مستند الشّيعة - ج ٤

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ٤

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-79-5
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٥٥٤

الكلام وترك الأذان ، و( في ) (١) رواية ابن حكيم : « الجمع بين الصلاتين إذا لم يكن بينهما تطوّع ، وإذا كان بينهما تطوّع فلا جمع » (٢).

والروايتان : بما مرّ ، وما في الذكرى بأنه لا يثبت إلاّ استحباب التنفل ، كما يستفاد ممّا استشهد به.

فالأظهر عدم استحبابه ، بل أولوية أول الوقت ، لأخبارها ، كما صرّح بها المحقّق الخوانساري في شرح الروضة وصاحب الحدائق (٣).

ومنها : تأخير المغرب حتى زالت الحمرة المشرقية ، لموثّقة ابن شعيب المتقدّمة في أول وقت المغرب (٤).

ورواية جارود : « يا جارود ، ينصحون فلا يقبلون ـ إلى أن قال : ـ قلت لهم : مسّوا بالمغرب قليلا ، فتركوها حتى اشتبكت النجوم ، فأنا الآن أصلّيها إذا سقط القرص » (٥).

ومكاتبة ابن وضاح : يتوارى القرص ويقبل الليل ، ثمَّ يزيد الليل ارتفاعا وتستتر عنّا الشمس ، وترتفع فوق الجبل حمرة ، ويؤذّن المؤذّنون ، فأصلّي حينئذ وأفطر إن كنت صائما؟ أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب إليّ : « أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة ، وتأخذ بالحائطة لدينك » (٦).

ورواية الساباطي : « إنّما أمرت أبا الخطاب أن يصلّي المغرب حين زالت‌

__________________

(١) ليس في « ق ».

(٢) الكافي ٣ : ٢٨٧ الصلاة ب ٩ ح ٣ ، التهذيب ٢ : ٢٦٣ ـ ١٠٥٠ ، الوسائل ٤ : ٢٢٤ أبواب المواقيت ب ٣٣ ح ٢.

(٣) الحواشي على شرح اللمعة : ١٦٥ ، الحدائق ٦ : ١٥١.

(٤) راجع ص ٣٠.

(٥) التهذيب ٢ : ٢٥٩ ـ ١٠٣٢ ، الوسائل ٤ : ١٧٧ أبواب المواقيت ب ١٦ ح ١٥.

(٦) التهذيب ٢ : ٢٥٩ ـ ١٠٣١ ، الاستبصار ١ : ٢٦٤ ـ ٩٥٢ ، الوسائل ٤ : ١٧٦ أبواب المواقيت ب ١٦ ح ١٤.

١٤١

الحمرة ، فجعل هو الحمرة التي من قبل المغرب ، فكان يصلّي حين يغيب الشفق » (١).

ورواية شهاب : « إني أحبّ إذا صلّيت المغرب أن أرى في السماء كوكبا » (٢).

وللفرار من خلاف من جعله أول الوقت (٣).

وفي الكل نظر :

أمّا الأول : فلأنّ الإمساء قليلا أعم من زوال الحمرة المشرقية ، ويمكن أن يكون لتحصيل اليقين بغياب القرص ، سيما في البلاد الجبالية كما هو الظاهر من الرواية.

ومنه يظهر ما في الثاني.

وأمّا الثالث : فلأنّ المراد بالحمرة فيها يمكن أن تكون الحمرة الباقية من ضوء الشمس على الأعالي ، بل هو الظاهر من قوله : « ترتفع فوق الجبل ».

ومنه يظهر ما في الرابع.

وأمّا الخامس : فلأنّه لا يدلّ إلاّ على مطلوبية رؤية كوكب بعد تمام الصلاة ، فلعله لأجل استحباب التأنّي في صلاة المغرب ، فإنّ الظاهر أن بأدائها مع تؤدة يرى الكوكب بعد الفراغ ، سيما الزهرة والمشتري.

وأمّا السادس : فلأنّ مطلوبية الفرار عن خلاف المخالف إنما هي لأجل الاحتياط ، ودليله أعم من وجه من أدلة أفضلية أول الوقت ، مع ترجيح الأخيرة‌

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٥٩ ـ ١٠٣٣ ، الاستبصار ١ : ٢٦٥ ـ ٩٦٠ ، الوسائل ٤ : ١٧٥ أبواب المواقيت ب ١٦ ح ١٠.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٦١ ـ ١٠٤٠ ، الاستبصار ١ : ٢٦٨ ـ ٩٧١ ، علل الشرائع : ٣٥٠ ـ ٢ ، الوسائل ٤ : ١٧٥ أبواب المواقيت ب ١٦ ح ٩.

(٣) راجع ص ٢٩.

١٤٢

بموافقة آيتي المسارعة والاستباق ، ومعاضدة ظاهر الإجماع المنقول في المنتهى ، قال : لا يستحب تأخير المغرب عن الغروب في قول أهل العلم (١) ، ومطابقة ما في مرسلة محمد بن أبي حمزة : « ملعون ملعون من أخّر المغرب طلب فضلها » (٢).

ومنها : تأخير الظهر في اليوم الحارّ حتى تسكن شدة الحرارة ، لصحيحة ابن وهب : « كان المؤذّن يأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلاة الظهر فيقول له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبرد أبرد » (٣).

والمروي في العلل : « إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إذا اشتد الحرّ فأبردوا بالصلاة ، فإن الحرّ من فيح جهنم » (٤).

ولكن إرادة تأخير الصلاة حتى يسكن الحرّ من قوله : « أبرد » مجاز ، كما أن إرادة السرور من البرد ، أو التعجيل لذلك (٥) مجاز آخر محتمل ، بل الأخير هو الأظهر من المروي في الغوالي : « شكونا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرمضاء ، فقال : أبردوا بالصلاة ، فإنّ شدّة الحر من فيح جهنم » (٦). ( بل يمكن أن يراد أنه لمّا كانت الحرارة من فيح جهنم تسكن بدخول الصلاة فحصلوا البرد بها. والله يعلم ) (٧).

العاشرة : لو اشتغل بالعصر أو العشاء أولا ، فإن ذكر وهو فيها ولو قبل‌

__________________

(١) المنتهى ١ : ٢١١.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٣ ـ ١٠٠ ، علل الشرائع : ٣٥٠ ـ ٦ ، الوسائل ٤ : ١٩٢ أبواب المواقيت ب ١٨ ح ٢٠.

(٣) الفقيه ١ : ١٤٤ ـ ٦٧١ ، الوسائل ٤ : ٢٤٧ أبواب المواقيت ب ٤٢ ح ١.

(٤) علل الشرائع ١ : ٢٤٧ ، الوسائل ٤ : ١٤٢ أبواب المواقيت ب ٨ ح ٦. الفيح : سطوع الحرّ وفورانه. لسان العرب ٢ : ٥٥٠.

(٥) قال الصدوق في ذيل صحيحة ابن وهب : قال مصنف هذا الكتاب : يعني عجّل عجّل ، وأخذ ذلك من التبريد.

(٤) غوالي اللئالي ١ : ١٦١ ـ ١٥٢ ، وعنه في المستدرك ٣ : ١٤٩ أبواب المواقيت ب ٣٣ ح ١.

(٧) ما بين القوسين ليس في « ه‍ ».

١٤٣

التسليم ـ على القول بكونه جزءا ولو مستحبا ـ عدل مع إمكانه ، بلا خلاف فيه ظاهر.

لصحيحة البصري : عن رجل نسي صلاة حتى دخل وقت صلاة أخرى ، فقال : « إذا نسي الصلاة أو نام عنها صلّى حين يذكرها ، وإن ذكرها وهو في صلاة بدأ بالتي نسي ، وإن ذكرها مع إمام في صلاة المغرب أتمّها بركعة ثمَّ صلّى المغرب ، وإن كان صلّى العتمة وحدها فصلّى منها ركعتين ، ثمَّ ذكر أنه نسي المغرب أتمّها بركعة ، فتكون صلاته للمغرب ثلاث ركعات ، ثمَّ يصلّي العتمة بعد ذلك » (١).

وصحيحة الحلبي : عن رجل أمّ قوما في العصر ، فذكر وهو يصلّي بهم أنه لم يكن صلّى الاولى ، قال : « فليجعلها الأولى التي فاتته ويستأنف بعد صلاة العصر » (٢).

وصحيحة زرارة ، وفيها : « وإن نسيت الظهر حتى صلّيت العصر ، فذكرتها وأنت في الصلاة أو بعد فراغها فانوها الاولى ، ثمَّ صلّ العصر ، فإنما هي أربع مكان أربع ، فإن ذكرت أنك لم تصلّ الاولى وأنت في صلاة العصر وقد صلّيت منها ركعتين ، فانوها الاولى فصلّ الركعتين الباقيتين ، وقم فصلّ العصر » إلى أن قال : « وإن كنت قد صلّيت العشاء الآخرة ونسيت المغرب فقم فصلّ المغرب ، وإن كنت ذكرتها وقد صلّيت من العشاء الآخرة ركعتين أو قمت في الثالثة فانوها المغرب ثمَّ سلّم ، ثمَّ قم فصلّ العشاء الآخرة » (٣).

ولا فرق بين أن يكون الاشتغال بالثانية في الوقت المشترك أو المختص‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٩٣ الصلاة ب ١٢ ح ٥ ، التهذيب ٢ : ٢٦٩ ـ ١٠٧١ ، الوسائل ٤ : ٢٩١ أبواب المواقيت ب ٦٣ ح ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٢٩٤ الصلاة ب ١٢ ح ٧ ، التهذيب ٢ : ٢٦٩ ـ ١٠٧٢ ، الوسائل ٤ : ٢٩٢ أبواب المواقيت ب ٦٣ ح ٣.

(٣) الكافي ٣ : ٢٩١ الصلاة ب ١٢ ح ١ ، التهذيب ٣ : ١٥٨ ـ ٣٤٠ ، الوسائل ٤ : ٢٩٠ أبواب المواقيت ب ٦٣ ح ١.

١٤٤

بالأولى ، للإطلاق ، وصحة ما أتى به بنية الثانية ، لتعبّده بظنه.

وإن ذكر عند تعذّر العدول أو عند الفراغ ، فإن وقع الجميع في الوقت المختص بالأولى بطلت الثانية ، لما مرّ في مسألة من صلّى قبل الوقت (١). وبه يعارض بعض الإطلاقات فتقيّد بما إذا وقع في الوقت.

وإن وقع في الوقت المشترك أو دخل وهو فيها ، فقالوا بصحة ما فيه ، وعليه الإتيان بالأولى بعده خاصة.

والحكم فيما إذا ذكر بعد التمام وإن كان موافقا للأصل ، لأنّ المتصوّر إمّا بطلان ما أتى به ، وهو مخالف لما علم قطعا بالإجماع والنصوص ، من أنه لو لم يتذكر حتى خرج الوقت ليس عليه إلاّ قضاء الاولى فقط. أو وقوعه صحيحا للأولى ، وهو أيضا مخالف لما ذكر ، ولعموم قولهم عليهم‌السلام : « لكل امرئ ما نوى » (٢) أو العدول ، وهو مخالف للأصل. أو صحته للثانية ، وهو المطلوب. ومع ذلك فهو في العشاءين موافق لنصّ خال عن المعارض.

ولكنه مخالف في الظهرين لقوله في صحيحة زرارة : « وإن نسيت الظهر حتى صلّيت العصر .. » ولرواية الحلبي : عن رجل نسي أن يصلّي الاولى حتى صلّى العصر ، قال : « فليجعل صلاته التي صلّى الاولى ، ثمَّ ليستأنف العصر » (٣) والرضوي : عن رجل نسي الظهر حتى صلّى العصر ، قال : « يجعل صلاة العصر التي صلّى الظهر ، ثمَّ يصلّي العصر بعد ذلك » (٤).

وفيما إذا ذكر في الأثناء حال تعذّر العدول للأصل.

__________________

(١) راجع ص ١٠١.

(٢) انظر : الوسائل ١ : ٤٨ أبواب مقدمة العبادات ب ٥ ح ١٠.

(٣) التهذيب ٢ : ٢٦٩ ـ ١٠٧٤ ، الاستبصار ١ : ٢٨٧ ـ ١٠٥٢ ، الوسائل ٤ : ٢٩٢ أبواب المواقيت ب ٦٣ ح ٤.

(٤) فقه الرضا عليه‌السلام : ١٢٢ ، مستدرك الوسائل ٣ : ١٦٢ أبواب المواقيت ب ٤٨ ح ١.

١٤٥

إلاّ أنّ الحكمين مقطوع بهما في كلام من تعرّض المسألة ، بل قيل في الأول إنه متّفق عليه (١). فإن ثبت الإجماع فلا مفرّ عنه ، وإلاّ ـ كما هو الظاهر حيث إنه لا تعرض للمسألة في كلام كثير من الأصحاب ، وغاية ما يتحقّق هنا عدم ظهور الخلاف ولا حجية فيه ـ فالخروج عن الأصل في الثاني ، وعن مقتضى النص الخالي عن المعارض في الأول بلا دليل مشكل.

ولذا قال في المفاتيح ـ بعد ذكر ورود جواز العدول بعد الفراغ في الصحيح ـ : وهو حسن (٢) ، وقال بعض شرّاحه : ولعله الصحيح ، وقال الأردبيلي : ولو كان به قائل لكان القول به متعيّنا (٣).

وأمّا جعله معارضا مع ما ورد في العشاء فلا وجه له ، إذ لا يمكن جعل العشاء مغربا ، وعدم القول بالفصل غير معلوم.

وأمّا صحيحة صفوان : عن رجل نسي الظهر حتى غربت الشمس وقد كان صلّى العصر ، فقال : « كان أبو جعفر عليه‌السلام أو كان أبي يقول : إن كان أمكنه أن يصلّيها قبل أن تفوته المغرب بدأ بها ، وإلاّ صلّى المغرب ثمَّ صلاّها » (٣).

فهي وإن كانت معارضة لما دلّ على العدول بعد الفراغ ، ولكن محل التعارض إنما هو إذا كان التذكّر بعد خروج وقت الصلاتين ، ولازمه تخصيص دليل العدول بها ، وأمّا قبله فلا دليل.

والمسألة قوية الإشكال ، والقول بالعدول في الوقت بعد الفراغ أقوى ، والاحتياط لا يترك في كلّ حال.

__________________

(١) كما في كشف اللثام ١ : ١٦٥.

(٢) لم نعثر على هذا التعبير في المفاتيح ، وقال : يحتمل إجزاؤها عن الاولى في الظهرين ، كما يدل عليه الصحيح وغيره .. المفاتيح ١ : ٩٦.

(٣) مجمع الفائدة ٢ : ٥٦.

(٤) الكافي ٣ : ٢٩٣ الصلاة ب ١٢ ح ٦ ، التهذيب ٢ : ٢٦٩ ـ ١٠٧٣ ، الوسائل ٤ : ٢٨٩ أبواب المواقيت ب ٦٢ ح ٧.

١٤٦

الباب الثاني

في القبلة‌

ووجوب التوجّه إليها في الصلاة إجماعي في الجملة.

والكلام إمّا في تعيين القبلة ، أو فيما يستقبل له ، أو في أحكامها ، فهاهنا ثلاثة فصول‌ :

١٤٧

الفصل الأول

في تعيين القبلة‌

ولنقدّم مقدمة ، وهي : أنّ معنى كون الشي‌ء قبلة ، أنه يجب استقباله ، بحيث يصدق استقباله والتوجّه إليه والمواجهة نحوه عرفا ، وهو أمر يختلف باختلاف قرب المستقبل وبعده منه سعة وضيقا.

فقد تشترط المحاذاة الحقيقية لعينه ، بحيث لو أخرج خط مستقيم من بين عيني المستقبل أو قدميه يقع على عين المستقبل له ، وينتفي صدق التوجّه والاستقبال عرفا بوقوع الخط خارجا عنه ولو بيسير.

وقد لا يضرّ عدم المحاذاة الحقيقيّة بكثير أيضا إذا كثر البعد بينهما. فإنّه لو كانت هناك منارة رفيعة يمكن مشاهدتها من مسافة بعيدة ، فإنّ من يكون عندها لا يكون متوجّها إليها ، مستقبلا لها عرفا ، إلاّ مع المحاذاة الحقيقة بالمعنى المذكور ، بحيث لو وقع طرف خط المحاذاة خارجا عنها ـ ولو بيسير ـ ينتفي صدق الاستقبال ، وكلّما بعد عنها يتّسع ميدان التوجّه والاستقبال ، حتّى إنه إذا زاد البعد كثيرا قد يصدق التوجّه العرفي على جميع أشخاص صفّ واحد متوجّه إليها ، يزيد طوله عن مائة ذراع ، مع أنه لا يحاذيها حقيقة إلاّ نحو من أربعة نفر أو خمسة منهم مثلا ، بل يصدق التوجّه على من علم انتفاء التحاذي الحقيقي منه أيضا ، فالمناط صدق الاستقبال والتوجّه العرفيين.

وليس المراد بسعة ميدان التوجّه أنّ المتوجّه إليها لا يخرج عن التوجّه العرفي إليها بالانحراف والميل عنها عرفا ولو يسيرا ، كما يوهمه قول من يقول : أمر القبلة سهل (١). بل المراد أنه لا تشترط المحاذاة الحقيقية بالمعنى المذكور.

وإن أردت تصويره فانظر إلى القمر عند طلوعه عن المشرق ، فإذا واجهت‌

__________________

(١) كما في المدارك ٣ : ١٢١ ، ومجمع الفائدة ٢ : ٥٩.

١٤٨

خط المشرق حينئذ ، يقال : إنك مستقبل للقمر ومتوجّه إليه ، وكذا من قام جنبك موازيا لك ، ومن قام جنبه كذلك ، وهكذا إلى أن يحصل صف طوله أكثر من عشرة فراسخ ، فالكلّ له مواجهون ومستقبلون مع أنّ الفصل بين طرفي الصف أكثر من عشرة فراسخ.

ولكن لو انحرف أحد هذه الأشخاص قدرا يسيرا من المشرق إلى إحدى جهتي الجنوب أو الشمال ولو بقدر عشر الدور بل أقلّ ، يقال : مال عن القمر وانحرف عنه ، وليس مستقبلا له.

ولو اختلج في صدرك شي‌ء لأجل سعة جرم القمر في الحقيقة ، وقلت : إن الصدق مع الطول الكذائي لهذا السبب ، فافرض منارة محاذية لنقطة المشرق على رأس جبل بينك وبينه خمسة فراسخ أو عشرة مثلا ، فإنك إذا واجهت نقطة المشرق تكون مستقبلا للمنارة ومتوجّها إليها ، وكذا من قام بجنبك موازيا لك إلى نحو من ألف شخص ، مع أن المحاذاة الحقيقية ليست إلاّ لأربعة أو خمسة ، ولكن إذا انحرف أحدهم عن نقطة المشرق ولو بقدر يسير ، يخرج عن الاستقبال للمنارة.

فليس المراد باتّساع جهة التوجّه بالبعد أنّ المستقبل لا يخرج عن الاستقبال بالميل اليسير ، بل المراد أنه يصدق الاستقبال ولو كان المستقبل خارجا عن المحاذاة الحقيقية بكثير ، فإذا كانت المنارة على رأس فرسخ مثلا ، يصدق الاستقبال لها على جميع أهل صف طوله مائة ذراع ، ولا يصدق على جميع أهل صف طوله ألف ذراع مثلا ، وإذا كانت على رأس عشرة فراسخ يصدق على جميع أهل صف طوله ألف ذراع أيضا ، وهكذا ..

وتشريحه والسرّ فيه أنه إذا زاد البعد بين المستقبل والمستقبل له ، يعدّ المستقبل لما يقاربه مستقبلا له عرفا ، ويكون المحاذي له محاذيا له عرفا ، وليس للفصل بين المتقاربين قدر محسوس مع البعد ، فالمحاذي للمنارة المذكورة حقيقة محاذ لها عرفا ، وكذا المحاذي لما يبعد عنها بذراع أو عشرة أذرع أو مائة ، ويزيد ذلك بزيادة البعد ، وذلك بخلاف ما لو انحرف المستقبل عنها يسيرا ، فإنه يزيد‌

١٤٩

البعد بين خط المحاذاة الأول وبين خط الانحراف شيئا فشيئا ، حتى إنه قد يصير البعد بينهما عند محاذاة المنارة نحوا من فرسخ أو أكثر ، بحيث لا يعدّ المتوجّه إلى جزء البعد متوجّها إلى المنارة.

وعلى هذا فالمستقبل إليه في كلّ حال هو العين ، ولكن تتّسع جهة استقبالها عرفا بالبعد عنها.

والمراد بجهة استقبالها خط يخرج من جنبتي المستقبل له مقابلا للخط الخارج من جنبتي المستقبل المارّ على طرفي يمينه ويساره ، بحيث يكون المحاذي حقيقة لكلّ جزء منه متوجّها ومستقبلا للمستقبل إليه عرفا.

والمراد باتّساعها ، أنّه كلّما يزيد البعد يزيد خطّ الجهة طولا ، فمن قام بعيدا عن المنارة بقدر ذراع مثلا ، يكون خط الجهة بقدر قطر المنارة الذي هو ذراعان مثلا ، فإذا بعد بقدر ميل عنها ، يمكن أن يصير الخطّ بقدر خمسين ذراعا ، فإنّ المواجه لكلّ جزء منه في بعد ميل ، مواجه للمنارة عرفا ، وإذا بعد فرسخا ، يصير الخطّ أطول ، وهكذا ..

وتلخّص ممّا ذكرنا : أنّ استقبال الشي‌ء عبارة عن التوجّه إليه والمواجهة له عرفا ، بحيث يعدّ في العرف مستقبلا له ، متوجّها إليه غير مائل ولا منحرف عنه ، وأنّ العين والجهة بالمعنى الذي ذكرنا وإن اختلفتا حقيقة ، وصارت الجهة أوسع من العين بزيادة البعد ، إلاّ أنه لا اختلاف في استقبال عين الشي‌ء وجهته عرفا ، فإنّ مستقبل العين مستقبل للجهة ، ومستقبل الجهة مستقبل للعين ، سواء في ذلك القريب والبعيد ، فإنّ من له غاية القرب بالمستقبل له وإن اشترط في استقباله المحاذاة الحقيقية ، ولكنّ الجهة حينئذ أيضا هي الخط المساوي لقطر العين ، ولذا يقال للقريب المتوجّه إليها : ملتفت إلى جهتها وجانبها ونحوها وسمتها وطرفها. والكلّ بمعنى واحد.

ولذا قال الشيخ الجليل أبو الفضل شاذان بن جبرئيل في رسالته في القبلة ـ التي عليها تعويل العلماء المتأخّرين منه ، كما صرّح به في البحار ـ : إنّ من كان‌

١٥٠

بمكة خارج المسجد الحرام أو في بعض بيوتها وجب عليه التوجّه إلى جهة الكعبة مع العلم (١) ، إلى آخر ما قال ، فإنه استعمل التوجّه إلى الجهة في مقام استقبال العين.

إذا عرفت تلك المقدمة ، فلنذكر قبلة المكلّفين في مسائل :

المسألة الأولى : قبلة كلّ أحد هي الكعبة ، سواء كان قريبا منها أو بعيدا عنها ، متمكّنا من مشاهدتها أو غير متمكّن ، داخلا في المسجد أو الحرم أو خارجا عنهما.

لفعل الحجج ، والمستفيضة من النصوص المتضمّنة لأنّها القبلة ، كالنبويّ المنجبر بالعمل : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى إلى عين الكعبة وقال : « هذه قبلتكم » (٢).

وموثّقة ابن سنان : صلّيت فوق أبي قبيس العصر ، فهل يجزئ ذلك والكعبة تحتي؟ قال : « نعم إنّها قبلة من موضعها إلى السماء » (٣).

والمرويّ في العلل والتوحيد و [ المجالس ] (٤) : « هذا بيت الله » إلى أن قال : « جعله محل أنبيائه وقبلة للمصلّين له » (٥).

وفي قرب الإسناد : « إنّ لله تعالى حرمات ثلاث » إلى أن قال : « وبيته الذي جعله قياما للناس ، لا يقبل من أحد توجّها إلى غيره » (٦).

وفي الاحتجاج عن مولانا العسكري ، وفي تفسير الإمام في احتجاج النبي‌

__________________

(١) البحار ٨١ : ٧٢ و ٨٢.

(٢) انظر : سنن النسائي ٥ : ٢٢٠.

(٣) التهذيب ٢ : ٣٨٣ ـ ١٥٩٨ ، الوسائل ٤ : ٣٣٩ أبواب القبلة ب ١٨ ح ١.

(٤) في النسخ الأربع : المحاسن ، والظاهر أنه تصحيف ، والصحيح ما أثبتناه.

(٥) علل الشرائع : ٤٠٣ ـ ٤ ، التوحيد : ٢٥٣ ـ ٤ ، أمالي الصدوق : ٤٩٣ ـ ٤.

(٦) رواها في الوسائل ٤ : ٣٠٠ أبواب القبلة ب ٢ ح ١٠ ، وكذا في البحار ٨١ : ٦٨ ـ ٢٢ عن قرب الإسناد ، ولكنها لم توجد في النسخة المطبوعة منه.

١٥١

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المشركين : « قال : إنّا عباد الله ـ إلى أن قال ـ : أمرنا أن نعبده بالتوجّه إلى الكعبة ، أطعنا ، ثمَّ أمرنا بعبادته بالتوجّه نحوها في سائر البلدان التي نكون بها فأطعنا » (١).

ولاستصحاب اشتغال ذمّة من صلّى إلى غيرها بالصلاة ، أو الصلاة إلى القبلة.

وتؤيّده المستفيضة المصرّحة بتحويل وجه النبيّ في الصلاة إلى الكعبة حين تحويل القبلة وهو في المدينة ، وهي كثيرة :

منها : موثّقة ابن عمّار : متى صرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الكعبة؟ قال : « بعد رجوعه من بدر » (٢) إلى غير ذلك.

ومعنى كون الكعبة قبلة ، أنّه يجب التوجّه إليها ، بحيث يعدّ الشخص محاذيا مستقبلا لها ، متوجّها إليها عرفا ، سواء كان محاذيا حقيقة لعين الكعبة ، أو لجزء من جهتها بالمعنى الذي ذكرنا ، فإنه لا التفات إلى المحاذاة الحقيقية ، فإنّ معاني الألفاظ هي المصداقات العرفيّة. ثمَّ إن شئت سمّيت ذلك استقبال العين أو الجهة ، فإنّهما متحدان عرفا.

خلافا للمفيد (٣) ، وابني شهرآشوب وزهرة (٤) ، فقالوا : إنّ القبلة لأهل المسجد الكعبة ، ولغيرهم المسجد ، إمّا مقيّدا بالبعد عن الكعبة كالأول ، أو بعدم مشاهدتها كالثانيين ، لظاهر الآية الشريفة (٥) ، خرج القريب أو المشاهد بالإجماع ،

__________________

(١) الاحتجاج : ٢٧ ، الوسائل ٤ : ٣٠٢ أبواب القبلة ب ٢ ح ١٤.

(٢) رواها في الوسائل ٤ : ٢٩٨ أبواب القبلة ب ٢ ح ٣ ، والبحار ٨١ : ٧٦ عن إزاحة العلة في معرفة القبلة لأبي الفضل شاذان بن جبرئيل القمي.

(٣) المفيد في المقنعة : ٩٥.

(٤) حكاه عن ابن شهرآشوب في كشف اللثام ١ : ١٧٣ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٥٦.

(٥) ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) البقرة : ١٤٤.

١٥٢

فيبقى الباقي.

وفيه : أنّ شطر المسجد في الآية مطلق شامل لما كان شطر الكعبة أيضا أم لا ، وأخبار كون الكعبة قبلة سيما رواية الاحتجاج مقيّدة ، والمقيّد وإن كان خبرا يحمل عليه المطلق وإن كان كتابا.

مع أنّه يحتمل أن يكون المراد بالمسجد الكعبة ، وهو وإن كان مجازا إلاّ أنه لو لم يرتكب لزم تخصيص الآية بغير أهل المسجد إجماعا ، وليس أحدهما أولى من الآخر ، على الأظهر.

هذا ، مع أنهم لو أرادوا من البعد أو عدم المشاهدة حدّا يتّحد معه سعة جهة الكعبة والمسجد ، فيتّحد القولان.

نعم ، يختلفان لو أرادوا الأعم ، فإنّ من يواجه المسجد ـ وإن كان منحرفا عن الكعبة عرفا ـ يكون إلى القبلة مع البعد أو عدم المشاهدة ، على قولهم دون قولنا.

ولأبي الفضل شاذان بن جبرئيل (١) ، والمبسوط والجمل والعقود والإصباح والوسيلة والمهذب والصدوق والخلاف والنهاية والاقتصاد والمصباح ومختصره والمراسم والشرائع (٢) ، بل عليه الإجماع في الخلاف ، والشهرة في كلام الشهيدين (٣).

فقالوا : الكعبة قبلة لأهل المسجد ، والمسجد لأهل الحرم ولو بالانحراف عن الكعبة ، والحرم لمن كان خارجا عنه ولو مع الانحراف عن المسجد ، مقيّدا‌

__________________

(١) حكاه عنه في البحار ٨١ : ٧٥.

(٢) المبسوط ١ : ٧٧ ، الجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : ١٧٥ ، الوسيلة : ٨٥ ، المهذب ١ : ٨٤ ، الصدوق في الفقيه ١ : ١٧٧ ، الخلاف ١ : ٢٩٥ ، النهاية : ٦٢ ، الاقتصاد : ٢٥٧ ، مصباح المتهجد : ٢٤ ، المراسم : ٦٠ ، الشرائع ١ : ٦٥.

(٣) الذكرى : ١٦٢ ، المسالك ١ : ٢١.

١٥٣

بشرط عدم التمكّن من مشاهدة الكعبة ولو بمشقّة يمكن تحمّلها عادة ، كالستة الأول ، أو مطلقا ، كالبواقي على ما هو مقتضى إطلاق كلماتهم ، بل بعض أدلّتهم ، وإن صرّح جمع ـ منهم صاحب البحار (١) ـ بأنّ الظاهر عدم مخالفتهم في التقييد المذكور ، كما يرشد إليه دعوى جماعة ـ منهم التذكرة والمعتبر وكنز العرفان (٢) ـ الإجماع على كون الكعبة قبلة مع التمكّن عن المشاهدة.

للأخبار المشتملة على ذلك التفصيل ، كمرسلة الحجال : « إنّ الله جعل الكعبة قبلة لأهل المسجد ، وجعل المسجد قبلة لأهل الحرم ، وجعل الحرم قبلة لأهل الدنيا » (٣).

ورواية أبي الوليد : « البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة للناس جميعا » (٤) ومثلها في العلل (٥). خرج المتمكن من المشاهدة عند الأولين بالإجماع.

ويضعّف : بأنّها معارضة مع الأخبار المتقدّمة ، فإن رجّحنا المتقدّمة بالشهرة ، والكثرة ، واعتبار السند ، والأحدثية في بعضها فهو ، وإلاّ فيرجع إلى الأصل ، وهو مع المتقدّمة ، لاستصحاب الاشتغال المذكور.

ولا يتوهّم أخصيّة تلك الأخبار مطلقا عن المتقدّمة ، باعتبار المصلّي ، حيث إنه في المتقدّمة عام ، وفي هذه خاص بأهل المسجد بالنسبة إلى الكعبة ، لأنّه وإن كان كذلك في بعضها ، إلاّ أنه ليس كذلك في رواية الاحتجاج.

مع أنّ لهذه الأخبار أيضا جهة عموم باعتبار الموضع ، فإنّ كون المسجد أو‌

__________________

(١) البحار ٨١ : ٥١.

(٢) التذكرة ١ : ١٠٠ ، المعتبر ٢ : ٦٥ ، كنز العرفان ١ : ٨٥.

(٣) علل الشرائع ١ : ٤١٥ ـ ٢ ، التهذيب ٢ : ٤٤ ـ ١٣٩ ، الوسائل ٤ : ٣٠٣ أبواب القبلة ب ٣ ح ١.

(٤) التهذيب ٢ : ٤٤ ـ ١٤٠ ، الوسائل ٤ : ٣٠٤ أبواب القبلة ب ٣ ح ٢.

(٥) علل الشرائع : ٣١٨ ـ ٢ ، الوسائل ٤ : ٣٠٤ أبواب القبلة ب ٣ ح ٤.

١٥٤

الحرم قبلة أعم من أن يكون باعتبار كلّ جزء منهما ، أو باعتبار بعضه.

ولا ينافيه التفصيل ، بجعل الكعبة لأهل المسجد ، والمسجد لأهل الحرم ، والحرم لأهل البلدان ، لانقطاع الشركة بكون بعض أجزاء المسجد والحرم قبلة لغير أهل المسجد ، بخلاف من فيه ، وتعارف مثل ذلك في المحاورات ، فيقال لمن يسافر من الهند للحج : مقصوده الحجاز ، ولمن في الحجاز : مقصوده مكة ، ولمن في مكة : مقصوده البيت ، مع أنّ مقصد الكلّ واحد.

هذا ، مع انقطاع الشركة من جهة أخرى أيضا ، لأنّ من بعد كثيرا يكون جميع أجزاء المسجد والحرم له قبلة ، باعتبار ما ذكرنا من صدق المحاذاة العرفية للكعبة للمحاذي لبعض أجزائهما حقيقة ، بخلاف من في المسجد.

ولا يتوهّم أيضا موافقة أخبارهم للآية ، وهي من المرجّحات المنصوصة ، لما عرفت من جواز كون المراد بالمسجد الكعبة ، مع أنها ـ لدلالتها على أن قبلة الخارج من الحرم الحرم ـ للآية مخالفة ، بل مخالفة تلك الأخبار لها أكثر من مخالفة الأخبار المتقدمة ، كما لا يخفى.

هذا ، مع أنهم إن أرادوا عين المسجد والحرم ، بحيث تجب المحاذاة الحقيقية مطلقا ـ كما هو صريح بعضهم (١) ـ فالآية غير مثبتة لها ، لما عرفت من معنى كون الشي‌ء قبلة. وإن أرادوا الاستقبال العرفي ـ كما يظهر من بعض آخر حيث زاد الجهة (٢) ـ فيتّحد مقتضى هذا القول مع ما ذكرنا في البعيد.

نعم يظهر الخلاف والثمرة في القريب.

وقال جماعة من الأصحاب ، بل لعلّهم الأكثرون ومنهم السيد‌

__________________

(١) انظر المبسوط ١ : ٧٧.

(٢) كالشيخ في الجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : ١٧٥ ، وحكاه عن رسالة شاذان في البحار ٨١ : ٧٥.

١٥٥

والإسكافي (١) ، والحلبي والحلّي والمعتبر والنافع (٢) ، وجميع كتب الفاضل (٣) ، والدروس والبيان والذكرى والمدارك وشرح القواعد (٤) ، والمعتمد ، بل جملة المتأخرين : إنّ قبلة المتمكن من مشاهدة الكعبة ـ ولو بمشقّة ـ عينها ، لما ذكرنا من الأخبار ، مضافا إلى عدم انضباط ما كان مسجدا عند نزول الآية ، وفعل الحجج. ولغيره جهتها ، لظاهر الآية ، ولزوم إرادتها عند تعذّر العين ، وظهور ما دلّ على تحويل القبلة فيها ، والمعتبرة المتضمّنة لأن ما بين المشرق والمغرب قبلة (٥) ، ولرواية الاحتجاج ، المتقدّمة ، ولأنه لولاها لزم القطع ببطلان صلاة بعض الصفّ المتطاول زيادة على طول الكعبة أو الحرم ، وصلاة أهل إحدى البلدتين المتفقتين في القبلة.

ويرد على استدلالهم للشقّ الأول : بأنّهم إن أرادوا من العين ما توجبه المحاذاة الحقيقية ، بحيث يقع الخط الخارج من بين عيني المصلّي على نفس الكعبة ، ولو كان المتمكّن بعيدا بحيث يصدق الاستقبال العرفي بدون المحاذاة المذكورة ، فالأخبار ـ كما عرفت ـ لا تدلّ عليها ، مع أن مراعاتها لكلّ متمكن من المشاهدة في كلّ وقت تستلزم العسر والحرج.

وإن أريد الأعمّ منها ومن العرفية ، فلا يختلف فيه المتمكّن من المشاهدة وغيره.

نعم ، لو كان قولهم ذلك في مقابلة من يجعل القبلة المسجد أو الحرم ، وكان‌

__________________

(١) حكاه عنهما في المختلف : ٧٦.

(٢) الحلبي في الكافي : ١٣٨ ، الحلي في السرائر ١ : ٢٠٤ ، المعتبر ٢ : ٦٥ ، المختصر النافع : ٢٣.

(٣) المختلف : ٧٦ ، التحرير ١ : ٢٨ ، المنتهى ١ : ٢١٧ ، القواعد ١ : ٢٦ ، التبصرة : ٢١ ، التذكرة ١ : ١٠٠ ، الإرشاد ١ : ٢٤٤.

(٤) الدروس ١ : ١٥٨ ، البيان ١١٤ ، الذكرى : ١٦١ ، المدارك ٣ : ١١٩ ، جامع المقاصد ٢ : ٤٨.

(٥) انظر : الوسائل ٤ : ٣١٤ أبواب القبلة ب ١٠ ح ١ و ٢.

١٥٦

استدلالهم للردّ عليه ـ كما يدلّ عليه استدلالهم بعدم انضباط المسجد أيضا ـ فيتمّ ما ذكروه ، وإن كان دليلهم هذا غير تام ، لأنّ شأن الفقيه البحث عن الحكم وإن لم يكن موضوعه مضبوطا في الخارج ، وكذا استدلالهم بفعل الحجج ، فإنّ صلاتهم خارج المسجد وإن كانت إلى الكعبة ، ولكنها تكون إلى المسجد أيضا لا محالة ، فلعلّها باعتبار المسجد دون الكعبة.

وأمّا ما استدلّوا به للشق الثاني ، فإن أرادوا من الجهة ما ذكرناه ، فلا تخصيص له بالشق الثاني ، ولا حاجة إلى تلك الأدلّة الناقصة ، كما يأتي.

وإن أرادوا غيره من المعاني المختلفة المذكورة في كتبهم للجهة ، فمع كونها مخالفة لبعض الأخبار الدالّة على ما هو التحقيق من اتّحاد استقبال العين والجهة ، كما في تفسير العياشي (١) ، عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : في قوله تعالى : ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) قال : « معنى شطره نحوه إن كان مرئيا ، وبالدلائل والعلامات إن كان محجوبا » الحديث ، وكون أكثرها مقتضيا لجواز الالتفات بكلّ البدن في الصلاة عمدا ، وهو منفي إجماعا ونصّا ، ففي التفسير المذكور : « استقبل القبلة بوجهك ولا تقلب وجهك فتفسد صلاتك » (٢) لا ينطبق (٣) شي‌ء من تلك الأدلّة على شي‌ء منها ، بل لا دليل على اعتبار شي‌ء منها أصلا ، إلاّ ما قيل من أنّ المراد بالجهة ما تقتضيه العلامات المقرّرة في الشرع لقبلة البعيد (٤) ، وما قيل من أن المراد بها الطرف الذي يظن باستقباله استقبال‌

__________________

(١) كذا في النسخ الأربع ، ولكنها لم توجد في تفسير العياشي بل وجدناها في رسالة المحكم والمتشابه للسيد المرتضى نقلا من تفسير النعماني ( ص ٩٦ ) ونقلها عن الرسالة في الوسائل ٤ : ٣٠٨ أبواب القبلة ب ٦ ح ٤.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٦٤ ـ ١١٦.

(٣) جواب قوله : وإن أرادوا ..

(٤) الرياض ١ : ١١٥.

١٥٧

الكعبة (١).

ولكن في الأول : أنّ العلامات لم ترد إلاّ لبعض البلاد ، فلا يصح جعلها قبلة لغير المتمكن مطلقا ، وأمّا ما ذكره الفقهاء من العلامات فغير واردة في الشرع ، واعتبارها موقوف على الدليل.

وفي الثاني : أنّه يختص بغير المتمكن من تحصيل العلم بالاستقبال العرفي ، وغير المتمكن من المشاهدة قد يتمكن من تحصيل العلم به.

مع أنّ منهم من يذكر حكم غير المتمكن من العلم بالقبلة أيضا في مسألة على حدة ، ويستدلّ عليه بأخبار التحري لمن لا يعلم وجه القبلة.

ولو كان قولهم ذلك في مقابلة من يجعل القبلة لغير المتمكن من المشاهدة المسجد أو الحرم ـ كما يشعر به استدلالهم ببطلان صلاة بعض أهل الصف المتطاول زيادة عن الحرم ـ وكان غرضهم الردّ عليه ، وأرادوا من الجهة ما ذكرنا ، فحينئذ وإن كان مطلوبهم صحيحا ، ولكن لا يكون وجه للتفصيل المذكور ، مع أن بعض أدلّتهم لا ينطبق عليه كالاستدلال ببطلان صلاة بعض أهل الصف المتطاول زيادة عن الكعبة.

هذا ، مع ما في جميع أدلّتهم من القصور ، لما عرفت من إجمال الآية ، ولو قطع النظر عنه ، فعلى جهة المسجد أدلّ من جهة الكعبة.

ولمنع لزوم إرادة الجهة بالمعاني التي ذكروها مع تعذّر العين لو كانت العين هي مقتضى الدليل ، لإمكان إرادة غيرها كالمسجد أو الحرم. والقول بأنّ غير الثلاثة منفية بالإجماع ، واستقبال جهة الكعبة يستلزم استقبال المسجد أو الحرم ولا عكس ، فهي بالأصل أوفق. قلنا : هذا في البعيد بالعكس لو أريد عين المسجد أو الحرم.

ولمنع ظهور أخبار التحويل في أنه إلى جهة الكعبة ، فإنه يمكن أن يكون‌

__________________

(١) الذكرى : ١٦٢.

١٥٨

إلى عينها ، أو إلى المسجد ، أو إلى الحرم. وورود التحويل إلى الكعبة في الأخبار لعلّه لاستلزامه التحويل إليهما ، فعبّر بأشرف أجزائهما ، وليس هذا من باب الأمر والنهي المثبت لما هو مدلول اللفظ ، بل إخبار عنه.

ولتعارض ما دلّ على كون ما بين المشرق والمغرب قبلة مع ما ينفي ذلك ، كموثّقة عمّار : في رجل صلّى على غير القبلة ، فيعلم وهو في الصلاة قبل أن يفرغ من صلاته ، قال : « إن كان متوجّها فيما بين المشرق والمغرب فليحوّل وجهه إلى القبلة حين يعلم » (١) الحديث.

ولعدم التفرقة لغة وعرفا بين التوجّه إلى الشي‌ء ونحوه الواردين في رواية الاحتجاج ، بل كلاهما متّحدان كما ذكرنا.

وأما التفصيل الواقع فيها فيمكن أن يكون باعتبار الإطاعة في الأمر بالعبادة في مكة وبالإطاعة في الأمر بها في سائر البلدان ، لا في الإطاعة في الأمر بالتوجّه إلى العين وإلى النحو ، بل الأول أظهر وأليق.

ولمنع لزوم بطلان صلاة بعض الصف أو أهل إحدى البلدتين ، لإمكان كون تجويز محاذاة العين كافيا عند تعذّرها ، وهو لكلّ من المصلّين متحقّق.

وبالجملة كلام هؤلاء في المقام غير خال عن القصور والاضطراب وإن جرى عليه أعاظم الأصحاب.

والصواب أن يتكلّم أولا في القبلة ، ويجعل هي الكعبة بالأخبار والأدلّة كما ذكرنا ، ويردّ قول من جعلها المسجد أو الحرم ، ثمَّ يتكلّم في وظيفة من لا يتمكن من العلم بها من التحري بالرجوع إلى العلامات المقرّرة شرعا فيما توجد فيه ، وبما يحصل الظن باستقبال الكعبة عرفا ، لأدلّة التحرّي ، ثمَّ يتكلّم في وظيفة من لا يتمكن من التحرّي وتحصيل الظن أيضا ، وقد ذكرنا المسألة الاولى ونذكر البواقي أيضا.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٨٥ الصلاة ب ٨ ح ٨ ، التهذيب ٢ : ٤٨ ـ ١٥٩ ، الاستبصار ١ : ٢٩٨ ـ ١١٠٠ ، الوسائل ٤ : ٣١٥ أبواب القبلة ب ١٠ ح ٤.

١٥٩

فروع :

أ : المراد بالكعبة التي هي القبلة ليس نفس البنية المعمولة من الحجر والمدر ، بل الفضاء المشغول بها ، بالإجماع ، ولأنّه الكعبة التي جعلت في الأخبار قبلة دون البنية ، كما تدلّ عليه المعتبرة.

ففي رواية عبد الرحمن بن كثير الهاشمي ـ وهي طويلة ـ وفيها : « فأخذ جبرئيل عليه‌السلام بيد آدم حتى أتى به مكان البيت ، فنزل غمام من السماء فأظل مكان البيت ، فقال جبرئيل عليه‌السلام : يا آدم خطّ برجلك حيث أظل الغمام فإنه قبلة لك ولآخر عقبك من ولدك ، فخط آدم برجله حيث [ أظل ] الغمام » (١).

وقريب منها في رواية أبي حمزة (٢).

وفي مرسلة الفقيه : « فأول بقعة خلقت من الأرض الكعبة ثمَّ مدّت الأرض منها » (٣). وظاهر أن أول مخلوق من الأرض لم تكن عليه البنية بل هو الفضاء ، فهو الكعبة.

ويؤيّده ما روي من أنه « سمّيت الكعبة كعبة لأنها وسط الدنيا ولأنها مربعة » (٤).

ثمَّ الفضاء الذي هو القبلة ليس هو القدر المشغول بالبناء خاصة ، بل منه إلى أعنان السماء وتخوم الأرض ، بالإجماع ، كما في المدرك والمفاتيح (٥) ، وفي المنتهى : ولا نعرف فيه خلافا بين أهل العلم (٦) ، بل قيل : بالضرورة من الدين‌

__________________

(١) الكافي ٤ : ١٩١ الحج ب ٤ ح ٢ ، الوسائل ٤ : ٢٩٩ أبواب القبلة ب ٢ ح ٧ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

(٢) الكافي ٤ : ١٩٠ الحج ب ٤ ح ١ ، الوسائل ٤ : ٢٩٩ أبواب القبلة ب ٢ ح ٦.

(٣) الفقيه ٢ : ١٥٦ ـ ٦٧٠.

(٤) الفقيه ٢ : ١٢٤ ـ ٥٣٩ ، ٥٤٠.

(٥) المدارك ٣ : ١٢٢ ، المفاتيح ١ : ١١٢.

(٦) المنتهى ١ : ٢١٩.

١٦٠