مدارك الأحكام - ج ٣

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي

مدارك الأحكام - ج ٣

المؤلف:

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٧

وجهة الكعبة هي القبلة لا البنيّة ، فلو زالت البنيّة صلى إلى جهتها ، كما يصلي من هو أعلى موقفا منها.

______________________________________________________

واعلم أنّ للأصحاب اختلافا كثيرا في تعريف الجهة ، ولا يكاد يسلم تعريف منها من الخلل ( وهذا الاختلاف قليل الجدوى ، لاتفاقهم على أن فرض البعيد استعمال العلامات المقررة والتوجه إلى السمت الذي يكون المصلّي متوجها إليه حال استعمالها فكان الأولى تعريفها بذلك.

ثم إن المستفاد من الأدلة الشرعية سهولة الخطب في أمر القبلة والاكتفاء بالتوجه ) (١) إلى ما يصدق عليه عرفا أنه جهة المسجد وناحيته ، كما يدل عليه قوله تعالى ( فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) (٢) وقولهم عليهم‌السلام : « ما بين المشرق والمغرب قبلة » (٣) و « ضع الجدي في قفاك وصلّ » (٤) وخلو الأخبار مما زاد على ذلك مع شدة الحاجة إلى معرفة هذه العلامات لو كانت واجبة وإحالتها على علم الهيئة مستبعد جدا ، لأنه علم دقيق كثير المقدمات ، والتكليف به لعامة الناس بعيد من قوانين الشرع ، وتقليد أهله غير جائز ، لأنه لا يعلم إسلامهم فضلا عن عدالتهم. وبالجملة : فالتكليف بذلك مما علم انتفاؤه ضرورة. والله تعالى أعلم بحقائق أحكامه.

قوله : ( وجهة الكعبة هي القبلة لا البنية ، فلو زالت البنية صلى إلى جهتها ، كما يصلي من هو أعلى موقفا منها ).

المراد : أن القبلة ليست نفس البنية الشريفة ، بل محلها من تخوم الأرض إلى عنان السماء ، فلو زالت البنية ـ والعياذ بالله ـ صلّي إلى جهتها التي تشتمل على العين كما يصلّي من هو أعلى موقفا منها كجبل أبي قبيس أو أخفض كالمصلّي‌

__________________

(١) بدل ما بين القوسين في « س » و « ح » : وليس لهم في هذا الاختلاف دليل نقلي يصلح للاستناد إليه ولا اعتبار عقلي يعوّل عليه ، والمستفاد من الأدلة الشرعية الاكتفاء بالتوجه إلى.

(٢) البقرة : ١٥٠.

(٣) الكافي ٣ : ٢١٥ ـ ٢ ، التهذيب ٣ : ٣٢٦ ـ ١٠٢١ ، الوسائل ٢ : ٨١٢ أبواب صلاة الجنازة ب ٣٥ ح ١.

(٤) التهذيب ٢ : ٤٥ ـ ١٤٣ ، الوسائل ٣ : ٢٢٢ أبواب القبلة ب ٥ ح ١.

١٢١

______________________________________________________

في سرداب تحت الكعبة ، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء ، ويدل عليه ظاهر الآية الشريفة ، وما رواه الشيخ عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل قال : صلّيت فوق أبي قبيس العصر فهل تجزي والكعبة تحتي؟ قال : « نعم ، إنها قبلة من موضعها إلى السماء » (١) وعن خالد أبي إسماعيل (٢) قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يصلّي على أبي قبيس مستقبل القبلة قال : « لا بأس » (٣).

وقد صرح الأصحاب بأن المصلّي بمكة يجب عليه مشاهدة الكعبة لقدرته على اليقين. ولو نصب محرابا بعد المعاينة جازت صلاته إليه دائما لأنه يتيقن الصواب. وكذا الذي نشأ بمكة وتيقن الإصابة ، ولو شك وجبت المعاينة بالترقي إلى سطح الدار. ولا يكفي الاجتهاد هنا بالعلامات ، لأنه عدول من يقين إلى ظن مع قدرته على اليقين وإنه غير جائز. نعم لو تعذر عليه ذلك كالمحبوس جاز له الاجتهاد. وكذا من هو في نواحي الحرم ، ولا يكلف الصعود إلى الجبال ليرى الكعبة للحرج بخلاف الصعود إلى السطح. وأوجب الشيخ (٤) ، والعلاّمة (٥) في بعض كتبهما صعود الجبل مع القدرة ، وهو بعيد (٦).

تنبيه : المستفاد من النصوص الصحيحة أنّ الحجر ليس من الكعبة ، فلا يجوز استقباله في الصلاة وإن وجب إدخاله في الطواف ، فمن ذلك صحيحة معاوية بن عمار قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحجر أمن البيت هو‌

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٨٣ ـ ١٥٩٨ ، الوسائل ٣ : ٢٤٧ أبواب القبلة ب ١٨ ح ١.

(٢) كذا في النسخ ونسخة من الكافي ، وفي نسخة أخرى منه : خالد عن أبي إسماعيل ، وفي التهذيب : خالد بن أبي إسماعيل.

(٣) الكافي ٣ : ٣٩١ ـ ١٩ ، التهذيب ٢ : ٣٧٦ ـ ١٥٦٥ ، الوسائل ٣ : ٢٤٧ أبواب القبلة ب ١٨ ح ٢.

(٤) المبسوط ١ : ٧٨.

(٥) التذكرة ١ : ١٠٢.

(٦) في « م » ، « س » ، « ح » زيادة : ولو قلنا بالاكتفاء باستقبال الجهة مطلقا سقط هذا البحث من أصله.

١٢٢

وإن صلى [ في ] جوفها استقبل أيّ جدرانها شاء ، على كراهة في الفريضة.

______________________________________________________

أو فيه شي‌ء من البيت ، قال : « لا ، ولا قلامة من ظفر ، ولكن إسماعيل دفن أمّه فيه فكره أن توطأ فحجّر عليه حجرا ، وفيه قبور أنبياء » (١).

وجزم العلاّمة في النهاية بجواز استقباله ، لأنه من الكعبة (٢) ، وحكاه الشهيد في الذكرى عن ظاهر كلام الأصحاب ثم قال : وقد دل النقل على أنه كان منها في زمن إبراهيم وإسماعيل إلى أن بنت قريش الكعبة فأعوزتهم الآلات فاختصروها بحذفه ، وكان كذلك في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاهتمام بإدخاله في بناء الكعبة ، وبذلك احتج ابن الزبير حيث أدخله فيها ، ثم أخرجه الحجاج وردّه إلى ما كان (٣). هذا كلامه ـ رحمه‌الله ـ وما ادعاه من النقل لم أقف عليه من طرق الأصحاب.

قوله : ( وإن صلّى في جوفها استقبل أيّ جدرانها شاء ، على كراهة في الفريضة ).

أجمع العلماء كافة على جواز صلاة النافلة في جوف الكعبة مطلقا ، والفريضة في حال الاضطرار. وإنما اختلفوا في صلاة الفريضة فيها اختيارا ، فذهب الأكثر ومنهم الشيخ في النهاية والاستبصار إلى الجواز على كراهة (٤) ، وقال في الخلاف بالتحريم (٥) ، وتبعه ابن البراج (٦).

احتج المجوزون (٧) بأن القبلة ليس مجموع البنية بل نفس العرصة وكل‌

__________________

(١) الكافي ٤ : ٢١٠ ـ ١٥ ، الوسائل ٩ : ٤٢٩ أبواب الطواف ب ٣٠ ح ١.

(٢) نهاية الأحكام ١ : ٣٩٢.

(٣) الذكرى : ١٦٤.

(٤) النهاية : ١٠١ ، والاستبصار ١ : ٢٩٩.

(٥) الخلاف ١ : ١٥٩.

(٦) المهذب ١ : ٧٦.

(٧) منهم العلامة في المنتهى ١ : ٢١٨ ، والشهيد الأول في الذكرى : ١٦٢ ، والشهيد الثاني في روض الجنان : ٢٠٢.

١٢٣

______________________________________________________

جزء من أجزائها ، إذ لا يمكن محاذاة المصلّي بإزائها منها إلاّ قدر بدنه ، والباقي خارج عن مقابلته ، وهذا المعنى يتحقق مع الصلاة فيها كما يتحقق مع الصلاة خارجها ، وبما رواه يونس بن يعقوب في الموثق قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا حضرت الصلاة المكتوبة وأنا في الكعبة أفأصلّي فيها؟ قال : « صلّ » (١).

احتج الشيخ في الخلاف بإجماع الفرقة. وبأن القبلة هي الكعبة لمن شاهدها فتكون القبلة جملتها ، والمصلّي في وسطها غير مستقبل للجملة. وبما رواه في الصحيح ، عن معاوية بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « لا تصلّ المكتوبة في الكعبة » (٢) وفي الصحيح ، عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : « لا تصلح صلاة المكتوبة في جوف الكعبة » (٣).

وأجيب (٤) عن الأول بمنع الإجماع على التحريم ، كيف وهو في أكثر كتبه قائل بالكراهة (٥).

وعن الثاني بعدم تسليم كون القبلة هي الجملة ، لاستحالة استقبالها بأجمعها ، بل المعتبر التوجه إلى جزء من أجزاء الكعبة بحيث يكون مستقبلا ببدنه ذلك الجزء.

وعن الروايتين بالحمل على الكراهة. ويمكن المناقشة في هذا الحمل‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٧٩ ـ ٩٥٥ ، الإستبصار ١ : ٢٩٨ ـ ١١٠٣ ، الوسائل ٣ : ٢٤٦ أبواب القبلة ب ١٧ ح ٦.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٨٢ ـ ١٥٩٦ وج ٥ : ٢٧٩ ـ ٩٥٣ ، الإستبصار ١ : ٢٩٨ ـ ١١٠١ ، الوسائل ٣ : ٢٤٦ أبواب القبلة ب ١٧ ح ٣.

(٣) التهذيب ٥ : ٢٧٩ ـ ٩٥٤ ، الإستبصار ١ : ٢٩٨ ـ ١١٠٢ ، الوسائل ٣ : ٢٤٦ أبواب القبلة ب ١٧ ح ٤.

(٤) كما في المعتبر ٢ : ٦٧.

(٥) النهاية : ١٠١ ، والاستبصار ١ : ٢٩٩ ، والاقتصاد : ٢٥٩ ، والجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : ١٧٨.

١٢٤

ولو صلى على سطحها أبرز بين يديه منها ما يصلي إليه ، وقيل : يستلقي على ظهره ويصلي إلى البيت المعمور ، والأول أصحّ ، ولا يحتاج إلى أن ينصب بين يديه شيئا. وكذا لو صلى إلى بابها وهو مفتوح.

______________________________________________________

بقصور الرواية الأولى عن مقاومة هذين الخبرين من حيث السند فيشكل الخروج بها عن ظاهرهما ، وإن كان الأقرب ذلك ، لاعتبار سند الرواية ، وشيوع استعمال النهي في الكراهة ، وظهور لفظ : « لا يصلح » فيه كما لا يخفى.

قوله : ( ولو صلّى على سطحها أبرز بين يديه منها ما يصلي إليه ، وقيل : يستلقي على ظهره ويصلي إلى البيت المعمور ، والأول أصح ).

القولان للشيخ ـ رحمه‌الله ـ أولهما في المبسوط (١) ، وثانيهما في الخلاف (٢) ( والأصح الأول ) (٣) عملا بمقتضى الأدلة القطعية الدالة على وجوب القيام والاستقبال والركوع والسجود.

احتج الشيخ في الخلاف على ما ذكره بإجماع الفرقة. وبما رواه عن عليّ بن محمد ، عن إسحاق بن محمد ، عن عبد السلام ، عن الرضا عليه‌السلام : قال في الذي تدركه الصلاة وهو فوق الكعبة فقال : « إن قام لم يكن له قبلة ولكن يستلقي على قفاه ويفتح عينيه إلى السماء ويعقد بقلبه القبلة التي في السماء البيت المعمور ويقرأ ، فإذا أراد أن يركع غمض عينيه ، وإذا أراد أو يرفع رأسه من الركوع فتح عينيه ، والسجود على نحو ذلك » (٤).

__________________

(١) المبسوط ١ : ٨٥.

(٢) الخلاف ١ : ١٦٠.

(٣) بدل ما بين القوسين في « م » و « ح » : لكن عبارة المبسوط لا تخلو من قصور فإنه قال : فإن صلّى كما يصلّي في جوفها كانت صلاته ماضية ، سواء كان للسطح سترة من نفس البناء أو مفروضا فيه ، وسواء وقف على سطح البيت أو على خارجه ( حائطه ) إلاّ أن يقف على الحائط بحيث لا يبقى بين يديه جزء من البيت. وما فصّله حسن إلا أن مقتضى كلامه عدم تعين ذلك وهو مشكل ، والأصح ما اختاره المصنف من وجوب الصلاة على سطحها كما يصلّي داخلها.

(٤) الكافي ٣ : ٣٩٢ ـ ٢١ ، التهذيب ٢ : ٣٧٦ ـ ١٥٦٦ ، الوسائل ٣ : ٢٤٨ أبواب القبلة ب ١٩ ح ٢.

١٢٥

ولو استطال صف المأمومين في المسجد حتى خرج بعضهم عن سمت الكعبة بطلت صلاة ذلك البعض. وأهل كل إقليم يتوجّهون إلى سمت الركن الذي على جهتهم ، فأهل العراق إلى العراقي ، وهو الذي فيه الحجر ، وأهل الشام إلى الشاميّ ، والمغرب إلى المغربي ، واليمن إلى اليماني.

______________________________________________________

والجواب : أما الإجماع فقد تقدم الكلام فيه مرارا ، وأما الرواية فضعيفة السند جدا (١) فلا تصلح لتخصيص عموم الأمر بالقيام والاستقبال والركوع والسجود مع القدرة ، وأيضا فإنه يلزم من قوله : « إن قام لم يكن له قبلة » عدم تحقق الاستقبال ممّن هو أرفع من الكعبة كالمصلي على جبل أبي قبيس ، وهو معلوم البطلان.

قوله : ( ولو استطال صف المأمومين في المسجد حتى خرج بعضهم عن سمت الكعبة بطلت صلاة ذلك البعض ).

لأن فرض القريب الذي يتمكن من المشاهدة استقبال العين ، بخلاف البعيد ، لأن فرضه التوجه إلى الجهة كما بيناه فيما سبق ، قال في الذكرى : ولو استداروا صحّ ، للإجماع عليه عملا في كل الأعصار السالفة ، نعم يشترط أن لا يكون المأموم أقرب إلى الكعبة من الإمام (٢). وهو حسن (٣).

قوله : ( وأهل كل إقليم يتوجهون إلى سمت الركن الذي على جهتهم ، فأهل العراق إلى العراقي ، وهو الذي فيه الحجر ، وأهل الشام إلى الشامي ، والمغرب إلى المغربي ، واليمن إلى اليماني ).

قد تقدم أنّ المعتبر عند المصنف في البعيد استقبال الحرم ، وعند آخرين‌

__________________

(١) لأن إسحاق بن محمد ضعيف ( راجع خلاصة العلامة : ٢٠١ ، ورجال النجاشي : ٧٣ ـ ١٧٧ ).

(٢) الذكرى : ١٦٢.

(٣) في « ح » زيادة : لاستلزام القرب التقدم كما لا يخفى.

١٢٦

وأهل العراق ومن والأهم يجعلون الفجر على المنكب الأيسر ، والمغرب على الأيمن ، والجدي محاذي المنكب الأيمن ، وعين الشمس عند زوالها على الحاجب الأيمن.

______________________________________________________

الجهة (١) ، وهما أوسع من ذلك فلا يتم الحكم بوجوب التوجه إلى سمت الركن نفسه.

وقال في المعتبر : وكل إقليم يتوجهون إلى سمت الركن الذي يليهم ، لما بيناه من وجوب استقبال الكعبة ما أمكن ، والذي يمكن أن يستقبل أهل كل إقليم الركن الذي يليهم (٢). وهو غير جيد أيضا ، إذ الذي سبق منه وجوب استقبال جهة الكعبة للبعيد لا نفس الكعبة.

قوله : ( وأهل العراق ومن والأهم يجعلون الفجر على المنكب الأيسر ، والمغرب على الأيمن ، والجدي محاذي المنكب الأيمن ، وعين الشمس عند زوالها على الحاجب الأيمن ).

اعلم أنّ أكثر هذه العلامات التي ذكرها الأصحاب في معرفة القبلة مأخوذ من كلام أهل الهيئة ، والظاهر أنّ أكثر أهل ذلك العلم مقلدون لغيرهم ، لأن معرفتهم بذلك موقوفة على ملاحظة الإرصاد والعلم بعروض البلاد وأطوالها وهو مشكل جدا ، إلا أنّ الاعتبار يشهد لها ، مع ما أشرنا إليه سابقا من سهولة الخطب في ذلك والاكتفاء باستقبال ما يصدق عليه أنه جهة المسجد الحرام.

والذي وقفت عليه في هذا الباب من النصوص روايتان ضعيفتا السند :

إحداهما رواية الطاطري ، عن جعفر بن سماعة ، عن علاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : سألته عن القبلة ، قال : « ضع الجدي في قفاك وصلّ » (٣).

__________________

(١) في ص ١١٨.

(٢) المعتبر ٢ : ٦٩.

(٣) التهذيب ٢ : ٤٥ ـ ١٤٣ ، الوسائل ٣ : ٢٢٢ أبواب القبلة ب ٥ ح ١.

١٢٧

______________________________________________________

والثانية رواها ابن بابويه في كتابه مرسلا ، قال ، قال رجل للصادق عليه‌السلام : إني أكون في السفر ولا أهتدي إلى القبلة بالليل ، قال : « أتعرف الكوكب الذي يقال له جدي؟ » قلت : نعم ، قال : « اجعله على يمينك ، وإذا كنت في طريق الحج فاجعله بين كتفيك » (١) وهما مؤيدتان لما ذكرناه.

وقد ذكر الأصحاب لأهل العراق ثلاث علامات :

الأولى : جعل الفجر أي المشرق على المنكب الأيسر ، والمغرب على الأيمن. والظاهر أنّ المراد بهما الاعتداليان ، لعدم انضباط ما عداهما (٢). والمنكب مجمع العضد والكتف.

الثانية : جعل الجدي بحذاء المنكب الأيمن. والجدي مكبر ، وربما صغر ليتميز عن البرج ، وهو نجم مضي‌ء يدور مع الفرقدين حول قطب العالم الشمالي. والقطب نقطة موهومة يقابلها مثلها من الجنوب.

قال الشارح قدس‌سره : وأقرب الكواكب إليها نجم خفي لا يكاد يدركه إلاّ حديد البصر ، يدور حولها كل يوم وليلة دورة لطيفة لا تكاد يدرك ، ويطلق على هذا النجم القطب مجازا لمجاورته القطب الحقيقي ، وهو علامة لقبلة العراقي إذا جعله المصلي خلف منكبه الأيمن ، ويخلفه الجدي في العلامة إذا كان في غاية الارتفاع أو الانخفاض ، وإنما اشترط ذلك لكونه في تلك الحال على دائرة نصف النهار وهي مارة بالقطبين وبنقطة الجنوب والشمال ، فإذا كان القطب مسامتا لعضو من المصلي كان الجدي مسامتا له ، لكونهما على دائرة واحدة ، بخلاف ما لو كان منحرفا نحو المشرق والمغرب (٣).

قلت : ما ذكره ـ رحمه‌الله ـ مشهور بين الأصحاب ، وممن صرح به :

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٨١ ـ ٨٦٠ ، الوسائل ٣ : ٢٢٢ أبواب القبلة ب ٥ ح ٢.

(٢) الجواهر ٧ : ٣٦١. لشدة التفاوت فيهما باختلاف الفصول المقتضي لعدم كون العلامة مطلق المشرق والمغرب ، ولو كان كل منهما من فصل تفاوت ذلك أشد تفاوت.

(٣) المسالك ١ : ٢٢.

١٢٨

______________________________________________________

المصنف في المعتبر ، والعلامة في المنتهى ، والشهيد في الذكرى (١).

ونقل شيخنا المحقق المدقق مولانا أحمد ـ المجاور بالمشهد المقدس الغروي على ساكنه السلام ـ عن بعض محققي أهل ذلك الفن أنّ هذا الشرط غير جيد ، لأن الجدي في جميع أحواله أقرب إلى القطب الحقيقي من ذلك النجم الخفي ، ولهذا كان أقل حركة منه كما يظهر بالامتحان. وهذه الحركة الظاهرة إنما هي للفرقدين لا للجدي فإن حركته يسيرة جدا (٢). وقد اعتبرنا ذلك فوجدناه كما أفاد.

واعتبر المصنف في المعتبر لأهل المشرق أولا جعل الجدي خلف المنكب الأيمن ثم قال : إنّ الجدي ينتقل ، والدلالة القوية القطب الشمالي ، فإذا حصله العراقي جعله خلف أذنه اليمنى دائما فإنه لا يتغير وإن تغير كان يسيرا (٣). وبين الكلامين تخالف ، واعتبار محراب مسجد الكوفة يساعد على الأول.

الثالثة : جعل الشمس على الحاجب الأيمن عند الزوال ، لأن الشمس عند الزوال تكون على دائرة نصف النهار المتصلة بنقطتي الجنوب والشمال فتكون حينئذ لمستقبل نقطة الجنوب بين العينين ، فإذا زالت مالت إلى طرف الحاجب الأيمن.

ولا يخفى أن مقتضى العلامة الأولى والثالثة استقبال نقطة الجنوب ، والعلامة الثانية تقتضي انحرافا بيّنا عنها نحو المغرب ، كما إنّ جعل الجدي خلف الكتف الأيسر لأهل الشام يقتضي الانحراف عنها نحو المشرق ، فبين هذه العلامات تدافع. والأولى حمل العلامة الأولى والثالثة على أطراف العراق الغربية (٤) ، وحمل الثانية على أوساط العراق ، كالكوفة وبغداد. وأما أطرافه‌

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٦٩ ، والمنتهى ١ : ٢١٩ ، والذكرى : ١٦٢.

(٢) مجمع الفائدة ٢ : ٧٢.

(٣) المعتبر ٢ : ٦٩.

(٤) في « ح » زيادة : كسنجار وما والاها.

١٢٩

ويستحب لهم التياسر إلى يسار المصلي منهم قليلا.

______________________________________________________

الشرقية كالبصرة وما ساواها فيحتاج فيها إلى زيادة انحراف نحو المغرب. وكذا القول في بلاد خراسان ، وذكر المصنف (١) والعلامة (٢) أنّ قبلة خراسان والكوفة واحدة. وهو بعيد جدا. والله تعالى أعلم.

قوله : ( ويستحب لهم التياسر إلى يسار المصلي منهم قليلا ).

هذا هو المشهور بين الأصحاب ، وظاهر عبارة الشيخ في النهاية والمبسوط والخلاف يعطي الوجوب (٣) ، واستدل عليه في الخلاف بإجماع الفرقة ، وما رواه المفضل بن عمر أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن التحريف لأصحابنا ذات اليسار عن القبلة ، وعن السبب فيه فقال : « إنّ الحجر الأسود لما أنزل من الجنة ووضع في موضعه جعل أنصاب الحرم من حيث يلحقه النور نور الحجر ، فهي عن يمين الكعبة أربعة أميال ، وعن يسارها ثمانية أميال ، كله اثنا عشر ميلا ، فإذا انحرف الإنسان ذات اليمين خرج عن حد القبلة لقلة أنصاب الحرم ، وإذا انحرف ذات اليسار لم يكن خارجا من حد القبلة » (٤) وروى الكليني عن علي بن محمد رفعه إلى أبي عبد الله عليه‌السلام نحو ذلك (٥).

والروايتان ضعيفتا السند جدا ، والعمل بهما لا يؤمن معه الانحراف الفاحش عن حد القبلة وإن كان في ابتدائه يسيرا.

والحكم مبني على أنّ البعيد يستقبل الحرم كما ذكره المصنف في النافع ، والعلامة في المنتهى (٦) ، واحتمل في المختلف اطراد الحكم على القولين (٧). وهو‌

__________________

(١) المعتبر ١ : ٦٥.

(٢) المنتهى ١ : ٢١٨.

(٣) النهاية : ٦٣ ، والمبسوط ١ : ٧٨ ، والخلاف ١ : ٩٨.

(٤) الفقيه ١ : ١٧٨ ـ ٨٤٢ ، التهذيب ٢ : ٤٤ ـ ١٤٢ ، علل الشرائع : ٣١٨ ـ ١ ، الوسائل ٣ : ٢٢١ أبواب القبلة ب ٤ ح ٢.

(٥) الكافي ٣ : ٤٨٧ ـ ٦ ، الوسائل ٣ : ٢٢١ أبواب القبلة ب ٤ ح ١ ، ورواه في التهذيب ٢ : ٤٤ ـ ١٤١.

(٦) المختصر النافع : ٢٤ ، والمنتهى ١ : ٢١٩.

(٧) المختلف : ٧٦.

١٣٠

الثاني : في المستقبل ، ويجب الاستقبال في الصلاة مع العلم بجهة القبلة ، فإن جهلها عوّل على الأمارات المفيدة للظن.

______________________________________________________

بعيد ، إذا العلامات المنصوبة للجهة لا تقتضي وقوع الصلاة على نفس الحرم.

هذا وقد نقل عن أفضل المحققين نصير الملة والدين قدس الله روحه (١) : أنه حضر مجلس المصنف يوما فجرى في درسه هذه المسألة فأورد عليها إشكالا حاصله : إنّ التياسر أمر إضافي لا يتحقق إلا بالإضافة إلى صاحب يسار متوجه إلى جهة ، فإن كانت تلك الجهة محصّلة لزم التياسر عما وجب التوجه إليه وهو حرام لأنه خلاف مدلول الآية ، وإن لم تكن محصلة لزم عدم إمكان التياسر ، إذ تحققه موقوف على تحقق الجهة التي يتياسر عنها فكيف يتصور الاستحباب.

وأجابه المصنف في الدرس بما اقتضاه الحال ثم كتب في ذلك رسالة استحسنها المحقق الطوسي.

وحاصل الجواب : إنّ التياسر عن تلك الجهة المحصلة المقابلة لوجه المصلي حال استعمال تلك العلامات المنصوبة لذلك استظهار في مقابلة الحرم ، لأن قدر الحرم عن يمين الكعبة يسير وعن يسارها متسع كما دلت عليه الرواية التي استند إليها الأصحاب في ذلك (٢). وحيث ظهر ضعف هذا المستند وما بنى عليه كان الإعراض عن هذا الحكم وتحريره أقرب إلى الصواب.

قوله : ( ويجب الاستقبال في الصلاة مع العلم بجهة القبلة ، فإن جهلها عوّل على الأمارات المفيدة للظن ).

أما وجوب الاستقبال في الصلاة مع العلم بجهة القبلة فظاهر ، لقوله تعالى ( فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) (٣) والعلم يتحقق بالمعاينة (٤) ، والشياع ،

__________________

(١) المهذب البارع ١ : ٣١٢.

(٢) المتقدمة في ص ١٣٠.

(٣) البقرة : ١٤٤ ، ١٥٠.

(٤) في الأصل وباقي النسخ الخطية : بالمعاشرة. وفي « ح » : بالمعاشرة فيه وما أثبتناه من نسخة في حاشية « م ».

١٣١

وإذا اجتهد فأخبره غيره بخلاف اجتهاده قيل : يعمل على اجتهاده ، ويقوى عندي أنه إذا كان ذلك الخبر أوثق في نفسه عوّل عليه.

______________________________________________________

والخبر المحفوف بالقرائن ، ومحراب المعصوم.

وقد يتحقق في غيره أيضا ، وباستعمال العلامات المفيدة لذلك ، كالجدي ونحوه على بعض الوجوه.

وأما وجوب التعويل لفاقد العلم على الأمارات المفيدة للظن (١) ، فقال المصنف في المعتبر : إنه اتفاق أهل العلم (٢). ويدل عليه صحيحة زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : « يجزي التحري أبدا إذا لم يعلم أين وجه القبلة » (٣) وموثقة سماعة ، قال : سألته عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم تر الشمس ولا القمر ولا النجوم قال : « تجتهد رأيك وتعمد القبلة جهدك » (٤).

وقد ذكر من الأمارات المفيدة للظن : الرياح الأربع ، ومنازل القمر ، فإنه يكون ليلة سبعة من الشهر في قبلة العراقي أو قريبا منها عند المغرب ، وليلة الرابع عشر منه نصف الليل ، وليلة الحادي والعشرين منه عند الفجر ، وذلك كله تقريبي.

قوله : ( وإذا اجتهد فأخبره غير بخلاف اجتهاده قيل : يعمل على اجتهاده ، ويقوّى عندي أنه إذا كان ذلك الخبر أوثق في نفسه عوّل عليه ).

المراد بالاجتهاد هنا : بذل الوسع في تحصيل الأمارات المفيدة للظن‌

__________________

(١) غير الأمارات الشرعية التي قد عرفت عدم تقييد العمل بها على الظاهر بعدم العلم ( الجواهر ٧ : ٣٨٦ ).

(٢) المعتبر ٢ : ٧٠.

(٣) الكافي ٣ : ٢٨٥ ـ ٧ ، التهذيب ٢ : ٤٥ ـ ١٤٦ ، الإستبصار ١ : ٢٩٥ ـ ١٠٨٧ ، الوسائل ٣ : ٢٢٣ أبواب القبلة ب ٦ ح ١.

(٤) الكافي ٣ : ٢٨٤ ـ ٧ ، التهذيب ١ : ٤٥ ـ ١٤٧ ، الإستبصار ١ : ٢٩٥ ـ ١٠٨٨ ، الوسائل ٣ : ٢٢٣ أبواب القبلة ب ٦ ح ٢.

١٣٢

ولو لم يكن له طريق إلى الاجتهاد فأخبره كافر ، قيل : لا يعمل بخبره ، ويقوّى أنه إن أفاده الظن عمل به.

ويعوّل على قبلة البلد إذا لم يعلم أنها بنيت على الغلط.

______________________________________________________

بالجهة. والقول بالعمل بالاجتهاد والحال هذه للشيخ (١) وأتباعه (٢) ، نظرا إلى أنّ الرجوع إلى الغير تقليد فلا يسوغ للمجتهد المصير إليه. والأصح ما اختاره المصنف ـ رحمه‌الله ـ من وجوب التعويل على الخبر إذا كان أوثق في نفسه ، فإنّ المسألة إذا كانت ظنية يجب التعويل فيها على أقوى الظنين ، ويؤيده عموم قوله عليه‌السلام : « يجزي التحري أبدا إذا لم يعلم أين وجه القبلة » والاستخبار ممن يفيد قوله الظن نوع من التحري.

قوله : ( ولو لم يكن له طريق إلى الاجتهاد فأخبره كافر ، قيل : لا يعمل بخبره ، ويقوّى أنه إنه إن أفاد الظن عمل به ).

القول للشيخ رحمه‌الله ، نظرا إلى وجوب التثبّت عند خبر الكافر. والأظهر ما اختاره المصنف ـ رحمه‌الله ـ من جواز التعويل عليه إذا أفاد الظن لأنه نوع من التحري.

قوله : ( ويعول على قبلة البلد إذا لم يعلم أنها بنيت على الغلط ).

قبلة البلد تشمل المحاريب المنصوبة في المساجد والطرق والقبور وغيرها. والمراد بالبلد بلد المسلمين ، فلو وجد محراب في بلد لا يعلم أهله لم يجز التعويل عليه.

وهذا الحكم أعني جواز التعويل على قبلة المسلمين إجماعي بين الأصحاب ، قاله في التذكرة (٣). وإطلاق كلامهم يقتضي أنه لا فرق في ذلك بين ما يفيد العلم بالجهة أو الظن ، ولا بين أن يكون المصلي متمكنا من معرفة‌

__________________

(١) المبسوط ١ : ٧٨.

(٢) كالقاضي ابن البراج في المهذب ١ : ٨٥ ، وابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٥٦.

(٣) التذكرة ١ : ١٠٢.

١٣٣

ومن ليس متمكّنا من الاجتهاد كالأعمى يعوّل على غيره.

______________________________________________________

القبلة بالعلامات المفيدة للعلم أو الاجتهاد المفيد للظن أو ينتفي الأمران.

وربما ظهر من قولهم : فإن جهلها عوّل على الأمارات المفيدة للظن ، عدم جواز التعويل عليها للمتمكن من العلم إلا إذا أفادت اليقين. وهو كذلك ، لأن الاستقبال على اليقين ممكن فيسقط اعتبار الظن.

وقد قطع الأصحاب بعدم جواز الاجتهاد في الجهة والحال هذه ، لأن الخطأ في الجهة مع استمرار الخلق واتفاقهم ممتنع. أما في التيامن والتياسر فالأظهر جوازه لعموم الأمر بالتحري (١). وربما قيل بالمنع منه (٢) ، لأن احتمال إصابة الخلق الكثير أقرب من احتمال إصابة الواحد ، ومنعه ظاهر. قال في الذكرى : وقد وقع في زماننا اجتهاد بعض علماء الهيئة في قبلة مسجد دمشق وإنّ فيه تياسرا عن القبلة مع انطواء الأعصار الماضية على عدم ذلك (٣).

قوله : ( ومن ليس متمكنا من الاجتهاد كالأعمى يعول على غيره ).

إطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق بين من كان عالما بالأمارات لكنه ممنوع منها لعارض كغيم ونحوه ، أو جاهلا بها مع عدم القدرة على التعلّم كالعامي مع ضيق الوقت ، أو غير متمكن من الاجتهاد أصلا كالأعمى. وبهذا التعميم قطع الشيخ في المبسوط (٤) ، وابن الجنيد (٥). وظاهر كلامه في الخلاف (٦) المنع من التقليد للأعمى وغيره ، ووجوب الصلاة إلى الجهات الأربع مع السعة ، والتخيير مع الضيق. والمعتمد الأول.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٢٢٣ أبواب القبلة ب ٦.

(٢) كما في نهاية الأحكام ١ : ٣٩٣. قال : ولو اجتهد فأداه اجتهاده إلى خلافها ( يعني المحاريب ) فان كانت بنيت على القطع لم يجز العدول إلى اجتهاده وإلاّ جاز.

(٣) الذكرى : ١٦٣.

(٤) المبسوط ١ : ٧٩.

(٥) نقله عنه في المختلف : ٧٧.

(٦) الخلاف ١ : ١٠٠.

١٣٤

ومن فقد العلم والظن ، فإن كان الوقت واسعا صلى الصلاة إلى أربع جهات ، لكل جهة مرّة.

______________________________________________________

لنا : إنّ قول العدل أحد الأمارات المفيدة للظن فكان العمل به لازما مع انتفاء العلم ، وعدم إمكان تحصيل ظن أقوى منه ، لقوله عليه‌السلام : « يجزي التحري أبدا إذا لم يعلم أين وجه القبلة » (١).

احتج الشيخ في الخلاف بأن الأعمى ومن لا يعرف أمارات القبلة إذا صلّيا إلى أربع جهات برئت ذمتهما بالإجماع ، وليس على براءة ذمتهما إذا صلّيا إلى واحدة دليل. ثم استدل على التخيير مع الضرورة بأن وجوب القبول من الغير لم يقم عليه دليل ، والصلاة إلى الجهات الأربع منفي بكون الحال حال ضرورة فثبت التخيير (٢). وجوابه معلوم مما ذكرناه.

والمراد بالتقليد هنا قبول قول الغير سواء كان مستندا إلى الاجتهاد أو اليقين. وإنما يسوغ تقليد المسلم العدل العارف بالعلامات ، فإن تعذر العدل فالمستور (٣) ، فإن تعذر فغيره وإن كان كافرا إذا أفاد قوله الظن.

وبالجملة : فحيث ثبت جواز التعويل على الظن في هذا الباب وجب دوران الحكم معه ، لكن كما يجب تقديم العلم على الظن كذا يجب تقديم أقوى الظنين على الآخر.

ومن هنا يعلم أن المكفوف لو وجد محرابا فهو أولى من التقليد ، وكذا الركون إلى المخبر عن علم أولى من الركون إلى المجتهد ، وكذا الكلام مع الاختلاف في العدالة والضبط والتعدد.

قوله : ( ومن فقد العلم والظن ، فإن كان الوقت واسعا صلى الصلاة إلى أربع جهات ، لكل جهة مرة ).

__________________

(١) المتقدم في ص ١٣٢.

(٢) الخلاف ١ : ١٠٠.

(٣) يعني : المجهول الحال.

١٣٥

______________________________________________________

هذا الحكم مشهور بين الأصحاب ، وأسنده في المعتبر إلى علمائنا مؤذنا‌ بدعوى الاتفاق عليه (١). وقال ابن أبي عقيل : لو خفيت عليه القبلة لغيم ، أو ريح ، أو ظلمة فلم يقدر على القبلة صلّى حيث شاء ، مستقبل القبلة وغير مستقبلها ، ولا إعادة عليه إذا علم بعد ذهاب وقتها أنه صلّى لغير القبلة (٢). وهو الظاهر من اختيار ابن بابويه (٣) ، ونفى عنه البعد في المختلف (٤) ، ومال إليه في الذكرى (٥) ، وقواه شيخنا المعاصر (٦) ، وهو المعتمد.

لنا : أصالة البراءة مما لم يقم دليل على وجوبه ، وما رواه ابن بابويه في الصحيح ، عن زرارة ومحمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : « يجزي المتحير أبدا أينما توجّه إذا لم يعلم أين وجه القبلة » (٧).

وفي الصحيح ، عن معاوية بن عمار : أنه سأله عن الرجل يقوم في الصلاة ، ثم ينظر بعد ما فرغ فيرى أنه قد انحرف عن القبلة يمينا أو شمالا فقال : « قد مضت صلاته ، فما بين المشرق والمغرب قبلة ، ونزلت هذه الآية في قبلة المتحير : ( وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ، فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) (٨) » (٩).

وما رواه الكليني ـ رضي‌الله‌عنه ـ عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابنا ، عن زرارة ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قبلة المتحير ، فقال : « يصلي‌

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٧٠.

(٢) نقله عنهما في المختلف : ٧٧.

(٣) نقله عنهما في المختلف : ٧٧.

(٤) المختلف : ٧٨.

(٥) الذكرى : ١٦٦.

(٦) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٦٧.

(٧) الفقيه ١ : ١٧٩ ـ ٨٤٥ ، الوسائل ٣ : ٢٢٦ أبواب القبلة ب ٨ ح ٢.

(٨) البقرة : ١١٥.

(٩) الفقيه ١ : ١٧٩ ـ ٨٤٦ ، التهذيب ٢ : ٤٨ ـ ١٥٧ ، الإستبصار ١ : ٢٩٧ ـ ١٠٩٥ ، الوسائل ٣ : ٢٢٨ أبواب القبلة ب ١٠ ح ١.

١٣٦

______________________________________________________

حيث يشاء » (١) وهي (٢) صريحة في المطلوب.

احتج الشيخ (٣) ـ رحمه‌الله ـ ومن تبعه (٤) بما رواه خراش ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ، قلت : جعلت فداك إنّ هؤلاء المخالفين علينا يقولون إذا أطبقت علينا أو أظلمت فلم نعرف السماء كنا وأنتم سواء في الاجتهاد ، فقال : « ليس كما يقولون إذا كان ذلك فليصلّ لأربع وجوه » (٥) وهذه الرواية ضعيفة السند بالإرسال ، وجهالة المرسل والراوي عنه وهو إسماعيل بن عباد ، متروكة الظاهر من حيث تضمنها سقوط الاجتهاد بالكلية ، فلا تعويل عليها.

واستدل في المعتبر على هذا القول أيضا بأن الاستقبال بالصلاة واجب ما أمكن ، ولا يتحصل الاستقبال إلاّ كذلك فيجب (٦).

والجواب : إنا لا نسلم وجوب الاستقبال مع الجهل بالقبلة ، والسند ما تقدم.

ونقل عن السيد الجليل رضي الدين بن طاوس استعمال القرعة هنا (٧) ، ولا بأس به.

وعلى المشهور فيعتبر في الجهات الأربع كونها على خطين مستقيمين وقع أحدهما على الآخر بحيث يحدث عنهما زوايا قائمة ، لأنه المتبادر من النص (٨) ،

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٨٦ ـ ١٠ ، الوسائل ٣ : ٢٢٦ أبواب القبلة ب ٨ ح ٣.

(٢) في « م » ، « ح » زيادة : مع اعتبار سندها.

(٣) التهذيب ٢ : ٤٦ ، والاستبصار ١ : ٢٩٥.

(٤) كالقاضي ابن البراج في المهذب ١ : ٨٥ ، وابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٥٦.

(٥) التهذيب ٢ : ٤٥ ـ ١٤٤ ، الإستبصار ١ : ٢٩٥ ـ ١٠٨٥ ، الوسائل ٣ : ٢٢٦ أبواب القبلة ب ٨ ح ٥.

(٦) المعتبر ٢ : ٧٠.

(٧) كما في الروضة البهية ١ : ٢٠١.

(٨) الوسائل ٣ : ٢٢٥ أبواب القبلة ب ٨.

١٣٧

وإن ضاق عن ذلك صلى من الجهات ما يحتمله الوقت ، وإن ضاق إلا عن صلاة واحدة صلاّها إلى أي جهة شاء.

والمسافر يجب عليه استقبال القبلة ، ولا يجوز له أن يصلي شيئا من الفرائض على الراحلة ، إلا عند الضرورة ويستقبل القبلة ، فإن لم يتمكن استقبل القبلة بما أمكنه من صلاته ، وينحرف إلى القبلة كلّما انحرفت الدابة. وإن لم يتمكن استقبل بتكبيرة الإحرام ، ولو لم يتمكن من ذلك أجزأته الصلاة وإن لم يكن مستقبلا.

______________________________________________________

وربما قيل بالاجتزاء بالأربع كيف اتفق ، وهو بعيد جدا.

واشترط الشهيد في البيان التباعد بينها بحيث لا يكون بين كل واحدة وبين الأخرى ما يعد قبلة واحدة لقلة الانحراف (١). وهو غير واضح أيضا.

قوله : ( وإن ضاق عن ذلك صلى من الجهات من يحتمله الوقت ، وإن ضاق إلاّ عن صلاة واحدة صلاها إلى أي جهة شاء ).

المراد أنه مع ضيق الوقت عن الصلاة إلى الجهات الأربع يجب عليه أن يأتي بالممكن وهو ما يتسع له الوقت مرتين أو ثلاثا ، ولو ضاق إلا عن مرة اقتصر عليها وكان مخيرا في الجهات ، لأن التقدير تساوي الاحتمالات فيسقط الترجيح. قال في المعتبر : وكذا لو منعت ضرورة من عدو أو سبع أو مرض (٢).

قوله : ( والمسافر يجب عليه استقبال القبلة ، ولا يجوز له أن يصلي شيئا من الفرائض على الراحلة إلاّ عند الضرورة ويستقبل القبلة ، فإن لم يتمكن استقبل القبلة بما أمكنه من صلاته ، وينحرف إلى القبلة كلما انحرفت الدابة ، وإن لم يتمكن استقبل بتكبيرة الإحرام ، وإن لم يتمكن من ذلك أجزأته الصلاة وإن لم يكن مستقبلا ).

__________________

(١) البيان : ٥٦ ويحتمل إجزاء أربع كيف اتفق ، لأن الغرض إصابة جهة القبلة لا عينها وهو حاصل ، نعم يشترط التباعد في الجهات بحيث لا يكون بين الجهة الأولى والثانية ما يعدّ قبلة واحدة.

(٢) المعتبر ٢ : ٧١.

١٣٨

______________________________________________________

أما عدم جواز صلاة الفريضة على الراحلة في حال الاختيار فقال في‌ المعتبر : إنه مذهب العلماء كافة ، سواء في ذلك الحاضر والمسافر (١). ويدل عليه ما رواه الشيخ في الصحيح ، عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « لا يصلي على الدابة الفريضة إلا مريض يستقبل القبلة وتجزيه فاتحة الكتاب ، ويضع بوجهه في الفريضة على ما أمكنه من شي‌ء ويومئ في النافلة إيماء » (٢).

وفي الموثق عن عبد الله بن سنان قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أيصلي الرجل شيئا من المفروض راكبا؟ قال : « لا ، إلاّ من ضرورة » (٣).

وإطلاق النص وكلام الأصحاب يقتضي أنه لا فرق في الصلاة المفروضة بين اليومية وغيرها ، ولا بين ما وجب بالأصل وبالعارض ، وبه صرح في الذكرى وقال : إنه لا فرق في ذلك بين أن ينذرها راكبا أو مستقرا على الأرض ، لأنها بالنذر أعطيت حكم الواجب (٤).

ويمكن القول بالفرق واختصاص الحكم بما وجب بالأصل خصوصا مع وقوع النذر على تلك الكيفية ، عملا بمقتضى الأصل وعموم ما دل على وجوب الوفاء بالنذر. ويؤيده رواية علي بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل جعل لله عليه أن يصلي كذا وكذا ، هل يجزيه أن يصلي ذلك على دابته وهو مسافر؟ قال : « نعم » (٥). وفي الطريق محمد بن أحمد العلوي ولم يثبت توثيقه ، وسيأتي تمام البحث في ذلك إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٧٥.

(٢) التهذيب ٣ : ٣٠٨ ـ ٩٥٢ ، الوسائل ٣ : ٢٣٦ أبواب القبلة ب ١٤ ح ١. وفيهما : يستقبل به.

(٣) التهذيب ٣ : ٣٠٨ ـ ٩٥٤ ، الوسائل ٣ : ٢٣٧ أبواب القبلة ب ١٤ ح ٤.

(٤) الذكرى : ١٦٧.

(٥) التهذيب ٣ : ٢٣١ ـ ٥٩٦ ، الوسائل ٣ : ٢٣٨ أبواب القبلة ب ١٤ ح ٦.

١٣٩

______________________________________________________

وأما الجواز مع الضرورة فأسنده في المعتبر إلى علمائنا مؤذنا بدعوى الاتفاق عليه (١).

وتدل عليه الروايتان المتقدمتان (٢) ، وصحيحة جميل بن دراج ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفريضة في المحمل يوم وحل ومطر » (٣).

وصحيحة الحميري ، قال : كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام : روى ـ جعلني الله فداك ـ مواليك عن آبائك عليهم‌السلام : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى الفريضة على راحلته في يوم مطر ، ويصيبنا المطر ونحن في محاملنا والأرض مبتلة والمطر يؤذي ، فهل يجوز لنا يا سيدي أن نصلي في هذه الحال في محاملنا أو على دوابنا الفريضة إن شاء الله؟ فوقع : « يجوز ذلك مع الضرورة الشديدة » (٤).

وصحيحة زرارة قال ، قال أبو جعفر عليه‌السلام : « الذي يخاف اللصوص والسبع يصلي صلاة المواقفة إيماء على دابته » ثم قال : « ويجعل السجود أخفض من الركوع ، ولا يدور إلى القبلة ولكن أينما دارت دابته ، غير أنه يستقبل القبلة بأول تكبيرة حين يتوجه » (٥).

ويستفاد من هذه الرواية عدم وجوب الاستقبال إلا بتكبيرة الإحرام خاصة. وذكر المصنف (٦) ـ رحمه‌الله ـ ومن تأخر عنه (٧) : أنه يجب عليه أن‌

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٧٥.

(٢) في ص ١٣٩.

(٣) التهذيب ٣ : ٢٣٢ ـ ٦٠٢ ، الوسائل ٣ : ٢٣٨ أبواب القبلة ب ١٤ ح ٩.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٣١ ـ ٦٠٠ ، الوسائل ٣ : ٢٣٧ أبواب القبلة ب ١٤ ح ٥.

(٥) الكافي ٣ : ٤٥٩ ـ ٦ ، الفقيه ١ : ٢٩٥ ـ ١٣٤٨ ، التهذيب ٣ : ١٧٣ ـ ٣٨٣ ، الوسائل ٥ : ٤٨٤ أبواب صلاة الخوف والمطاردة ب ٣ ح ٨.

(٦) المعتبر ٢ : ٧٥.

(٧) كالشهيد الأول في الذكرى : ١٦٨.

١٤٠