مدارك الأحكام - ج ٢

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي

مدارك الأحكام - ج ٢

المؤلف:

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

ويكره بول البغال والحمير والدواب.

______________________________________________________

قوله : ويكره بول البغال ، والحمير ، والدواب.

اختلف الأصحاب في أبوال البغال ، والحمير ، والدواب ، فذهب الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابي الحديث والمبسوط (١) ، وابن إدريس ـ رحمه‌الله ـ (٢) وأكثر الأصحاب إلى طهارتها ، وكراهة مباشرتها. وقال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في النهاية (٣) وأبو علي ابن الجنيد (٤) بنجاستها ، وقواه شيخنا المعاصر سلمه الله تعالى (٥).

احتج الأولون بما رواه الشيخ ، عن المعلى بن خنيس وعبد الله بن أبي يعفور ، قالا : كنا في جنازة وقربنا حمار ، فبال فجاءت الريح ببوله حتى صكّت وجوهنا وثيابنا ، فدخلنا على أبي عبد الله عليه‌السلام فأخبرناه ، فقال : « ليس عليكم شي‌ء » (٦).

وما رواه ابن بابويه ـ رحمه‌الله ـ عن أبي الأغر النخاس : أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام فقال : إني أعالج الدواب ، فربما خرجت بالليل وقد بالت وراثت فتضرب إحداها بيدها أو برجلها فينضح على ثوبي فقال : « لا بأس به » (٧).

وبأن لحومها حلال على كراهية ، فيكون بولها طاهرا ، لما رواه زرارة في الحسن أنهما قالا : « لا تغسل ثوبك من بول شي‌ء يؤكل لحمه » (٨).

__________________

(١) التهذيب ( ١ : ٤٢٢ ) ، والاستبصار ( ١ : ١٧٩ ) ، والمبسوط ( ١ : ٣٦ ).

(٢) السرائر : (٣٦).

(٣) النهاية : (٥١).

(٤) نقله عنه في المختلف : (٥٦).

(٥) مجمع الفائدة ( ١ : ٣٠١ ).

(٦) التهذيب ( ١ : ٤٢٥ ـ ١٣٥١ ) ، وفي الاستبصار ( ١ : ١٨٠ ـ ٦٢٨ ) ، والوسائل ( ٢ : ١٠١١ ) أبواب النجاسات ب (٩) ح (١٤) بتفاوت يسير.

(٧) الفقيه ( ١ : ٤١ ـ ١٦٤ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٠٩ ) أبواب النجاسات ب (٩) ح (٢).

(٨) الكافي ( ٣ : ٥٧ ـ ١ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٦٤ ـ ٧٦٩ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠١٠ ) أبواب النجاسات ب (٩) ح (٤).

٣٠١

______________________________________________________

وأجيب عن الروايتين الأوليين : بالطعن في السند ، أما الاولى فلأن من جملة رجالها الحكم بن مسكين وهو مجهول ، وإسحاق بن عمار وقال الشيخ : إنه فطحي (١). وأما الثانية فلأن راويها وهو أبو الأغر مجهول ، فلا تعويل على روايته.

وعن الرواية الثالثة : بأنها إنما تدل على الطهارة من حيث العموم ، وهو لا يصلح معارضا للأخبار المتضمنة للأمر بغسل الثوب من ذلك (٢) ، لأن الخاص مقدّم كما حقق في محله.

احتج القائلون بالنجاسة بما رواه الشيخ في الصحيح ، عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل يمسّه بعض أبوال البهائم أيغسله أم لا؟ قال : « يغسل بول الفرس ، والحمار ، والبغل ، فأما الشاة وكل ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله » (٣).

وفي الصحيح عن الحلبي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن أبوال الخيل والبغال ، قال : « اغسل ما أصابك منه » (٤).

وفي الحسن عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : وسألته عن أبوال الدواب ، والبغال ، والحمير ، فقال : « اغسله ، فإن لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كله ، فإن شككت فانضحه » (٥).

__________________

(١) الفهرست : (١٥).

(٢) الوسائل ( ٢ : ١٠٠٧ ) أبواب النجاسات ب (٨).

(٣) التهذيب ( ١ : ٢٦٦ ـ ٧٨٠ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٧٩ ـ ٦٢٤ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠١١ ) أبواب النجاسات ب (٩) ح (٩).

(٤) التهذيب ( ١ : ٢٦٥ ـ ٧٧٤ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٧٨ ـ ٦٢٢ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠١١ ) أبواب النجاسات ب (٩) ح (١١).

(٥) الكافي ( ٣ : ٥٧ ـ ٢ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٦٤ ـ ٧٧١ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٧٨ ـ ٦٢٠ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠١٠ ) أبواب النجاسات ب (٩) ح (٦).

٣٠٢

القول في أحكام النجاسات :

تجب إزالة النجاسات عن الثياب والبدن للصلاة والطواف

______________________________________________________

وأجاب عنها الأولون بالحمل على الاستحباب ، وهو مشكل ، لانتفاء ما يصلح للمعارضة.

هذا كله في أبوالها ، وأما أرواثها فيمكن القول بنجاستها أيضا ، لعدم القائل بالفصل. ولا يبعد الحكم بطهارتها ، تمسكا بمقتضى الأصل السالم من المعارض ، وقول الصادق عليه‌السلام في رواية الحلبي : « لا بأس بروث الحمر ، واغسل أبوالها » (١).

وفي رواية أبي مريم : وقد سأله عن أبوال الدواب وأرواثها : « أما أبوالها فاغسل ما أصابك ، وأما أرواثها فهي أكثر من ذلك » (٢) يعني أنّ كثرتها تمنع التكليف بإزالتها.

ويشهد له أيضا ما رواه عبد الله بن جعفر الحميري في كتابه قرب الإسناد ، عن أحمد وعبد الله ابني محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن علي بن رئاب ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الروث يصيب ثوبي وهو رطب ، قال : « إن لم تقذره فصل فيه » (٣).

قوله : تجب إزالة النجاسة عن الثياب والبدن للصلاة والطواف.

لا يخفى أنه إنما تجب إزالة النجاسة عن الثوب والبدن للصلاة والطواف إذا كانا واجبين ، وكانت النجاسة مما لا يعفى عنها ، ولم يكن عنده غير الثوب النجس. وإنما أطلق ذلك اعتمادا على الظهور.

__________________

(١) الكافي ( ٣ : ٥٧ ـ ٦ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٦٥ ـ ٧٧٣ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٧٨ ـ ٦٢١ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٠٩ ) أبواب النجاسات ب (٩) ح (١).

(٢) الكافي ( ٣ : ٥٧ ـ ٥ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٦٥ ـ ٧٧٥ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٧٨ ـ ٦٢٣ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠١١ ) أبواب النجاسات ب (٩) ح (٨).

(٣) قرب الإسناد : (٧٦) ، الوسائل ( ٢ : ١٠١٢ ) أبواب النجاسات ب (٩) ح (١٦).

٣٠٣

______________________________________________________

والمشهور بين الأصحاب أنه لا فرق في ذلك بين قليل النجاسة وكثيرها عدا الدم ، تمسكا بالأحاديث الدالة على وجوب إزالة النجاسات على الإطلاق.

وقال ابن الجنيد : كل نجاسة وقعت على ثوب وكانت عينها فيه مجتمعة أو منقسمة دون سعة الدرهم الذي يكون سعته كعقد الإبهام الأعلى لم ينجس الثوب بذلك ، إلا أن تكون النجاسة دم حيض أو منيا ، فإن قليلهما وكثيرهما سواء (١). ولم نقف له في ذلك على مستند.

ويدل على اعتبار طهارة الثوب والجسد في الصلاة : إجماع العلماء ، قاله في المعتبر (٢) ، والأخبار المستفيضة المتضمنة للأمر بغسل الثوب والجسد من النجاسات (٣) ، إذ من المعلوم أنّ الغسل لا يجب لنفسه وإنما هو لأجل العبادة وقد وقع التصريح في الأخبار الصحيحة بإعادة الصلاة بنجاسة الثوب بالبول ، والمني ، والمسكر ، وقدر الدرهم من الدم ، وعذرة الإنسان والسنور والكلب ، ورطوبة الخنزير (٤) وربما لاح من كثير من الأخبار ثبوت الإعادة مع العلم بنجاسة الثوب مطلقا (٥).

وأما الطواف فقد ذهب الأكثر إلى اشتراط طهارة الثوب والجسد فيه ، واحتجوا عليه بقوله عليه‌السلام : « الطواف بالبيت صلاة » (٦) وهو قاصر من حيث السند والمتن. وسيجي‌ء تمام الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) نقله عنه في المختلف : (٥٩).

(٢) المعتبر ( ١ : ٤٣١ ).

(٣) الوسائل ( ٢ : ١٠٢٥ ) أبواب النجاسات ب (١٩).

(٤) الوسائل ( ٢ : ) أبواب النجاسات ب ( ٨ ، ١٢ ، ١٣ ، ٢٠ ).

(٥) الوسائل ( ٢ : ١٠٢٤ ) أبواب النجاسات ب (١٨).

(٦) غوالي اللآلي ( ٢ : ١٦٧ ـ ٣ ) ، سنن الدارمي ( ٢ : ٤٤ ).

٣٠٤

ودخول المساجد. وعن الأواني لاستعمالها.

______________________________________________________

قوله : ودخول المساجد.

جعل دخول المساجد غاية لإزالة النجاسة ، وعطفه على الصلاة والطواف يقتضي عدم الفرق بين النجاسة المتعدية الى المسجد وغيرها. وقريب منه قوله في أحكام المساجد : ولا يجوز إدخال النجاسة إليها ، فإنه شامل للجميع. وبذلك جزم العلامة ـ رحمه‌الله ـ في أكثر كتبه حتى قال في التذكرة : لو كان معه خاتم نجس وصلى في المسجد لم تصح صلاته (١). واستدلوا على ذلك بقوله تعالى ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ) (٢) رتب النهي على النجاسة فيكون تقريبها حراما ، ومتى ثبت التحريم في المسجد الحرام ثبت في غيره ، إذ لا قائل بالفرق. وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « جنبوا مساجدكم النجاسة » (٣).

ويتوجه على الأول : أنّ النجس لغة : المستقذر كما بيناه (٤) ، والواجب الحمل عليه إلى أن تثبت الحقيقة الشرعية ، ولم يثبت كون المعنى المصطلح عليه عند الفقهاء حقيقة شرعية. سلمنا الثبوت لكن النهي إنما ترتب على نجاسة المشرك خاصة ، فإلحاق غيرها بها يحتاج إلى الدليل وهو منتف هنا. سلمنا ذلك لكن النهي إنما تعلق بقرب المسجد الحرام خاصة ، وعدم الظفر بالقائل بالفرق بينه وبين غيره لا يدل على العدم فيحتمل الفرق.

وعلى الثاني : الطعن في الرواية بعدم الوقوف على السند ، والمراسيل لا تنهض حجة في إثبات حكم مخالف للأصل. وأيضا فإن مجانبة النجاسة المساجد تتحقق بعدم تعدّيها إليها ، فيحصل به الامتثال ، ولا يلزم من ذلك تحريم إدخالها مع عدم التعدي. ومن ثم‌

__________________

(١) التذكرة ( ١ : ٩٦ ).

(٢) التوبة : (٢٨).

(٣) الوسائل ( ٣ : ٥٠٤ ) أبواب أحكام المساجد ب (٢٤) ح (٢).

(٤) في ص (٢٩٤).

٣٠٥

______________________________________________________

ذهب جمع من المتأخرين (١) إلى عدم تحريم إدخال النجاسة الغير المتعدية إلى المسجد أو فرشه. ولا بأس به اقتصارا فيما خالف الأصل على موضع الوفاق إن تم.

ويؤيده ما نقله الشيخ في الخلاف من الإجماع على جواز الحيّض من النساء في المساجد مع عدم انفكاكهن من النجاسة غالبا (٢) ، وقوله عليه‌السلام في صحيحة معاوية ابن عمار الواردة في المستحاضة : « وإن كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت ودخلت المسجد ، وصلت كل صلاة بوضوء » (٣) وفي هذا الخبر تلويح بتحريم إدخال النجاسة المتعدية.

وألحق الشهيدان بالمساجد في هذا الحكم : الضرائح المقدسة والمصحف وآلاته الخاصة به كالجلد ، ولا بأس به (٤).

وقد قطع الأصحاب بوجوب إزالة النجاسة عن المساجد على الفور كفاية ، لعموم الخطاب ، وفيه توقف. قال في الذكرى : ولو أدخلها مكلف تعيّن عليه الإخراج (٥). وظاهره عدم مخاطبة غيره بالإزالة ، وهو محتمل.

ولو أخلّ بالإزالة وصلى مع ضيق الوقت صحت صلاته قطعا ، ولو صلى مع السعة فقولان مبنيان على أنّ الأمر بالشي‌ء هل يقتضي النهي عن ضده الخاص أم لا؟ وهي مسألة مشكلة.

__________________

(١) منهم الشهيد في الذكرى ( ١٤ ، ١٥٧ ) ، والشهيد الثاني في المسالك ( ١ : ١٧ ) ، والمحقق الكركي في جامع المقاصد ( ١ : ١٧ ).

(٢) الخلاف ( ١ : ١٩٦ ).

(٣) الكافي ( ٣ : ٨٨ ـ ٢ ) ، التهذيب ( ١ : ١٠٦ ـ ٢٧٧ ) ، وص ( ١٧٠ ـ ٤٨٤ ) ، الوسائل ( ٢ : ٦٠٤ ) أبواب الاستحاضة ب (١) ح (١).

(٤) الشهيد الأول في الذكرى : (١٤) ، والدروس : (١٧) ، والبيان : (٤٠) ، والشهيد الثاني في المسالك ( ١ : ١٧ ).

(٥) الذكرى : (١٥٧).

٣٠٦

______________________________________________________

وتلخيص البحث فيها : أنه لا خلاف بين القائلين باقتضاء الأمر الوجوب في أنّ الأمر بالشي‌ء يقتضي النهي عن ضده العام الذي هو ترك المأمور به أو كف النفس عنه ، لأنه جزء ماهية الوجوب الذي هو مدلول الأمر عندهم. وإنما الخلاف في الأضداد الوجودية الواقعة في ضمن الترك ، فذهب الأكثر إلى أنّ الأمر بالشي‌ء لا يستلزم النهي عن هذه الأضداد الخاصة ، لأنها ليست نفس الترك المنهي عنه ، ولا جزءه ، ولا علة فيه ، وليسا معلولي علة واحدة فلا يلزم من تحريمه تحريمها. ولأنه لا امتناع في أن يقول الشارع : أوجبت عليك كلا الأمرين لكن أحدهما مضيق والآخر موسع ، فإن قدّمت المضيق فقد امتثلت وسلمت من الإثم ، وإن قدّمت الموسع فقد امتثلت وأثمت بالمخالفة في التقديم.

وقيل بالاستلزام بمعنى أنه يلزم من ملاحظة الأمر كون الآمر كارها لتلك الأضداد وإن لم يكن مشعرا بها حالة الطلب ، فإنّ القصد إنما يعتبر في الخطاب الصريح لا الضمني ، كما في الضد العام عند الجميع ومقدمة الواجب عند الأكثرين.

ورجح هذا القول شيخنا المحقق المعاصر أطال الله تعالى بقاءه واحتج عليه بوجوه :

الأول : إنّ فعل كل من الأضداد الخاصة مستلزم لترك ذلك الواجب المضيق فيكون محرما ، لأن مستلزم الحرام حرام.

الثاني : إنّ فعل الواجب المضيق موقوف على ترك أضداده الوجودية فيكون واجبا ، لأن ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب.

الثالث : إنه لو لم يحرم الضد الخاص وتلبس به المكلف ـ كالصلاة بالنسبة إلى أداء الدين مثلا ـ فإن بقي الخطاب بذلك الواجب المضيق لزم التكليف بالضدين وهو محال ، وإلاّ خرج الواجب المضيق عن كونه واجبا مضيقا ، وهو خلاف المفروض (١).

ويمكن الجواب عن الأول : بأنه إن أريد بالاستلزام العلية منعنا الصغرى ، وإن أريد‌

__________________

(١) مجمع الفائدة ( ١ : ٣٢٧ ).

٣٠٧

وعفي في الثوب والبدن عما يشقّ التحرز منه من دم القروح والجروح التي لا ترقى وإن كثر ،

______________________________________________________

به مجرد التوافق في الوجود منعنا الكبرى.

وعن الثاني : بأنه موقوف على وجوب مقدمة الواجب المطلق ، ولم يقم على ذلك دليل يعتدّ به. وأيضا : فإن وجوب المقدمة إنما كان ليتوصل بها إلى فعل الواجب ، ومع امتناع ذلك الواجب بوجود الصارف عنه وانتفاء الداعي إليه فلا تأثير لانتفاء مقدمته. نعم لو حصل الداعي إلى الفعل وتوقف على ترك الأضداد الخاصة اتجه وجوبه من باب المقدمة. ويتفرع على ذلك أنه لو أراد المكلف أداء الدين أو إزالة النجاسة عن المساجد مثلا في أثناء الصلاة وجب قطعها لذلك.

وعن الثالث : بأنه يمكن اختيار الشق الثاني ، وتخص الأوامر الدالة على وجوب أداء الدين مثلا على الفور بما إذا لم يكن المكلف متلبسا بواجب ، كما أنه مع تضيّق وقت الفريضة يجب تقديمها قطعا ، ولا يكون أداء الدين مضيقا في تلك الحال.

ومع ذلك فالقول بالاستلزام غير بعيد ، إذ ربما ظهر من حال الأمر بالشي‌ء في وقت معين كونه كارها لكل ما ينافيه في ذلك الوقت ، إلاّ أن يقال أنّ الكراهة لنفس الترك ، لا لما حصل في ضمنه من الأفعال. وفي المقام أبحاث طويلة لا يحتملها هذا التعليق.

قوله : وعفي في الثوب والبدن عما يشقّ التحرز عنه من دم القروح والجروح التي لا ترقى.

المراد برقوء الدم : سكونه وانقطاعه. وظاهر العبارة يقتضي كون العفو عن هذا الدم مخصوصا بما إذا شق التحرز منه ، وكان سائلا في جميع الوقت. واعتبر في المعتبر السيلان في جميع الوقت أو تعاقب الجريان على وجه لا تتسع فتراتها لأداء الفريضة (١).

وقيل بالعفو عنه مطلقا إلى أن تبرأ القروح والجروح ، سواء شقت إزالته أم لا ، وسواء‌

__________________

(١) المعتبر ( ١ : ٤٢٩ ).

٣٠٨

______________________________________________________

كان له فترة ينقطع فيها أم لم يكن ، واختاره جدي ـ قدس‌سره ـ في جملة من كتبه (١) ، والمحقق الشيخ علي ـ رحمه‌الله ـ (٢). وهو الظاهر من كلام الصدوق ـ رحمه‌الله ـ في من لا يحضره الفقيه ، إلاّ أنه خصّ الحكم بالجرح ، فقال : وإن كان بالرجل جرح سائل فأصاب ثوبه من دمه فلا بأس بأن لا يغسله حتى يبرأ وينقطع الدم (٣). وهذا هو المعتمد ، لكن ينبغي أن يراد بالبرء الأمن من خروج الدم منهما وإن لم يندمل أثرهما.

لنا : الأصل ، وما رواه الشيخ ، عن أبي بصير ، قال : دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام وهو يصلي ، فقال لي قائدي : إنّ في ثوبه دما ، فلما انصرف قلت له : إنّ قائدي أخبرني أنّ بثوبك دما ، فقال : « إنّ بي دماميل ، ولست أغسل ثوبي حتى تبرأ » (٤).

وفي الصحيح عن ليث المرادي قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يكون به الدماميل والقروح فجلده وثيابه مملوءة دما وقيحا ، فقال : « يصلي في ثيابه ولا يغسلها ولا شي‌ء عليه » (٥).

وفي الصحيح عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عليه‌السلام : الجرح يكون في مكان لا يقدر على ربطه فيسيل منه الدم والقيح فيصيب ثوبي ، فقال : « دعه فلا يضرك أن لا تغسله » (٦).

وفي الصحيح عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : سألته عن‌

__________________

(١) المسالك ( ١ : ١٨ ) ، والروضة البهية ( ١ : ٥٠ ) ، وروض الجنان : (١٦٥).

(٢) جامع المقاصد ( ١ : ١٧ ).

(٣) الفقيه ( ١ : ٤٣ ).

(٤) الكافي ( ٣ : ٥٨ ـ ١ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٥٨ ـ ٧٤٧ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٧٧ ـ ٦١٦ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٢٨ ) أبواب النجاسات ب (٢٢) ح (١).

(٥) التهذيب ( ١ : ٢٥٨ ـ ٧٥٠ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٢٩ ) أبواب النجاسات ب (٢٢) ح (٥).

(٦) التهذيب ( ١ : ٢٥٩ ـ ٧٥١ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٢٩ ) أبواب النجاسات ب (٢٢) ح (٦).

٣٠٩

______________________________________________________

الرجل تخرج به القروح فلا تزال تدمى كيف يصلي؟ فقال : « يصلي وإن كانت الدماء تسيل » (١).

وعن سماعة بن مهران ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « إذا كان بالرجل جرح سائل فأصاب ثوبه من دمه فلا يغسله حتى يبرأ وينقطع (٢) الدم » (٣).

وينبغي التنبيه لأمور :

الأول : يستفاد من هذه الروايات : العفو عن هذا الدم في الثوب والبدن سواء شقت إزالته أم لا ، وسواء كان له فترة ينقطع فيها بقدر الصلاة أم لا ، وإنه لا يجب إبدال الثوب ، ولا تخفيف النجاسة ، ولا عصب موضع الدم بحيث يمنعه من الخروج ، وهو كذلك.

واستقرب العلامة ـ رحمه‌الله ـ في المنتهى : وجوب الإبدال مع الإمكان (٤). ويدفعه قوله عليه‌السلام في صحيحة ليث المرادي : « يصلي في ثيابه ولا يغسلها ولا شي‌ء عليه ».

الثاني : لو لاقى هذا الدم نجاسة أخرى فلا عفو. وإن أصابه مائع طاهر كالعرق ونحوه فالأظهر سريان العفو إليه ، لإطلاق النص ومسّ الحاجة. واستقرب في المنتهى العدم ، قصرا للرخصة على موضع النص وهو الدم (٥) ، ولا ريب أنه أحوط.

الثالث : لو تعدّى الدم عن محل الضرورة في الثوب أو البدن احتمل بقاء العفو تمسكا بالإطلاق ، وعدمه لانتفاء المشقة بإزالته ، وهو خيرة المنتهى (٦).

__________________

(١) التهذيب ( ١ : ٢٥٨ ـ ٧٤٩ ) و ( ٣٤٨ ـ ١٠٢٥ ) ، الاستبصار ( ١ : ١٧٧ ـ ٦١٥ ) ، السرائر : (٤٧٣) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٢٩ ) أبواب النجاسات ب (٢٢) ح (٤).

(٢) في « س » و « ق » و « ح » : أو ينقطع.

(٣) التهذيب ( ١ : ٢٥٩ ـ ٧٥٢ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٣٠ ) أبواب النجاسات ب (٢٢) ح (٧).

(٤) المنتهى ( ١ : ١٧٢ ).

(٥) المنتهى ( ١ : ١٧٢ ).

(٦) المنتهى ( ١ : ١٧٢ ).

٣١٠

وعما دون الدرهم البغلي سعة من الدم المسفوح الذي ليس أحد الدماء الثلاثة. وما زاد عن ذلك تجب إزالته إن كان مجتمعا ،

______________________________________________________

الرابع : ذكر جمع من الأصحاب أنه يستحب لصاحب هذا العذر أن يغسل ثوبه كل يوم مرة ، لأن فيه تطهيرا غير مشق فكان مطلوبا ، ولما رواه الشيخ عن سماعة ، قال : سألته عن الرجل به القرح أو الجرح فلا يستطيع أن يربطه ، ولا يغسل دمه ، قال : « يصلي ولا يغسل ثوبه كل يوم إلا مرة ، فإنه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كل ساعة » (١) وفي السند ضعف.

قوله : وعما دون الدرهم البغلي من الدم المسفوح الذي ليس أحد الدماء الثلاثة ، وما زاد على ذلك تجب إزالته إن كان مجتمعا.

أجمع الأصحاب على أنّ الدم المسفوح ـ وهو الخارج من ذي النفس ـ الذي ليس أحد الدماء الثلاثة ، ولا دم القروح والجروح إن كان أقل من درهم بغلي لم يجب إزالته للصلاة ، وإن كان أزيد من مقدار الدرهم وجبت إزالته ، نقل ذلك المصنف ـ رحمه‌الله ـ في المعتبر (٢) والعلامة في جملة من كتبه (٣). وإنما الخلاف بينهم فيما بلغ قدر الدرهم ، فقال الشيخان (٤) ، وابنا بابويه (٥) ، وابن إدريس (٦) : يجب إزالته ، لقوله عليه‌السلام : « إنما يغسل الثوب من البول والمني والدم » (٧) فإنه يقتضي بإطلاقه :

__________________

(١) الكافي ( ٣ : ٥٨ ـ ٢ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٥٨ ـ ٧٤٨ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٧٧ ـ ٦١٧ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٢٩ ) أبواب النجاسات ب (٢٢) ح (٢).

(٢) المعتبر ( ١ : ٤٢٩ ).

(٣) المختلف : (٦٠) ، والقواعد ( ١ : ٨ ) ، والمنتهى ( ١ : ١٧٢ ).

(٤) المفيد في المقنعة : (١٠) ، والشيخ في المبسوط ( ١ : ٣٦ ).

(٥) الصدوق في الهداية : (١٥) ، ونقله عن والده في المختلف : (٦٠).

(٦) السرائر : (٣٥).

(٧) المعتبر ( ١ : ٤٣٢ ).

٣١١

______________________________________________________

وجوب إزالة الدم كيف كان ، خرج من ذلك ما وقع الاتفاق على العفو عنه ، وهو ما دون الدرهم ، فيبقى الباقي. ولما رواه عبد الله بن أبي يعفور في الصحيح قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في دم البراغيث؟ قال : « ليس به بأس » قال ، قلت : إنه يكثر ويتفاحش ، قال : « وإن كثر » قال ، قلت : فالرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ، ثم يعلم فينسى أن يغسله ، فيصلي ثم يذكر بعد ما صلى ، أيعيد صلاته؟ قال : « يغسله ولا يعيد صلاته ، إلا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعا فيغسله ويعيد الصلاة » (١).

وهي صريحة في المطلوب ، إذ لو كان العفو عن مقدار الدرهم ثابتا لما وجب إعادة الصلاة مع نسيان غسله.

وما رواه جميل بن دراج ، عن بعض أصحابه ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أنهما قالا : « لا بأس بأن يصلي الرجل في الثوب وفيه الدم متفرقا شبه النضح ، وإن كان قد رآه صاحبه قبل ذلك فلا بأس به ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم » (٢).

وقال السيد المرتضى في الانتصار (٣) ، وسلار (٤) : لا يجب إزالته تمسكا بمقتضى الأصل وإطلاق الأمر بالصلاة فلا يتقيد إلا بدليل.

ويدل عليه ما رواه الشيخ في الحسن ، عن محمد بن مسلم قال ، قلت له : الدم يكون في الثوب عليّ وأنا في الصلاة ، قال : « إن رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصلّ ، وإن‌

__________________

(١) التهذيب ( ١ : ٢٥٥ ـ ٧٤٠ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٧٦ ـ ٦١١ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٣٠ ) أبواب النجاسات ب (٢٣) ح (١).

(٢) التهذيب ( ١ : ٢٥٦ ـ ٧٤٢ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٧٦ ـ ٦١٢ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٢٦ ) أبواب النجاسات ب (٢٠) ح (٤).

(٣) الانتصار : (١٣).

(٤) المراسم : (٥٥).

٣١٢

______________________________________________________

لم يكن عليك غيره فامض في صلاتك ولا إعادة عليك ، وما لم يزد على مقدار الدرهم فليس بشي‌ء رأيته أو لم تره ، فإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلاة كثيرة فأعد ما صليت » (١).

وعن إسماعيل الجعفي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال في الدم يكون في الثوب : « فإن كان أقل من قدر الدرهم فلا يعيد الصلاة ، وإن كان أكثر من قدر الدرهم وكان رآه فلم يغسله حتى صلى فليعد صلاته ، وإن لم يكن رآه حتى صلى فلا يعيد الصلاة » (٢).

وجه الدلالة أنه عليه‌السلام رتب الإعادة على كون الدم أكثر من مقدار الدرهم فينتفي بانتفائه ، عملا بالشرط ، وهو منتف مع المساواة ، ولا يعارض بالمفهوم الأول ، لاعتضاد الثاني بأصالة البراءة.

وأجيب عن الرواية الأولى : بالطعن فيها بالإضمار (٣) ، فإن القائل مجهول ، فلعله ممن لا يجب اتباع قوله.

وعن الثانية : بأنها إنما دلّت على حكمي الزائد والناقص لا المساوي. وهما ضعيفان :

أما الثاني فلما بيناه من وجه الدلالة.

وأما الأول فلما أشرنا إليه مرارا من أنّ ذلك غير قادح ، إذ من المعلوم أنّ محمد بن مسلم لا يسأل في مثل ذلك غير الإمام عليه‌السلام. ويستفاد من كتب المتقدمين : أنّ‌

__________________

(١) الكافي ( ٣ : ٥٩ ـ ٣ ) ، الفقيه ( ١ : ١٦١ ـ ٧٥٨ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٥٤ ـ ٧٣٦ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٧٥ ـ ٦٠٩ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٢٧ ) أبواب النجاسات ب (٢٠) ح (٦).

(٢) التهذيب ( ١ : ٢٥٥ ـ ٧٣٩ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٧٥ ـ ٦١٠ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٢٦ ) أبواب النجاسات ب (٢٠) ح (٢).

(٣) كما في المنتهى ( ١ : ١٧٣ ).

٣١٣

______________________________________________________

الإضمار في مثل هذه الأحاديث إنما حصل من قطع الأخبار بعضها من بعض ، فإنّ الراوي كان يصرح باسم الإمام الذي روى عنه في أول الروايات ثم يقول : وسألته عن كذا ، وسألته عن كذا. إلى أن يستوفي الروايات التي رواها عن ذلك الإمام عليه‌السلام ، فلما حصل القطع توهم الإضمار ، فينبغي التنبيه لذلك. وبالجملة فالمستندان في هذه المسألة قويان.

ويمكن حمل الإعادة في مقدار الدرهم على الاستحباب. لكن إجمال الدرهم وعدم انضباط سعته ينفي فائدة هذا الاختلاف ، لعدم تحقق المساواة حينئذ ، فإنّ الروايات التي وقفت عليها في هذه المسألة إنما تضمنت تعليق الحكم على قدر الدرهم وما زاد أو نقص عنه (١) ، وليس فيها توصيف له بكونه بغليا (٢) أو غيره ، ولا تعيين لقدره ، والواجب حمله على ما كان متعارفا (٣) في زمانهم عليهم‌السلام.

وذكر الصدوق ـ رحمه‌الله ـ في من لا يحضره الفقيه : أنّ المراد بالدرهم : الوافي الذي وزنه درهم وثلث (٤) ، ونحوه قال المفيد في المقنعة (٥). وقال ابن الجنيد : إنه ما كانت سعته سعة العقد الأعلى من الإبهام (٦). ولم يذكروا تسميته بالبغلي. وقال المصنف ـ رحمه‌الله ـ في المعتبر : والدرهم هو الوافي الذي وزنه درهم وثلث (٧).

ويسمّى البغليّ نسبة إلى قرية بالجامعين ، وضبطها المتأخرون بفتح العين وتشديد‌

__________________

(١) الوسائل ( ٢ : ١٠٢٦ ) أبواب النجاسات ب (٢٠).

(٢) في « م » و « ح » : نقليا ، وما أثبتناه أنسب.

(٣) في « س » ، « ح » زيادة : في زمان من صدر منه الخطاب.

(٤) الفقيه ( ١ : ٤٢ ).

(٥) المقنعة : (١٠).

(٦) نقله عنه في المختلف : (٥٩).

(٧) المعتبر ( ١ : ٤٢٩ ).

٣١٤

______________________________________________________

اللام. ونقل عن ابن إدريس : أنه شاهد هذه الدراهم المنسوبة إلى هذه القرية ، وقال : إنّ سعتها تقرب من أخمص الراحة ، وهو ما انخفض من الكف (١).

ونقل الشهيد ـ رحمه‌الله ـ في الذكرى عن ابن دريد ـ رحمه الله تعالى ـ أنه قال : إنّ الدرهم الوافي هو البغلي ، بإسكان الغين ، منسوب إلى رأس البغل ، ضربه الثاني في خلافته بسكة كسروية ، وزنته ثمانية دوانيق. وقال : إن البغلية كانت تسمى قبل الإسلام : الكسروية ، فحدث لها هذا الاسم في الإسلام ، والوزن بحاله ، وجرت في المعاملة مع الطبرية ، وهي أربعة دوانيق ، فلما كان زمن عبد الملك ـ عليه لعنة الله ـ جمع بينهما واتخذ الدرهم منهما ، واستقر أمر الإسلام على ستة دوانيق (٢). هذا كلامه ـ رحمه الله تعالى.

ومقتضاه أنّ الدرهم كان يطلق على البغليّ وغيره ، وأنّ البغليّ ترك في زمن عبد الملك عليه اللعنة ، وهو متقدم على زمن الصادق عليه‌السلام قطعا ، فيشكل حمل النصوص الواردة منه عليه‌السلام عليه.

والمسألة قوية الإشكال ، لكن ما علم نقصه عن سعة الدرهم عادة فلا ريب في العفو عنه ، بل لا يبعد العفو عما لم يعلم بلوغه قدر الدرهم ، لأصالة البراءة من وجوب إزالته.

وهذه النصوص كما ترى متناولة بإطلاقها لدم الحيض وغيره ، إلا أنّ الأصحاب قطعوا باستثناء دم الحيض من ذلك وأوجبوا إزالة قليله وكثيره عن الثوب والبدن. وربما كان المستند فيه : ما رواه أبو سعيد عن أبي بصير ، قال : « لا تعاد الصلاة من دم لم‌

__________________

(١) السرائر : (٣٥).

(٢) الذكرى : (١٦).

٣١٥

______________________________________________________

تبصره إلا دم الحيض ، فإنّ قليله وكثيره في الثوب إن رآه وإن لم يره سواء » (١) وهي ـ مع ضعف سندها ـ موقوفة على أبي بصير ، وليس قوله حجة ، لكن قال في المعتبر : إنّ الحجة عمل الأصحاب بمضمونها وقبولهم لها (٢).

وألحق الشيخ به دم الاستحاضة والنفاس (٣) ، ولعله نظر إلى تساويها في إيجاب الغسل ، وأنّ النفاس حيض في المعنى ، والاستحاضة مشتقة منه.

وألحق القطب الراوندي ـ رحمه الله تعالى ـ بهذه الدماء الثلاثة : دم نجس العين (٤). نظرا إلى أنه يلاقي جسده ، ونجاسة جسده غير معفو عنها ، فكان كما لو أصاب الدم المعفو عنه نجاسة غير الدم.

والحق أنه إن ثبت عموم الدم المعفو عنه كان شاملا للدماء الثلاثة ودم نجس العين ، وشموله لدم نجس العين يجري مجرى النطق به ، ومع النطق به يسقط اعتبار نجاسته قطعا. وحينئذ فيتوقف استثناء هذه الدماء الأربعة على ثبوت المخصص. وإن لم يثبت العموم وجب القول باستثناء جميع ذلك ، لعموم ما دل على اشتراط طهارة الثوب والجسد.

وتنقيح المسألة يتم ببيان أمور :

الأول : مورد الروايات المتضمنة للعفو (٥) تعلق النجاسة بالثوب ، وقال في المنتهى : إنه لا فرق في ذلك بين الثوب والبدن ، وأسنده إلى الأصحاب ، لاشتراكهما في المشقة‌

__________________

(١) الكافي ( ٣ : ٤٠٥ ـ ٣ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٥٧ ـ ٧٤٥ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٢٨ ) أبواب النجاسات ب (٢١) ح (١).

(٢) المعتبر ( ١ : ٤٢٨ ).

(٣) المبسوط ( ١ : ٣٥ ) ، والنهاية : (٥١).

(٤) نقله عنه في السرائر : (٣٥) ، والمختلف : (٥٩).

(٥) الوسائل ( ٢ : ١٠٢٦ ) أبواب النجاسات ب (٢٠).

٣١٦

______________________________________________________

اللازمة من وجوب الإزالة (١). وهو جيد ، لمطابقته لمقتضى الأصل السالم عما يصلح للمعارضة.

ويشهد له رواية مثنى بن عبد السلام ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ، قلت له : إني حككت جلدي فخرج منه دم ، فقال : « إن اجتمع منه قدر حمصة فاغسله ، وإلا فلا » (٢) والظاهر أن المراد بقدر الحمصة قدرها وزنا لا سعة ، وهو يقرب من سعة الدرهم.

الثاني : لو أصاب الدم المعفو عنه مائع طاهر ولم يبلغ المجموع الدرهم ، ففي بقائه على العفو قولان : أظهرهما ذلك ، لأصالة البراءة من وجوب إزالته ، ولأن المنجّس بشي‌ء لا يزيد حكمه عنه ، بل غايته أن (٣) يساويه ، إذ الفرع لا يزيد على أصله. واستقرب العلامة في المنتهى : وجوب إزالته (٤) ، لأنه ليس بدم فوجبت إزالته بالأصل السالم عن المعارض ، ولأن الاعتبار بالمشقة المستندة إلى كثرة الوقوع ، وذلك غير موجود في صورة النزاع لندوره. وضعف الوجهين ظاهر. ولو أزال عين الدم بما لا يطهرها فلا ريب في بقاء العفو ، لخفة النجاسة حينئذ.

الثالث : لو أصاب الدم وجهي الثوب ، فإن كان بالتفشي فدم واحد ، وإلا فدمان. واعتبر الشهيد ـ رحمه‌الله ـ في الذكرى رقّة الثوب (٥) ، وهو حسن.

__________________

(١) المنتهى ( ١ : ١٧٣ ).

(٢) التهذيب ( ١ : ٢٥٥ ـ ٧٤١ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٧٦ ـ ٦١٣ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٢٧ ) أبواب النجاسات ب (٢٠) ح (٥).

(٣) كذا في النسخ ، والأنسب : أنه.

(٤) المنتهى ( ١ : ١٧٤ ).

(٥) الذكرى : (١٦).

٣١٧

وإن كان متفرقا ، قيل : هو عفو ، وقيل : تجب إزالته ، وقيل : لا تجب إلا أن يتفاحش ، والأول أظهر.

______________________________________________________

قوله : وإن كان متفرقا ، قيل : هو عفو ، وقيل : تجب إزالته ، وقيل : لا تجب إلا أن يتفاحش ، والأول أظهر.

اختلف الأصحاب في وجوب إزالة الدم المتفرق على الثوب أو البدن إذا كان بحيث لو جمع بلغ الدرهم ، فقال ابن إدريس ـ رحمه‌الله ـ : الأحوط للعبادة وجوب إزالته ، والأقوى والأظهر في المذهب عدم الوجوب (١). ونحوه قال الشيخ في المبسوط (٢). وهو خيرة المصنف ـ رحمه‌الله ـ هنا وفي النافع (٣).

وقال الشيخ في النهاية : لا تجب إزالته ما لم يتفاحش (٤). وهو خيرة المصنف ـ رحمه‌الله ـ في المعتبر (٥).

وقال سلار (٦) وابن حمزة (٧) : تجب إزالته. واختاره العلامة في جملة من كتبه (٨). والمعتمد الأول.

لنا : التمسك بمقتضى الأصل ، وما رواه عبد الله بن أبي يعفور في الصحيح قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يصلي وفي ثوبه نقط الدم ، فينسى أن يغسله ، فيصلي ثم يذكر ، قال : « يغسله ولا يعيد صلاته ، إلا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعا‌

__________________

(١) السرائر : (٣٥).

(٢) المبسوط ( ١ : ٣٦ ).

(٣) المختصر النافع : (١٨).

(٤) النهاية : (٥٢).

(٥) المعتبر ( ١ : ٤٣١ ).

(٦) المراسم : (٥٥).

(٧) الوسيلة : (٧٧).

(٨) المنتهى ( ١ : ١٧٣ ) ، والقواعد ( ١ : ٨ ) ، وتحرير الأحكام ( ١ : ٢٤ ).

٣١٨

______________________________________________________

فيغسله ويعيد الصلاة » (١).

وبهذه الرواية احتج المصنف في المعتبر على ما ذهب اليه من عدم وجوب الإزالة إلا مع التفاحش ، ثم قال : والرواية صحيحة سليمة من المعارض (٢). وهو حسن لكن لا دلالة في الرواية على ما اعتبره من القيد.

وأجاب عنها العلامة في المختلف (٣) : بأن « مجتمعا » كما يحتمل أن يكون خبرا ليكون ، يحتمل أن يكون حالا مقدرة واسمها ضمير يعود على نقط الدم ومقدار خبرها ، والمعنى : إلا أن يكون نقط الدم مقدار الدرهم إذا قدر اجتماعها.

وفيه نظر ، فإن تقدير الاجتماع هنا مما لا يدل عليه اللفظ ، ولو كانت الحال هنا مقدرة لكان الحديث مختصا بما قدر فيه الاجتماع لا بما حقق وهو خلاف الظاهر. ولو جعل « مجتمعا » حالا محققة أفادت اشتراط الاجتماع أيضا ، إذ يصير المعنى حينئذ : إلا أن يكون الدم مقدار الدرهم حال كونه مجتمعا. وكيف كان فدلالة الرواية على المطلوب واضحة.

احتج القائلون بوجوب الإزالة : بأن الحكم بالوجوب معلق على قدر الدرهم وهو أعم من أن يكون مجتمعا أو متفرقا ، وبأن الأصل وجوب الإزالة لقوله تعالى ( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) (٤) خرج من ذلك ما نقص عن الدرهم مجتمعا أو متفرقا فيبقى الباقي مندرجا في الإطلاق.

وبأنّ النجاسة البالغة قدرا معينا لا يتفاوت الحال باجتماعها وتفرقها في المحل.

__________________

(١) التهذيب ( ١ : ٢٥٥ ـ ٧٤٠ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٧٦ ـ ٦١١ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٢٦ ) أبواب النجاسات ب (٢٠) ح (١).

(٢) المعتبر ( ١ : ٤٣١ ).

(٣) المختلف : (٦٠).

(٤) المدثر : (٤).

٣١٩

وتجوز الصلاة فيما لا تتم الصلاة فيه منفردا وإن كان فيه نجاسة لم يعف عنها في غيره.

______________________________________________________

والجواب عن الأول معلوم مما قررناه. وعن الثاني : بأنّ الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتناوله للأمة يتوقف على الدلالة ، ولا دلالة. وعن الثالث : بأنه مصادرة على المطلوب ، إذ المدعى ثبوت الفرق بين حالتي الاجتماع والتفرّق.

تنبيه : قال في المعتبر : ليس للتفاحش تقدير شرعي ، وقد اختلف قول الفقهاء فيه ، فبعض قدّره بالشبر ، وبعض بما يفحش في القلب ، وقدّره أبو حنيفة بربع الثوب. والوجه أنّ المرجع فيه الى العادة ، لأنها كالأمارة الدالة على المراد باللفظ إذا لم يكن له تقدير (١). هذا كلامه ـ رحمه الله تعالى. وهو جيد لو كان لفظ التفاحش واردا في النصوص.

قوله : وتجوز الصلاة فيما لا تتم الصلاة فيه منفردا وإن كان فيه نجاسة لم يعف عنها في غيره.

المراد به ما لا يمكن إيقاع صلاة فيه اختيارا ، وإطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق فيما لا تتم الصلاة فيه بين كونه من الملابس وغيرها (٢) ، ولا في الملابس بين كونها في محالها أو لا ، وإلى هذا التعميم أشار في المعتبر (٣) ، ونقل عن القطب الراوندي ـ رحمه الله تعالى ـ (٤) : أنه حصر ذلك في خمسة أشياء : القلنسوة ، والتكة ، والخف ، والنعل ،

__________________

(١) المعتبر ( ١ : ٤٣١ ).

(٢) الجواهر ( ٦ : ١٣١ ). وكذا لا فرق فيما لا تتم فيه الصلاة بين كونه من جنس الساتر ، كالقلنسوة ونحوها وعدمه كالحلي من الخاتم ، والخلخال ، والسوار ، والدملج ، والمنطقة ، والسيف ، والسكين ، ونحوها بعد صدق اسم الملبوس.

(٣) المعتبر ( ١ : ٤٣٤ ).

(٤) المختلف : (٦١).

٣٢٠