي مرسلة الفقيه : إنّي أكون في السفر ولا أهتدي إلى القبلة في الليل ، فقال : « أتعرف الكوكب الذي يقال له جدي؟ » قلت : نعم ، قال : « اجعله على يمينك ، وإذا كنت في طريق الحج فاجعله بين كتفيك » (٢).

وفي تفسير العياشي : عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ). هو الجدي ، لأنه نجم لا يزول ، وعليه بناء القبلة » (٣).

وهذه الروايات وإن كانت مطلقة إلاّ أنّ الفقهاء لمّا رأوا امتناع إبقائها على ذلك الإطلاق ضرورة اختلاف قبلة البلاد ، قيّدوها بأهل العراق بقرينة رواتها ، مع أنه الموافق للاعتبار ، ثمَّ لأجل تفاوت قبلتهم أيضا ارتكبوا فيه التفصيل أيضا.

والتحقيق : أنّ العمل بإطلاقها غير متصوّر قطعا ، ولا قرينة تامة على خصوصيات التقييد إلاّ ملاحظة ما تقتضيه القواعد الهيوية ، وهي بأنفسها في المقام حجة كاملة ، فالأولى الرجوع في ذلك إليها أيضا ، ومقتضاها جعل الجدي بين الكتفين في بلد ساوى مكة طولا تقريبا وزاد عنها عرضا ، كأطراف العراق الغربية ، من الموصل ، وأرز الروم ، وما والاهما. وبين العينين فيما ساواها طولا ونقص عرضا ، كالطائف ، وصنعاء دار الملك يمن. وعلى خلف المنكب الأيمن ، أي أوائل الكتف بالنسبة إلى بين الكتفين ـ كما ذكره والدي رحمه‌الله في المعتمد ـ في أواسط العراق من بغداد ، والكوفة ، والمشهدين ، والحلّة. وعلى خلف أواسط الكتف الأيمن في أطرافه الشرقية ، من البصرة وما يقربها انحرافا ، كأصبهان وكاشان وقم وجرباذقان (٤) والري وأستراباد وسمنان ودامغان وبسطام وآمل. وعلى‌

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٤٥ ـ ١٤٣ الوسائل ٤ : ٣٠٦ أبواب القبلة ب ٥ ح ١.

(٢) الفقيه ١ : ١٨١ ـ ٨٦٠ ، الوسائل ٤ : ٣٠٦ أبواب القبلة ب ٥ ح ٢.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ٢٥٦ ـ ١٢ ، الوسائل ٤ : ٣٠٧ أبواب القبلة ب ٥ ح ٣.

(٤) جرباذقان بالفتح ، والعجم يقولون كرباذكان : بلدة قريبة من همذان بينها وبين الكرج وأصبهان. وأيضا : بلدة بين أسترآباد وجرجان من نواحي طبرستان. معجم البلدان ٢ : ١١٨.

١٧٦

خلف أواخر الكتف الأيمن المتصل بالعضد فيما يزيد انحرافه نحو المغرب ، كأكثر بلاد الهند والسند. وعلى خلف المنكب الأيسر فيما كان انحرافه شرقيا من الجنوب ، مبتدئا من أوائل الكتف إلى أواخره بزيادة الانحراف ، ثمَّ تحريفه من بين العينين إلى الخد الأيمن شيئا فشيئا بزيادة الانحراف من الشمال إلى المشرق ، وإلى الأيسر كذلك بزيادة منه إلى المغرب.

وبالجملة : لكون الجدي ساكنا حسّا يصلح في جميع حالاته لجعله علامة ، كما تقتضيه رواية العياشي. وقاعدته جعله بين الكتفين لما قبلته نقطة الجنوب وتحريفه شيئا فشيئا من أوائل الكتف الأيمن إلى أواخره بزيادة الانحراف منه إلى المغرب حتى ينتهي إلى مقابل اليد اليمنى فيما قبلته نقطة المغرب ، وتحريفه كذلك من أوائل الكتف الأيسر إلى أواخره بزيادة الانحراف منه إلى المشرق حتى ينتهي إلى مقابل اليد اليسرى فيما كانت قبلته نقطة المشرق ، وجعله بين العينين لما قبلته نقطة الشمال وتحريفه منه إلى الخدّ [ الأيمن ] (١) شيئا فشيئا بزيادة الانحراف الغربي حتى ينتهي إلى اليد اليمنى لما قبلته نقطة المغرب ، وإلى [ الأيسر ] (٢) كذلك بزيادة الانحراف منه نحو المشرق حتى ينتهي إلى اليد اليسرى لما قبلته نقطة [ المشرق ] (٣).

وتبديل الجدي بنجم خفي يراه حديد النظر ، وجعله آكد دلالة من الجدي ، معلّلا بأنّ الأول لا يزول عن مكانه بخلاف الثاني ، فإنه عند طلوع الشمس مكان الفرقدين عند غروبهما ، وبعده عن القطب كبعد الفرقدين ، كما في المعتبر والتذكرة والتنقيح (٤) ، خطأ ، فإنّ الجدي في جميع حالاته أقرب إلى القطب‌

__________________

(١) الظاهر وقوع سهو من النساخ ، فضبطوا بدل ما بين المعقوفين في المواضع الثلاثة : الأيسر ، الأيمن ، المغرب.

(٢) الظاهر وقوع سهو من النساخ ، فضبطوا بدل ما بين المعقوفين في المواضع الثلاثة : الأيسر ، الأيمن ، المغرب.

(٣) الظاهر وقوع سهو من النساخ ، فضبطوا بدل ما بين المعقوفين في المواضع الثلاثة : الأيسر ، الأيمن ، المغرب.

(٤) المعتبر ٢ : ٦٩ ، التذكرة ١ : ١٠١ ، التنقيح ١ : ١٧٤.

١٧٧

من ذلك النجم وأقلّ حركة منه ، بل لا يحسّ بحركة الجدي ، والفرقدان يتحرّكان حوله محسوسا. وتؤكّده رواية العياشي أيضا.

وأمّا البواقي فليس ذكرها في رواية ، وذكرها جماعة من الأصحاب علامة عند الطلوع والغروب بما فيه تفاوت فاحش ، ومخالفة في بعضها بعضا ، واختلاف في كلماتهم بعضا للبعض ، كما جعل بعضهم وضع النسر عند الطلوع بين الكتفين علامة للبصرة والبحرين ويمامة (١) ، مع أنّ لكون سعة مشرقه تسع درجات شمالية وكون انحراف البلدة الاولى من نقطة الجنوب سبعا وعشرين (٢) وانحراف الباقيتين أقل ، تختلف القبلة نحوا من ستين درجة ، ومع ذلك جعل وضع المشرق على المنكب الأيمن أيضا علامة لهم. وفي العلامتين مخالفة كثيرة.

وجعل بعضهم وضع بنات النعش على خلف أواسط الكتف الأيمن عند الطلوع علامة لأهل الهند والسند ، وآخر وضعها على الخد الأيمن علامة لهم (٣) ، إلى غير ذلك ممّا يستدعي استقصاؤها كتابا.

والتحقيق في كيفية معرفة القبلة من الكواكب المذكورة وغيرها : أن يعلم كوكب يساوي أو يقرب سعة مشرقه أو مغربه انحراف البلد ، فيوضع مطلع كوكب سعته مساوية للبلد المطلوب جنوبية على مقابل اليد اليسرى ، أو مغرب ما سعته شمالية مقابل اليمنى إن كان انحراف البلد جنوبيا غربيا ، ويوضع مغرب الأول على اليمنى أو مطلع الثاني على اليسرى إن كان انحرافه جنوبيا شرقيا ، ويوضع مطلع ذي السعة الجنوبية على اليمنى ، أو مغرب ذي الشمالية على اليسرى إن كان الانحراف شماليا شرقيا ، ومغرب الأول على اليسرى أو مطلع الثاني على اليمنى إن كان شماليا غربيا.

__________________

(١) رسالة إزاحة العلّة ، المنقولة في البحار ٨١ : ٨١.

(٢) كذا في النسخ ، ولكن المضبوط في الجدول انحراف البصرة سبع وثلاثون درجة تقريبا.

(٣) رسالة إزاحة العلّة ، المنقولة في البحار ٨١ : ٨١.

١٧٨

وهذه قاعدة مطّردة جيّدة ، ولكن لتفاوت سعة كلّ كوكب بتفاوت البلدان عرضا يجب أن يكون علامة كلّ بلدة كوكب تساوي سعته فيها لانحرافها ولو تقريبا.

وعلى هذا فعلامة القبلة لأهل البصرة وشوشتر وكاشان وقم والري وسمنان وأستراباد ودامغان وبسطام وإيروان وبارفروش وما يقرب منها : وضع نير الفكة مقابل اليد اليمنى عند الغروب. ولأهل سرّ من رأى ، وبغداد وكوفة وخوي وموقان وأرومية وما والاها : وضع النسر الطائر عليه عنده. ولأهل هرات وقاين وبلخ وبدخشان : وضع العيّوق عليه عنده. ولأهل همدان وقزوين وسلطانية وفومن : وضع سماك الرامح عليه عنده. ولأهل لاهيجان : وضع قلب العقرب مقابل اليسرى عند الطلوع ، وهكذا.

ونحن نضع هنا جدولا لمعرفة سعة مشرق بعض الكواكب المشهورة ومغربه في بعض العروض ، ليسهل الوصول إلى المطلوب بانضمامه مع الجدول المتقدم ، ونتبعه بجدول آخر لمعرفة سعة مشرق أوائل البروج وأواسطها في بعض العروض ، ليعرف بوضع مطلع الشمس أو مغربها عند حلولها فيها على اليسار أو اليمين قبلة بلد ذلك العرض إذا كان انحرافه مساويا للسعة. وهذا هو الجدول :

١٧٩

١٨٠