مدارك الأحكام - ج ١

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي

مدارك الأحكام - ج ١

المؤلف:

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٦

______________________________________________________

أنه مجاز شرعي ـ جمعا بين الأدلة ، وأيضا فإن ظاهرهما متروك عند القائلين بالنجاسة ، وذلك مما يضعّف الاستدلال بهما.

وأما خبر ابن أبي يعفور فلا دلالة له على النجاسة بوجه ، لأن الأمر بالتيمم لا ينحصر وجهه في نجاسة الماء إذ من الجائز أن يكون لتغير الماء وفساده على الشارب بنزول الجنب فيه ، وعليه يحمل النهي الواقع في الخبر.

فإن قلت : إنه قد ورد الإفساد في أخبار الفريقين ، فمهما اعترض أحدهما فهو جواب الآخر.

قلت : الفرق بين المقامين ظاهر ، فإن الإفساد في أخبار الطهارة وقع نكرة في سياق النفي فيعم ، وأما في هذا الخبر فلا عموم فيه أصلا كما هو واضح ، وسيأتي لهذا البحث تتمة إن شاء الله تعالى.

احتج الموجبون للنزح خاصة (١) : بالأوامر الدالة عليه ، وهي حقيقة في الوجوب ، كما ثبت في الأصول.

وجوابه : المعارضة بصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع الدالة على الاكتفاء في الطهارة بنزح ما يزيل التغير خاصة (٢). مع أنّ الأخبار الواردة بالنزح متعارضة جدا على وجه يشكل الجمع بينها والتوفيق بين متنافياتها ، وأكثرها ضعيف السند مجمل الدلالة ، وعندي أنّ ذلك كله قرينة الاستحباب ، وأنّ النزح إنما هو لطيبة الماء وزوال النفرة الحاصلة من وقوع تلك الأعيان المستخبثة فيها خاصة.

وحجة القول الرابع وجوابها يعلم من مسألة اشتراط كرية الجاري وعدمه ، والله تعالى أعلم بحقائق أحكامه.

__________________

(١) منهم المحقق في المعتبر ( ١ : ٥٥ ) ، والشهيد الأوّل في الذكرى : (٩).

(٢) المتقدمة في ص (٥٥).

٦١

وطريق تطهيره : بنزح جميعه إن وقع فيها مسكر

______________________________________________________

قوله : وطريق تطهيره بنزح جميعه إن وقع فيها مسكر.

المراد بالمسكر هنا ما كان مائعا بالأصالة. وإطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق بين قليل المسكر وكثيره ، وبه صرح المتأخرون (١) ، واحتج عليه في المختلف (٢) بصحيحة معاوية بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في البئر يبول فيه الصبي أو يصب فيها بول أو خمر فقال : « ينزح الماء كله » (٣).

وصحيحة عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « إن سقط في البئر دابة صغيرة ، أو نزل فيها جنب نزح منها سبع دلاء ، فإن مات فيها ثور أو نحوه ، أو صب فيها خمر نزح الماء كله » (٤).

وصحيحة الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « إذا سقط في البئر شي‌ء صغير فمات فيها فانزح منها دلاء ، قال : فإن وقع فيها جنب فانزح منها سبع دلاء ، وإن مات فيها بعير أو صب فيها خمر فلينزح » (٥).

وفيه نظر ، فإنّ هذه الأخبار كلها واردة بلفظ الصب وهو يؤذن بالغلبة والكثرة ، مع أنها مخالفة لما عليه الأصحاب في حكم البول وموت الدابة الصغيرة وغير ذلك ، وتأويلها بما يوافق المشهور بعيد جدا.

__________________

(١) منهم العلامة في المختلف : (٦) ، والشهيد الأول في الذكرى : (١٠) ، والمحقق الكركي في جامع المقاصد ( ١ : ١٢ ) ، والشهيد الثاني في روض الجنان : (١٤٧).

(٢) المختلف : (٦).

(٣) التهذيب ( ١ : ٢٤١ ـ ٦٩٦ ) ، الإستبصار ( ١ : ٣٥ ـ ٩٤ ) ، الوسائل ( ١ : ١٣٢ ) أبواب الماء المطلق ب (١٥) ح (٤).

(٤) التهذيب ( ١ : ٢٤١ ـ ٦٩٥ ) ، الإستبصار ( ١ : ٣٤ ـ ٩٣ ) ، الوسائل ( ١ : ١٣١ ) أبواب الماء المطلق ب (١٥) ح (١).

(٥) الكافي ( ٣ : ٦ ـ ٧ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٤٠ ـ ٦٩٤ ) ، الإستبصار ( ١ : ٣٤ ـ ٩٢ ) ، الوسائل ( ١ : ١٣٢ ) أبواب الماء المطلق ب (١٥) ح (٦).

٦٢

______________________________________________________

ونقل عن ابن بابويه ـ رحمه‌الله ـ في المقنع أنه أوجب في القطرة من الخمر عشرين دلوا (١). وربما كان مستنده رواية زرارة ، عن الصادق عليه‌السلام : في بئر قطر فيها قطرة دم أو خمر ، قال : « الدم والخمر والميت ولحم الخنزير في ذلك كله واحد ينزح منها عشرون دلوا ، فإن غلبت الريح نزحت حتى تطيب » (٢) وهي قاصرة من حيث السند ، لجهالة بعض رجالها (٣) فلا يسوغ العمل بها ، وأيضا فإن ظاهرها الاكتفاء بالعشرين في الخمر وما معه مطلقا ، ولا قائل به.

وبالجملة فالفرق بين قليل الخمر وكثيره متجه ، إلاّ أنّ مقدار النزح في القليل غير معلوم ، ولا يبعد إلحاقه بغير المنصوص إن قلنا بنجاسة الخمر ، وإلاّ لم يجب في القليل شي‌ء ، وكان الكلام في الكثير كما في اغتسال الجنب.

واعلم أنّ النصوص إنما تضمنت نزح الجميع في الخمر (٤) ، إلاّ أنّ معظم الأصحاب لم يفرقوا بينه وبين سائر المسكرات في هذا الحكم (٥) ، واحتجوا عليه بإطلاق الخمر في كثير من الأخبار على كل مسكر فيثبت له حكمه. وفيه بحث ، فإن الإطلاق أعم من الحقيقة ، والمجاز خير من الاشتراك ، ومن ثم توقف فيه المصنف ـ رحمه‌الله ـ في النافع حيث أسنده إلى الثلاثة (٦) ، وهو في محله.

__________________

(١) المقنع : (١١).

(٢) التهذيب ( ١ : ٢٤١ ـ ٦٩٧ ) ، الإستبصار ( ١ : ٣٥ ـ ٩٦ ) ، الوسائل ( ١ : ١٣٢ ) أبواب الماء المطلق ب (١٥) ح (٣).

(٣) المراد بهذا البعض هو : نوح بن شعيب الخراساني إذ لم يذكر في كتب الرجال.

(٤) المتقدمة في ص (٦٢).

(٥) منهم المحقق الحلي في المعتبر ( ١ : ٥٨ ) ، والشهيد الأول في الذكرى : (١٠) ، والشهيد الثاني في روض الجنان : (١٤٧).

(٦) المختصر النافع : (٢). والثلاثة هم : الشيخ المفيد والشيخ الطوسي والسيد المرتضى.

٦٣

أو فقاع

______________________________________________________

قوله : أو فقاع.

قال في القاموس : الفقاع كرمان ، هذا الذي يشرب ، سمّي بذلك لما يرتفع في رأسه من الزبد (١). وذكر المرتضى ـ رحمه‌الله ـ في الانتصار : أن الفقاع هو الشراب المتخذ من الشعير (٢). وينبغي الرجوع فيه إلى العرف لأنه المحكم في مثله إذا لم يعلم إطلاقه على ما علم حله وطهارته كماء الزبيب الذي لم يتغير عن حقيقته مثلا ، لأن تسمية ما علم حله بذلك لا يقتضي تنجيسه.

وهذا الحكم أعني نزح الجميع للفقاع ذكره الشيخ (٣) ـ رحمه‌الله ـ ومن تأخر عنه (٤) ، قال في المعتبر : ولم أقف على حديث يدل بنطقه عليه ، ويمكن أن يحتج لذلك بأنّ الفقاع خمر فيكون له حكمه (٥) ، أما الثانية (٦) فظاهرة ، وأما الأولى (٧) فلقول الصادق عليه‌السلام في رواية هشام بن الحكم وقد سأله عن الفقاع : « إنه خمر مجهول » (٨) وقول الكاظم عليه‌السلام : « هو خمرة استصغرها الناس » (٩). ويتوجه عليه ما سبق من أنّ الإطلاق أعم من الحقيقة.

__________________

(١) القاموس المحيط ( ٣ : ٦٦ ).

(٢) الانتصار : (١٩٩).

(٣) كما في المبسوط ( ١ : ١١ ) ، والنهاية : (٦).

(٤) منهم ابن البراج في المهذب ( ١ : ٢١ ) ، وابن زهرة في الغنية : ( الجوامع الفقهية ) : (٥٥٢) ، وابن إدريس في السرائر : (١٠).

(٥) المعتبر ( ١ : ٥٨ ).

(٦) المراد بالثانية : هي الدعوى الثانية ونتيجة الاحتجاج ، وهي أنّ للفقاع حكم الخمر.

(٧) المراد بالأولى : هي الدعوى الاولى والصغرى في الاحتجاج ، وهي أنّ الفقاع خمر.

(٨) الكافي ( ٣ : ٤٠٧ ـ ١٥ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٨٢ ـ ٨٢٨ ) ، الإستبصار ( ٤ : ٩٦ ـ ٣٧٣ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٥٥ ) أبواب النجاسات ب (٣٨) ح (٥).

(٩) الكافي ( ٦ : ٤٢٣ ـ ٩ ) ، التهذيب ( ٩ : ١٢٥ ـ ٥٤٠ ) ، الإستبصار ( ٤ : ٩٥ ـ ٣٦٩ ) ، الوسائل ( ١٧ : ٢٩٢ ) أبواب الأشربة المحرمة ب (٢٨) ح (١). في جميع المصادر : هي خميرة.

٦٤

أو منيّ أو أحد الدماء الثلاثة على قول مشهور ،

______________________________________________________

ولا يلحق به العصير العنبي بعد اشتداده وقبل ذهاب ثلثيه قطعا ، تمسكا بمقتضى الأصل السالم من المعارض.

قوله : أو منيّ.

الأجود إلحاق المني بما لا نص فيه ، لتصريح جماعة من علمائنا المتقدمين (١) والمتأخرين (٢) بأنه لم يرد فيه مقدّر شرعي. والمني بإطلاقه متناول لمني الإنسان وغيره مما له نفس سائلة ، وربما قيل باختصاصه بمني الإنسان وأن غيره ملحق بما لا نص فيه ، وقد عرفت أنّ النوعين (٣) من هذا الباب.

قوله : أو أحد الدماء الثلاثة على قول مشهور.

القول للشيخ (٤) ـ رحمه‌الله ـ ومن تبعه من المتأخرين (٥) ، وقد اعترف جماعة من الأصحاب بأنه لم يرد في هذه الدماء نص على الخصوص (٦).

قال المصنف ـ رحمه‌الله ـ في المعتبر بعد أن عزى ذلك إلى الشيخ ـ رحمه‌الله ـ وأتباعه ، واعترف بعدم الوقوف على نص في ذلك : ولعل الشيخ نظر إلى اختصاص دم الحيض بوجوب إزالة قليله وكثيره عن الثوب فغلّظ حكمه في البئر ، وألحق به الدمين‌

__________________

(١) منهم ابن البراج في المهذب ( ١ : ٢١ ) وابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : (٥٥٢) وابن إدريس في السرائر : (١٠).

(٢) منهم المحقق الحلي في المعتبر ( ١ : ٥٩ ) ، والمحقق الكركي في جامع المقاصد ( ١ : ١٢ ) ، والشهيد الثاني في روض الجنان : (١٤٧).

(٣) يعني : مني الإنسان ومني غيره.

(٤) المبسوط ( ١ : ١١ ) ، والاقتصاد : (٢٥٣) ، والجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : (١٧٠).

(٥) منهم العلامة في نهاية الأحكام ( ١ : ٢٥٩ ) ، والمحقق الثاني في جامع المقاصد ( ١ : ١٢ ) ، والشهيد الثاني في الروضة البهية ( ١ : ٣٥ ).

(٦) منهم العلامة في المختلف : (٦) ، والسيوري في التنقيح الرائع ( ١ : ٤٨ ) ، والشهيد الثاني في الروضة البهية ( ١ : ٣٦ ).

٦٥

أو مات فيها بعير.

______________________________________________________

الأخيرين ، لكن هذا التعلق (١) ضعيف ، فالأصل أن حكمه حكم بقية الدماء ، عملا بالأحاديث المطلقة (٢).

وما ذكره من ضعف التعليل بهذا التوجيه حسن ، وتسويته بين هذه الدماء وبين غيرها متجه ، إلاّ أنّ في ثبوت ما ذكره من ورود الأحاديث المطلقة لحكم الدماء نظرا ، وسيجي‌ء تمام تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.

قوله : أو مات فيها بعير.

قيل : هو من الإبل بمنزلة الإنسان يشمل الذكر والأنثى والصغير والكبير. وينبغي الرجوع فيه إلى العرف ، لأنه المحكم في مثله.

والحكم بنزح الجميع في موت البعير مذهب الأصحاب لا أعلم فيه مخالفا ، ويدل عليه روايات كثيرة :

منها : صحيحة الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « وإن مات فيها بعير أو صب فيها خمر فلينزح » (٣).

والأظهر إلحاق الثور والبقرة به ، لصحيحة عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « وإن مات فيها ثور أو نحوه ، أو صب فيها خمر ينزح الماء كله » (٤).

ونقل عن ابن إدريس ـ رحمه‌الله ـ أنه اكتفى في الثور بكرّ (٥) ، وعن الشيخين (٦)

__________________

(١) في « ح » : التعليل.

(٢) المعتبر ( ١ : ٥٩ ).

(٣) الكافي ( ٣ : ٦ ـ ٧ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٤٠ ـ ٦٩٤ ) ، الإستبصار ( ١ : ٣٤ ـ ٩٢ ) ، الوسائل ( ١ : ١٣٢ ) أبواب الماء المطلق ب (١٥) ح (٦). مع اختلاف يسير.

(٤) التهذيب ( ١ : ٢٤١ ـ ٦٩٥ ) ، الإستبصار ( ١ : ٣٤ ـ ٩٣ ) ، الوسائل ( ١ : ١٣١ ) أبواب الماء المطلق ب (١٥) ح (١). بتفاوت يسير.

(٥) السرائر : (١٠).

(٦) المفيد في المقنعة : (٩) والشيخ في المبسوط ( ١ : ١١ ) ، والنهاية : (٦).

٦٦

فإن تعذر استيعاب مائها تراوح عليها أربعة رجال ، كل اثنين دفعة يوما إلى الليل.

______________________________________________________

وأتباعهما (١) أنهم أوجبوا في البقرة كرا ولم يتعرضوا للثور ، قال في المعتبر : ونحن نطالبهم بدليل ذلك (٢).

قوله : فإن تعذر استيعاب مائها تراوح عليها ، أربعة رجال ، كل اثنين دفعة يوما إلى الليل.

التراوح : تفاعل من الراحة ، لأن كل اثنين يريحان صاحبيهما.

وهذا الحكم ـ أعني إجزاء التراوح مع تعذر نزح الجميع ـ ذكره الشيخان وأتباعهما (٣) ، واستدلوا عليه برواية عمار الساباطي ، عن الصادق عليه‌السلام ، وهي طويلة قال في آخرها : وسئل عن بئر وقع فيها كلب ، أو فأرة ، أو خنزير ، قال : « تنزف كلها ، فإن غلب عليه الماء فلتنزف يوما إلى الليل ، ثم يقام عليها قوم يتراوحون اثنين اثنين فينزفون يوما إلى الليل وقد طهرت » (٤).

والرواية ضعيفة السند (٥) ، متروكة الظاهر ، متهافتة المتن ، ومع ذلك فموردها أعيان مخصوصة فلا تصلح مستندا لإثبات الحكم على وجه العموم.

قال المصنف في المعتبر : وهذه وإن ضعف سندها فالاعتبار يؤيدها من وجهين :

أحدهما : عمل الأصحاب على رواية عمار لثقته حتى أنّ الشيخ ـ رحمه‌الله ـ ادعى‌

__________________

(١) منهم ابن البراج في المهذب ( ١ : ٢١ ) ، وأبو الصلاح في الكافي في الفقه : (١٣٠) ، وسلار في المراسم : (٣٥).

(٢) المعتبر ( ١ : ٦١ ).

(٣) العناوين المتقدمة في ص (٦٦) هامش (٦) وهامش (١) من هذه الصفحة‌

(٤) التهذيب ( ١ : ٢٨٤ ـ ٨٣٢ ) ، الوسائل ( ١ : ١٤٣ ) أبواب الماء المطلق ب (٢٣) ح (١).

(٥) لعل وجه الضعف هو اشتمالها على بعض الفطحية هم ابن فضال وعمرو بن سعيد ومصدق بن صدقة وعمار الساباطي.

٦٧

______________________________________________________

في العدة إجماع الإمامية على العمل بروايته ورواية أمثاله ممن عدّدهم (١).

الثاني : إنه إذا وجب نزح الماء كله وتعذر فالتعطيل غير جائز ، والاقتصار على نزح البعض تحكم ، والنزح يوما يتحقق معه زوال ما كان في البئر ، فيكون العمل به لازما (٢). هذا كلامه ـ رحمه‌الله ـ وللنظر فيه مجال ، لكن قال في المنتهى : إنه لا يعرف في هذا الحكم مخالفا من القائلين بالتنجيس (٣).

وتنقيح المقام يتم ببيان أمور :

الأول : صرح جماعة من الأصحاب بأنّ المراد باليوم هنا : يوم الصوم (٤) ، ويحتمل الاكتفاء فيه من أوله بما ينصرف إليه الإطلاق في الإجارة والنذر ونحوهما.

الثاني : قيل إنه يستثنى لهم الأكل جميعا ، والصلاة جماعة (٥). ولا بأس به لقضاء العرف بذلك.

الثالث : المشهور أنه لا يجزئ في النزح غير الرجال ، من النساء والصبيان والخناثى ، لاختصاص القوم بالرجال ، واجتزأ بهم بعض الأصحاب (٦) ، وهو حسن مع عدم قصور نزحهم عن نزح الرجال.

الرابع : الظاهر إجزاء ما فوق الأربعة ما لم يتصور بطء بالكثرة ، مع احتماله مطلقا ، لإطلاق النص ، لا أخذا من باب مفهوم الموافقة كما ذكره في الذكرى (٧).

__________________

(١) عدة الأصول ( ١ : ١٨١ ).

(٢) المعتبر ( ١ : ٦٠ ).

(٣) المنتهى ( ١ : ١٢ ).

(٤) منهم المحقق في المعتبر ( ١ : ٦٠ ) ، والعلامة في المنتهى ( ١ : ١٢ ) ، والمحقق الكركي في جامع المقاصد ( ١ : ١٢ ).

(٥) كما في الذكرى : (١٠) ، وجامع المقاصد ( ١ : ١٢ ).

(٦) منهم العلامة في المنتهى ( ١ : ١٢ ).

(٧) الذكرى : (١٠).

٦٨

وبنزح كرّ إن مات فيها دابة

______________________________________________________

الخامس : المشهور أنه لا يجزئ نزح ما دون الأربعة ، فإن أقل عدد ينقسم اثنين اثنين هو الأربعة. واستقرب العلامة ـ رحمه‌الله ـ في المنتهى الإجزاء إن علم مساواة نزحهم لنزح الأربعة (١) ، وهو قريب.

السادس : ذكر جدي ـ قدس‌سره ـ في روض الجنان : أنّ أحد المتراوحين يكون فوق البئر يمتح (٢) بالدلو والآخر فيها يملؤه (٣). ومقتضى كلامه أنه مع عدم الحاجة إلى ذلك يكفي الواحد ، ولا أعرف مأخذه. والأولى أن يكونا معا فوق البئر يمتحان بالدلو كما هو المتعارف.

قوله : وبنزح كرّ إن مات فيها دابة.

هذا هو المشهور بين الأصحاب ولم أقف له على مستند ، والذي وقفت عليه في ذلك صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية العجلي ، عن أبي عبد الله وأبي جعفر عليهما‌السلام ، في البئر يقع فيها الفأرة والدابة والكلب والطير فيموت قال : « يخرج ، ثم ينزح من البئر دلاء ، ثم اشرب وتوضأ » (٤).

ويندرج في الدابة : البغل والفرس وغيرهما ، وقرّب المصنف ـ رحمه‌الله ـ في المعتبر إلحاق الفرس بما لا نصّ فيه (٥) ، وهو مشكل للقطع بدخولها في مفهوم الدابة سواء قلنا : أنها ما يدب على الأرض ، أو ذات الحوافر ، أو ما يركب.

واعلم أنّ العلامة في المنتهى حاول الاستدلال بهذه الرواية على ما هو المشهور بين‌

__________________

(١) المنتهى ( ١ : ١٣ ).

(٢) الماتح : المستقي ، وكذلك المتوح. تقول : متح الماء يمتحه متحا ، إذا نزعه ( الصحاح ١ : ٤٠٣ ).

(٣) روض الجنان : (١٤٨).

(٤) التهذيب ( ١ : ٢٣٦ ـ ٦٨٢ ) ، الإستبصار ( ١ : ٣٦ ـ ٩٩ ) ، الوسائل ( ١ : ١٣٥ ) أبواب الماء المطلق ب (١٤) ح (٥) بتفاوت يسير.

(٥) المعتبر ( ١ : ٦٢ ).

٦٩

______________________________________________________

الأصحاب من نزح الكر للفرس والبقرة ، فقال بعد نقلها : قال صاحب الصحاح : الدابة اسم لكل ما يدب على الأرض ، والدابة اسم لكل ما يركب (١) ، فنقول : لا يمكن حمله على المعنى الأول وإلا لعم وهو باطل لما يأتي فيجب حمله على الثاني ، فنقول : الألف واللام في الدابة ليست للعهد ، لعدم سبق معهود يرجع إليه ، فإما أن تكون للعموم كما ذهب إليه الجبائيان ، أو لتعريف الماهية على المذهب الحق ، وعلى التقديرين يلزم العموم في كل مركوب ، أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلأن تعليق الحكم على الماهية يستدعي ثبوته في جميع صور وجودها وإلا لم تكن علة ، هذا خلف ، وإذا ثبت العموم دخل فيه الحمار والفرس والبغال والإبل والبقر نادرا ، غير أنّ الإبل والثور خرجا بما دلّ بمنطوقه على نزح الجميع فيكون الحكم ثابتا في الباقي.

فإن قلت : يلزم التسوية بين ما عدّده الإمامان عليهما‌السلام.

قلت : خرج ما استثني بدليل منفصل فيبقى الباقي لعدم المعارض ، وأيضا المساواة حاصلة من حيث الحكم بوجوب نزح الدلاء وإن افترقت بالقلة والكثرة ، وهذا شي‌ء لم يتعرضا له عليهما‌السلام. إلا أنّ لقائل أن يقول : ما ذكرتموه لا يدل على بلوغ الكرية.

ويمكن التمحّل بأن تحمل الدلاء على ما يبلغ الكر ، جمعا بين المطلق والمقيد ، خصوصا مع الإتيان بصيغة جمع الكثرة.

لا يقال : إن حمل الجمع على الكثرة استحال إرادة القلة منه وإلا لزم الجمع بين إرادتي الحقيقة والمجاز ، وإن حمل على القلة فكذلك.

لأنا نقول : لا نسلّم استحالة الثاني ، سلمناه لكن إن حمل على إرادة معناه المجازي وهو مطلق الجمع لم يلزم ما ذكرتم ، على أنّ لنا في كون الصيغ المذكورة حقائق أو مجازات في القلة والكثرة نظر (٢). انتهى كلامه.

__________________

(١) الصحاح ( ١ : ١٢٤ ).

(٢) المنتهى ( ١ : ١٣ ).

٧٠

______________________________________________________

وفيه نظر من وجوه :

الأول :

مقتضى كلامه ـ رحمه‌الله ـ أنّ الدابة حقيقة فيما يركب ، حيث حمل النص عليه ، وهو غير واضح ، وكلام الجوهري لا يدل عليه ، فإن الإطلاق أعم من الحقيقة والمجاز ، وقد صرح بعض محققي أهل اللغة بأن أكثر اللغات مجازات ، مع أنه قد اشتهر أنّ الدّابة منقولة عرفا إلى ذات القوائم الأربع من الخيل والبغال والحمير. وذكر جماعة أنها مختصة بالفرس (١).

سلمنا أنها حقيقة فيما ذكره ، لكن البقر إنما يركب نادرا ـ كما اعترف به ـ والألفاظ إنما تحمل على المعنى المتعارف منها لا النادر الغير المشهور.

الثاني :

قوله ـ في الاستدلال على إفادة الألف واللام العموم على التقدير الثاني ـ : إن تعليق الحكم على الماهية يستدعي وجوده في جميع صور وجودها وإلاّ لم تكن علة.

قلنا : تعليق الحكم على الماهية لا يقتضي كونها علة فيه ، على أنه لو تم ما ذكره لاقتضى إفادة المفرد المحلى بلام الجنس العموم مطلقا ، وهو لا يقول به.

الثالث :

قوله ، إن الإبل والثور خرجا بما دلّ بمنطوقه على نزح الجميع ، فيكون الحكم ثابتا في الباقي.

قلنا : الذي دلّ بمنطوقه على حكم الثور دل بمنطوقه على حكم مثله (٢) ، فإن اقتضى‌

__________________

(١) لم نعثر عليه ولكن قال في المصباح المنير ( ١ : ١٨٨ ) : وأما تخصيص الفرس والبغل بالدابة عند الإطلاق فعرف طارئ.

(٢) الرواية التي دلت على حكم الثور فإن فيها : الثور أو نحوه. وقد تقدمت في ص : (٦٦).

٧١

______________________________________________________

الإخراج في أحدهما اقتضاه في الآخر ، وإلا فلا.

الرابع :

قوله ، خرج ما استثني بدليل منفصل فيبقى الباقي لعدم المعارض.

قلنا : الاستثناء والإخراج بدليل إنما يكون من الألفاظ العامة أو ما في حكمها ، لأن إطلاق اللفظ وإرادة بعض مدلوله معنى مجازي يصار إليه بالقرينة ، والأمور المتعددة المدلول على كل منها بالمطابقة إذا تعلق بها حكم واحد ثبت ذلك الحكم لكل منها على انفراده نصا ، فإذا وجد ما ينافي ذلك في بعض المدلولات تعارض الخبران ويصار إلى الترجيح ، لامتناع العمل بهما.

الخامس :

قوله ، وأيضا المساواة حاصلة من حيث الحكم بوجوب نزح الدلاء.

قلنا : هذا الخيال واضح الفساد فإنه لا يكاد يفهم من هذا الإطلاق إلا تساوي الأمور المذكورة في قدر النزح ، فلو كانت مختلفة في ذلك لزم الإغراء بالجهل ، والخطاب بما له ظاهر مع إرادة خلاف ظاهره ، وقد ثبت امتناعه في الأصول.

السادس :

قوله ، ويمكن التمحل بأن تحمل الدلاء على ما يبلغ الكر ، جمعا بين المطلق والمقيد.

قلنا : هذا التمحل واضح الفساد أيضا ، فإن إطلاق لفظ الدلاء وإرادة الكر من غير زيادة ولا نقصان يكاد أن يلحق بالهذر والهذيان فلا ينبغي أن ينسب إلى سادات الأنام ، وأبواب الملك العلام ، عليهم أفضل الصلاة والسلام ، ومع ذلك كله فالمقيد الذي ادّعاه غير موجود ، ولو ثبت وجوده لكان فيه غنية عن هذه التمحلات الواهية والتكلفات الباردة.

٧٢

أو حمار أو بقرة ،

______________________________________________________

السابع :

قوله ، لا نسلم استحالة الثاني.

قلنا : استحالة الجمع بين المعنى الحقيقي والمجازي على أن يكون كل منهما موردا للحكم ومناطا للنفي والإثبات مما قد تقرر في الأصول ، وذلك لأن إرادة المعنى المجازي مشروطة بقيام قرينة مانعة عن إرادة المعنى الحقيقي ، فإرادتهما معا تفضي إلى التناقض ، وفيه بحث.

الثامن :

قوله ، سلمناه لكن إن حمل على إرادة معناه المجازي وهو مطلق الجمع لم يلزم ما ذكرتم.

قلنا : هذا موقوف على وجود العلاقة المجوّزة لذلك ، وليس هنا إلا علاقة الكلية والجزئية ، وقد صرح الأصوليون (١) بأنها لا تعتبر مطلقا ، للقطع بامتناع إطلاق الأرض على مجموع السماء والأرض ، وقد اختلفوا في الشرط المسوغ لذلك ، وتمام تحقيق المسألة في الأصول.

قوله : أو حمار أو بقرة.

ما اختاره المصنف ـ رحمه‌الله ـ من وجوب نزح الكر في موت الحمار والبقرة مذهب الثلاثة (٢) وأتباعهم (٣) ، ولم نقف لهم في البقرة على دليل كما اعترف به‌

__________________

(١) منهم الحسن في معالم الدين : (٣٣).

(٢) السيد كما نقله عنه في المعتبر ( ١ : ٦١ ) ، والمفيد في المقنعة : (٩) ، والشيخ في المبسوط ( ١ : ١١ ) ، والنهاية : (٦).

(٣) منهم ابن البراج في المهذب ( ١ : ٢١ ) ، وأبو الصلاح في الكافي في الفقه : (١٣٠) ، وسلار في المراسم : (٣٥).

٧٣

______________________________________________________

المصنف (١) ـ رحمه‌الله ـ وغيره (٢).

أما الحمار ، فاحتجوا (٣) على وجوب نزح الكر فيه بما رواه الشيخ عن عمرو بن سعيد بن هلال ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عما يقع في البئر ما بين الفأرة والسنور إلى الشاة ففي كل ذلك يقول : « سبع دلاء » حتى بلغت الحمار والجمل فقال : « كر من ماء » (٤).

وهذه الرواية بعينها نقلها المصنف في المعتبر ، وفيها : حتى بلغت الحمار والجمل والبغل ، قال : « كر من ماء » (٥).

وفي الاستدلال بها نظر ، أما أولا : فلأن عمرو بن سعيد بن هلال لم ينص عليه علماؤنا بمدح ولا قدح (٦) ، وذكر في المختلف أن عمرو بن سعيد هذا هو المدائني الثقة (٧). وهو غير جيد ، لأن المدائني من رجال الرضا عليه‌السلام (٨) ، وهذا كوفي من رجال الصادق عليه‌السلام على ما ذكره الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في كتاب الرجال (٩). والظاهر أنّ أبا جعفر المروي عنه هنا هو الباقر عليه‌السلام ، لأن الراوي عن عمرو بن‌

__________________

(١) المعتبر ( ١ : ٦٢ ).

(٢) منهم الشهيد الثاني في المسالك ( ١ : ٣ ).

(٣) منهم الشيخ في الاستبصار ( ١ : ٣٥ ) ، والمحقق الحلي في المعتبر ( ١ : ٥٧ ) ، والعلامة في المنتهى ( ١ : ١٣ ) ، والأردبيلي في مجمع الفائدة ( ١ : ٢٧٠ ).

(٤) التهذيب ( ١ : ٢٣٥ ـ ٦٧٩ ) ، الإستبصار ( ١ : ٣٤ ـ ٩١ ) ، الوسائل ( ١ : ١٣٢ ) أبواب الماء المطلق ب (١٥) ح (٥).

(٥) المعتبر ( ١ : ٥٧ ).

(٦) ذكره في رجال الطوسي : (٢٤٧) في أصحاب الصادق عليه‌السلام ، وذكر أنه كوفي ولم يوثقه ، والنجاشي لم يذكره في كتابه.

(٧) المختلف : (٥).

(٨) راجع رجال النجاشي : ( ٢٨٧ ـ ٧٦٧ ) ، ومعجم رجال الحديث : ( ١٣ : ١٠٤ ـ ٨٩١٥ ).

(٩) تقدم في هامش رقم (٦).

٧٤

وبنزح سبعين إن مات فيها إنسان ،

______________________________________________________

سعيد هو عمر بن يزيد ، وهو من رجال الصادق عليه‌السلام (١).

وأما ثانيا : فلأنها مخالفة لما عليه الأصحاب من إيجاب نزح الجميع للجمل. والعمل ببعض الرواية وإسقاط الباقي غير معقول. والقول بجواز أن يكون الجواب وقع عن الحمار والبغل دون الجمل فاسد قطعا ، لما فيه من التعمية وتأخير البيان عن وقت الحاجة.

والأجود إلحاق البقرة بالثور كما بيّناه فيما سبق ، بل يمكن إلحاق البغل والحمار به أيضا ، لاندراجهما في لفظ : « ونحوه » الواقع في الرواية (٢). ويمكن الاكتفاء فيهما بالدلاء ، لشمول اسم الدابة لهما فيتناولهما النص الوارد بالدلاء فيها (٣). وما أبعد ما بين هذين الوجهين وكل ذلك قرينة الاستحباب.

قوله : وبنزح سبعين إن مات فيها إنسان.

هذا مذهب الأصحاب ، ومستنده رواية عمار الساباطي ، عن الصادق عليه‌السلام ، وهي طويلة ، قال فيها : « وما سوى ذلك مما يقع في بئر الماء فيموت فيه فأكبره الإنسان ينزح منها سبعون دلوا » (٤) وفي طريقها جماعة من الفطحية (٥) ، لكن ظاهر المعتبر اتفاق الأصحاب على العمل بمضمونها (٦) ، فإن تم فهو الحجة وإلا فللتوقف في هذا الحكم مجال.

والمشهور بين الأصحاب أنه لا فرق في ذلك بين المسلم والكافر ، لأن الإنسان جنس معرف باللام وليس هناك معهود ، وتعريف الحقيقة ليس بمراد ، فتكون للاستغراق ، وهو‌

__________________

(١) راجع رجال النجاشي : ( ٢٨٦ ـ ٧٦٣ ) ، ومعجم رجال الحديث ( ١٣ : ١٣٢ ـ ٩٠٠٦ ).

(٢) المتقدمة في ص : (٦٦) وفيها : أو نحوه.

(٣) المتقدم في ص : (٦٩).

(٤) التهذيب ( ١ : ٢٣٤ ـ ٦٧٨ ) ، الوسائل ( ١ : ١٤١ ) أبواب الماء المطلق ب (٢١) ح (٢).

(٥) وهم ابن فضال ، وعمر بن سعيد المدائني ، ومصدق بن صدقة ، وعمار الساباطي.

(٦) المعتبر ( ١ : ٦٢ ).

٧٥

______________________________________________________

مفيد للعموم.

فإن قلت : إنّ إيجاب السبعين لنجاسة الموت لا ينافي إيجاب ما زاد عليها لنجاسة الكفر ، فلا يكون في الخبر دلالة على الاكتفاء بالسبعين مطلقا.

قلت : الظاهر من هذه الرواية أن نزح السبعين مقتض لطهارة البئر من موت الإنسان فيها على وجه لا يحتاج معه إلى شي‌ء آخر ، فمتى سلّم عمومه على وجه يتناول الكافر تعيّن الاجتزاء فيه بالسبعين.

وخالف في ذلك ابن إدريس ـ رحمه‌الله ـ فاشترط الإسلام ، وأوجب في موت الكافر نزح الجميع ، واحتج عليه : بأن الكافر نجس فعند ملاقاته للماء حيا يجب له نزح الجميع ، لأنه لم يرد فيه مقدر ، والموت غير مطهر ، فلا يزول وجوب نزح الجميع (١).

وأجاب عنه في المعتبر بمنع وجوب نزح الجميع مع وقوعه حيا ، قال : وقوله : إنه لم يرد فيه مقدر منصوص مدفوع بأنّ الإنسان إذا كان متناولا للمسلم والكافر جرى مجرى النطق بهما ، وإذا ثبت الاكتفاء بالسبعين في موته في البئر المقتضي لمباشرته له حيا وميتا وجب الاكتفاء بها مع مباشرته في حال الحياة خاصة بطريق أولى (٢).

ومقتضى هذا الاستدلال والجواب : أن محل الخلاف موت الكافر في البئر ، وظاهر كلام العلامة ـ رحمه‌الله ـ في المختلف يقتضي أنّ موضع الخلاف وقوعه في الماء ميتا ، فإنه حكى عن ابن إدريس ـ رحمه‌الله ـ الاحتجاج على ذلك بأنّ الكافر حال حياته ينزح له الماء أجمع فكذا بعد موته ، لأن الموت يزيد نجاسته. ثم أجاب عن ذلك بالمنع من زيادة نجاسته بالموت ، فإن نجاسته إنما كانت بسبب اعتقاده وقد زال فيزول مسببه (٣). وهو غير جيد.

__________________

(١) السرائر : (١٠).

(٢) المعتبر ( ١ : ٦٣ ).

(٣) المختلف : (٦).

٧٦

______________________________________________________

أما أولا : فلأن ذلك مخالف لما هو المفروض في النص وكلام ابن إدريس وغيره (١) ، فإن موضوع المسألة في كلامهم موت الإنسان في البئر ، لا وقوعه فيه ميتا ، كما لا يخفى على من تتبع كلامهم.

وأما ثانيا : فلأن ابن إدريس لم يستدل على وجوب نزح الجميع في هذه الحالة بمفهوم الموافقة ليتوجه عليه ما ذكره من المنع ، وإنما احتج عليه بثبوته في حال الحياة ، وعدم اقتضاء الموت التطهير فلا يزول وجوب نزح الجميع الثابت قبله. وهو استدلال جيد لو سلم انتفاء التقدير فيه ، وأنّ كل ما كان كذلك وجب فيه نزح الجميع.

وأما ثالثا : فلأن زوال الاعتقاد المقتضي لنجاسة الكفر لا يقتضي زوال تلك النجاسة الحاصلة منه ، لما حققناه فيما سبق (٢) من أنّ كل ما حكم الشارع بنجاسته فيجب الحكم ببقائه على ذلك ( إلى أن يثبت المطهر له شرعا ، وأن هذا ليس من باب الاستصحاب بل مرجعه إلى الأدلة العامة الدالة على ذلك فتأمل ) (٣).

وفصل المحقق الشيخ علي ـ رحمه‌الله ـ في شرح القواعد (٤) ، وجدي ـ قدس‌سره ـ في روض الجنان (٥) فحكما بالاكتفاء بالسبعين في الكافر إن وقع في الماء ميتا ، لعموم النص ، وأوجبا نزح الجميع إن وقع حيا ثم مات ، لثبوت ذلك قبل الموت والموت لا يزيله.

وضعف هذا التفصيل ظاهر ، فإن مورد النص موت الإنسان في البئر ، وهو ظاهر في ملاقاته للماء حيا ، فإن سلم شموله للكافر وجب الاكتفاء فيه بالسبعين مطلقا وإلا‌

__________________

(١) منهم الشيخ في النهاية : (٦) ، والشهيد الثاني في الروضة البهية ( ١ : ٣٧ ).

(٢) تقدم في ص : (٤٢).

(٣) ما بين القوسين ليس في « س ».

(٤) جامع المقاصد ( ١ : ١٣ ).

(٥) روض الجنان : (١٤٩).

٧٧

وبنزح خمسين إن وقعت فيها عذرة فذابت ، والمروي أربعون أو خمسون ،

______________________________________________________

فالجميع كذلك ، وأما التفصيل فلا وجه له.

قوله : وبنزح خمسين إن وقعت فيها عذرة فذابت ، والمروي أربعون أو خمسون.

المراد بالعذرة : فضلة الإنسان ، وبالذوبان : تفرق أجزائها في الماء وشيوعها فيه. والقول بوجوب الخمسين في وقوع العذرة مع الذوبان للثلاثة (١) وأتباعهم (٢) ، ولم أقف له على شاهد. والرواية التي أشار إليها المصنف هي رواية أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن العذرة تقع في البئر قال : « ينزح منها عشر دلاء ، فإن ذابت فأربعون أو خمسون دلوا » (٣).

قال في المختلف : ويمكن أن يقال : إيجاب أحدهما يستلزم إيجاب الأكثر ، لأنه مع الأقل غير متيقن للبراءة ، وإنما يعلم الخروج عن العهدة بفعل الأكثر (٤).

قلت : هذا غير مستقيم ، فإن التخيير بين الأقل والأكثر يقتضي عدم وجوب الزائد عينا وإلا لم يكن للتخيير معنى ، فيجب أن يحصل يقين بالبراءة بالأقل ويكون الزائد مستحبا.

واعلم : أنّ في هذه المسألة إشكالا ، لضعف دليلها بعبد الله بن بحر ، واشتراك أبي بصير ، مع أنه معارض بصحيحة علي بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام ، إنه‌

__________________

(١) السيد كما نقله عنه في المعتبر ( ١ : ٦٥ ) ، والمفيد في المقنعة : (٩) ، والشيخ في المبسوط ( ١ : ١٢ ) ، والنهاية : (٧).

(٢) منهم ابن البراج في المهذب ( ١ : ٢٢ ) ، وأبو الصلاح في الكافي في الفقه : (١٣٠) ، وسلار في المراسم : (٣٥).

(٣) التهذيب ( ١ : ٢٤٤ ـ ٧٠٢ ) ، الإستبصار ( ١ : ٤١ ـ ١١٦ ) ، الوسائل ( ١ : ١٤٠ ) أبواب الماء المطلق ب (٢٠) ح (١) ، بتفاوت يسير.

(٤) المختلف : (٨).

٧٨

أو كثير الدم كذبح الشاة ، والمروي من ثلاثين إلى أربعين ،

______________________________________________________

سأله عن بئر ماء وقع فيها زنبيل من عذرة رطبة أو يابسة أيصلح الوضوء منها؟ قال : « لا بأس » (١) وصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع الدالة على الاكتفاء في طهارة البئر من وقوع العذرة فيها بنزح دلاء (٢) ، وتقييدهما بهذه الرواية غير جائز.

وعندي أنّ هذا الاختلاف إنما هو لاستحباب النزح ، واختلاف الآبار فيما تندفع به النفرة الحاصلة من وقوع تلك الأعيان المستخبثة فيها ، وتحصل به طيبة الماء ، باعتبار قلة الماء وكثرته ، وسعة المجرى وضيقه ، والله تعالى أعلم.

قوله : أو كثير الدم كذبح الشاة ، والمروي من ثلاثين إلى أربعين.

القول بوجوب الخمسين للشيخ (٣) وأتباعه (٤) ، ولم نقف لهم فيه على مستند.

والرواية التي حكاها المصنف ـ رحمه‌الله ـ هي صحيحة علي بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام : في رجل ذبح شاة فوقعت في بئر وأوداجها تشخب دما ، قال : « ينزح منها ما بين ثلاثين إلى أربعين ثم يتوضأ منها » (٥).

وهل يستوي في ذلك دم نجس العين وغيره؟ إطلاق الأصحاب يقتضيه ، والظاهر العدم ، لغلظ نجاسته ، واختصاص مورد الخبر بدم ذبح الشاة. بل يمكن تطرق الإشكال إلى غيره من الدماء ، ولا يبعد دخوله في غير المنصوص.

__________________

(١) التهذيب ( ١ : ٢٤٦ ـ ٧٠٩ ) ، الإستبصار ( ١ : ٤٢ ـ ١١٨ ) ، الوسائل ( ١ : ١٢٧ ) أبواب الماء المطلق ب (١٤) ح (٨).

(٢) الكافي ( ٣ : ٥ ـ ١ ) ، التهذيب ( ١ : ٢٤٤ ـ ٧٠٥ ) ، الإستبصار ( ١ : ٤٤ ـ ١٢٤ ) ، الوسائل ( ١ : ١٣٠ ) أبواب الماء المطلق ب (١٤) ح (٢١).

(٣) كما في المبسوط ( ١ : ١٢ ) ، والنهاية : (٧).

(٤) منهم ابن البراج في المهذب ( ١ : ٢٢ ) ، وأبو الصلاح في الكافي في الفقه : (١٣٠) ، وسلار في المراسم : (٣٥).

(٥) الكافي ( ٣ : ٦ ـ ٨ ) ، الفقيه ( ١ : ١٥ ـ ٢٩ ) ، التهذيب ( ١ : ٤٠٩ ـ ١٢٨٨ ) ، الإستبصار ( ١ : ٤٤ ـ ١٢٣ ) ، الوسائل ( ١ : ١٤١ ) أبواب الماء المطلق ب (٢١) ح (١) ، بتفاوت يسير.

٧٩

وبنزح أربعين إن مات فيها ثعلب أو أرنب أو خنزير أو سنّور أو كلب وشبهه ،

______________________________________________________

وعلى المشهور فالظاهر أنّ المعتبر في كثرة الدم وقلته بالنسبة إليه نفسه.

وقال القطب الراوندي : إن الاعتبار في ذلك بماء البئر في الغزارة والنزارة ، فربما كان دم الطير كثيرا في بئر يسيرا في أخرى (١). وهو الذي نقله القطب الرازي ـ رحمه‌الله ـ عن العلامة (٢) ـ رحمه‌الله ـ وهو اعتبار حسن إلا أنّ النص لا يساعد عليه.

قوله : وبنزح أربعين إن مات فيها ثعلب أو أرنب أو خنزير أو سنّور أو كلب وشبهه.

هذا مذهب الثلاثة (٣) وأتباعهم (٤).

استدل عليه الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في التهذيب برواية سماعة ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « وإن كان سنورا أو أكبر منه نزحت منها ثلاثين دلوا أو أربعين » (٥) ورواية القاسم ، عن علي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « والسنور عشرون أو ثلاثون أو أربعون دلوا والكلب وشبهه » (٦).

وهما قاصرتان متنا وسندا ، مع أنه قد روى في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم‌

__________________

(١) نقله عنه الشهيد الثاني في روض الجنان : (١٥٠).

(٢) ذكر ذلك الشهيد في الروض : (١٥٠).

(٣) السيد كما نقله عنه في المعتبر ( ١ : ٦٦ ) ، والمفيد في المقنعة : (٩) ، والشيخ في التهذيب ( ١ : ٢٣٦ ) ، والمبسوط ( ١ : ١١ ) ، والنهاية : (٦).

(٤) منهم أبو الصلاح في الكافي في الفقه : (١٣٠) ، وسلار في المراسم : (٣٥).

(٥) التهذيب ( ١ : ٢٣٦ ـ ٦٨١ ) ، الإستبصار ( ١ : ٣٦ ـ ٩٨ ) ، الوسائل ( ١ : ١٣٥ ) أبواب الماء المطلق ب (١٧) ح (٤).

(٦) التهذيب ( ١ : ٢٣٥ ـ ٨٦٠ ) ، الإستبصار ( ١ : ٣٦ ـ ٩٧ ) ، الوسائل ( ١ : ١٣٤ ) أبواب الماء المطلق ب (١٧) ح (٣).

٨٠