مدارك الأحكام - ج ٢

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي

مدارك الأحكام - ج ٢

المؤلف:

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٢

الخامس : الدماء ، ولا ينجس منها إلا ما كان من حيوان له عرق ،

______________________________________________________

الله ـ في الذكرى حيث ذهب إلى وجوب الغسل بمسه ، لدوران الغسل معه وجودا وعدما (١). ولا ريب أنّ الاحتياط يقتضي المصير إلى ما ذكروه.

قوله : الخامس : الدماء ، ولا ينجس منها إلا ما كان من حيوان له عرق.

مذهب الأصحاب عدا ابن الجنيد ـ رحمه‌الله ـ نجاسة الدم كله قليله وكثيره ، عدا دم ما لا نفس له سائلة قاله في المعتبر (٢). وقال العلاّمة ـ رحمه‌الله ـ في التذكرة : الدم من ذي النفس السائلة نجس وإن كان مأكولا بلا خلاف (٣). وقال في المنتهى : قال علماؤنا : الدم المسفوح من كل حيوان ذي نفس سائلة ، أي يكون خارجا بدفع من عرق : نجس ، وهو مذهب علماء الإسلام (٤). والمراد بالمسفوح هنا مطلق الخارج من ذي النفس ، كما يدل عليه كلامه في سائر كتبه.

وحكى المصنف ـ رحمه‌الله ـ في المعتبر عن ابن الجنيد أنه قال : إذا كانت سعة الدم دون سعة الدرهم الذي سعته كعقد الإبهام الأعلى لم ينجس الثوب (٥).

ومقتضى كلامه ـ رحمه‌الله ـ عدم اختصاص ذلك بالدم فإنه قال في كتابه المختصر الأحمدي : كل نجاسة وقعت على ثوب وكانت عينها فيه مجتمعة أو منقسمة دون سعة الدرهم الذي يكون سعته كعقد الإبهام الأعلى لم ينجس الثوب بذلك ، إلاّ أن تكون النجاسة دم حيض أو منيا فإن قليلهما وكثيرهما سواء.

ولم نقف له في ذلك على حجة ، ويدفعه الأمر بإزالة هذه النجاسات عن الثوب والبدن من غير تفصيل.

__________________

(١) الذكرى : (٧٩).

(٢) المعتبر ( ١ : ٤٢٠ ).

(٣) التذكرة ( ١ : ٧ ).

(٤) المنتهى ( ١ : ١٦٣ ).

(٥) المعتبر ( ١ : ٤٢٠ ).

٢٨١

______________________________________________________

وقال الصدوق ـ رحمه الله تعالى ـ في من لا يحضره الفقيه : والدم إذا أصاب الثوب فلا بأس بالصلاة فيه ما لم يكن مقداره مقدار درهم ، وما كان دون الدرهم الوافي فقد يجب غسله ولا بأس بالصلاة فيه ، وإن كان الدم دون حمّصة فلا بأس بأن لا يغسل ، إلاّ أن يكون دم الحيض فإنه يجب غسل الثوب منه ومن البول والمني قليلا كان أو كثيرا (١).

وظاهر هذا الكلام يعطي عدم نجاسة ما دون قدر الحمصة من الدم ، وربما كان مستنده ما رواه مثنى بن عبد السلام ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ، قلت له : إني حككت جلدي فخرج منه دم فقال : « إن اجتمع قدر حمصة فاغسله وإلاّ فلا » (٢).

ويشهد له أيضا رواية الحلبي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن دم البراغيث يكون في الثوب ، هل يمنعه ذلك من الصلاة؟ فقال : « لا وإن كثر ، ولا بأس أيضا بشبهه من الرعاف ينضحه ولا يغسله » (٣).

وفي الروايتين قصور من حيث السند ، أما الأولى فلأن راويها وهو مثنى بن عبد السلام غير موثق ، بل ولا ممدوح مدحا يعتد به.

وأما الثانية فلأن من جملة رجالها ابن سنان ، والظاهر أنه محمد ، وقد ضعّفه علماء الرجال (٤) ، لكنهما مطابقتان لمقتضى الأصل.

والمسألة محل تردد ، إلا أنه لا خروج عما عليه معظم الأصحاب ، ويدل عليه‌

__________________

(١) الفقيه ( ١ : ٤٢ ).

(٢) التهذيب ( ١ : ٢٥٥ ـ ٧٤١ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٧٦ ـ ٦١٣ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٢٧ ) أبواب النجاسات ب (٢٠) ح (٥).

(٣) الكافي ( ٣ : ٥٩ ـ ٨ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٥٩ ـ ٧٥٣ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٢٧ ) أبواب النجاسات ب (٢٠) ح (٧).

(٤) منهم النجاشي في رجاله : (٢٣٠) ، والشيخ في الفهرست : (١٤٣) ، والعلامة في الخلاصة : (٢٥١).

٢٨٢

______________________________________________________

صحيحة عبد الله بن أبي يعفور قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ، ثم يعلم فينسى أن يغسله ، فيصلي ثم يذكر بعد ما صلّى ، أيعيد صلاته؟ قال : « يغسله ولا يعيد صلاته ، إلاّ أن يكون مقدار الدرهم مجتمعا فيغسله ويعيد الصلاة » (١) وفي معنى هذه الرواية روايات كثيرة (٢) ، وترك الاستفصال في جواب السؤال مع قيام الاحتمال (٣) يفيد العموم.

فروع : الأوّل : القيح طاهر ، وكذا الصديد إن خلا من الدم ، وأطلق الشيخ في المبسوط طهارته (٤) ، واستقرب المصنف في المعتبر نجاسته بناء على أنه ماء الجرح يخالطه دم ، قال : ولو خلا من ذلك لم يكن نجسا ، وخلافنا مع الشيخ يؤول إلى العبارة ، لأنه يوافق على هذا التفصيل (٥).

الثاني : القي‌ء طاهر ، وهو مذهب الأصحاب إلاّ من شذ ، لأن الأصل في الأشياء الطهارة ، والنجاسة موقوفة على الدليل ، ومع انتفائه تكون الطهارة باقية ، ويؤيده ما رواه عمار الساباطي في الموثق : أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن القي‌ء يصيب الثوب فلا يغسل قال : « لا بأس به » (٦).

__________________

(١) التهذيب ( ١ : ٢٥٥ ـ ٧٤٠ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٧٦ ـ ٦١١ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٢٦ ) أبواب النجاسات ب (٢٠) ح (١).

(٢) الوسائل ( ٢ : ١٠٢٦ ) أبواب النجاسات ب (٢٠).

(٣) الجواهر ( ٥ : ٣٥٩ ). احتمال كون السؤال فيه إنما هو لحكم النسيان ، والا فنجاسة ذلك معلومة لدى السائل.

(٤) المبسوط ( ١ : ٣٨ ).

(٥) المعتبر ( ١ : ٤١٩ ).

(٦) الفقيه ( ١ : ٧ ـ ٨ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٧٠ ) أبواب النجاسات ب (٤٨) ح (٢).

٢٨٣

لا ما يكون رشحا كدم السمك وشبهه.

______________________________________________________

ونقل الشيخ في المبسوط عن بعض الأصحاب نجاسته (١) ، وربما كان لكونه غذاءا متغيرا فأشبه الغائط ، وهو قياس محض مع الفارق.

الثالث : المسك طاهر إجماعا قاله في التذكرة والمنتهى (٢) ، للأصل ، ولما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان يتطيب به (٣) ، وكان أحب الطيب إليه (٤).

الرابع : لو اشتبه الدم المرئي في الثوب هل هو طاهر أو نجس ، فالأصل طهارته وبراءة الذمة من وجوب إزالته ، وكذا الكلام في كل مشتبه بطاهر حتى الجلد على الأظهر ، ولو اشتبه الدم المعفو عنه بغيره كدم الفصد بدم الحيض فالأقرب العفو عنه.

قوله : لا ما يكون رشحا كدم السمك ونحوه.

هذا مذهب الأصحاب ، وحكى فيه الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في الخلاف ، والمصنف ـ رحمه‌الله ـ في المعتبر الإجماع (٥). وربما ظهر من كلام الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ في المبسوط والجمل نجاسة هذا النوع من الدم وعدم وجوب إزالته (٦) ، وهو بعيد ، ولعله يريد بالنجاسة المعنى اللغوي. وكيف كان فالمذهب هو الطهارة ، تمسّكا بمقتضى الأصل ، وما رواه الشيخ في الصحيح ، عن عبد الله بن أبي يعفور قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في دم البراغيث؟ قال : « ليس به بأس » قال ، قلت : إنه يكثر‌

__________________

(١) المبسوط ( ١ : ٣٨ ).

(٢) التذكرة ( ١ : ٧ ) ، والمنتهى ( ١ : ١٦٦ ).

(٣) الكافي ( ٦ : ٥١٤ ـ ٢ ) ، قرب الإسناد : (٧٠) ، الوسائل ( ١ : ٤٤٥ ) أبواب آداب الحمام ب (٩٥) ح (٤).

(٤) سنن النسائي ( ٤ : ١٥١ ) بتفاوت يسير.

(٥) الخلاف ( ١ : ١٧٦ ) ، والمعتبر ( ١ : ٤٢١ ).

(٦) المبسوط ( ١ : ٣٥ ) ، والجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : (١٧١).

٢٨٤

السادس والسابع : الكلب والخنزير ، وهما نجسان عينا ولعابا.

______________________________________________________

ويتفاحش قال : « وإن كثر » (١).

وعن الحلبي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن دم البراغيث يكون في الثوب هل يمنعه ذلك من الصلاة؟ قال : « لا وإن كثر » (٢).

قوله : السادس والسابع : الكلب والخنزير ، وهما نجسان عينا ولعابا.

هذا الحكم ثابت بإجماعنا ، ووافقنا عليه أكثر العامة. والأصل فيه الأخبار المستفيضة كصحيحة محمد بن مسلم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الكلب يصيب شيئا من جسد الرجل ، قال : « يغسل المكان الذي أصابه » (٣).

وصحيحة الفضل أبي العباس قال ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « إذا أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله ، وإن مسه جافا فاصبب عليه الماء » (٤).

وصحيحة عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال : « إن كان دخل في صلاته فليمض ، وإن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه إلاّ أن يكون فيه أثر فيغسله » قال : وسألته عن خنزير شرب من إناء كيف يصنع به؟ قال : « يغسل سبع مرات » (٥).

__________________

(١) التهذيب ( ١ : ٢٥٥ ـ ٧٤٠ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٧٦ ـ ٦١١ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٣٠ ) أبواب النجاسات ب (٢٣) ح (١).

(٢) الكافي ( ٣ : ٥٩ ـ ٨ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٥٩ ـ ٧٥٣ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٢٧ ) أبواب النجاسات ب (٢٠) ح (٧).

(٣) الكافي ( ٣ : ٦٠ ـ ٢ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٦٠ ـ ٧٥٨ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠١٦ ) أبواب النجاسات ب (١٢) ح (٨).

(٤) التهذيب ( ١ : ٢٦١ ـ ٧٥٩ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠١٥ ) أبواب النجاسات ب (١٢) ح (١).

(٥) التهذيب ( ١ : ٢٦١ ـ ٧٦٠ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠١٧ ) أبواب النجاسات ب (١٣) ح (١) ، البحار ( ١٠ : ٢٥٦ ) ، وفي الكافي ( ٣ : ٦١ ـ ٦ ) صدر الحديث.

٢٨٥

ولو نزا كلب على حيوان فأولده روعي في إلحاقه بأحكامه إطلاق الاسم. وما عداهما من الحيوان فليس بنجس. وفي الثعلب والأرنب والفأرة والوزغة تردد ، والأظهر الطهارة.

______________________________________________________

والأصح اختصاص الحكم بكلب البر وخنزيره ، لأنه المتبادر من اللفظ ، وربما قيل بنجاسة كلب الماء أيضا لشمول الاسم (١) ، وهو ضعيف.

قوله : ولو نزا كلب على حيوان فأولده روعي في إلحاقه بأحكامه إطلاق الاسم.

إطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق في الحيوان بين كونه مساويا للكلب في الحكم كالخنزير أو مخالفا كالشاة ، وخصه الشهيدان بالثاني وحكما بنجاسة المتولد من النجسين وإن باينهما في الاسم ، لنجاسة أصلية (٢). وهو مشكل ، إذ النجاسة معلقة على الاسم ، فمتى انتفى تعين الرجوع إلى ما يقتضيه الأصل من طهارة الأشياء ، والأصح عدم نجاسته إلاّ إذا صدق عليه اسم نجس العين.

قوله : وفي الثعلب والأرنب والفأرة والوزغة تردد ، والأظهر الطهارة.

اختلف الأصحاب في حكم الثعلب والأرنب والفأرة والوزغة ، فقال السيد المرتضى ـ رحمه الله تعالى ـ : لا بأس بأسآر جميع حشرات الأرض وسباع ذوات الأربع ، إلاّ أن يكون كلبا أو خنزيرا (٣). وهذا يدل على طهارة ما عدا هذين ، فيدخل فيه الثعلب والأرنب والفأرة والوزغة. ونحوه قال الشيخ في المبسوط (٤). وبالطهارة قال ابن‌

__________________

(١) السرائر : (٢٠٨). ونقله عنه في التذكرة ( ١ : ٨ ).

(٢) الشهيد الأول في البيان : (٣٨) ، والذكرى : (١٤) ، والشهيد الثاني في المسالك ( ١ : ١٧ ) ، والروضة البهية ( ١ : ٤٩ ).

(٣) المسائل الناصرية ( الجوامع الفقهية ) : (١٨٠) ، وجمل العلم والعمل : (٤٩).

(٤) المبسوط ( ١ : ١٠ ).

٢٨٦

______________________________________________________

إدريس (١) ، وعامة المتأخرين.

وقال الشيخ في النهاية : وإذا أصاب ثوب الإنسان كلب ، أو خنزير ، أو ثعلب ، أو أرنب ، أو فأرة ، أو وزغة ، وكان رطبا وجب غسل الموضع الذي أصابته مع الرطوبة (٢).

وقال المفيد ـ رحمه‌الله ـ في المقنعة : وكذلك الحكم في الفأرة والوزغة برشّ الموضع الذي مسّاه من الثوب وإن لم يؤثرا فيه ، وإن رطّباه وأثّرا فيه غسل بالماء (٣).

ونقل عن أبي الصلاح ـ رحمه‌الله ـ أنه أفتى بنجاسة الثعلب والأرنب (٤). والمعتمد الطهارة في الجميع.

لنا : التمسك بمقتضى الأصل فيما لم يقم دليل على خلافه ، وما رواه الشيخ في الصحيح ، عن الفضل أبي العباس ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن فضل الهرة ، والشاة ، والبقرة ، والإبل ، والحمار ، والبغال ، والوحش ، والسباع ، فلم أترك شيئا إلاّ سألته عنه فقال : « لا بأس به » حتى انتهيت إلى الكلب فقال : « رجس نجس لا يتوضأ بفضله ، واصبب ذلك الماء ، واغسله بالتراب أوّل مرة ثم بالماء » (٥).

وفي الصحيح ، عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : وسألته عن العظاية والحية والوزغ يقع في الماء فلا يموت فيه أيتوضأ منه للصلاة؟ فقال : « لا بأس به » وسألته عن فأرة وقعت في حبّ دهن فأخرجت قبل أن تموت أيبيعه من مسلم؟

__________________

(١) السرائر : (١٣).

(٢) النهاية : (٥٢).

(٣) المقنعة : (١٠).

(٤) الكافي في الفقه : (١٣١).

(٥) التهذيب ( ١ : ٢٢٥ ـ ٦٤٦ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٩ ـ ٤٠ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠١٤ ) أبواب النجاسات ب (١١) ح (١).

٢٨٧

______________________________________________________

قال : « نعم ويدهن منه » (١).

احتج العلاّمة ـ رحمه‌الله ـ في المختلف (٢) للقائلين بالنجاسة في الفأرة بصحيحة عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن الفأرة الرطبة قد وقعت في الماء تمشي على الثياب أيصلّى فيها؟ قال : « اغسل ما رأيت من أثرها ، وما لم تره فانضحه بالماء » (٣).

وفي الثعلب والأرنب بمرسلة يونس بن عبد الرحمن ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته هل يجوز أن يمس الثعلب والأرنب أو شيئا من السباع حيا أو ميتا؟ قال : « لا يضره ولكن يغسل يده » (٤).

وفي الوزغة بورود الأمر بنزح ثلاث في وقوعها في البئر (٥) ، ولو لا نجاستها لما وجب لها النزح.

والجواب عن الرواية الأولى بالحمل على الاستحباب ، لأنها معارضة بصحيحة عليّ ابن جعفر الدالة على عدم نجاسة الماء بوقوعها فيه ، قال في المعتبر : ومن البين استحالة أن ينجس الجامد ولا ينجس المائع ، ولو ارتكب هذا مرتكب لم يكن له من الفهم نصيب (٦).

__________________

(١) التهذيب ( ١ : ٤١٩ ـ ١٣٢٦ ) ، الاستبصار ( ١ : ٢٣ ـ ٥٨ ) ، قرب الإسناد : (٨٤) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٤٩ ) أبواب النجاسات ب (٣٣) ح (١).

(٢) المختلف : (٥٧).

(٣) الكافي ( ٣ : ٦٠ ـ ٣ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٦١ ـ ٧٦١ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٤٩ ) أبواب النجاسات ب (٣٣) ح (٢).

(٤) الكافي ( ٣ : ٦٠ ـ ٤ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٦٢ ـ ٧٦٣ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٥٠ ) أبواب النجاسات ب (٣٤) ح (٣).

(٥) التهذيب ( ١ : ٢٣٨ ـ ٦٨٨ ) ، الإستبصار ( ١ : ٣٩ ـ ١٠٦ ) ، الوسائل ( ١ : ١٣٧ ) أبواب الماء المطلق ب ١٩ ) ح (٢).

(٦) المعتبر ( ١ : ٤٢٧ ).

٢٨٨

الثامن : المسكرات ، وفي تنجيسها خلاف ، والأظهر النجاسة ،

______________________________________________________

وعن الرواية الثانية بالطعن فيها بالإرسال ، وبأن من جملة رجالها محمد بن عيسى عن يونس ، وذكر الصدوق عن شيخه ابن الوليد أن ما يرويه محمد بن عيسى عن يونس لا يعمل به (١) ، وبأنها معارضة بصحيحة الفضل المتقدمة (٢) ، والجمع بالحمل على الاستحباب.

وعن الثالثة بأن الأمر بالنزح من الوزغة لا ينحصر وجهه في نجاسة الماء ، بل ورد في بعض الأخبار أن لها سمّا وأن النزح منها لذلك (٣).

قوله : الثامن : المسكرات ، وفي تنجيسها خلاف ، والأظهر النجاسة.

المراد بالمسكرات هنا المائعة بالأصالة ، لأن الجامدة بالأصالة طاهرة قطعا. وقد قطع الأصحاب بأن الأنبذة المسكرة كالخمر في النجاسة ، لأن المسكر خمر فيتناوله حكمه ، أما الثانية فظاهرة ، وأما الاولى فلأن الخمر إنما سميت خمرا لكونها تخمر العقل وتستره ، فما ساواها في المسمى يساويها في الاسم ، ولما رواه عليّ بن يقطين ، عن أبي الحسن الماضي عليه‌السلام ، قال : « إنّ الله لم يحرم الخمر لاسمها ولكن حرّمها لعاقبتها ، وما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر » (٤) وفيه نظر ، فإن اللغات لا تثبت بالاستدلال ، والإطلاق أعم من الحقيقة ، والمجاز خير من الاشتراك.

واختلف الأصحاب في تنجيس الخمر ، فذهب الشيخ المفيد ، والطوسي ، والمرتضى ،

__________________

(١) رجال النجاشي : (٢٣٤).

(٢) في ص (٢٨٧).

(٣) التهذيب ( ١ : ٢٣٨ ـ ٦٩٠ ) ، الإستبصار ( ١ : ٤١ ـ ١١٣ ) ، الوسائل ( ١ : ١٣٨ ) أبواب الماء المطلق ب (١٩) ح (٥).

(٤) الكافي ( ٦ : ٤١٢ ـ ٢ ) ، التهذيب ( ٩ : ١١٢ ـ ٤٨٦ ) ، الوسائل ( ١٧ : ٢٧٣ ) أبواب الأشربة المحرمة ب (١٩) ح (١).

٢٨٩

______________________________________________________

وأكثر الأصحاب إلى أنه نجس العين (١). وقال ابن أبي عقيل ـ رحمه‌الله ـ : من أصاب ثوبه أو جسده خمر أو مسكر لم يكن عليه غسلهما ، لأن الله تعالى إنما حرّمهما تعبدا لا لأنهما نجسان ، وكذلك سبيل العصير والخل إذا أصاب الثوب والجسد (٢). ونحوه قال الصدوق ـ رحمه‌الله ـ في من لا يحضره الفقيه (٣).

احتج القائلون بالنجاسة بوجوه :

الأول : الإجماع ، نقله الشيخ (٤) والمرتضى (٥) ـ رضي الله عنهما ـ والإجماع المنقول بخبر الواحد حجة.

الثاني : قوله تعالى ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) (٦) فإن الرجس هو النجس على ما ذكره بعض أهل اللغة (٧) ، والاجتناب عبارة عن عدم المباشرة مطلقا ، ولا معنى للنجس إلاّ ذلك.

الثالث : الروايات ، وهي كثيرة ، والصحيح منها ما رواه الكليني ، عن الحسين بن محمد ، عن عبد الله بن عامر ، عن عليّ بن مهزيار ، قال : قرأت في كتاب عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليه‌السلام : جعلت فداك ، روى زرارة ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام في الخمر يصيب ثوب الرجل أنهما قالا : « لا بأس أن يصلّى‌

__________________

(١) المفيد في المقنعة : (١٠) ، والشيخ في النهاية : (٥١) ، والمبسوط ( ١ : ٣٦ ) ، والخلاف ( ٢ : ٤٨٤ ) ، والمرتضى في المسائل الناصرية ( الجوامع الفقهية ) : (١٨١).

(٢) نقله عنه في المختلف : (٥٨).

(٣) الفقيه ( ١ : ٤٣ ).

(٤) المبسوط ( ١ : ٣٦ ) ، والخلاف ( ٢ : ٤٨٤ ).

(٥) الانتصار : (١٩٧) ، والمسائل الناصرية ( الجوامع الفقهية ) : (١٨١).

(٦) المائدة : (٩٠).

(٧) منهم صاحب المصباح المنير : (٢١٩).

٢٩٠

______________________________________________________

فيه ، إنما حرّم شربها » وروى غير زرارة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : « إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ ـ يعني المسكر ـ فاغسله كلّه ، وإن صلّيت فيه فأعد صلاتك » فأعلمني ما آخذ به؟ فوقّع بخطه عليه‌السلام وقرأته : « خذ بقول أبي عبد الله عليه‌السلام » (١).

ويمكن الجواب عن الأول بمنع الإجماع في موضع النزاع.

وعن الثاني بأنّ المشهور بين أهل اللغة أن الرجس هو الإثم (٢) ، ولو ثبت إطلاقه على النجس فالنجس يطلق لغة على كل مستقذر وإن لم يكن نجسا بالمعنى الشرعي ، سلّمنا أنه يطلق على هذا المعنى لكن إرادته هنا مشكل ، لأنه يقتضي نجاسة الميسر وما بعده لوقوعه خبرا عن الجميع ، ولا قائل به. وبمنع كون الأمر بالاجتناب للنجاسة ، لجواز أن يكون لكونه إثما ومعصية كما في الميسر وما بعده.

وأما الثالث فسيأتي ما فيه.

حجة القول بالطهارة الأصل ، وما رواه الحسن بن أبي سارة في الصحيح قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إن أصاب ثوبي شي‌ء من الخمر أصلّي فيه قبل أن أغسله؟ فقال : « لا بأس ، إن الثوب لا يسكر » (٣).

وما رواه عبد الله بن بكير في الموثق ، قال : سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا عنده عن المسكر والنبيذ يصيب الثوب قال : « لا بأس به » (٤).

__________________

(١) الكافي ( ٣ : ٤٠٧ ـ ١٤ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٥٥ ) أبواب النجاسات ب (٣٨) ح (٢) ، وفيهما بتفاوت يسير.

(٢) كما في لسان العرب ( ٦ : ٩٥ ) ، والقاموس المحيط ( ٢ : ٢٢٧ ).

(٣) التهذيب ( ١ : ٢٨٠ ـ ٨٢٢ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٨٩ ـ ٦٦٤ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٥٧ ) أبواب النجاسات ب (٣٨) ح (١٠).

(٤) التهذيب ( ١ : ٢٨٠ ـ ٨٢٣ ) ، الاستبصار ( ١ : ١٩٠ ـ ٦٦٥ ) ، قرب الإسناد : (٨٠) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٥٧ ) أبواب النجاسات ب (٣٨) ح (١١).

٢٩١

وفي حكمها العصير إذا غلى واشتدّ.

______________________________________________________

وما رواه عبد الله بن جعفر الحميري في كتابه قرب الإسناد ، عن أحمد وعبد الله ابني محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن عليّ بن رئاب ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخمر والنبيذ المسكر يصيب ثوبي ، أغسله أو أصلّي فيه؟ قال : « صلّ فيه إلاّ أن تقذره فتغسل منه موضع الأثر ، إن الله تبارك وتعالى إنما حرم شربها » (١).

وأجاب الأولون عن هذه الأخبار بالحمل على التقية ، جمعا بينها وبين ما تضمّن الأمر بغسل الثوب منه (٢). وهو مشكل ، لأن أكثر العامة قائلون بالنجاسة ، نعم يمكن الجمع بينها بحمل ما تضمن الأمر بالغسل على الاستحباب ، لأن استعمال الأمر في الندب مجاز شائع.

ويظهر من المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ التوقف في هذا الحكم ، فإنه قال بعد أن ضعّف الأخبار من الطرفين : والاستدلال بالآية فيه إشكال ، لكن مع اختلاف الأصحاب والأحاديث يؤخذ بالأحوط في الدين (٣) (٤).

قوله : وفي حكمها العصير العنبي إذا غلى واشتدّ.

المراد بغليانه صيرورة أعلاه أسفله ، وباشتداده حصول الثخانة له ، وينبغي الرجوع فيها إلى العرف ، وذكر المحقق الشيخ علي ـ رحمه‌الله ـ : أنها تتحقق بمجرد الغليان (٥). وهو غير واضح.

والحكم بنجاسة العصير ( إذا غلى واشتد ولا يذهب ثلثاه ) (٦) مشهور بين المتأخرين‌

__________________

(١) قرب الإسناد : (٧٦) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٥٨ ) أبواب النجاسات ب (٣٨) ح (١٤).

(٢) كالشيخ في الاستبصار ( ١ : ١٩٠ ).

(٣) المعتبر ( ١ : ٤٢٤ ).

(٤) في « ح » زيادة : وهو حسن.

(٥) جامع المقاصد ( ١ : ١٦ ).

(٦) ما بين القوسين ليس في « م » و « ق ».

٢٩٢

التاسع : الفقاع.

______________________________________________________

ولا نعلم مأخذه ، وقد اعترف الشهيد ـ رحمه‌الله ـ في الذكرى والبيان بأنه لم يقف على دليل يدل على نجاسته (١) ، وذكر أن المصرح بنجاسته قليل من الأصحاب ، ومع ذلك فأفتى في الرسالة بنجاسته (٢) ، وهو عجيب.

ونقل عن ابن أبي عقيل التصريح بطهارته (٣) ، ومال إليه جدي ـ قدس‌سره ـ في حواشي القواعد ، وقواه شيخنا المعاصر سلّمه الله تعالى (٤) ، وهو المعتمد ، تمسكا بمقتضى الأصل السالم من المعارض.

قوله : التاسع : الفقاع.

قال في القاموس : الفقاع كرمّان هذا الذي يشرب ، سمي بذلك لما يرتفع في رأسه من الزبد (٥). وذكر المرتضى في الانتصار : أن الفقاع هو الشراب المتخذ من الشعير (٦).

وينبغي أن يكون المرجع فيه إلى العرف ، لأنه المحكّم فيما لم يثبت فيه وضع شرعي ولا لغوي.

والحكم بنجاسته مشهور بين الأصحاب ، وبه رواية ضعيفة السند جدا (٧) ، نعم إن ثبت إطلاق الخمر عليه حقيقة كما ادعاه المصنف في المعتبر (٨) كان حكمه حكم الخمر ، وقد تقدم الكلام فيه.

__________________

(١) الذكرى : (١٣) ، والبيان : (٣٩).

(٢) لم نعثر عليه في الرسالة ، نعم في اللمعة : (١٧) والدروس : (١٧) عدّ ذهاب الثلثين من المطهرات.

(٣) المختلف : (٥٨).

(٤) مجمع الفائدة ( ١ : ٣١٢ ).

(٥) القاموس المحيط ( ٣ : ٦٦ ).

(٦) الانتصار : (١٩٩).

(٧) الكافي ( ٦ : ٤٢٣ ـ ٧ ) ، التهذيب ( ٩ : ١٢٥ ـ ٥٤٤ ) ، الإستبصار ( ٤ : ٩٦ ـ ٣٧٣ ) ، الوسائل ( ١٧ : ٢٨٨ ) أبواب الأشربة المحرمة ب (٢٧) ح (٨).

(٨) المعتبر ( ١ : ٤٢٥ ).

٢٩٣

العاشر : الكافر ، وضابطه كل من خرج عن الإسلام أو من انتحله وجحد ما يعلم من الدين ضرورة ، كالخوارج والغلاة.

______________________________________________________

قوله : العاشر : الكافر ، وضابطه من خرج عن الإسلام أو من انتحله وجحد ما يعلم من الدين ضرورة ، كالخوارج والغلاة.

المراد بمن خرج عن الإسلام : من بائنة كاليهود والنصارى. وبمن انتحله وجحد ما يعلم من الدين ضرورة : من انتمى إليه وأظهر التدين به لكن جحد بعض ضرورياته. وقد نقل المصنف ـ رحمه‌الله ـ في المعتبر (١) وغيره (٢) اتفاق الأصحاب على نجاسة ما عدا اليهود والنصارى من أصناف الكفار ، سواء كان كفرهم أصليا أو ارتدادا.

واحتج عليه في المعتبر بقوله تعالى ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) (٣) والإضمار خلاف الأصل ، والإخبار عن الذات بالمصادر شائع إذا كثرت معانيها في الذات كما يقال : رجل عدل ، وقوله تعالى ( كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) (٤) ثم قال : لا يقال : الرجس : العذاب رجوعا إلى أهل التفسير ، لأنا نقول : حقيقة اللفظ تعطي ما ذكرناه فلا يستند إلى مفسر برأيه ، ولأن الرجس اسم لما يكره ، فهو يقع على موارده بالتواطؤ فيحمل على الجميع ، عملا بالإطلاق (٥).

وفيهما معا نظر : أما الأول فلأن النجس لغة المستقذر ، قال الهروي في تفسير الآية : يقال لكل مستقذر نجس. والمستقذر أعم من النجس بالمعنى المصطلح عليه عند الفقهاء ، والواجب حمل اللفظ على الحقيقة اللغوية عند انتفاء المعنى الشرعي ، وهو غير ثابت هنا ، سلمنا أن المراد بالنجس المعنى المصطلح عليه عند الفقهاء ، لكن اللازم من‌

__________________

(١) المعتبر ( ١ : ٩٥ ).

(٢) كالعلامة في المنتهى ( ١ : ١٦٨ ).

(٣) التوبة : (٢٨).

(٤) الأنعام : (١٢٥).

(٥) المعتبر ( ١ : ٩٦ ).

٢٩٤

______________________________________________________

ذلك نجاسة المشرك خاصة وهو أخص من المدعى ، إذ من المعلوم أنّ من أفراد الكافر ما ليس بمشرك قطعا فلا يصلح لإثبات الحكم على وجه العموم.

وأما الثاني فلأن الرجس لغة يجي‌ء لمعان ، منها : القذر ، والعمل المؤدي إلى العذاب ، والشك ، والعقاب ، والغضب (١). والظاهر أن إطلاقه عليها على سبيل الاشتراك اللفظي ، فيكون مجملا محتاجا في تعيين المراد منه إلى القرينة ، على أن المتبادر من سوق الآية إرادة الغضب والعذاب ، كما ذكره أكثر المفسرين (٢).

وقوله : إن الرجس اسم لما يكره فهو يقع على موارده بالتواطؤ فيحمل على الجميع عملا بالإطلاق غير جيد ، أما أولا : فلأن إطلاق اسم الرجس على ما يكره لم يذكره أحد ممن وصل إلينا كلامه من أهل اللغة ، ولا نقله ناقل من أهل التفسير فلا يمكن التعلق به.

وأما ثانيا : فلأن إطلاقه على ما يكره لا يقتضي وجوب حمله على جميع موارده التي يقع عليها اللفظ بطريق التواطؤ ، لانتفاء ما يدل على العموم.

وأما اليهود والنصارى فقد ذهب الأكثر إلى نجاستهم ، بل ادعى عليه المرتضى (٣) ، وابن إدريس (٤) الإجماع. ونقل عن ابن الجنيد ، وابن أبي عقيل القول بعدم نجاسة أسآرهم (٥). وحكى المصنف في المعتبر عن المفيد ـ رحمه الله تعالى ـ في المسائل الغرية القول بالكراهة ، وربما ظهر من كلام الشيخ في موضع من النهاية (٦).

__________________

(١) النهاية ( ٢ : ٢٠٠ ) ، ولسان العرب ( ٦ : ٩٤ ). وأقرب الموارد ( ١ : ٣٩١ ).

(٢) كالطبرسي في مجمع البيان ( ٢ : ٣٦٤ ) ، وأبي حيان الأندلسي في البحر المحيط ( ٤ : ٢١٨ ) ، وأبي السعود في تفسيره ( ٣ : ١٨٤ ).

(٣) الانتصار : (١٠).

(٤) السرائر : (٣٧١).

(٥) المعتبر ( ١ : ٩٦ ).

(٦) النهاية : (٥٨٩).

٢٩٥

______________________________________________________

احتج القائلون بالنجاسة بأمرين :

الأول : قوله تعالى ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) (١) فإن اليهود والنصارى مشركون ، لقوله تعالى بعد حكايته عنهم أنهم ( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ) : ( سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ) (٢) ويتوجه عليه مضافا إلى ما سبق منع هذه المقدمة أيضا ، إذ المتبادر من معنى المشرك من اعتقد إلها مع الله ، وقد ورد في أخبارنا أن معنى اتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا من دون الله : امتثالهم أوامرهم ونواهيهم ، لا اعتقادهم أنهم آلهة (٣) ، وربما كان في الآيات المتضمنة لعطف المشركين على أهل الكتاب وبالعكس بالواو (٤) إشعار بالمغايرة.

الثاني : الأخبار الدالة على ذلك ، كصحيحة عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام : إنه سأله عن رجل اشترى ثوبا من السوق للبس لا يدري لمن كان هل يصلح الصلاة فيه؟ قال : « إن اشتراه من مسلم فليصلّ فيه ، وإن اشتراه من نصراني فلا يصلّي فيه حتى يغسله » (٥).

وحسنة سعيد الأعرج : أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن سؤر اليهودي والنصراني فقال : « لا » (٦).

وصحيحة محمد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن آنية أهل الذمة‌

__________________

(١) التوبة : (٢٨).

(٢) التوبة : (٣١).

(٣) الكافي ( ٢ : ٣٩٨ ـ ٣ ) ، تفسير العياشي ( ٢ : ٤٥ ـ ٤٩ ).

(٤) البقرة : (١٠٥) ، آل عمران : (١٨٦) ، المائدة : (٨٢) ، الحج : (١٧) ، البينة : (٦).

(٥) التهذيب ( ١ : ٢٦٣ ـ ٧٦٦ ) ، قرب الإسناد : (٩٦) ، السرائر : (٤٧٧) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٧١ ) أبواب النجاسات ب (٥٠) ح (١).

(٦) الكافي ( ٣ : ١١ ـ ٥ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٢٣ ـ ٦٣٨ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٨ ـ ٣٦ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠١٩ ) أبواب النجاسات ب (١٤) ح (٨).

٢٩٦

______________________________________________________

والمجوس ، فقال : « لا تأكلوا في آنيتهم ، ولا من طعامهم الذي يطبخون ، ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر » (١).

احتج القائلون بالطهارة بوجوه :

الأول : البراءة الأصلية ، فإن النجاسة إنما تستفاد بتوقيف الشارع ، ومع انتفائه تكون الطهارة ثابتة بالأصل.

الثاني : قوله تعالى ( وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) (٢) فإنه شامل لما باشروه وغيره ، وتخصيصه بالحبوب ونحوها مخالف للظاهر ، لاندراجها في الطيبات ، ولأن ما بعده وهو ( وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) شامل للجميع قطعا ، ولانتفاء الفائدة في تخصيص أهل الكتاب بالذكر فإن سائر الكفار كذلك. وقد يقال : إن هذا التخصيص وإن كان مخالفا للظاهر إلا أنه يجب المصير إليه ، لدلالة الأخبار عليه ومنها ما هو صحيح السند. لكن لا يخفى أنّ هذا الاختصاص لا ينحصر وجهه في النجاسة ، لانتفائها في غير الحبوب مما لم يعلم مباشرتهم له قطعا.

الثالث : الأخبار ، فمن ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح ، عن العيص بن القاسم : أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن مؤاكلة اليهودي والنصراني ، فقال : « لا بأس إذا كان من طعامك » (٣).

وفي الصحيح ، عن عليّ بن جعفر : أنه سأل أخاه موسى عليه‌السلام عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء يتوضأ منه للصلاة؟ قال : « لا ، إلا أن يضطر إليه » (٤).

__________________

(١) الكافي ( ٦ : ٢٦٤ ـ ٥ ) ، التهذيب ( ٩ : ٨٨ ـ ٣٧٢ ) ، الوسائل ( ١٦ : ٤٧٥ ) أبواب الأطعمة المحرمة ب (٥٤) ح (٣).

(٢) المائدة : (٥).

(٣) التهذيب ( ٩ : ٨٨ ـ ٣٧٣ ) ، الوسائل ( ١٦ : ٤٧٤ ) أبواب الأطعمة المحرمة ب (٥٣) ح (٤).

(٤) التهذيب ( ١ : ٢٢٣ ـ ٦٤٠ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٢٠ ) أبواب النجاسات ب (١٤) ح (٩).

٢٩٧

______________________________________________________

وفي الصحيح ، عن إبراهيم بن أبي محمود قال ، قلت للرضا عليه‌السلام : الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم أنها نصرانية ، لا تتوضأ ولا تغتسل من جنابة! قال : « لا بأس تغسل يديها » (١).

ويمكن الجمع بين الأخبار بأحد أمرين : إما حمل هذه على التقية ، أو حمل النهي في الأخبار المتقدمة على الكراهة. ويشهد للثاني مطابقته لمقتضى الأصل ، وإطلاق النهي عن الصلاة في الثوب قبل الغسل في صحيحة عليّ بن جعفر المتقدمة (٢) ، ويدل عليه صريحا خصوص صحيحة إسماعيل بن جابر : قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال : « لا تأكله » ثم سكت هنيئة ، ثم قال : « لا تأكله » ثم سكت هنيئة ، ثم قال : « لا تأكله ، ولا تتركه تقول : إنه حرام ولكن تتركه تتنزه عنه ، إنّ في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير » (٣) وربما كان في هذه الرواية إشعار بأن النهي عن مباشرتهم ، للنجاسة العارضية فتأمل.

تنبيه : صرح العلاّمة ـ رحمه‌الله ـ (٤) ، وجمع من الأصحاب (٥) بنجاسة ولد الكافر لنجاسة أصلية. وهو مشكل ، إذ الدليل إن تم فإنما يدل على نجاسة الكافر والمشرك واليهودي والنصراني ، والولد قبل بلوغه لا يصدق عليه شي‌ء من ذلك.

ولو سباه المسلم منفردا فالأظهر تبعيته له في الطهارة ، لأن ذلك مقتضى الأصل ، ولا معارض له إلاّ التمسك باستصحاب الحالة السابقة ، وقد بينا فيما سبق ضعف‌

__________________

(١) التهذيب ( ١ : ٣٩٩ ـ ١٢٤٥ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٢٠ ) أبواب النجاسات ب (١٤) ح (١١).

(٢) في ص (٢٩٦).

(٣) الكافي ( ٦ : ٢٦٤ ـ ٩ ) ، التهذيب ( ٩ : ٨٧ ـ ٣٦٨ ) ، المحاسن : ( ٤٥٤ ـ ٣٧٧ ) ، الوسائل ( ١٦ : ٤٧٦ ) أبواب الأطعمة المحرمة ب (٥٤) ح (٤).

(٤) التذكرة ( ١ : ٨ ).

(٥) منهم فخر المحققين في إيضاح الفوائد ( ١ : ٣٦٤ ) ، والشهيد الأول في الذكرى : (١٤).

٢٩٨

وفي عرق الجنب من الحرام وعرق الإبل الجلالة والمسوخ خلاف ، والأظهر الطهارة. وما عدا ذلك فليس بنجس في نفسه وإنما تعرض له النجاسة.

______________________________________________________

التمسك به ، لأن ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم ، فلا بد لدوامه من دليل سوى دليل الثبوت ، فينبغي التنبيه لذلك.

قوله : وفي عرق الجنب من الحرام وعرق الإبل الجلالة والمسوخ خلاف ، والأظهر الطهارة.

هنا مسائل ثلاث ، الأولى : عرق الجنب من الحرام ، والمراد منه ما يعم عرقه حال الفعل وبعده ، وقد اختلف الأصحاب في حكمه. فذهب الشيخان (١) ، وأتباعهما (٢) ، وابن بابويه (٣) إلى نجاسته. وقال ابن إدريس (٤) ، وسلاّر (٥) ، وعامة المتأخرين بالطهارة ، وهو المعتمد.

لنا : الأصل ، وما رواه أبو أسامة في الحسن : قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الجنب يعرق في ثوبه ، أو يغتسل فيعانق امرأته ويضاجعها وهي حائض أو جنب ، فيصيب جسده من عرقها ، قال : « هذا كله ليس بشي‌ء » (٦) ولم يفصل بين الحلال والحرام.

احتج الشيخ في التهذيب على النجاسة بما رواه في الصحيح ، عن محمد الحلبي قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل أجنب في ثوبه وليس معه ثوب غيره؟ قال :

__________________

(١) المفيد في المقنعة : (١٠) ، والشيخ في الخلاف ( ١ : ١٨٠ ) ، والمبسوط ( ١ : ٣٧ ) ، والنهاية : (٥٣).

(٢) كالقاضي ابن البراج في المهذب ( ١ : ٥١ ).

(٣) الفقيه ( ١ : ٤٠ ) ، والهداية : (٢١).

(٤) السرائر : (٣٦).

(٥) المراسم : (٥٦).

(٦) الكافي ( ٣ : ٥٢ ـ ١ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٦٨ ـ ٧٨٦ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٨٤ ـ ٦٤٤ ) ، الوسائل ( ١ : ٥٢٩ ) أبواب الجنابة ب (٤٦) ح (١).

٢٩٩

______________________________________________________

« يصلّي فيه ، فإذا وجد الماء غسله » (١) قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : لا يجوز أن يكون المراد بهذا الخبر إلاّ من عرق في الثوب من جنابة إذا كانت من حرام ، لأنا قد بيّنا أنّ نفس الجنابة لا تتعدى إلى الثوب ، وذكرنا أيضا أنّ عرق الجنب لا ينجس الثوب ، فلم يبق معنى يحمل عليه الخبر إلاّ عرق الجنب من حرام فحملناه عليه.

ولا يخفى ما في هذا الحمل من البعد ، إذ لا إشعار في الخبر بالعرق بوجه فضلا عن كون الجنابة من الحرام ، مع أنّ الظاهر منه أنّ غسله لما أصابه من المني بجنابته فيه.

الثانية : عرق الإبل الجلالة ، وقد اختلف علماؤنا في حكمه أيضا ، فذهب الشيخان إلى نجاسته (٢) ، لصحيحة هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « لا تأكل اللحوم الجلالة ، وإن أصابك من عرقها فاغسله » (٣) ومثلها روى حفص بن البختري في الحسن عنه عليه‌السلام (٤).

وقال سلار (٥) وابن إدريس (٦) وسائر المتأخرين (٧) بالطهارة ، وحملوا الأمر بالغسل على الاستحباب ، وهو مشكل ، لعدم المعارض.

الثالثة : المسوخ ، والأصح أنها طاهرة ، وقد تقدّم الكلام فيها في باب الأسئار.

__________________

(١) التهذيب ( ١ : ٢٧١ ـ ٧٩٩ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٨٧ ـ ٦٥٥ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٣٩ ) أبواب النجاسات ب (٢٧) ح (١١).

(٢) المفيد في المقنعة : (١٠) ، والشيخ في المبسوط ( ١ : ٣٨ ) ، والنهاية : (٥٣).

(٣) الكافي ( ٦ : ٢٥٠ ـ ١ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٦٣ ـ ٧٦٨ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٢١ ) أبواب النجاسات ب (١٥) ح (١).

(٤) الكافي ( ٦ : ٢٥١ ـ ٢ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٦٣ ـ ٧٦٧ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٢١ ) أبواب النجاسات ب (١٥) ح (٢).

(٥) المراسم : (٥٦).

(٦) السرائر : (٣٦).

(٧) كالمحقق في الشرائع ( ١ : ٥٣ ) ، والشهيد الأول في الدروس : (١٧).

٣٠٠