مدارك الأحكام - ج ٢

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي

مدارك الأحكام - ج ٢

المؤلف:

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

______________________________________________________

والجورب. وعن ابن إدريس ـ رحمه‌الله ـ : أنه خص الحكم بالملابس (١) ، واختاره العلامة ـ رحمه‌الله ـ في جملة من كتبه (٢) ، واعتبر كونها في محالها. والمعتمد ما أطلقه المصنف ـ رحمه الله تعالى.

لنا : التمسك بمقتضى الأصل ، وهو براءة الذمة من التكليف بإزالة النجاسة عن هذه الأشياء إلى أن يثبت ما يخرج عنه ، وغاية ما يستفاد من النص (٣) والإجماع اشتراط طهارة الثوب والبدن ، أما المنع من حمل النجاسة في الصلاة إذا لم تتصل بشي‌ء من ذلك فلا دليل عليه كما اعترف به المصنف ـ رحمه‌الله ـ في المعتبر (٤).

ويؤيده ما رواه الشيخ في الموثق ، عن زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : « كل ما كان لا تجوز فيه الصلاة وحده فلا بأس أن يكون عليه الشي‌ء ، مثل القلنسوة ، والتكة ، والجورب » (٥).

وعن عبد الله بن سنان ، عمن أخبره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : « كلما كان على الإنسان أو معه مما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس أن يصلى فيه وإن كان فيه قذر ، مثل القلنسوة ، والتكة ، والكمرة ، والنعل ، والخفين ، وما أشبه ذلك » (٦).

وعن حماد بن عثمان ، عمن رواه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في الرجل يصلي في الخف الذي قد أصابه قذر فقال : « إذا كان مما لا تتم الصلاة فيه فلا بأس » (٧).

__________________

(١) السرائر : (٣٧).

(٢) كالمنتهى ( ١ : ١٧٤ ) ، والمختلف : (٦١) ، والقواعد ( ١ : ٨ ) ، والتحرير ( ١ : ٢٤ ).

(٣) الوسائل ( ٢ : ١٠٢٥ ) أبواب النجاسات ب (١٩).

(٤) المعتبر ( ١ : ٤٣٤ ).

(٥) التهذيب ( ٢ : ٣٥٨ ـ ١٤٨٢ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٤٥ ) أبواب النجاسات ب (٣١) ح (١).

(٦) التهذيب ( ١ : ٢٧٥ ـ ٨١٠ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٤٦ ) أبواب النجاسات ب (٣١) ح (٥).

(٧) التهذيب ( ١ : ٢٧٤ ـ ٨٠٧ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٤٥ ) أبواب النجاسات ب (٣١) ح (٢).

٣٢١

______________________________________________________

وعن إبراهيم بن أبي البلاد ، عمن حدثهم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « لا بأس بالصلاة في الشي‌ء الذي لا تجوز الصلاة فيه وحده يصيبه القذر ، مثل القلنسوة ، والتكة ، والجورب » (١).

وهذه الأخبار وإن كانت ما بين ضعيف ومرسل إلا أنّ ما تضمنته من العفو عن نجاسة هذه الأشياء مطابق لمقتضى الأصل وفتوى الأصحاب ، فلا بأس بالعمل بمضمونها.

وهنا مباحث :

الأول : قال ابن بابويه في من لا يحضره الفقيه : ومن أصاب قلنسوته ، أو عمامته ، أو تكته ، أو جوربه ، أو خفه : مني ، أو بول ، أو دم ، أو غائط ، فلا بأس بالصلاة فيه ، وذلك أنّ الصلاة لا تتم في شي‌ء من هذا وحده (٢).

ويشكل بأنّ العمامة قد تتم الصلاة فيها وحدها إذا كانت كبيرة بحيث يمكن ستر العورة بها ، فلا يتم إطلاق جعلها من أفراد ما لا تتم الصلاة فيه. ولعل المراد : أنّ الصلاة لا تتم فيها وحدها مع بقائها على تلك الكيفية المخصوصة ، أو تحمل على العمامة الصغيرة التي لا يمكن ستر العورة بها ، كالعصابة ، كما ذكره القطب الراوندي ـ رحمه الله تعالى ـ (٣). وهذا أولى وإن كان الإطلاق محتملا لما أشرنا إليه سابقا (٤) من انتفاء ما يدل على اعتبار طهارة ما عدا الثوب والجسد ، والعمامة لا يصدق عليها اسم الثوب عرفا مع كونها على تلك الكيفية المخصوصة.

__________________

(١) التهذيب ( ٢ : ٣٥٨ ـ ١٤٨١ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٤٦ ) أبواب النجاسات ب (٣١) ح (٤).

(٢) الفقيه ( ١ : ٤٢ ).

(٣) نقله عنه في المعتبر ( ١ : ٤٣٥ ).

(٤) في ص (٣٢١).

٣٢٢

______________________________________________________

الثاني : لو حمل المصلي قارورة فيها نجاسة مشدودة الرأس لم تبطل صلاته على الأظهر ، وهو اختيار الشيخ في الخلاف (١) ، والمصنف في المعتبر (٢). وقطع في المبسوط بالبطلان (٣) ، واختاره ابن إدريس (٤) ، والعلامة في جملة من كتبه (٥) ، مع اعترافه في المنتهى : بأنه لم يقم على ذلك دليل عنده (٦).

واحتج عليه في المختلف بالاحتياط ، وبأنه حامل لنجاسة فتبطل صلاته كما لو كانت النجاسة على ثوبه أو بدنه (٧).

وضعف الوجهين ظاهر ، فإن الاحتياط ليس بدليل شرعي حتى يعارض أصالة البراءة. والثاني مصادرة على المطلوب ونحن نطالبه بالدلالة على أنّ حمل النجاسة مبطل للصلاة إذا لم تتصل بالثوب أو البدن.

وعلى ما ذكرناه فلا حاجة إلى شدّ رأس القارورة ، بل يكفي الأمن من التعدي كما نبه عليه في الذكرى ، قال : ومن اعتبر القيد من العامة لم يقل بالعفو عما لا تتم الصلاة فيه وحده ، بل مأخذه القياس على حمل الحيوان (٨).

الثالث : إذا جبر عظمه بعظم نجس وجب قلعه ما لم يخف التلف أو المشقة ، ذكر ذلك جماعة من الأصحاب ، واحتمل الشهيد ـ رحمه‌الله ـ في الذكرى عدم الوجوب إذا اكتسى اللحم ، لالتحاقه بالباطن (٩) ، وهو متجه. وجزم الشيخ في المبسوط ببطلان‌

__________________

(١) الخلاف ( ١ : ١٨٩ ).

(٢) المعتبر ( ١ : ٤٤٣ ).

(٣) المبسوط ( ١ : ٩٤ ).

(٤) السرائر : (٣٨).

(٥) كالمختلف : (٦٣) ، والقواعد ( ١ : ٩ ).

(٦) المنتهى ( ١ : ١٨٤ ).

(٧) المختلف : (٦٣).

(٨) الذكرى : (١٧).

(٩) الذكرى : (١٧).

٣٢٣

______________________________________________________

الصلاة لو أخل بالقلع مع الإمكان ، لأنه حامل لنجاسة غير معفو عنها (١). وهو مشكل لخروجها عن حد الظاهر ، ولأنها نجاسة متصلة كاتصال دمه فيكون معفوا عنها.

ولو جبره بعظم ميت طاهر العين في حال الحياة غير الآدمي جاز ، لأن الموت لا ينجس به عظم ولا شعر على ما بيناه.

ولو جبره بعظم آدمي أمكن القول بالجواز لطهارته ، ولما رواه الحسين بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أنه سأله عن الرجل يسقط سنه فيأخذ سن ميت مكانه قال : « لا بأس » (٢). ولو قلنا بوجوب دفنه تعين القول بالمنع لذلك.

الرابع : قال في التذكرة : لو أدخل دما نجسا تحت جلده وجب عليه إخراج ذلك الدم مع عدم الضرر ، وإعادة كل صلاة صلاها مع ذلك الدم (٣). ويشكل بخروجه عن حد الظاهر ، وبصيرورته كجزء من دمه. وأولى بالعفو ما لو احتقن دمه بنفسه (٤) تحت الجلد ، وجزم الشهيد في البيان بوجوب إخراجه (٥) ، وهو بعيد جدا.

الخامس : قال في المنتهى : لو شرب خمرا أو أكل ميتة ففي وجوب قيئه نظر ، أقربه الوجوب ، لأن شربه محرم فاستدامته كذلك (٦). وهو أحوط وإن كان في تعينه نظر. ولو أخل بذلك لم تبطل صلاته ، وربما قيل بالبطلان ، كما في حمل القارورة المشتملة على النجاسة ، وهو ضعيف.

__________________

(١) المبسوط ( ١ : ٩٢ ).

(٢) مكارم الأخلاق : (٩٥) ، الوسائل ( ٣ : ٣٠٢ ) أبواب لباس المصلي ب (٣١) ح (٤) ، وفيهما : عن زرارة مع تفاوت يسير.

(٣) التذكرة ( ١ : ٩٨ ).

(٤) كذا في النسخ ، والأنسب : نفسه.

(٥) البيان : (٤١).

(٦) المنتهى ( ١ : ١٨٥ ).

٣٢٤

وتعصر الثياب من النجاسات كلّها

______________________________________________________

السادس : قال في التذكرة : لو كان الخاتم أو أحد الأشياء المعفو عنها نجسا وصلى في المسجد لم تصح صلاته ، للنهي عن الكون في المسجد بنجاسة. قال : وكذا لو كانت النجاسة معفوا عنها في الثوب كالدم اليسير (١). وهو جيد لو ثبت ما ادعاه من النهي عن الكون في المسجد بنجاسة ، لتوجه النهي على هذا التقدير إلى جزء العبادة. لكنه غير ثابت ، فإنا لم نقف لهم في هذا الحكم على مستند سوى ما رواه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « جنبوا مساجدكم النجاسة » (٢) وهو مع عدم وضوح سنده لا يقتضي النهي عن نفس الكون ، إلا أن يقول بوجوب الإزالة على الفور ، واقتضاء الأمر بالشي‌ء النهي عن ضده الخاص ، وقد تقدم الكلام فيه.

قوله : وتعصر الثياب من النجاسات كلّها.

المراد بالعصر : الاجتهاد في إخراج الماء المغسول به من المحل بليّة ، أو كبسه ، أو تغميزه. وقد قطع المصنف وأكثر الأصحاب بتوقف طهارة الثياب ونحوها مما يرسب فيه الماء عليه. واحتج عليه في المعتبر : بأن النجاسة ترسخ في الثوب فلا تزول إلا بالعصر ، وبأنّ الغسل إنما يتحقق في الثوب ونحوه بالعصر وبدونه يكون صبا لا غسلا (٣).

واستدل عليه في المنتهى أيضا (٤) بأن الماء ينجس بملاقاة الثوب فتجب إزالته بقدر الإمكان ، وبرواية أبي العباس الصحيحة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « إذا أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله ، وإن مسه جافا فاصبب عليه الماء » (٥)

__________________

(١) التذكرة ( ١ : ٩٦ ).

(٢) الوسائل ( ٣ : ٥٠٤ ) أبواب أحكام المساجد ب (٢٤) ح (٢).

(٣) المعتبر ( ١ : ٤٣٥ ).

(٤) المنتهى ( ١ : ١٧٥ ).

(٥) التهذيب ( ١ : ٢٦١ ـ ٧٥٩ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠١٥ ) أبواب النجاسات ب (١٢) ح (١).

٣٢٥

______________________________________________________

ورواية الحسين بن أبي العلاء ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : وسألته عن الثوب يصيبه البول ، قال : « اغسله مرتين » وسألته عن الصبي يبول على الثوب ، قال : « تصب عليه الماء قليلا ثم تعصره » (١).

هذا نهاية ما استدلوا به على هذا الحكم ، وفي الجميع نظر :

أما الأول : فلأنه إنما يقتضي وجوب العصر إذا توقف عليه إخراج عين النجاسة ، ولا ريب فيه ، لكن المدعى أعم من ذلك ، فلا يصلح مستندا لإيجاب العصر على وجه العموم.

وأما الثاني فلأنا لا نسلّم دخول العصر في مفهوم الغسل لغة أو عرفا ، بل الظاهر تحققه بالصب المشتمل على الاستيلاء والجريان والانفصال سواء عصر أم لا.

وأما الثالث : فلأنا نمنع نجاسة الماء مع وروده على النجاسة ، لانتفاء الدليل عليه كما بيناه فيما سبق. سلمنا النجاسة لكن اللازم من ذلك الاكتفاء بما تحصل به الإزالة وإن كان بمجرد الجفاف ، فلا يتعين العصر. وما قيل من أنا نظن انفصال أجزاء النجاسة مع الماء بالعصر بخلاف الجفاف المجرد (٢) ، فدعوى مجردة عن الدليل ، على أنه يمكن أن يقال بطهارة المختلف من الماء على المحل المغسول مع العصر وبدونه ، لعموم الأدلة الدالة على طهارته بالغسل المتحقق بصب الماء على المحل مع استيلائه عليه وانفصاله عنه ، وقد اعترف الأصحاب بطهارة المتخلف في المحل المغسول بعد العصر وإن أمكن إخراجه بعصر ثان أقوى من الأول ، والحكم واحد عند التأمل.

وأما الروايتان فلا دلالة لهما على المدعى بوجه ، أما الأولى : فلأنها إنما تدل على‌

__________________

(١) الكافي ( ٣ : ٥٥ ـ ١ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٤٩ ـ ٧١٤ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٧٤ ـ ٦٠٣ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٠١ ) أبواب النجاسات ب (١) ح (٤).

(٢) كما في الذكرى : (١٤).

٣٢٦

______________________________________________________

مغايرة الغسل للصب ولا كلام فيه ، خصوصا مع تصريحهم بأن المراد بالصب الرشّ. وإثبات المغايرة بينهما لا تتوقف على اعتبار العصر في الغسل كما بيناه.

وأما الثانية : فلأنها إنما تضمنت الأمر بالعصر في بول الصبي ، والظاهر أنّ المراد به الرضيع كما يدل عليه الاكتفاء في طهارته بصب الماء القليل عليه ، مع اعتبار المرتين في غيره ، وهي متروكة عند الأصحاب ، ويمكن حملها على الاستحباب ، أو على أنّ المراد بالعصر : ما يتوقف عليه إخراج عين النجاسة من الثوب ، فإنّ ذلك واجب قطعا. وكيف كان فلا يتم الاستدلال بها على المطلوب.

ولو قيل بعدم اعتبار العصر إلا إذا توقف عليه زوال عين النجاسة كان قويا ، ومال إليه شيخنا المحقق سلمه الله تعالى (١).

وينبغي التنبيه لأمور :

الأول : اعتبر المصنف ـ رحمه‌الله ـ في المعتبر العصر مرتين فيما يجب غسله كذلك (٢). واكتفى الشهيد في اللمعة بعصر بين الغسلتين (٣).

وقال الصدوق ـ رحمه‌الله ـ في من لا يحضره الفقيه : والثوب إذا أصابه البول غسل في ماء جار مرة ، وإن غسل في ماء راكد فمرتين ثم يعصر (٤). ومقتضى ذلك الاكتفاء بعصر واحد بعد الغسلتين.

ويمكن بناء الأقوال الثلاثة على الوجه المقتضي لاعتبار العصر ، فإن قلنا أنه دخوله في مسمّى الغسل وعدم تحققه بدونه ـ كما ذكره المصنف رحمه‌الله في المعتبر ـ وجب تعدده بتعدد الغسل قطعا. وإن قلنا أنه زوال أجزاء النجاسة الراسخة في الثوب به اتجه اعتباره‌

__________________

(١) مجمع الفائدة ( ١ : ٣٣٣ ).

(٢) المعتبر ( ١ : ٤٣٥ ).

(٣) اللمعة الدمشقية : (١٧).

(٤) الفقيه ( ١ : ٤٠ ).

٣٢٧

______________________________________________________

في الغسل الأول خاصة إذا حصلت به الإزالة. وإن قلنا أنه نجاسة الماء بملاقاة الثوب ـ كما ذكره في المنتهى ـ اتجه الاكتفاء بعصر بعد الغسلتين لحصول الغرض منه وانتفاء الفائدة في فعله قبل الغسلة الثانية ، لبقاء النجاسة مع العصر وبدونه.

ولا ريب أنّ ما ذهب إليه المصنف ـ رحمه‌الله ـ من التعدد أحوط ، وإن كان الاكتفاء بالعصر الواحد بعد الغسلتين أقوى.

الثاني : إطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق في اعتبار العصر بين أن يقع الغسل في القليل والكثير ، وربما كان الوجه فيه : ما ادعاه المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ من عدم تحقق الغسل بدونه ، وهو ضعيف جدا.

وجزم العلامة ـ رحمه‌الله ـ في التذكرة والنهاية (١) ومن تأخر عنه (٢) : باختصاص الحكم بالقليل وسقوطه في الكثير ، ووجهه معلوم مما قررناه.

الثالث : أوجب العلامة ـ رحمه الله تعالى ـ في النهاية في طهارة الجسد ونحوه من الأجسام الصلبة دلكه (٣) ، لما فيه من الاستظهار في إزالة النجاسة ، ولقوله عليه‌السلام في رواية عمار وقد سأله عن القدح الذي يشرب فيه الخمر : « لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرات » (٤) وهو ـ مع ضعف سنده ، واحتمال أن يكون الغرض من الدلك الاستظهار في إزالة ما عسى أن يكون مستكنا في القدح من أجزاء الخمر لئلا يتصل بما يحصل فيه من المأكول والمشروب ـ معارض بما رواه عمار أيضا عن الصادق عليه‌

__________________

(١) التذكرة ( ١ : ٩ ) ، ونهاية الأحكام ( ١ : ٢٧٩ ).

(٢) كالشهيد الأول في البيان : (٤٠).

(٣) نهاية الأحكام ( ١ : ٢٧٧ ).

(٤) الكافي ( ٦ : ٤٢٧ ـ ١ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٨٣ ـ ٨٣٠ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٧٤ ) أبواب النجاسات ب (٥١) ح (١).

٣٢٨

______________________________________________________

السلام من الاكتفاء في غسل الإناء من الخمر بالمرة الخالية من الدلك (١).

والمعتمد الاستحباب ، ولو لم تزل عين النجاسة إلا بالدلك وجب القطع باعتباره.

الرابع : لو كان النجس بساطا أو فراشا يعسر عصره غسل ما ظهر في وجهه ، قاله في المنتهى (٢) ، ورواه إبراهيم بن أبي محمود في الصحيح قال ، قلت للرضا عليه‌السلام : الطنفسة والفراش يصيبهما البول كيف يصنع به فهو ثخين كثير الحشو؟ قال : « يغسل ما ظهر منه في وجهه » (٣).

ولو سرت النجاسة في أجزائه وجب غسل الجميع ، واكتفي بالدق والتغميز ، قاله الأصحاب. واحتج عليه في المنتهى (٤) بما رواه الكليني عن إبراهيم بن عبد الحميد ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الثوب يصيبه البول فينفذ من الجانب الآخر وعلى الفرو وما فيه من الحشو ، قال : « اغسل ما أصاب منه ، ومسّ الجانب فإن أصبت مس شي‌ء فاغسله وإلا فانضحه بالماء » (٥) ولا دلالة في الرواية على ما ذكره.

الخامس : اعتبر السيد المرتضى ـ على ما نقل عنه ـ في إزالة النجاسة بالقليل : ورود الماء على النجاسة ، فلو عكس نجس الماء ولم يفد المحل طهارة (٦). وبه قطع العلامة ـ رحمه الله تعالى ـ في جملة من كتبه (٧). والفرق إنما يتجه لو قلنا بنجاسة القليل‌

__________________

(١) لم نعثر عليها ، ولكن وردت رواية عن عمار أطلق فيها الغسل من دون ذكر العدد والدلك كما في الوسائل ( ١٧ : ٢٩٤ ) أبواب الأشربة المحرمة ب (٣٠) ح (١).

(٢) المنتهى ( ١ : ١٧٦ ).

(٣) الكافي ( ٣ : ٥٥ ـ ٢ ) ، الفقيه ( ١ : ٤١ ـ ١٥٩ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٥١ ـ ٧٢٤ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٠٤ ) أبواب النجاسات ب (٥) ح (١).

(٤) المنتهى ( ١ : ١٧٦ ).

(٥) الكافي ( ٣ : ٥٥ ـ ٣ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٠٤ ) أبواب النجاسات ب (٥) ح (٢).

(٦) المسائل الناصرية ( الجوامع الفقهية ) : (١٧٩).

(٧) كالمنتهى ( ١ : ١٧٦ ) ، والقواعد ( ١ : ٩ ) ، والتذكرة ( ١ : ٩ ).

٣٢٩

______________________________________________________

بورود النجاسة عليه دون العكس ، كما ذهب اليه المرتضى ـ رضي‌الله‌عنه ـ في المسائل الناصرية ، ولا فلا فرق بين الأمرين ، لصدق الغسل مع ورود الماء على النجاسة وعكسه.

واستوجه الشهيد في الذكرى عدم اعتبار ذلك ، قال : لأن امتزاج الماء بالنجاسة حاصل على كل تقدير ، والورود لا يخرجه عن كونه ملاقيا للنجاسة (١). ومقتضى كلامه : أنّ الماء ينجس بورود النجاسة عليه مع طهارة المحل المغسول ، وهو مشكل ، إلا أنّ الوقوف مع ظاهر الأخبار (٢) يقتضيه ، إذ غاية ما يستفاد منها : نجاسة الماء بورود النجاسة عليه ، المتحقق من ذلك المنع من استعماله بعد ذلك خاصة ، كما يظهر لمن تتبع الأحاديث الدالة على انفعال القليل بالملاقاة وأمعن النظر في تأملها ، وذلك لا ينافي طهارة المحل المغسول فيه ، إذ لا دليل على امتناعه ، مع أنّ ذلك بعينه آت عند القائلين بنجاسة الغسالة ولو مع ورود الماء على النجاسة ، كما لا يخفى على المتأمل.

وبالجملة فلا وجه لاعتبار الورود إلا نجاسة الماء بورود المنجس عليه ، واستبعاد حصول الطهارة لذلك المنجس مع نجاسة الماء به ، فإن ثبتت المنافاة بين الأمرين تعيّن اشتراط الورود بناء على ما ذهب إليه المرتضى ـ رضي‌الله‌عنه ـ من عدم نجاسة الماء على هذا التقدير ، وإلا اتجه عدم الفرق بين الورود وعدمه تمسكا بالإطلاق.

ويشهد له قوله عليه‌السلام في صحيحة محمد بن مسلم ـ وقد سأله عن الثوب يصيبه البول ـ : « اغسله في المركن مرتين » (٣) فإن المركن هو الإجانة التي يغسل فيها الثياب ، والغسل فيها لا يكاد يتحقق معه الورود. والمسألة محل تردد ، ولا ريب أنّ‌

__________________

(١) الذكرى : (١٥).

(٢) الوسائل ( ١ : ١١٢ ) أبواب الماء المطلق ب (٨).

(٣) التهذيب ( ١ : ٢٥٠ ـ ٧١٧ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٠٢ ) أبواب النجاسات ب (٢) ح (١).

٣٣٠

______________________________________________________

اعتبار الورود أولى وأحوط.

ومن هنا يظهر وجه الاكتفاء في تطهير الإناء بصب الماء فيه ثم تحريكه حتى يستوعب ما نجس منه ثم تفريغه. وتشهد له أيضا رواية عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سئل عن الكوز أو الإناء يكون قذرا ، كيف يغسل وكم مرة يغسل؟ قال : « ثلاث مرات ، يصب فيه الماء فيحرك فيه ، ثم يفرغ منه ذلك الماء ، ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ، ثم يفرغ منه ذلك الماء ، ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ، ثم يفرغ منه وقد طهر » (١).

السادس : ذكر جمع من الأصحاب أنّ ما لا تنفصل الغسالة منه بالعصر ، كالصابون ، والورق ، والفواكه ، والخبز ، والحبوب ، وما جرى هذا المجرى ، لا يطهر بالغسل في القليل ، بل يتوقف طهارته على غسله في الكثير.

وهو مشكل ، أما أولا : فللحرج والضرر اللازم من ذلك.

وأما ثانيا : فلأن ما يتخلف في هذه المذكورات من الماء ربما كان أقل من المتخلف في الحشايا بعد الدق والتغميز ، وقد حكموا بطهارتها بذلك.

وأما ثالثا : فلعدم ثبوت تأثير مثل ذلك في المنع مع إطلاق الأمر بالغسل ، المتحقق بالقليل والكثير.

السابع : حكم العلامة ـ رحمه‌الله ـ في التذكرة بطهارة المائع دهنا كان أو غيره إذا طرح في كر أو جار بحيث يسري الماء إلى جميع أجزائه قبل إخراجه منه (٢).

وقال في المنتهى : الدهن المنجس لا يطهر بالغسل ، نعم لو صبه في كر ماء وما مازجت‌

__________________

(١) التهذيب ( ١ : ٢٨٤ ـ ٨٣٢ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٧٦ ) أبواب النجاسات ب (٥٣) ح (١).

(٢) التذكرة ( ١ : ٩ ).

٣٣١

إلا من بول الرضيع ، فإنه يكفي صب الماء عليه.

______________________________________________________

أجزاء الماء أجزاءه واستظهر على ذلك بالبصر بحيث يعلم وصول الماء إلى جميع أجزائه طهر (١).

قلت : لا ريب في الطهارة مع العلم بوصول الماء إلى كل جزء من أجزاء المائع ، إلا أنّ ذلك لا يكاد يتحقق في الدهن ، لشدة اتصال أجزائه ، بل ولا في غيره من المائعات إلا مع خروجه عن تلك الحقيقة وصيرورته ماءا مطلقا.

قوله : إلا من بول الرضيع ، فإنه يكفي صبّ الماء عليه.

هذا مذهب الأصحاب لا نعلم فيه مخالفا. قال في المعتبر : وبه قال الشافعي وأحمد ، وقال أبو حنيفة : يغسل كغيره (٢). وربما ظهر من ذلك عدم تحقق الخلاف فيه بين الأصحاب. ونقل عليه في الخلاف إجماع الفرقة (٣).

والمستند فيه : الأصل السالم عما يصلح للمعارضة ، لانتفاء العموم في البول الذي يجب غسل الثوب منه ، وما رواه الشيخ في الحسن ، عن الحلبي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن بول الصبي ، قال : « يصب عليه الماء ، فإن كان قد أكل فاغسله غسلا ، والغلام والجارية شرع سواء » (٤).

ولا ينافي ذلك ما رواه الحسين بن أبي العلاء ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : وسألته عن الصبي يبول على الثوب قال : « يصب عليه الماء قليلا ثم يعصره » (٥) لأنا‌

__________________

(١) المنتهى ( ١ : ١٨٠ ).

(٢) المعتبر ( ١ : ٤٥٠ ).

(٣) الخلاف ( ١ : ١٨١ ).

(٤) التهذيب ( ١ : ٢٤٩ ـ ٧١٥ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٧٣ ـ ٦٠٢ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٠٣ ) أبواب النجاسات ب (٣) ح (٢).

(٥) الكافي ( ٣ : ٥٥ ـ ١ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٤٩ ـ ٧١٤ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٧٤ ـ ٦٠٣ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٠٢ ) أبواب النجاسات ب (٣) ح (١).

٣٣٢

______________________________________________________

نجيب عنه أولا بعدم وضوح السند ، فإن الراوي وهو الحسين بن أبي العلاء لم ينص الأصحاب على توثيقه (١). وثانيا بالحمل على الاستحباب ، أو على أنّ المراد بالعصر ما يتوقف عليه إخراج عين النجاسة من الثوب ، فإنّ ذلك واجب عند من قال بنجاسة هذا البول.

ويعتبر في الصب الاستيعاب لما أصابه البول لا الانفصال ، على ما قطع به الأصحاب ، ودل عليه إطلاق النص ، إلا أن يتوقف عليه زوال عين النجاسة ، مع احتمال الاكتفاء به مطلقا ، لإطلاق النص.

وحكى العلامة في التذكرة قولا بالاكتفاء فيه بالرشّ ، قال : فيجب فيه التعميم ولا يكفي إصابة الرش بعض موارد النجاسة (٢). وبه قطع في النهاية (٣) ، إلا أنه اعتبر في حقيقة الرش الاستيعاب وجعله أخص من النضح ، وفرق بينه وبين الغسل باعتبار السيلان والتقاطر في الغسل دون الرش. وهو بعيد ، لنص أهل اللغة على أنّ النضح والرش بمعنى واحد (٤) ، وصدقهما لغة وعرفا بدون الاستيعاب.

والمشهور بين الأصحاب : اختصاص الحكم بالصبي ، ووجوب الغسل من بول الصبية كالبالغ. ونقل عن علي بن بابويه أنه ساوى بين بول الصبي والصبية في ذلك ، وهو الظاهر من حسنة الحلبي المتقدمة ، حيث قال فيها : « والغلام والجارية شرع سواء » (٥).

__________________

(١) كالنجاشي في رجاله : (٣٩) ، والطوسي في رجاله : ( ١٦٩ ـ ٥٩ ).

(٢) التذكرة ( ١ : ٩ ).

(٣) نهاية الأحكام ( ١ : ٢٨٩ ).

(٤) القاموس المحيط ( ١ : ٢٦٢ ) ، الصحاح ( ١ : ٤١١ ) ، النهاية لابن الأثير ( ٢ : ٢٢٥ ). نضح البيت ينضحه : رشّه.

(٥) في ص (٣٣٢).

٣٣٣

وإذا علم موضع النجاسة غسل ، وإن جهل غسل كل موضع يحصل فيه الاشتباه.

______________________________________________________

وأجاب عنها في المعتبر بحمل التسوية على التسوية في التنجيس ، لا في حكم الإزالة (١) ، وهو بعيد جدا.

والحكم وقع في الرواية معلقا على بول المولود الذي لم يأكل لا على الرضيع (٢) ، والظاهر أنّ المراد به : من لم يأكل الطعام أكلا مستندا إلى شهوته وإرادته ، كما ذكره في المنتهى (٣). وقال المصنف ـ رحمه‌الله ـ في المعتبر : والمعتبر أن يطعم ما يكون غذاءا ، ولا عبرة بما يلعق دواء أو من الغذاء في الندرة ، ولا تصغ إلى من يعلق الحكم بالحولين فإنه مجازف ، بل لو استقل بالغذاء قبل الحولين تعلق ببوله وجوب الغسل (٤).

قوله : ولو علم موضع الملاقاة غسل ، ولو جهل غسل كل موضع يحصل فيه الاشتباه.

هذا قول علمائنا وأكثر العامة ، قاله في المعتبر ، واستدل عليه بأن النجاسة موجودة على اليقين ولا يحصل اليقين بزوالها إلا بغسل جميع ما وقع فيه الاشتباه (٥). ويشكل بأن تعيّن النجاسة يرتفع بغسل جزء مما وقع فيه الاشتباه يساوي قدر النجاسة وإن لم يحصل القطع بغسل ذلك المحل بعينه.

ويدل على وجوب غسل الجميع صريحا ما رواه الشيخ في الصحيح ، عن محمد ـ وهو ابن مسلم ـ عن أحدهما عليهما‌السلام أنه قال في المني الذي يصيب الثوب : « فإن عرفت مكانه فاغسله ، وإن خفي عليك فاغسله كله » (٦).

__________________

(١) المعتبر ( ١ : ٤٣٧ ).

(٢) المتقدمة في ص (٣٣٢).

(٣) المنتهى ( ١ : ١٧٦ ).

(٤) المعتبر ( ١ : ٤٣٦ ).

(٥) المعتبر ( ١ : ٤٣٨ ).

(٦) التهذيب ( ١ : ٢٦٧ ـ ٧٨٤ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٠٦ ) أبواب النجاسات ب (٧) ح (١).

٣٣٤

______________________________________________________

وعن ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال سألته عن المني يصيب الثوب ، قال : « إن عرفت مكانه فاغسله ، وإن خفي عليك مكانه فاغسل الثوب كله » (١).

وفي الصحيح عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ـ في حديث طويل ـ قال ، قلت : فإني قد علمت أنه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال : « تغسل ثوبك من الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك » (٢).

وفي الحسن عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : وسألته عن أبوال الدواب والبغال والحمير ، فقال : « اغسله ، فإن لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كله » (٣).

وعن سماعة ، قال : سألته عن المني يصيب الثوب ، قال : « اغسل الثوب كله إذا خفي عليك مكانه ، قليلا كان أو كثيرا » (٤).

ولا يخفى أنّ الحكم بوجوب غسل الجميع ـ لتوقف الواجب عليه أو للنصّ ـ لا يقتضي الحكم بنجاسة كل جزء من أجزائه ، فلو لاقى بعض المحل المشتبه جسم طاهر برطوبة فالأظهر بقاؤه على الطهارة ، استصحابا لحكمه قبل الملاقاة إلى أن يحصل اليقين‌

__________________

(١) الكافي ( ٣ : ٥٣ ـ ١ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٥١ ـ ٧٢٥ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٠٧ ) أبواب النجاسات ب (٧) ح (٧).

(٢) التهذيب ( ١ : ٤٢١ ـ ١٣٣٥ ) ، الاستبصار ( ١ : ١٨٣ ـ ٦٤١ ) ، علل الشرائع : ( ٣٦١ ـ ١ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٠٦ ) أبواب النجاسات ب (٧) ح (٢) ، وفيها : تغسل من ثوبك.

(٣) الكافي ( ٣ : ٥٧ ـ ٢ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٦٤ ـ ٧٧١ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٧٨ ـ ٦٢٠ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٠٦ ) أبواب النجاسات ب (٧) ح (٦).

(٤) الكافي ( ٣ : ٥٤ ـ ٣ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٥٢ ـ ٧٢٧ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٠٧ ) أبواب النجاسات ب (٧) ح (٨).

٣٣٥

ويغسل الثوب والبدن من البول مرّتين.

______________________________________________________

بملاقاته للنجاسة. وفي خبر زرارة المتقدم : « ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا ».

قوله : ويغسل الثوب والبدن من البول مرّتين.

هذا هو المشهور بين الأصحاب ، وأسنده في المعتبر إلى علمائنا مؤذنا بدعوى الإجماع عليه (١). والأصل فيه : الأخبار المستفيضة ، كصحيحة ابن أبي يعفور ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن البول يصيب الثوب ، قال : « اغسله مرتين » (٢).

وصحيحة محمد بن مسلم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الثوب يصيبه البول ، قال : « اغسله في المركن مرتين ، فإن غسلته في ماء جار فمرة واحدة » (٣).

ورواية الحسين بن أبي العلاء ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن البول يصيب الجسد ، قال : « صبّ عليه الماء مرتين فإنما هو ماء » وسألته عن الثوب يصيبه البول ، قال : « اغسله مرتين » (٤).

واستقرب العلامة في المنتهى الاكتفاء فيه بما تحصل به الإزالة ولو بالمرة (٥). وبه جزم الشهيد ـ رحمه‌الله ـ ( في البيان ) (٦) فإنه اكتفى بالإنقاء في جميع النجاسات (٧). وهو مشكل ، لأن فيه اطراحا للأخبار الصحيحة من غير معارض. نعم لو قيل باختصاص‌

__________________

(١) المعتبر ( ١ : ٤٣٥ ).

(٢) التهذيب ( ١ : ٢٥١ ـ ٧٢٢ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٠١ ) أبواب النجاسات ب (١) ح (٢).

(٣) التهذيب ( ١ : ٢٥٠ ـ ٧١٧ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٠٢ ) أبواب النجاسات ب (٢) ح (١).

(٤) الكافي ( ٣ : ٥٥ ـ ١ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٤٩ ـ ٧١٤ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٠١ ) أبواب النجاسات ب (١) ح (٤).

(٥) المنتهى ( ١ : ١٧٥ ).

(٦) ليست في « م » و « س ».

(٧) البيان : (٤٠).

٣٣٦

______________________________________________________

المرتين بالثوب والاكتفاء في غيره بالمرة المزيلة للعين كان وجها قويا (١) ، للأصل ، وحصول الغرض من الإزالة ، وإطلاق الأمر بالغسل المتناول للمرة ، وضعف الأخبار المتضمنة للمرتين في غير الثوب (٢).

ولم يتعرض المصنف ـ رحمه‌الله ـ في هذا الكتاب الغير البول من النجاسات ، وقد اختلف فيه كلام الأصحاب فنقل عن الشيخ في المبسوط أنه قال : لا يراعى العدد في شي‌ء من النجاسات إلا في الولوغ (٣). ومقتضى كلامه الاكتفاء بالمرة المزيلة للعين حتى في البول أيضا ، وبه قطع الشهيد ـ رحمه‌الله ـ في البيان ، ومال إليه في الذكرى لإطلاق الأمر بالغسل المتناول للمرة (٤). واعتبر في المعتبر المرة بعد إزالة العين أخذا بالإطلاق (٥). وأوجب العلامة في التحرير المرتين فيما له قوام وثخن كالمني دون غيره (٦). وقال في المنتهى : النجاسات التي لها قوام وثخن ـ كالمني ـ أولى بالتعدد في الغسلات ، قال : ويؤيده قول أبي عبد الله عليه‌السلام عن البول : « فإنما هو ماء » (٧) فإنه يدل بمفهومه على أنّ غير الماء أكثر عددا. وما رواه الشيخ في الصحيح ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أنه ذكر المني فشدده وجعله أشد من البول (٨) (٩).

ويتوجه على الأول منع أولوية التعدد بعد إزالة العين ، بل غاية ما يستفاد من ذلك‌

__________________

(١) في « م » : قريبا.

(٢) الوسائل ( ٢ : ١٠٠١ ) أبواب النجاسات ب (١).

(٣) المبسوط ( ١ : ٣٧ ).

(٤) الذكرى : (١٥).

(٥) المعتبر ( ١ : ٤٣٥ ).

(٦) تحرير الأحكام ( ١ : ٢٤ ).

(٧) المتقدم في ص (٣٣٦).

(٨) التهذيب ( ١ : ٢٥٢ ـ ٧٣٠ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٢٣ ) أبواب النجاسات ب (١٦) ح (٢).

(٩) المنتهى ( ١ : ١٧٥ ).

٣٣٧

______________________________________________________

توقف الإزالة في هذه النجاسات على أمر زائد على ما يعتبر في البول ، وهو مسلم ، وأقله الحت والفرك المزيل لعين النجاسة ، أما اعتبار التعدد فلا يدل عليه ، خصوصا إن اعتبر بعد إزالة العين. وقريب من ذلك الكلام في الرواية الأولى.

أما الرواية الثانية فلا دلالة لها على المطلوب بوجه ، إذ الظاهر منها أنّ التشديد في المني إنما هو في وجوب إزالته ، وبطلان الصلاة مع الإخلال بذلك ، ردا لما ذهب اليه بعض العامة من القول بطهارته (١) ، وليس في الرواية تعرض لحال الغسل.

وذهب الشهيد ـ رحمه‌الله ـ في اللمعة والرسالة (٢) ، والمحقق الشيخ علي ـ رحمه‌الله ـ (٣) إلى وجوب المرتين في الجميع.

والمعتمد الاجتزاء بالمرة المزيلة للعين مطلقا ، لما بيناه فيما سبق من انتفاء ما يدل على نجاسة شي‌ء من الأعيان بهذا العنوان ، وإنما استفيد نجاستها من أحد أمرين : إما أمر الشارع بغسل ما أصابته ، والامتثال يتحقق بالمرة ، أو بإجماع الأصحاب على النجاسة ، وهو منتف بعد الغسلة الواحدة فيزول المقتضي للتنجيس ، ولا يعارض باستصحاب حكم النجاسة لضعف التمسك به كما بيناه مرارا ، ولأنه بتقدير تسليمه إنما يتمشى في الحكم المطلق لا المقيّد كما لا يخفى.

وهنا مباحث :

الأول : إطلاق العبارة يقتضي اعتبار المرتين في غسل الثوب والبدن من البول سواء كان بالقليل أم الكثير ، الراكد أم الجاري. وصرح المصنف ـ رحمه‌الله ـ في المعتبر في مسألة الولوغ باعتبار التعدد في الكثير مطلقا ، إلا أنه اكتفى في تحقق المرتين في الجاري‌

__________________

(١) كالشافعي في كتاب الأم ( ١ : ١٧ ).

(٢) اللمعة الدمشقية : (١٧) ، والرسالة الألفية : (٣٨).

(٣) جامع المقاصد ( ١ : ١٧ ).

٣٣٨

______________________________________________________

بتعاقب الجريتين عليه (١).

وقال العلامة في المنتهى في أحكام الأواني : إنّ الجسم المنجس إذا وقع في الكثير من الراكد احتسب بوضعه في الماء ومرور الماء على أجزائه غسلة ، وإن خضخضه وحرّكه بحيث يمر عليه أجزاء غير الأجزاء التي كانت ملاقية له احتسب بذلك غسلة ثانية ، كما لو مرت عليه جريات من الجاري (٢). ومقتضى ذلك اعتبار التعدد في الجاري والراكد.

واعتبر الشيخ نجيب الدين في الجامع التعدد في الراكد دون الجاري (٣).

وجزم العلامة في التذكرة والنهاية (٤) ، والشهيدان (٥) ، والمحقق الشيخ علي (٦) ـ رحمه‌الله ـ بسقوط التعدد فيهما معا. وهو المعتمد ، للأصل ، وإطلاق الأمر بالغسل ، وقوله عليه‌السلام في صحيحة محمد بن مسلم الواردة في الثوب إذا أصابه البول : « اغسله في المركن مرتين ، فإن غسلته في ماء جاز فمرة واحدة » (٧) ولا معارض لذلك إلا التمسك بإطلاق الروايات المتضمنة للمرتين في غسل الثوب من البول (٨) ، والظاهر منها كون الغسل في القليل.

الثاني : ظاهر عبارات الأصحاب اعتبار الفصل بين الغسلتين لتحقق التعدد ، ونقل عن ابن الجنيد التصريح بذلك. واكتفى الشهيد في الذكرى باتصال الماء بقدر الغسلتين (٩) ، وهو مشكل. نعم لو كان الاتصال بقدر زمان الغسلتين والقطع أمكن‌

__________________

(١) المعتبر ( ١ : ٤٦٠ ).

(٢) المنتهى ( ١ : ١٩١ ).

(٣) الجامع للشرائع : (٢٢).

(٤) التذكرة ( ١ : ٩ ) ، ونهاية الأحكام ( ١ : ٢٧٩ ).

(٥) الشهيد الأول في اللمعة : (١٧) ، والشهيد الثاني في روض الجنان : (١٦٧).

(٦) جامع المقاصد ( ١ : ١٧ ).

(٧) المتقدمة في ص (٣٣٠).

(٨) الوسائل ( ٢ : ١٠٠١ ) أبواب النجاسات ب (١).

(٩) الذكرى : (١٥).

٣٣٩

______________________________________________________

الاكتفاء به فيما لا يعتبر تعدد العصر فيه ، لأن اتصال الماء في زمان القطع لا يكون أضعف حكما من عدمه.

الثالث : النجاسة إن كانت عينية اعتبر في طهارة المحل منها زوال عين النجاسة قطعا ، ويدل عليه قول الرضا عليه‌السلام في صحيحة الحسن الوشاء : « ينقي الدم » (١) وفي حسنة ابن المغيرة وقد سأله هل للاستنجاء حد؟ قال : « لا حتى ينقى ما ثمّة » (٢).

وقطع المصنف ـ رحمه‌الله ـ في المعتبر بعدم وجوب إزالة اللون والرائحة ، لأنهما عرضان لا يحملان النجاسة ، قال : وعليه إجماع العلماء (٣). وجزم العلامة في المنتهى والنهاية بوجوب إزالة اللون مع الإمكان (٤) ، واعتبر في النهاية إزالة الطعم أيضا لسهولة إزالته.

والأصح ما اختاره المصنف ـ رحمه‌الله ـ من الاكتفاء بزوال العين ، لأصالة عدم وجوب إزالة ما عداه ، ولا يعارض باستصحاب حكم النجاسة ، لما بيناه غير مرة.

ويؤيده رواية علي بن أبي حمزة عن العبد الصالح عليه‌السلام ، قال : سألته أم ولد لأبيه فقالت : أصاب ثوبي دم الحيض وغسلته فلم يذهب أثره ، فقال : « اصبغيه بمشق (٥) » (٦) ومثله روى عيسى بن أبي منصور ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٧). ولو‌

__________________

(١) التهذيب ( ١ : ٣٤٨ ـ ١٠٢٤ ) ، الوسائل ( ١ : ١٨٩ ) أبواب نواقض الوضوء ب (٧) ح (١١).

(٢) الكافي ( ٣ : ١٧ ـ ٩ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٨ ـ ٧٥ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٣٣ ) أبواب النجاسات ب (٢٥) ح (٢).

(٣) المعتبر ( ١ : ٤٣٦ ).

(٤) المنتهى ( ١ : ١٧١ ) ، ونهاية الأحكام ( ١ : ٢٧٩ ).

(٥) المشق بالكسر : المغرة : وهو طين أحمر ( مجمع البحرين ٥ : ٢٣٦ ).

(٦) الكافي ( ٣ : ٥٩ ـ ٦ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٧٢ ـ ٨٠٠ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٣٣ ) أبواب النجاسات ب (٢٥) ح (١).

(٧) التهذيب ( ١ : ٢٧٢ ـ ٨٠١ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٣٣ ) أبواب النجاسات ب (٢٥) ح (٣).

٣٤٠