مدارك الأحكام - ج ٢

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي

مدارك الأحكام - ج ٢

المؤلف:

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

______________________________________________________

وصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله : إنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يجنب في ثوب ليس معه غيره ولا يقدر على غسله ، قال : « يصلي فيه » (١).

وصحيحة علي بن جعفر : إنه سأل أخاه موسى عليه‌السلام عن رجل عريان وحضرت الصلاة فأصاب ثوبا نصفه دم أو كله ، أيصلي فيه؟ أو يصلي عريانا؟ فقال : « إن وجد ماءا غسله ، وإن لم يجد ماءا صلى فيه ولم يصل عريانا » (٢).

وصحيحة الحلبي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أجنب في ثوبه وليس معه غيره ، قال : « يصلي فيه ، فإذا وجد الماء غسله » (٣).

وأجاب الشيخ ـ رحمه‌الله ـ عن هذه الأخبار بحمل الصلاة على صلاة الجنازة ، أو بأن المراد الصلاة فيه إذا لم يتمكن من نزعه. وحمل خبر علي بن جعفر على أنّ المراد بالدم الحاصل على الثوب ما يجوز الصلاة فيه كدم السمك (٤). ولا يخفى ما في ذلك من التكلف والخروج عن مقتضى الظاهر.

ويمكن الجمع بينها بالتخيير بين الأمرين وأفضلية (٥) الصلاة في الثوب ، كما اختاره ابن الجنيد ، إلا أن ذلك موقوف على تكافؤ السند ، وهو خلاف الواقع. وكيف كان فلا ريب أنّ الصلاة في الثوب أولى.

__________________

(١) الفقيه ( ١ : ١٦٠ ـ ٧٥٤ ) ، التهذيب ( ٢ : ٢٢٤ ـ ٨٨٥ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٦٧ ) أبواب النجاسات ب (٤٥) ح ( ٤ ، ٦ ).

(٢) الفقيه ( ١ : ١٦٠ ـ ٧٥٦ ) ، التهذيب ( ٢ : ٢٢٤ ـ ٨٨٤ ) ، الاستبصار ( ١ : ١٦٩ ـ ٥٨٥ ) ، قرب الاسناد : (٨٩) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٦٧ ) أبواب النجاسات ب (٤٥) ح (٥).

(٣) الفقيه ( ١ : ٤٠ ـ ١٥٥ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٧١ ـ ٧٩٩ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٨٧ ـ ٦٥٥ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٦٦ ) أبواب النجاسات ب (٤٥) ح (١).

(٤) التهذيب ( ٢ : ٢٢٤ ـ ٢٢٥ ).

(٥) في « م » : فأفضلية.

٣٦١

وإن لم يمكنه صلّى فيه وأعاد ، وقيل : لا يعيد ، وهو الأشبه.

والشمس إذا جففت البول وغيره من النجاسات عن الأرض والبواري والحصر طهر موضعه. وكذا كل ما لا يمكن نقله ، كالنباتات والأبنية.

______________________________________________________

قوله : فإن لم يمكنه صلّى فيه وأعاد ، وقيل : لا يعيد ، وهو الأشبه.

القول بالإعادة للشيخ ـ رحمه‌الله ـ في جملة من كتبه (١) وجمع من الأصحاب. واستدل عليه في التهذيب بما رواه عن عمار الساباطي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : إنه سئل عن رجل ليس معه إلا ثوب ولا تحل الصلاة فيه ، وليس يجد ماءا يغسله كيف يصنع؟ قال : « يتيمم ويصلّي ، فإذا أصاب ماءا غسله وأعاد الصلاة » (٢) وهي ـ مع ضعف سندها باشتماله على جماعة من الفطحية ـ إنما تدل على الإعادة إذا كان المصلّي في الثوب النجس متيمما ، وقد تقدم الكلام في ذلك ، والأصح عدم الإعادة ، لأنه صلّى صلاة مأمورا بها ، والأمر يقتضي الإجزاء.

قوله : والشمس إذا جففت البول وغيره من النجاسات عن الأرض والبواري والحصر طهر موضعه ، وكذا كل ما لا يمكن نقله ، كالنباتات والأبنية.

اختلف الأصحاب في هذه المسألة ، فقال المفيد ـ رحمه الله تعالى ـ في المقنعة : والأرض إذا وقع عليها البول ثم طلعت عليها الشمس فجففتها طهرت بذلك ، وكذا القول في الحصر (٣). ونحوه قال الشيخ في المبسوط (٤).

وقال في الخلاف : الأرض إذا أصابتها نجاسة مثل البول وما أشبهه وطلعت عليه‌

__________________

(١) كالتهذيب ( ٢ : ٢٢٤ ) ، والاستبصار ( ١ : ١٦٩ ) ، والنهاية : (٥٥) ، والمبسوط ( ١ : ٩١ ).

(٢) التهذيب ( ٢ : ٢٢٤ ـ ٨٨٦ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٦٩ ـ ٥٨٧ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٦٧ ) أبواب النجاسات ب (٤٥) ح (٨).

(٣) المقنعة : (١٠).

(٤) المبسوط ( ١ : ٩٣ ).

٣٦٢

______________________________________________________

الشمس أو هبّت (١) عليه الريح حتى زالت عين النجاسة طهرت (٢). وقال في موضع آخر منه بعد الحكم بطهارة الأرض بتجفيف الشمس لها من نجاسة البول : وكذا الكلام في الحصر والبواري (٣).

وألحق المصنف ـ رحمه‌الله ـ في هذا الكتاب ، والعلاّمة في جملة من كتبه (٤) ، وجمع من المتأخرين (٥) بالأرض والحصر كل ما لا يمكن نقله ، كالأشجار والأبنية.

وقال القطب الراوندي ـ رحمه‌الله ـ : الأرض والبارية والحصير هذه الثلاثة فحسب إذا أصابها البول فجففتها الشمس حكمها حكم الطاهر في جواز السجود عليها ما لم تصر رطبة أو لم يكن الجبين رطبا (٦). ومقتضاه أنها لا تطهر بذلك وإن جاز السجود عليها ، وحكاه في المعتبر عن صاحب الوسيلة أيضا واستجوده (٧) ، وربما كان في كلام ابن الجنيد ـ رحمه‌الله ـ إشعار به ، فإنه قال : الأحوط تجنّبها إلاّ أن يكون ما يلاقيها من الأعضاء يابسا (٨).

احتج الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ في الخلاف (٩) بإجماع الفرقة ، وبما رواه عن عمار بن موسى الساباطي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن الشمس هل تطهر‌

__________________

(١) في « م » : وهبّت ، وكلاهما موجودان في المصدر.

(٢) الخلاف ( ١ : ٦٦ ).

(٣) الخلاف ( ١ : ١٨٥ ).

(٤) المنتهى ( ١ : ١٧٨ ) ، والمختلف : (٦١) ، والقواعد ( ١ : ٨ ).

(٥) منهم الشهيد الأول في الذكرى : (١٥) ، والسيوري في التنقيح الرائع ( ١ : ١٥٥ ) ، والشهيد الثاني في روض الجنان : (١٦٩).

(٦) نقله عنه في المختلف : (٦١) ، والذكرى : (١٥).

(٧) المعتبر ( ١ : ٤٤٦ ).

(٨) نقله عنه في المعتبر ( ١ : ٤٤٦ ).

(٩) الخلاف ( ١ : ١٨٦ ).

٣٦٣

______________________________________________________

الأرض؟ قال : « إذا كان الموضع قذرا من البول أو غير ذلك فأصابته الشمس ثم يبس الموضع فالصلاة على الموضع جائزة ، وإن أصابته الشمس ولم ييبس الموضع القذر وكان رطبا فلا تجوز الصلاة عليه حتى ييبس ، وإن كانت رجلك رطبة أو جبهتك رطبة أو غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر فلا تصل على ذلك الموضع ، وإن كان غير الشمس أصابه حتى يبس فإنه لا يجوز ذلك » (١).

وفي الصحيح ، عن عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن البواري يصيبها البول هل تصلح الصلاة عليها إذا جفت من غير أن تغسل؟ قال : « نعم لا بأس » (٢).

قال في المعتبر (٣) : ويمكن أن يستدل بما رواه أبو بكر الحضرمي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « يا أبا بكر ما أشرقت عليه الشمس فقد طهر » (٤) وبهذه الرواية استدل في المختلف على طهارة غير الأرض والبواري مما لا ينقل عادة كالأبنية والأشجار (٥).

وفي كل من هذه الأدلة نظر : أما الإجماع فلما بيناه مرارا من عدم تحققه في أمثال هذه المسائل ، وأما الرواية الأولى فلأنها ضعيفة السند باشتماله على جماعة من الفطحية ، ومع ذلك فغير دالة على الطهارة ، إذ أقصى ما تدل عليه جواز الصلاة في ذلك المحل مع اليبوسة ، ونحن نقول به لكنه لا يستلزم الطهارة ، بل ربما كان في آخر الرواية إشعار ببقاء‌

__________________

(١) التهذيب ( ١ : ٢٧٢ ـ ٨٠٢ ) ، التهذيب ( ٢ : ٣٧٢ ـ ١٥٤٨ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٩٣ ـ ٦٧٥ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٤٢ ) أبواب النجاسات ب (٢٩) ح (٤).

(٢) التهذيب ( ١ : ٢٧٣ ـ ٨٠٣ ) ، التهذيب ( ٢ : ٣٧٣ ـ ١٥٥١ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٩٣ ـ ٦٧٦ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٤٢ ) أبواب النجاسات ب (٢٩) ح (٣).

(٣) المعتبر ( ١ : ٤٤٦ ).

(٤) التهذيب ( ١ : ٢٧٣ ـ ٨٠٤ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٩٣ ـ ٦٧٧ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٤٣ ) أبواب النجاسات ب (٢٩) ح (٥).

(٥) المختلف : (٦١).

٣٦٤

______________________________________________________

المحل على النجاسة ( وقريب من ذلك الكلام في الرواية الثانية ، مع أنه لا تصريح فيها بإسناد الجفاف إلى الشمس ) (١).

لا يقال : إطلاق الإذن في الصلاة في هذه المحالّ يقتضي جواز السجود عليها فتكون طاهرة ، لأن من شرط السجود طهارة المسجد.

لأنا نقول : اشتراطه محل توقف ، فإنا لم نقف له على مستند سوى الإجماع المنقول ، وفيه ما فيه. ولو سلّم فيجوز أن يكون هذا الفرد من النجس مما يجوز السجود عليه لهذه الأدلة فلا يلزم الحكم بالطهارة ، مع أن هذا الراوي وهو عليّ بن جعفر قد روى عن أخيه عليه‌السلام جواز الصلاة على المحل الجاف المتنجس بالبول وإن لم تصبه الشمس ، فما هو الجواب عن تلك الرواية فهو الجواب هنا.

وأما رواية أبي بكر فضعيفة السند جدّا ، لأن من جملة رجالها عثمان بن عبد الملك ، ولم يذكره أحد من علماء الرجال فيما أعلم ، ومع ذلك فهي متروكة الظاهر ، وتخصيصها بغير المنقول لا دليل عليه ، فيسقط اعتبارها رأسا. والمسألة قوية الإشكال.

ويمكن القول بطهارة الأرض خاصة من نجاسة البول ، لما رواه ابن بابويه في الصحيح ، عن زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن البول يكون على السطح أو في المكان الذي يصلّي فيه ، فقال : « إذا جففته الشمس فصلّ عليه فهو طاهر » (٢).

وقد يناقش في الرواية من حيث المتن بجواز حمل الطاهر على المعنى اللغوي (٣) ( كما في الأخبار التي استدل بها على نجاسة البئر ) (٤) مع أنها معارضة بما رواه الشيخ في‌

__________________

(١) بدل ما بين القوسين في « م » و « ق » : وكذا الكلام في الرواية الثانية.

(٢) الفقيه ( ١ : ١٥٧ ـ ٧٣٢ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٤٢ ) أبواب النجاسات ب (٢٩) ح (١).

(٣) في « ح » زيادة : لعدم ثبوت كون المعنى المصطلح عليه بين الأصحاب حقيقة عرفية عندهم عليهم‌السلام.

(٤) ما بين القوسين ليس في « ق ».

٣٦٥

______________________________________________________

كتابي الأخبار ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع قال : سألته عن الأرض والسطح يصيبه البول أو ما أشبهه هل تطهره الشمس من غير ماء؟ قال : « كيف تطهر من غير ماء؟! » (١).

وأجاب عنها الشيخ في التهذيب بأن المراد به إذا لم تجففه الشمس ، وهو حمل بعيد يأباه تعجبه عليه‌السلام من طهارته بغير الماء. وطعن فيها العلاّمة في المنتهى (٢) بالإضمار ، وقد بينا مرارا أن ذلك غير قادح ، لتعين المسؤول كما اعترف به هو ـ رحمه الله تعالى ـ في مواضع من كتبه (٣) ، وبالجملة : فالمسألة محل توقف.

فروع : الأول : قال في المنتهى : لو جف بغير الشمس لم يطهر عندنا قولا واحدا ، خلافا للحنفية (٤). ويدل عليه أن المفروض نجاسة المحل بالنصّ أو الإجماع فيقف زوال النجاسة على ما عدّه الشارع مطهرا ، ويؤيده صحيحة محمد بن إسماعيل ، ورواية عمار المتقدمتان (٥) ، وغيرهما من الأخبار. ولا ينافي ذلك ما رواه ابن بابويه في الصحيح ، عن عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن البيت والدار لا تصيبهما الشمس ويصيبهما البول ، ويغتسل فيهما من الجنابة أيصلّى فيهما إذا جفّا؟ قال : « نعم » (٦) فإنّ جواز الصلاة في المحل لا يستلزم الطهارة كما بيناه ، وربما أمكن الاستدلال بهذه الرواية على عدم اعتبار طهارة المسجد ، للإجماع على عدم طهارة الأرض بالجفاف المجرد عن الشمس.

__________________

(١) التهذيب ( ١ : ٢٧٣ ـ ٨٠٥ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٩٣ ـ ٦٧٨ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٤٣ ) أبواب النجاسات ب (٢٩) ح (٧).

(٢) المنتهى ( ١ : ١٧٧ ).

(٣) كما في المختلف : (٤٧).

(٤) المنتهى ( ١ : ١٧٧ ).

(٥) في ص ( ٥٦٨ ، ٥٧٠ ).

(٦) الفقيه ( ١ : ١٥٨ ـ ٧٣٦ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٤٣ ) أبواب النجاسات ب (٣٠) ح (١).

٣٦٦

وتطهّر النار ما أحالته ،

______________________________________________________

الثاني : قال الشيخ في الخلاف : إن الأرض لو جفت بغير الشمس لم تطهر (١). وقال في موضع آخر : الأرض إذا أصابها نجاسة مثل البول وما أشبهه وطلعت عليها الشمس أو هبّت عليها الريح حتى زالت عين النجاسة فإنها تطهر ، ويجوز السجود عليها ، والتيمم بترابها ، وإن لم يطرح عليها الماء (٢). وربما ظهر من ذلك أن الجفاف بالريح مطهر كالشمس ، وهو مشكل. وحمله العلاّمة في المختلف على أن المراد أنها تطهر بهبوب الرياح المزيلة للأجزاء الملامسة للنجاسة الممازجة لها ، قال : وليس مقصود الشيخ ذهاب الرطوبة عن الأجزاء كذهابها بحرارة الشمس (٣). ولا بأس به ، صونا لكلام الشيخ عن التنافي.

ولو حصل التجفيف بالشمس والريح معا كان مطهرا ، لصدق التجفيف بالشمس ، ولأن الغالب تلازم الأمرين.

الثالث : لو كانت النجاسة ذات جرم اعتبر في طهارتها بالشمس زوال جرم النجاسة إجماعا. وقال ابن الجنيد : لا يطهر الكنيف والمجزرة بالشمس (٤). وهو حسن ، لمخالطة أجزاء النجاسة أتربتها ، نعم لو أزيلت تلك الأجزاء وحصل التجفيف بالشمس اتجه مساواتهما لغيرهما.

قوله : وتطهّر النار ما أحالته.

أي أخرجته عن الصورة الاولى ، من الأعيان النجسة بالذات أو بالعرض ، بأن صيرته رمادا أو دخانا ، وقد قطع الشيخ في الخلاف (٥) ، وأكثر الأصحاب بطهارة‌

__________________

(١) الخلاف ( ١ : ١٨٥ ).

(٢) الخلاف ( ١ : ٦٦ ).

(٣) المختلف : (٦١).

(٤) نقله عنه في المنتهى ( ١ : ١٧٨ ).

(٥) الخلاف ( ١ : ١٨٧ ).

٣٦٧

______________________________________________________

الأعيان النجسة بذلك ، وتردد فيه المصنف ـ رحمه‌الله ـ في كتاب الأطعمة من هذا الكتاب (١). ونقل عن الشيخ في المبسوط أنه حكم بنجاسة دواخن الأعيان النجسة (٢) ، مع أنه نقل في الخلاف إجماع الفرقة على طهارة الأعيان النجسة بصيرورتها رمادا.

والمعتمد الطهارة ، لأنها الأصل في الأشياء ، ولأن الحكم بالنجاسة معلّق على الاسم فيزول بزواله ، ولما نقله المصنف ـ رحمه‌الله ـ في المعتبر من إجماع الناس على عدم توقي دواخن السراجين النجسة (٣) ، ولو لم يكن طاهرا بالاستحالة لتورّعوا منه ، ولا معارض لذلك إلاّ التمسك باستصحاب حكم الحالة السابقة ، وهو لا يصلح للمعارضة ، لما بيناه مرارا من أن استمرار الحكم يتوقف على الدليل كما يتوقف عليه ابتداؤه (٤).

ويمكن أن يستدل على الطهارة أيضا بما رواه الشيخ في الصحيح ، عن الحسن بن محبوب : أنه سأل أبا الحسن عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ، ثم يجصص به المسجد ، أيسجد عليه؟ فكتب إليه بخطه : « إن الماء والنار قد طهّراه » (٥) وجه الدلالة أنّ الجصّ يختلط بالرماد والدخان الحاصل من تلك الأعيان النجسة ، ولو لا كونه طاهرا لما ساغ تجصيص المسجد به والسجود عليه ، والماء غير مؤثر في التطهير إجماعا كما نقله في المعتبر (٦) ، فتعين استناده إلى النار ، وعلى هذا فيكون إسناد التطهير إلى النار حقيقة وإلى الماء مجازا ، أو يراد به فيهما المعنى المجازي ، وتكون الطهارة الشرعية مستفادة مما علم‌

__________________

(١) الشرائع ( ٣ : ٢٢٦ ).

(٢) المبسوط ( ٦ : ٢٨٣ ). قال : ورووا أصحابنا أنه يستصبح به تحت السماء دون السقف ، وهذا يدل على أن دخانه نجس ، انتهى ، ولكن قال بعده : الأقوى عندي أنه ليس بنجس.

(٣) المعتبر ( ١ : ٤٥٢ ).

(٤) الجواهر ( ٦ : ٢٦٦ ). عدم جريانه ( الاستصحاب ) في المقام بتغير اسم الموضوع وحقيقته المعلق عليهما حكم النجاسة.

(٥) التهذيب ( ٢ : ٢٣٥ ـ ٩٢٨ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٩٩ ) أبواب النجاسات ب (٨١) ح (١).

(٦) المعتبر ( ١ : ٤٥٢ ).

٣٦٨

______________________________________________________

من الجواب ضمنا من جواز تجصيص المسجد به ، ولا محذور فيه.

فروع :

الأول : قال الشيخ في الخلاف : اللبن المضروب من طين نجس إذا طبخ آجرا أو عمل خزفا طهّرته النار (١). واستدل عليه بإجماع الفرقة ، وخبر الحسن بن محبوب المتقدم (٢) ، وفيه إشكال منشؤه الشك في تحقق الاستحالة ، وإن كان القول بالطهارة محتملا ، لعدم تيقن استمرار حكم النجاسة بعد الطبخ.

الثاني : إذا استحالت الأعيان النجسة ترابا كالعذرة اليابسة والميتات فالأقرب الطهارة ، لأن الحكم بالنجاسة معلق على الاسم فيزول بزواله ، ولقوله : « جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا » (٣) وهو اختيار الشيخ في موضع من المبسوط (٤) ، والمصنف (٥) ـ رحمه‌الله ـ ، والعلاّمة (٦). وللشيخ (٧) قول آخر بالنجاسة ضعيف.

الثالث : إذا عجن العجين بالماء النجس لم يطهر إذا خبز ، قاله الشيخ في التهذيب وموضع من النهاية (٨) ، وأكثر الأصحاب ، لأن العجين ينجس بالماء النجس ، والنار لم تحله بل جففته وأزالت بعض رطوبته وذلك لا يكفي في التطهير ، ويدل عليه ما رواه الشيخ في الصحيح ، عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، قال : وما أحسبه إلا حفص ابن البختري قال ، قيل لأبي عبد الله عليه‌السلام : في العجين يعجن من الماء النجس‌

__________________

(١) الخلاف ( ١ : ١٨٧ ).

(٢) في ص : (٣٦٨).

(٣) التهذيب ( ١ : ٤٠٤ ـ ١٢٦٤ ) ، الفقيه ( ١ : ٦٠ ـ ٢٢٣ ) ، الوسائل ( ٢ : ٩٩٤ ) أبواب التيمم ب (٢٣) ح (١).

(٤) المبسوط ( ١ : ٣٢ ).

(٥) المعتبر ( ١ : ٤٥٢ ).

(٦) المنتهى ( ١ : ١٧٩ ).

(٧) المبسوط ( ١ : ٩٣ ).

(٨) التهذيب ( ١ : ٤١٤ ) ، النهاية : (٥٩٠).

٣٦٩

______________________________________________________

كيف يصنع به؟ قال : « يباع ممّن يستحل أكل الميتة » (١).

وفي الصحيح ، عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « يدفن ولا يباع » (٢).

ويمكن التوفيق بين الروايتين بحمل البيع المنهي عنه على كونه من غير المستحل.

وقال الشيخ في موضع من النهاية : إنه يطهر بالخبز (٣). وربما كان مستنده ما رواه عبد الله بن زبير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه سأله عن البئر يقع فيها الفأرة أو غيرها من الدواب فيموت فيعجن من مائها أيؤكل ذلك الخبز؟ قال : « إذا أصابه النار فلا بأس بأكله » (٤).

وعن محمد بن أبي عمير ، عمن رواه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في عجين عجن وخبز ، ثم علم أن الماء كانت فيه ميتة ، قال : « لا بأس ، أكلت النار ما فيه » (٥).

ويمكن الجواب عن الروايتين أولا : بالطعن في السند ، أما الثانية فبالإرسال وإن كان المرسل لها ابن أبي عمير على ما بيناه مرارا ، وأما الأولى فبأنّ من جملة رجالها : أحمد ابن الحسن الميثمي ، وقال النجاشي ـ رحمه‌الله ـ : إنه كان واقفيا (٦). وأحمد بن محمد ابن عبد الله بن الزبير ، وجدّه عبد الله ، وهما مجهولان.

__________________

(١) التهذيب ( ١ : ٤١٤ ـ ١٣٠٥ ) ، الإستبصار ( ١ : ٢٩ ـ ٧٦ ) ، الوسائل ( ١ : ١٧٤ ) أبواب الأسئار ب (١١) ح (١).

(٢) التهذيب ( ١ : ٤١٤ ـ ١٣٠٦ ) ، الإستبصار ( ١ : ٢٩ ـ ٧٧ ) ، الوسائل ( ١ : ١٧٤ ) أبواب الأسئار ب (١١) ح (٢).

(٣) النهاية : (٨).

(٤) التهذيب ( ١ : ٤١٣ ـ ١٣٠٣ ) ، الإستبصار ( ١ : ٢٩ ـ ٧٤ ) ، الوسائل ( ١ : ١٢٩ ) أبواب الماء المطلق ب (١٤) ح (١٧).

(٥) الفقيه ( ١ : ١١ ـ ١٩ ) ( مرسلا بتفاوت ) ، التهذيب ( ١ : ٤١٤ ـ ١٣٠٤ ) ، الإستبصار ( ١ : ٢٩ ـ ٧٥ ) ، الوسائل ( ١ : ١٢٩ ) أبواب الماء المطلق ب (١٤) ح (١٨).

(٦) رجال النجاشي : ( ٧٤ ـ ١٧٩ ).

٣٧٠

______________________________________________________

وثانيا : بأنه ليس في الروايتين ما يدل على نجاسة العجين صريحا ، أما الاولى فلأن المسؤول عنه فيها العجين الذي عجن بماء البئر الذي ماتت فيه الفأرة ، وهو غير معلوم النجاسة ، وأما الثانية فليس فيها ما يدل على نجاسة الميتة الحاصلة في الماء ، فجاز أن تكون طاهرة ، وأن يكون قوله عليه‌السلام : « أكلت النار ما فيه » كناية عن زوال الاستقذار الحاصل من ذلك ، فتأمل.

واعلم : أنّ العلاّمة ـ رحمه‌الله ـ في المنتهى توقف في العمل بالرواية المتضمنة لبيع العجين النجس ممن يستحل الميتة ، ثم قال : ويمكن أن يحمل البيع على غير أهل الذمة وإن لم يكن ذلك بيعا في الحقيقة (١). وهو غير جيد ، فإن العجين النجس عين مملوكة يمكن الانتفاع بها نفعا محللا في علف الحيوان وغيره ، فلا مانع من جواز بيعه من المسلم مع الإعلام بحاله كالدهن النجس ، وكذا من مستحله من أهل الذمة وغيرهم ، لعدم ثبوت كون ذلك مأثما حتى يتعلق به النهي في قوله تعالى ( وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) (٢) ولما رواه الشيخ بسندين أحدهما صحيح والآخر حسن ، عن الحلبي ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « إن اختلط الذكي بالميتة باعه ممّن يستحل الميتة ، وأكل ثمنه » (٣).

تنبيه : لو رقق العجين النجس ثم وضع في الماء الكثير بحيث علم وصول الماء إلى جميع أجزائه طهر بذلك ، وكذا الكلام في الحنطة والسمسم إذا انتقعا في الماء النجس ، واكتفى العلاّمة في المنتهى في تطهيرهما بأن يغسلا ثلاثا في القليل ويتركا حتى يجفّا في‌

__________________

(١) المنتهى ( ١ : ١٨٠ ).

(٢) المائدة : (٢).

(٣) التهذيب ( ٩ : ٤٨ ـ ١٩٩ ) وص ( ٤٧ ـ ١٩٨ ) ، الوسائل ( ١٢ : ٦٧ ، ٦٨ ) أبواب ما يكتسب به ب (٧) ح ( ١ ، ٢ ).

٣٧١

والتراب باطن الخفّ وأسفل القدم والنعل.

______________________________________________________

كل مرة ، فيكون ذلك كالعصر (١). وهو ضعيف جدّا ، مع أنّ العصر يكفي فيه المرة عنده ، فلا وجه لتعدد الغسل والتجفيف.

قوله : التراب باطن الخفّ وأسفل القدم والنعل.

هذا الحكم مقطوع به في كلام الأصحاب ، وظاهرهم الاتفاق عليه ، وربما أشعر كلام المفيد في المقنعة باختصاص الحكم بالخف والنعل فإنه قال : وإذا رأى الإنسان بخفه أو نعله نجاسة ثم مسحهما بالتراب طهرا بذلك (٢). وصرح ابن الجنيد بالتعميم فقال : ولو وطئ برجله أو ما هو وقاء لها نجاسة ثم وطئ بعدها على أرض طاهرة يابسة طهر ما ماسّ الأرض من رجله والوقاء ، ولو مسحها حتى يذهب عين النجاسة وأثرها بغير ماء أجزأه إذا كان ما مسحها به طاهرا (٣).

ومقتضى كلامه الاكتفاء في حصول التطهير بمسحها بغير الأرض من الأعيان الطاهرة.

وربما ظهر من كلام الشيخ في الخلاف عدم طهارة أسفل الخف بمسحه بالأرض فإنه قال : إذا أصاب أسفل الخف نجاسة فدلكه في الأرض حتى زالت تجوز الصلاة فيه عندنا ، ثم قال : دليلنا أنا بينا فيما تقدم أن ما لا يتم الصلاة فيه بانفراده جازت الصلاة فيه وإن كانت فيها نجاسة ، والخف لا تتم الصلاة فيه بانفراده ، وعليه إجماع الفرقة (٤).

والأصل في هذه المسألة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا وطئ أحدكم الأذى بخفّيه فطهورهما التراب » (٥) وفي رواية أخرى : « إذا وطئ أحدكم بنعليه الأذى فإن‌

__________________

(١) المنتهى ( ١ : ١٨٠ ).

(٢) المقنعة : (١٠).

(٣) نقله في المنتهى ( ١ : ١٧٨ ).

(٤) الخلاف ( ١ : ٦٦ ).

(٥) عوالي اللآلي ( ٣ : ٦٠ ـ ١٧٨ ) ، مستدرك الوسائل ( ٢ : ٥٧٦ ) أبواب النجاسات ب (٢٥) ح (٤).

٣٧٢

______________________________________________________

التراب له طهور » (١).

وما رواه الشيخ في الصحيح ، عن زرارة بن أعين قال ، قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : رجل وطئ على عذرة فساخت رجله فيها أينقض ذلك وضوءه؟ وهل يجب عليه غسلها؟ فقال : « لا يغسلها إلا أن يقذرها ، ولكنه يمسحها حتى يذهب أثرها ويصلّي » (٢).

وعن حفص بن أبي عيسى قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إني وطئت عذرة بخفي ومسحته حتى لم أرفيه شيئا ما تقول في الصلاة فيه؟ فقال : « لا بأس » (٣).

وما رواه الكليني ـ رضي الله تعالى عنه ـ في الصحيح ، عن الأحول ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في الرجل يطأ على الموضع الذي ليس بنظيف ، ثم يطأ بعده مكانا نظيفا ، قال : « لا بأس إذا كان خمس عشرة ذراعا أو نحو ذلك » (٤).

وفي الصحيح ، عن الحلبي ، قال : نزلنا في مكان بيننا وبين المسجد زقاق قذر ، فدخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فقال : « أين نزلتم؟ » فقلنا : نزلنا في دار فلان ، فقال : « إن بينه وبين المسجد زقاقا قذرا » أو قلنا له : إن بيننا وبين المسجد زقاقا قذرا ، قال : « لا بأس ، الأرض تطهر بعضها بعضا » فقلت : السرقين الرطب أطأ عليه؟ قال : « لا يضرك مثله » (٥).

قوله عليه‌السلام : « الأرض تطهر بعضها بعضا » يمكن أن يكون معناه : أنّ الأرض يطهر بعضها وهو المماس لأسفل النعل والقدم ، إذ الطاهر منها بعض الأشياء‌

__________________

(١) سنن أبي داود ( ١ : ١٠٥ ـ ٣٨٥ ) ، مستدرك الحاكم ( ١ : ١٦٦ ).

(٢) التهذيب ( ١ : ٢٧٥ ـ ٨٠٩ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٤٨ ) أبواب النجاسات ب (٣٢) ح (٧).

(٣) التهذيب ( ١ : ٢٧٤ ـ ٨٠٨ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٤٧ ) أبواب النجاسات ب (٣٢) ح (٦).

(٤) الكافي ( ٣ : ٣٨ ـ ١ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٤٦ ) أبواب النجاسات ب (٣٢) ح (١).

(٥) الكافي ( ٣ : ٣٨ ـ ٣ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٤٧ ) أبواب النجاسات ب (٣٢) ح (٤).

٣٧٣

______________________________________________________

وهو النعل والقدم (١) ويحتمل أن يكون المراد أن أسفل القدم والنعل إذا تنجس بملاقاة بعض الأرض النجسة يطهره البعض الآخر الطاهر إذا مشى عليه ، فالمطهّر في الحقيقة ما ينجس بالبعض الآخر ، وعلّقه بنفس البعض مجازا.

ويستفاد من هذه الروايات طهارة أسفل القدم والخف عن العذرة وغيرها بمسحها بالأرض حتى يزول عين النجاسة. وربما ظهر من إطلاق صحيحة زرارة الاكتفاء في طهارة أسفل القدم بمسحه بغير الأرض أيضا كما قاله ابن الجنيد (٢) ، إلاّ أنّ الإطلاق ينصرف إلى المعهود وهو ما كان بالأرض. ويعضد هذه الروايات أصالة عدم التكليف بغسل النجاسة عن هذه المحالّ مع انتفاء الأمر به على الخصوص.

فروع :

الأول : لا يشترط جفاف النجاسة قبل الدلك ، ولا أن يكون لها جرم ، للأصل ، وإطلاق الروايات ، ولأنه إذا طهّر ما له جرم فما لا جرم له أولى. وعلى هذا فلو كان أسفل القدم أو النعل متنجسا بنجاسة غير مرئية كالبول اليابس طهر بمجرد المشي على الأرض. وقال بعض العامة : يعتبر في النجاسة كونها ذات جرم ، وأن تكون جافة قبل الدلك (٣). ولا ريب في بطلانه.

الثاني : ظاهر ابن الجنيد ـ رحمه‌الله ـ اشتراط طهارة الأرض ويبوستها ، ولا بأس به.

ولا يعتبر المشي بل يكفي المسح إلى أن تذهب العين ، لقوله عليه‌السلام في صحيحة‌

__________________

(١) المراد : هو تطهير بعض الأرض بعض المتنجسات كالنعل ، فلا يكون في المطهّر عموم. كما في الجواهر ( ٦ : ٣٠٥ ).

(٢) في ص (٣٧٢).

(٣) بدائع الصنائع ( ١ : ٨٤ ).

٣٧٤

وماء الغيث لا ينجس في حال وقوعه ولا حال جريانه من ميزاب وشبهه ، إلا أن تغيّره بالنجاسة.

______________________________________________________

زرارة : « ولكن يمسحها حتى يذهب أثرها ويصلّي » (١) ولا ينافي ذلك تعليق الحكم في رواية الأحول (٢) على مشي الخمس عشرة ذراعا ، لجواز أن يكون المقتضي لذلك عدم تحقق إزالة العين بدونه غالبا ، ونقل عن ابن الجنيد أنه اعتبر هذا التحديد (٣) ، وهو ضعيف.

الثالث : لا فرق بين الخفّ والنعل وغيرهما مما ينتعل ولو من الخشب كالقبقاب.

وخشب الأقطع يلحق بالنعل أو القدم ، ولا يلحق بهما أسفل العصا ، وكعب الرمح ، وما شاكل ذلك.

قوله : وماء الغيث لا ينجس في حال وقوعه ، ولا حال جريانه من ميزاب وشبهه ، إلا أن تغيّره النجاسة.

ما اختاره المصنف ـ رحمه‌الله ـ من عدم نجاسة ماء الغيث حال تقاطره إلاّ بتغيره بالنجاسة مذهب أكثر الأصحاب ، واحتج عليه في المعتبر (٤) بما رواه ابن بابويه في الصحيح ، عن هشام بن سالم : أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن السطح يبال عليه فتصيبه السماء فيكفّ فيصيب الثوب ، فقال : « لا بأس به ، ما أصابه من الماء أكثر منه » (٥).

وقد يقال : إن هذه الرواية إنما تدل على عدم نجاسته بوروده على النجاسة فلا يصلح مستندا لإثبات الحكم على وجه العموم.

ويمكن أن يستدل له أيضا بالأصل ، والعمومات الدالة على عدم انفعال الماء‌

__________________

(١) تقدمنا في ص (٣٧٣).

(٢) تقدمنا في ص (٣٧٣).

(٣) الذكرى : (١٥).

(٤) المعتبر ( ١ : ٤٣ ).

(٥) الفقيه ( ١ : ٧ ـ ٤ ) ، الوسائل ( ١ : ١٠٨ ) أبواب الماء المطلق ب (٦) ح (١).

٣٧٥

______________________________________________________

بالملاقاة ، ومرسلة الكاهلي ، عن رجل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « كل شي‌ء يراه ماء المطر فقد طهر » (١).

وقال الشيخ في التهذيب والاستبصار : ماء المطر إذا جرى من الميزاب فحكمه حكم الماء الجاري لا ينجسه إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو رائحته (٢). واستدل عليه بحسنة هشام بن الحكم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في ميزابين سالا ، أحدهما بول والآخر ماء المطر ، فاختلطا فأصاب ثوب رجل : « لم يضر ذلك » (٣) وهي لا تدل على انفعال ما عدا الميزاب بالملاقاة ، مع أنه لا إشعار في الرواية بكون الماء نازلا من السماء حالة الملاقاة.

وصحيحة عليّ بن جعفر ، قال : سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام عن البيت يبال على ظهره ، ويغتسل فيه من الجنابة ، ثم يصيبه الماء ، أيؤخذ من مائه فيتوضأ به للصلاة؟ فقال : « إذا جرى فلا بأس به » (٤).

قال في المعتبر : وهذه الرواية لا تدل على اشتراط الجريان ، لأنه لو لم يكن طاهرا لما طهره الجريان (٥). وهو مشكل ، نعم يمكن أن يقال : إن أقصى ما تدل عليه الرواية ثبوت البأس في أخذ ذلك الماء للوضوء مع عدم الجريان ، وهو أعم من النجاسة ، فلعل وجهه توقف النظافة عليه ، مع أن الجريان يتحقق بمسماه ، فلا يتعين كونه جاريا من ميزاب ونحوه.

__________________

(١) الكافي ( ٣ : ١٣ ـ ٣ ) ، الوسائل ( ١ : ١٠٩ ) أبواب الماء المطلق ب (٦) ح (٥).

(٢) التهذيب ( ١ : ٤١١ ). ولم نجده في الاستبصار ولكن وجدناه في المبسوط ( ١ : ٦ ).

(٣) الكافي ( ٣ : ١٢ ـ ١ ) ، التهذيب ( ١ : ٤١١ ـ ١٢٩٥ ) ، الوسائل ( ١ : ١٠٩ ) أبواب الماء المضاف ب (٦) ح (٤).

(٤) الفقيه ( ١ : ٧ ـ ٦ ) ، التهذيب ( ١ : ٤١١ ـ ١٢٩٧ ) ، الوسائل ( ١ : ١٠٨ ) أبواب الماء المطلق ب (٦) ح (٢) بتفاوت يسير.

(٥) المعتبر ( ١ : ٤٣ ).

٣٧٦

والماء الذي تغسل به النجاسة نجس ، سواء كان في الغسلة الأولى أو الثانية ، وسواء كان متلونا بالنجاسة أو لم يكن ، وسواء بقي على المغسول عين النجاسة أو نقي. وكذا القول في الإناء على الأظهر ، وقيل : في الذنوب إذا القي على نجاسة الأرض تطهر الأرض مع بقائه على طهارته.

______________________________________________________

والمسألة محل إشكال ، ولو قيل باعتبار مطلق الجريان لم يكن بعيدا إلاّ أن عدم اعتبار ذلك مطلقا أقرب.

قوله : والماء الذي تغسل به النجاسة نجس ، سواء كان في الغسلة الأولى أو الثانية ، وسواء كان متلوثا بالنجاسة أو لم يكن ، وسواء بقي على المغسول عين النجاسة أو نقي. وكذا القول في الإناء على الأظهر.

ردّ بذلك على المرتضى ـ رضي‌الله‌عنه ـ حيث حكم بطهارة الماء الذي تغسل به النجاسة إذا ورد على النجاسة ولم يتلوّن بها (١) ، وعلى الشيخ في الخلاف حيث حكم بطهارة الغسلة الثانية في غير إناء الولوغ ، وطهارة الغسلتين فيه (٢) وقد تقدم الكلام في هذه المسألة مفصلا فلا نعيده.

قوله : وقيل : في الذنوب (٣) إذا القي على نجاسة على الأرض تطهر الأرض مع بقائه على الطهارة.

القائل بذلك هو الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ في الخلاف ، وهذه عبارته : إذا بال على موضع من الأرض فتطهيرها أن يصبّ الماء عليه حتى يكاثره ويغمره ويقهره فيزيل لونه وطعمه وريحه ، فإذا زال حكمنا بطهارة المحل وطهارة الماء الوارد عليه ، ولا يحتاج إلى‌

__________________

(١) المسائل الناصرية ( الجوامع الفقهية ) : (١٧٩).

(٢) الخلاف ( ١ : ٤٩ ).

(٣) الذنوب : الدلو العظيمة ، قالوا : ولا تسمى ذنوبا حتى تكون مملوءة ماءا وتذكر وتؤنث ، وجمعه ذناب مثل كتاب ـ المصباح المنير : (٢١٠).

٣٧٧

______________________________________________________

نقل التراب ولا قطع المكان ، ثم قال : دليلنا قوله تعالى ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (١) ونقل التراب من الأرض إلى موضع آخر يشق ، وروى أبو هريرة قال : دخل أعرابي المسجد فقال : اللهم ارحمني ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا ترحم معنا أحدا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عجزت واسعا » قال : فما لبث أن بال في ناحية المسجد ، وكأنهم عجلوا إليه فنهاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه ، ثم قال : « علّموا ويسّروا ولا تعسّروا » (٢) قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : والنبي لا يأمر بطهارة المسجد بما يزيده تنجيسا ، فلزم أن يكون الماء أيضا على طهارته (٣).

واستشكله المصنف في المعتبر بضعف الخبر ، ومنافاته الأصل ، لأن الماء المنفصل عن محل النجاسة نجس ، تغيّر أو لم يتغير ، ثم حكم بطهارة الأرض بأشياء ، وذكر من جملتها : أن تغسل بماء يغمرها ثم يجري إلى موضع آخر فيكون ما انتهى إليه نجسا (٤). ولم يفرق بين رخاوة الأرض وصلابتها ، وقد يحصل التوقف مع الرخاوة لعدم انفصال الماء المغسول به عن المحل ، إلاّ أن يغتفر ذلك هنا كما اغتفر في الحشايا.

ونقل عن ابن إدريس أنه وافق الشيخ ـ رحمه‌الله ـ على جميع هذه الأحكام (٥) ، وهو جيد على أصله من طهارة الماء الذي يغسل به النجاسة ، ولا بأس به.

__________________

(١) الحج : (٧٨).

(٢) موطإ مالك ( ١ : ٦٤ ـ ١١١ ) ، صحيح البخاري ( ٨ : ٣٧ ).

(٣) الخلاف ( ١ : ١٨٥ ).

(٤) المعتبر ( ١ : ٤٤٩ ).

(٥) السرائر : (٣٨).

٣٧٨

القول في الآنية :

ولا يجوز الأكل والشرب في آنية من ذهب أو فضّة ، ولا استعمالها في غير ذلك.

______________________________________________________

قوله : القول في الآنية ، ولا يجوز الأكل والشرب في آنية من ذهب أو فضّة ، ولا استعمالها في غير ذلك.

أجمع الأصحاب على تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب وغيرهما ، قاله في التذكرة (١) وغيرها (٢). وقال الشيخ في الخلاف : يكره استعمال أواني الذهب والفضة (٣). والظاهر أنّ مراده التحريم ، والأخبار الواردة بالنهي عن الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة من الطرفين مستفيضة ، فروى الجمهور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تأكلوا في صحافها ، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة » (٤).

وعن عليّ عليه‌السلام أنه قال : « الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم » (٥).

وروى الشيخ في الصحيح ، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع ، قال : سألت الرضا عليه‌السلام عن آنية الذهب والفضة فكرههما ، فقلت : قد روى بعض أصحابنا أنه كان لأبي الحسن عليه‌السلام مرآة ملبسة فضة ، فقال : « لا والله إنما كانت لها حلقة من فضة ، هي عندي » (٦).

__________________

(١) التذكرة ( ١ : ٦٧ ).

(٢) المنتهى ( ١ : ١٨٥ ، ١٨٦ ) ، تحرير الأحكام ( ١ : ٢٥ ).

(٣) الخلاف ( ١ : ٨ ).

(٤) صحيح مسلم ( ٣ : ١٦٣٨ ـ ٥ ).

(٥) المستدرك ( ٢ : ٥٩٧ ) أبواب الأواني ب (٤٢) ح (٥) ، صحيح مسلم ( ٣ : ١٦٣٤ ـ ٢٠٦٥ ) ، سنن البيهقي ( ١ : ٢٩ ) ، ولكن الرواية فيها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٦) التهذيب ( ٩ : ٩١ ـ ٣٩٠ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٨٣ ) أبواب النجاسات ب (٦٥) ح (١).

٣٧٩

______________________________________________________

وفي الحسن ، عن الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « لا تأكل في آنية من فضة ولا في آنية مفضضة » (١).

وعن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام : أنه نهى عن آنية الذهب والفضة (٢).

وعن داود بن سرحان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا تأكل في آنية الذهب والفضة » (٣).

والمشهور بين الأصحاب تحريم اتخاذ أواني الذهب والفضة لغير الاستعمال أيضا ، وبه قطع المصنف ـ رحمه‌الله ـ في المعتبر (٤) ، لأنه تعطيل للمال فيكون سرفا لعدم الانتفاع به ، ولما رواه الشيخ عن موسى بن بكر ، عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام قال : « آنية الذهب والفضة متاع الذين لا يوقنون » (٥).

واستقرب العلاّمة في المختلف الجواز استضعافا لأدلة المنع (٦). وهو حسن ، إلاّ أن المنع أولى ، لأن اتخاذ ذلك وإن كان جائزا بالأصل فربما يصير محرما بالعرض ، لما فيه من إرادة العلوّ في الأرض ، وطلب الرئاسة المهلكة.

فروع :

الأول : لا يحرم المأكول والمشروب في أواني الذهب والفضة ، لأن النهي عن‌

__________________

(١) التهذيب ( ٩ : ٩٠ ـ ٣٨٦ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٨٥ ) أبواب النجاسات ب (٦٦) ح (١).

(٢) الكافي ( ٦ : ٢٦٧ ـ ٤ ) ، التهذيب ( ٩ : ٩٠ ـ ٣٨٥ ) ، المحاسن : ( ٥٨١ ـ ٥٩ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٨٣ ) أبواب النجاسات ب (٦٥) ح (٣).

(٣) الكافي ( ٦ : ٢٦٦ ـ ١ ) ، التهذيب ( ٩ : ٩٠ ـ ٣٨٤ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٨٣ ) أبواب النجاسات ب (٦٥) ح (٢).

(٤) المعتبر ( ١ : ٤٥٦ ).

(٥) التهذيب ( ٩ : ٩١ ـ ٣٨٩ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٨٤ ) أبواب النجاسات ب (٦٥) ح (٤).

(٦) المختلف : (٦٣).

٣٨٠