مدارك الأحكام - ج ١

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي

مدارك الأحكام - ج ١

المؤلف:

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٦

السابعة : لا يجوز للمحدث مس كتابة القرآن ، ويجوز له أن يمس ما عدا الكتابة.

______________________________________________________

قوله : السابعة ، لا يجوز للمحدث مس كتابة القرآن.

هذا هو المشهور بين الأصحاب ، واحتجوا عليه بقوله تعالى ( لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) (١) وهو إنما يتم إذا قلنا أن الضمير عائد إلى القرآن ، وأنّ الجملة الخبرية في معنى النهي ، وحمل المطهر على من حصل منه الطهارة الرافعة للحدث ، وفي جميع هذه المقدمات نظر.

وبرواية أبي بصير : قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عمن قرأ في المصحف وهو على غير وضوء ، قال : « لا بأس ، ولا يمس الكتاب » (٢) ومرسلة حريز ، عمن أخبره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : إنه قال لولده إسماعيل : « يا بني اقرأ المصحف » فقال : إني لست على وضوء ، فقال : « لا تمس الكتاب ، ومس الورق واقرأ » (٣).

وصحيحة علي بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام : أنه سأله عن الرجل يحل له أن يكتب القرآن في الألواح والصحيفة وهو على غير وضوء ، قال : « لا » (٤).

ويتوجه على الروايتين الأوليين الطعن في السند بإرسال الثانية ، وضعف بعض رجال الأولى. وعلى الرواية الثالثة عدم الدلالة على المدعى صريحا ، وإمكان حملها على الكراهة ، إذ لا نعلم بمضمونها قائلا ، وبالجملة : فالروايات كلها قاصرة ، والآية‌

__________________

(١) الواقعة : (٧٩).

(٢) الكافي ( ٣ : ٥٠ ـ ٥ ) ، التهذيب ( ١ : ١٢٧ ـ ٣٤٣ ) ، الإستبصار ( ١ : ١١٣ ـ ٣٧٧ ) ، الوسائل ( ١ : ٢٦٩ ) أبواب الوضوء ب (١٢) ح (١).

(٣) التهذيب ( ١ : ١٢٦ ـ ٣٤٢ ) ، الإستبصار ( ١ : ١١٣ ـ ٣٧٦ ) ، الوسائل ( ١ : ٢٦٩ ) أبواب الوضوء ب (١٢) ح (٢).

(٤) التهذيب ( ١ : ١٢٧ ـ ٣٤٥ ) ، الوسائل ( ١ : ٢٧٠ ) أبواب الوضوء ب (١٢) ح (٤) ، البحار ( ١٠ : ٢٧٧ ).

٢٤١

الثامنة : من به السلس ، قيل : يتوضأ لكل صلاة ،

______________________________________________________

الشريفة محتملة لغير ذلك المعنى ، ومن ثم ذهب الشيخ في المبسوط (١) ، وابن البراج (٢) ، وابن إدريس إلى الكراهة. وهو متجه غير أنّ المنع أحوط وأنسب بالتعظيم.

قوله : الثامنة ، من به السلس قيل : يتوضأ لكل صلاة.

صاحب السلس هو الذي لا يستمسك بوله ، والقول بوجوب الوضوء عليه لكل صلاة للشيخ في الخلاف (٣) ، نظرا إلى أنه بتجدد البول يصير محدثا ، فيجب عليه الطهارة ، ويمنع من المشروط بها ، إلاّ أنّ ذلك لما امتنع اعتباره مطلقا لتعذر الصلاة حينئذ وجب عليه الوضوء لكل صلاة ، مراعاة لمقتضى الحدث بحسب الإمكان.

وقال في المبسوط : إنه يصلي بوضوء واحد عدة صلوات ، لأن إلحاقه بالمستحاضة قياس (٤). وظاهر كلامه أنّ البول بالنسبة إليه لا يكون حدثا ، وهو بعيد جدا.

واستقرب العلامة في المنتهى أنه يجوز له أن يجمع بين الظهر والعصر بوضوء واحد ، وبين المغرب والعشاء بوضوء ، وأوجب عليه تعدد الوضوء بتعدد الصلاة في غير ذلك (٥) ، واحتج على الثاني بنحو ما ذكرناه ، وعلى الأول بما رواه ابن بابويه ـ رحمه‌الله ـ في الصحيح ، عن حريز ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : « إذا كان الرجل يقطر منه البول والدم (٦) إذا كان حين الصلاة اتخذ كيسا وجعل فيه قطنا ، ثم علّقه عليه وأدخل ذكره فيه ، ثم صلّى يجمع بين الصلاتين الظهر والعصر ، ويؤخر الظهر ويعجّل العصر بأذان وإقامتين ، ويؤخّر المغرب ويعجّل العشاء بأذان وإقامتين ، ويفعل ذلك في‌

__________________

(١) المبسوط ( ١ : ٢٣ ).

(٢) المهذب ( ١ : ٣٢ ).

(٣) الخلاف ( ١ : ٧٩ ).

(٤) المبسوط ( ١ : ٦٨ ).

(٥) المنتهى ( ١ : ٧٣ ).

(٦) في « ح » : أو الدم.

٢٤٢

وقيل : من به البطن إذا تجدد حدثه في الصلاة يتطهر ويبني.

______________________________________________________

الصبح » (١) فإنّ الجمع بين الفريضتين ظاهر في كونهما بوضوء واحد ، وما ذكره ـ رحمه‌الله ـ غير بعيد ، إلاّ أنّ تعدد الوضوء بتعدد الصلاة مطلقا أولى.

وتجب عليه المبادرة إلى الصلاة بعد الوضوء ، ويعفى عن الحدث الواقع قبلها وفيها إجماعا. هذا إذا لم تكن له فترة معتادة تسع الطهارة والصلاة ، وإلاّ وجب انتظارها لزوال الضرورة التي هي مناط التخفيف.

قوله : وقيل ، من به البطن إذا تجدد حدثه في الصلاة تطهر وبنى.

هذا قول معظم الأصحاب ، واحتجوا عليه بموثقة محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام : قال : « صاحب البطن الغالب يتوضّأ ، ثم يرجع في صلاته فيتم ما بقي » (٢) وفي طريقها عبد الله بن بكير وهو فطحي ، وذكر جدي ـ قدس‌سره ـ أنها من الصحيح ، وأنّ العمل بها متعين لذلك (٣). وهو غير جيد.

وذهب العلامة في المختلف إلى وجوب استئناف الطهارة والصلاة مع إمكان التحفظ بقدر زمانهما ، وإلاّ بنى بغير طهارة ، لأن الحدث المذكور لو نقض الطهارة لأبطل الصلاة ، لأن شرط الصلاة استمرار الطهارة ، وهو مصادرة على المطلوب (٤).

احتج المحقق الشيخ علي ـ رحمه‌الله ـ على هذه المقدمة بالإجماع ، ثم قال : وليس في هذا مصادرة بوجه من الوجوه. وفيه نظر لمنع الاتفاق على الشرطية بالمعنى الذي ادّعاه في موضع النزاع ، وإنما يتم ما ذكره لو أثبت الشرطية بالنص ، والمسألة محل تردد ، وإن‌

__________________

(١) الفقيه ( ١ : ٣٨ ـ ١٤٦ ) ، الوسائل ( ١ : ٢١٠ ) أبواب نواقض الوضوء ب (١٩) ح (١).

(٢) التهذيب ( ١ : ٣٥٠ ـ ١٠٣٦ ) ، الوسائل ( ١ : ٢١٠ ) أبواب نواقض الوضوء ب (١٩) ح (٤).

(٣) الروضة البهية ( ١ : ٣٥٨ ).

(٤) المختلف : (٢٨).

٢٤٣

وسنن الوضوء هي وضع الإناء على اليمين ،

______________________________________________________

كان القول بالبناء لا يخلو من قرب عملا بمقتضى الرواية (١) المعتبرة السند ، المؤيدة بعمل الأصحاب ، المعتضدة بالأصل والعمومات والروايات الدالة على البناء مع سبق الحدث في الطهارة الترابية وغيرها كما سيجي‌ء بيانه إن شاء الله تعالى.

واعلم : أنّ موضع الخلاف ما إذا شرع في الصلاة متطهرا ثم طرأ الحدث في الأثناء ، أما لو كان مستمرا فقد صرح المصنف في المعتبر (٢) ، والعلامة في المنتهى (٣) بأنه كالسلس في وجوب تجديد الوضوء لكل صلاة ، والعفو عما يقع من ذلك في الأثناء ، لمكان الضرورة. ولا ريب في ذلك.

قوله : وسنن الوضوء : وضع الإناء على اليمين.

هذا إذا كان الإناء مما يمكن الاغتراف منه باليد ، وإلاّ وضع على اليسار ليصب منه في اليمين للغسل بها ، أو للإدارة إلى اليسار ، وهذا الحكم مشهور بين الأصحاب ، واستدل عليه في المعتبر (٤) بأن ذلك أمكن في الاستعمال ، وهو نوع من التدبير ، وبما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنه قال : « إنّ الله تعالى يحب التيامن في كل شي‌ء » (٥).

وهو حسن وإن كان المروي في صحيحة زرارة خلاف ذلك ، فإنه قال : إنّ أبا جعفر عليه‌السلام حكى وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فدعا بقعب فيه شي‌ء من ماء ، ثم وضعه بين يديه ثم حسر عن ذراعيه ، ثم غمس فيه كفّه اليمنى ، ثم قال : هذا إذا‌

__________________

(١) المتقدمة في ص (٢٤٣).

(٢) المعتبر ( ١ : ١٦٣ ).

(٣) المنتهى ( ١ : ٧٤ ).

(٤) المعتبر ( ١ : ١٦٤ ).

(٥) عوالي اللآلي ( ٢ : ٢٠٠ ـ ١٠١ ) ، مسند أحمد ( ٦ : ٩٤ ، ١٣٠ ، ٢٠٢ ) ، سنن النسائي ( ١ : ٧٨ ).

٢٤٤

والاغتراف بها ، والتسمية ، والدعاء.

______________________________________________________

كانت الكفّ طاهرة ، ثمّ غرف فملأها فوضعها على جبينه (١). الحديث. ولا ريب أنّ العمل بمقتضى هذه الرواية أولى.

قوله : والاغتراف بها.

لقول أبي جعفر عليه‌السلام في حكاية وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّه أخذ كفّا من ماء فصبه على وجهه ثم مسح على حاجبيه (٢) حتى مسحه كله ، ثم أخذ كفّا آخر بيمينه فصبه على يساره ، ثم غسل به ذراعه الأيمن ، ثم أخذ كفّا آخر وغسل به ذراعه الأيسر » (٣). وأقل مراتب ذلك الاستحباب.

قوله : والتسمية والدعاء.

لما رواه زرارة في الصحيح ، عن الباقر عليه‌السلام ، قال : « إذا وضعت يدك في الماء فقل : بسم الله وبالله ، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ، فإذا فرغت فقل : الحمد لله رب العالمين » (٤).

وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه كان يقول : « بسم الله وبالله وخير الأسماء لله ، وأكبر الأسماء لله ، وقاهر لمن في السماء وقاهر لمن في الأرض ، الحمد لله الذي جعل من الماء كل شي‌ء حي ، وأحيا قلبي بالإيمان ، اللهم تب عليّ وطهّرني واقض لي بالحسنى ، وأرني كلّ الذي أحب ، وافتح لي بالخيرات من عندك يا سميع الدعاء » (٥).

ولو اقتصر على بسم الله أجزأ ، لإطلاق قول الصادق عليه‌السلام : « إذا سمّيت في‌

__________________

(١) الكافي ( ٣ : ٢٥ ـ ٤ ) ، الفقيه ( ١ : ٢٤ ـ ٧٤ ) ، الإستبصار ( ١ : ٥٨ ـ ١٧١ ) ، الوسائل ( ١ : ٢٧٢ ) أبواب الوضوء ب (١٥) ح (٢).

(٢) وردت في الكافي : جانبيه.

(٣) الكافي ( ٣ : ٢٤ ـ ٣ ) ، الوسائل ( ١ : ٢٧٤ ) أبواب الوضوء ب (١٥) ح (٧).

(٤) التهذيب ( ١ : ٧٦ ـ ١٩٢ ) ، الوسائل ( ١ : ٢٩٨ ) أبواب الوضوء ب (٢٦) ح (٢).

(٥) الفقيه ( ١ : ٢٧ ـ ٨٧ ) ، الوسائل ( ١ : ٢٩٩ ) أبواب الوضوء ب (٢٦) ح (٧).

٢٤٥

وغسل اليدين قبل إدخالهما الإناء من حدث النوم أو البول مرّة ومن الغائط مرتين،

______________________________________________________

الوضوء طهر جسدك كله ، وإذا لم تسم لم يطهر إلا ما أصابه الماء » (١).

وفي مرسل ابن أبي عمير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من توضّأ بإعادة وضوئه ثلاثا حتى سمّى » (٢).

وأجاب عنه في المعتبر بالطعن في السند ، لمكان الإرسال قال : ولو قيل مراسيل ابن أبي عمير يعمل بها الأصحاب منعنا ذلك ، لأن في رجاله من طعن الأصحاب فيه ، فإذا أرسل احتمل أن يكون الراوي أحدهم. ثم حملها على تأكد الاستحباب ، أو على أنّ المراد بالتسمية نية الاستباحة ، والأول أولى.

قوله : وغسل اليدين قبل إدخالهما الإناء ، من حدث النوم أو البول مرّة ، ومن الغائط مرتين.

هذا مذهب فقهائنا وأكثر أهل العلم ، قاله في المعتبر (٣). والمستند فيه ما رواه الكليني ـ رحمه‌الله ـ في الصحيح ، عن الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال : سئل كم يفرغ الرجل على يده (٤) قبل أن يدخلها في الإناء؟ قال : واحدة من حدث البول ، واثنتان من الغائط ، وثلاث من الجنابة » (٥).

__________________

(١) الكافي ( ٣ : ١٦ ـ ٢ ) ، التهذيب ( ١ : ٣٥٥ ـ ١٠٦٠ ) ، الإستبصار ( ١ : ٦٧ ـ ٢٠٤ ) ، الوسائل ( ١ : ٢٩٨ ) أبواب الوضوء ب (٢٦) ح (٥).

(٢) التهذيب ( ١ : ٣٥٨ ـ ١٠٧٥ ) ، الإستبصار ( ١ : ٦٨ ـ ٢٠٦ ) ، الوسائل ( ١ : ٢٩٨ ) أبواب الوضوء ب (٢٦) ح (٦).

(٣) المعتبر ( ١ : ١٦٥ ).

(٤) وردت في « س » : يديه.

(٥) الكافي ( ٣ : ١٢ ـ ٥ ) ، الوسائل ( ١ : ٣٠١ ) أبواب الوضوء ب (٢٧) ح (١).

٢٤٦

والمضمضة والاستنشاق ،

______________________________________________________

وعن عبد الكريم بن عتبة : قال : سألت الشيخ عن الرجل يستيقظ من نومه ولم يبل ، أيدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها؟ قال : « لا ، لأنه لا يدري أين كانت يده فليغسلها » (١) وفي الطريق محمد بن سنان ، وهو ضعيف جدا (٢).

ومقتضى الروايتين : أنّ الغسل إنما يستحب إذا كان الوضوء من إناء يمكن الاغتراف منه ، وظاهرهما اختصاص الحكم بالقليل ، لأنه الغالب في الإناء ، وجزم الشارح بالتعميم رعاية لجانب التعبد (٣). وهو ضعيف. ولو تداخلت الأسباب دخل موجب الأقل تحت موجب الأكثر. واليد هنا من الزند اقتصارا على المتيقن.

قوله : والمضمضة والاستنشاق.

المضمضة هي إدارة الماء في الفم ، والاستنشاق اجتذابه بالأنف. والحكم باستحبابهما هو المعروف من المذهب ، والنصوص به مستفيضة (٤).

وقال ابن أبي عقيل : إنهما ليسا بفرض ولا سنة (٥). وله شواهد من الأخبار ، إلا أنها مع ضعفها قابلة للتأويل ، نعم روى زرارة في الصحيح ، عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : « المضمضة والاستنشاق ليسا من الوضوء » (٦) ونحن نقول بموجبها ، فإنهما ليسا من أفعال الوضوء وإن استحب فعلهما قبله ، كالسواك والتسمية ونحوهما. هذا وقد‌

__________________

(١) الكافي ( ٣ : ١١ ـ ٢ ) ، علل الشرائع : ( ٢٨٢ ـ ١ ) ، الوسائل ( ١ : ٣٠١ ) أبواب الوضوء ب (٢٧) ح (٣).

(٢) رجال النجاشي : ( ٣٢٨ ـ ٨٨٨ ) ، وص ( ٤٢٤ ـ ١١٤٠ ).

(٣) المسالك ( ١ : ٦ ).

(٤) الوسائل ( ١ : ٣٠٢ ) أبواب الوضوء ب (٢٩).

(٥) نقله عنه في المختلف : (٢١).

(٦) الكافي ( ٣ : ٢٣ ـ ١ ) ، التهذيب ( ١ : ٧٨ ـ ١٩٩ ) ، الإستبصار ( ١ : ٦٦ ـ ١٩٩ ) ، الوسائل ( ١ : ٣٠٣ ) أبواب الوضوء ب (٢٩) ح (٥).

٢٤٧

والدعاء عندهما وعند غسل الوجه واليدين وعند مسح الرأس والرجلين ،

______________________________________________________

اشتهر بين المتأخرين استحباب كونهما بثلاث أكف ثلاث أكف وأنه مع إعواز الماء يكفي الكف الواحدة (١) ولم أقف له على شاهد.

واشترط جماعة من الأصحاب تقديم المضمضة أولا ، وصرحوا باستحباب إعادة الاستنشاق مع العكس ، وقرب العلامة في النهاية جواز الجمع بينهما ، بأن يتمضمض مرة ثم يستنشق مرة وهكذا ثلاثا (٢). والكل حسن.

قوله : والدعاء عندهما ، وعند غسل الوجه واليدين ، وعند مسح الرأس والرجلين.

روى ابن بابويه ـ رحمه‌الله ـ في كتابه من لا يحضره الفقيه ، عن الصادق عليه‌السلام : أنه قال : « بينا أمير المؤمنين عليه‌السلام ذات يوم جالس مع محمد بن الحنفية ، إذ قال : يا محمد ائتني بإناء من ماء أتوضّأ للصلاة ، فأتاه محمد بالماء ، فأكفأ بيده اليمنى على يده اليسرى ، ثم قال : بسم الله ( وبالله ) (٣) والحمد لله الذي جعل الماء طهورا ولم يجعله نجسا ، قال : ثم استنجى فقال : اللهم حصّن فرجي وأعفّه ، واستر عورتي ، وحرّمني على النار ، قال : ثم تمضمض فقال : اللهم لقّني حجتي يوم ألقاك ، وأطلق لساني بذكرك ، ثم استنشق فقال : اللهم لا تحرّم عليّ ريح الجنة ، واجعلني ممن يشمّ ريحها وروحها وطيبها ، قال : ثم غسل وجهه فقال : اللهم بيّض وجهي يوم تسود فيه الوجوه ، ولا تسوّد وجهي يوم تبيض فيه الوجوه ، ثم غسل يده اليمنى فقال : اللهم أعطني‌

__________________

(١) منهم العلامة في المنتهى ( ١ : ٥١ ) ، والتذكرة ( ١ : ٢١ ) ، والشهيد الأول في البيان : (١١) ، والشهيد الثاني في المسالك ( ١ : ٦ ).

(٢) نهاية الأحكام ١ : ٥٦ ).

(٣) ليست في : « س » ، « م » ، « ق ».

٢٤٨

وأن يبدأ الرجل بغسل ظاهر ذراعيه وفي الثانية بباطنهما ، والمرأة بالعكس ،

______________________________________________________

كتابي بيميني والخلد في الجنان بيساري ، وحاسبني حسابا يسيرا ، ثم غسل يده اليسرى فقال : اللهم لا تعطني كتابي بيساري ، ولا تجعلها مغلولة إلى عنقي ، وأعوذ بك من مقطعات النيران ، ثم مسح رأسه فقال : اللهم غشّني برحمتك وبركاتك وعفوك ، ثم مسح رجليه فقال : اللهم ثبتني على الصراط المستقيم يوم تزلّ فيه الأقدام ، واجعل سعيي فيما يرضيك عني ، ثم رفع رأسه فنظر إلى محمد فقال : يا محمد من توضّأ مثل وضوئي وقال مثل قولي خلق الله تبارك وتعالى من كل قطرة ملكا يقدسه ويسبحه ويكبره ، فيكتب الله عز وجل ثواب ذلك له إلى يوم القيامة » (١).

وإذا فرغ المتوضي يستحب له أن يقول : الحمد لله رب العالمين ، رواه زرارة في الصحيح ، عن الصادق عليه‌السلام (٢).

وقال الصدوق ـ رحمه‌الله ـ في من لا يحضره الفقيه : وزكاة الوضوء أن يقول : اللهم إني أسألك تمام الوضوء وتمام الصلاة وتمام رضوانك ، والجنة (٣).

قوله : وأن يبدأ الرجل بغسل ظاهر ذراعيه ، وفي الثانية بباطنهما ، والمرأة بالعكس.

ما اختاره المصنف ـ رحمه‌الله ـ من الفرق بين الغسلة الأولى والثانية لم أقف له على مستند ، ومقتضى كلام أكثر القدماء أنّ الثانية كالأولى ، وهو خيرة المنتهى (٤) ، وعليه العمل ، لرواية محمد بن إسماعيل (٥) عن الرضا عليه‌السلام أنه قال : « فرض الله‌

__________________

(١) الفقيه : ( ١ : ٢٦ ـ ٨٤ ) ، الوسائل ( ١ : ٢٨٢ ) أبواب الوضوء ب (١٦) ح (١).

(٢) لم نعثر على هكذا رواية عن الصادق عليه‌السلام ، والموجود عن الباقر عليه‌السلام وقد تقدم في ص (٢٤٥).

(٣) الفقيه ( ١ : ٣٢ ).

(٤) المنتهى ( ١ : ٥١ ).

(٥) في « م » : محمد بن إسماعيل بن بزيع.

٢٤٩

وأن يكون الوضوء بمدّ.

______________________________________________________

على النساء في الوضوء أن يبدأن بباطن أذرعهن ، وفي الرجال بظاهر الذراع » (١) وفي السند إسحاق بن إبراهيم بن هاشم القمي ، وهو مجهول.

قوله : وأن يكون الوضوء بمدّ.

هذا قول علمائنا أجمع ، وأكثر أهل العلم ، قاله في التذكرة (٢). ويدل عليه روايات ، منها : صحيحة محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغتسل بصاع من ماء ، ويتوضّأ بمد من ماء » (٣).

وصحيحة زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتوضأ بمد ، ويغتسل بصاع ، والمد رطل ونصف ، والصاع ستة أرطال » (٤).

والظاهر أنّ المراد بالرطل المدني ، لأنه رطل بلدهما عليهما‌السلام فيوافق ما عليه الأصحاب من أنه تسعة أرطال بالبغدادي.

وقال الشهيد في الذكرى (٥) : المدّ لا يكاد يبلغه الوضوء ، فيمكن أن يدخل فيه ماء الاستنجاء ، كما تضمنته رواية ابن كثير ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٦). وهو حسن ، وربما كان في صحيحة أبي عبيدة الحذاء إشعار بذلك أيضا ، فإنه قال : وضّأت‌

__________________

(١) الكافي ( ٣ : ٢٨ ـ ٦ ) ، التهذيب ( ١ : ٧٦ ـ ١٩٣ ) ، الوسائل ( ١ : ٣٢٨ ) أبواب الوضوء ب (٤٠) ح (١).

(٢) التذكرة ( ١ : ٢١ ).

(٣) التهذيب ( ١ : ١٣٦ ـ ٣٧٧ ) ، الوسائل ( ١ : ٣٣٨ ) أبواب الوضوء ب (٥٠) ح (٢٠).

(٤) التهذيب ( ١ : ١٣٦ ـ ٣٧٩ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٢١ ـ ٤٠٩ ) ، الوسائل ( ١ : ٣٣٨ ) أبواب الوضوء ب (٥٠) ح (١).

(٥) الذكرى : (٩٥).

(٦) الكافي ( ٣ : ٧٠ ـ ٦ ) ، الفقيه ( ١ : ٢٦ ـ ٨٤ ) ، التهذيب ( ١ : ٥٣ ـ ١٥٣ ) ، الوسائل ( ١ : ٢٨٢ ) أبواب الوضوء ب (١٦) ح (١).

٢٥٠

ويكره أن يستعين في طهارته ،

______________________________________________________

أبا جعفر عليه‌السلام بجمع وقد بال فناولته ماء فاستنجى ، ثم صببت عليه كفا فغسل وجهه (١) الحديث. ويؤيده دخول ماء الاستنجاء في صاع الغسل على ما سيجي‌ء بيانه إن شاء الله تعالى.

قوله : ويكره أن يستعين في طهارته.

المراد بالاستعانة هنا طلب الإعانة ، وألحق بها قبولها أيضا ، كما صرح به جمع من الأصحاب ودل عليه دليلهم (٢).

وتتحقق الإعانة بصب الماء في اليد ليغسل المتوضي به لا بصبه على العضو ، فإنه تولية محرّمة. وهل تتحقق بنحو إحضار الماء أو تسخينه حيث يحتاج إليه؟ فيه وجهان أظهرهما أنه كذلك.

والحكم بكراهة الاستعانة هو المعروف من المذهب ، ويدل عليه رواية الحسن بن علي الوشّاء ، قال : دخلت على الرضا عليه‌السلام وبين يديه إبريق يريد أن يتهيأ منه للصلاة ، فدنوت لأصب عليه فأبى ذلك وقال : « مه يا حسن » فقلت : لم تنهاني أن أصب على يدك تكره أن أوجر؟ فقال : « تؤجر أنت وأوزر أنا » قلت له : كيف ذلك؟ فقال : « أما سمعت قول الله يقول ( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً ، وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) وها أنا ذا أتوضأ للصلاة وهي العبادة فأكره أن يشركني فيها أحد » (٣).

__________________

(١) التهذيب ( ١ : ٥٨ ـ ١٦٢ ) ، الإستبصار ( ١ : ٥٨ ـ ١٧٢ ) ، الوسائل ( ١ : ٢٧٥ ) أبواب الوضوء ب (١٥) ح (٨).

(٢) ليست في « س ».

(٣) الكافي ( ٣ : ٦٩ ـ ١ ) ، التهذيب ( ١ : ٣٦٥ ـ ١١٠٧ ) ، الوسائل ( ١ : ٣٣٥ ) أبواب الوضوء ب (٤٧) ح (١).

٢٥١

وأن يمسح بلل الوضوء عن أعضائه.

______________________________________________________

وما رواه ابن بابويه ـ رحمه‌الله ـ مرسلا : إن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان لا يدعهم يصبون الماء عليه ، ويقول : لا أحب أن أشرك في صلواتي أحدا (١).

وعندي في هذا الحكم توقف ، لضعف الرواية الثانية بالإرسال ، والأولى بأنّ في طريقها إبراهيم بن إسحاق الأحمري فإنه كان ضعيفا في حديثه ، متهما في دينه ، على ما ذكره الشيخ (٢) والنجاشي (٣) ، وفي متنها إشكالا ، مع أن مقتضى صحيحة أبي عبيدة الحذاء (٤) انتفاء الكراهة ، حيث أنه صب على أبي جعفر عليه‌السلام الماء للوضوء. ويمكن حملها على الضرورة ، أو على أنّ الغرض بيان الجواز ، إلا أن ذلك موقوف على صحة المعارض.

قوله : وأن يمسح بلل الوضوء عن أعضائه.

هذا قول الشيخ في أكثر كتبه (٥) ، وجمع من الأصحاب ، والمستند فيه ما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : « من توضأ وتمندل كتب له حسنة ، ومن توضأ ولم يتمندل حتى يجف وضوءه كتب له ثلاثون حسنة » (٦).

ونقل عن ظاهر المرتضى ـ رحمه‌الله ـ في شرح الرسالة عدم كراهة التمندل (٧) ، وهو‌

__________________

(١) الفقيه ( ١ : ٢٧ ـ ٨٥ ) ، المقنع : (٤) ، الوسائل ( ١ : ٣٣٥ ) أبواب الوضوء ب (٤٧) ح (٢).

(٢) الفهرست : (٧).

(٣) رجال النجاشي : ( ١٩ ـ ٢١ ).

(٤) المتقدمة في ص (٢٥٠).

(٥) المبسوط ( ١ : ٢٣ ) ، والنهاية : (١٦) ، الجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : (١٥٨).

(٦) الكافي ( ٣ : ٧٠ ـ ٤ ) ، الفقيه ( ١ : ٣١ ـ ١٠٥ ) ، المحاسن ( ٢ : ٤٢٩ ـ ٢٥٠ ) ، ثواب الأعمال : (٣٩) ، الوسائل ( ١ : ٣٣٤ ) أبواب الوضوء ب (٤٥) ح (٥).

(٧) نقله عنه في الذكرى : (٩٥).

٢٥٢

الرابع : في أحكام الوضوء :

من تيقّن الحدث وشك في الطهارة

______________________________________________________

أحد قولي الشيخ (١) ، استضعافا لدليل الكراهة ، ويشهد له صحيحة محمد بن مسلم أنه قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المسح بالمنديل قبل أن يجف قال : « لا بأس به » (٢).

ورواية منصور بن حازم : قال : رأيت أبا عبد الله عليه‌السلام وقد توضأ وهو محرم ، ثم أخذ منديلا فمسح به وجهه (٣).

وهل يلحق بالمسح تجفيف البلل بالنار أو الشمس؟ قيل : نعم ، لاشتراكهما في إزالة أثر العبادة (٤) ، ولإشعار قوله عليه‌السلام : « حتى يجف وضوءه » بذلك. وقيل : لا ، اقتصارا على مدلول اللفظ (٥). وهو قوّي ، بل لا يبعد اختصاص الكراهة بالمسح بالمنديل كما هو منطوق الرواية.

قوله : من تيقّن الحدث وشك في الطهارة.

المراد بالحدث هنا ما يترتب عليه الطهارة أعني نفس السبب ، لا الأثر الحاصل من ذلك ، وتيقن حصوله بهذا المعنى لا ينافي الشك في وقوع الطهارة بعده وإن اتحد وقتهما ، وعلى هذا فلا يرد ما ذكره بعض المتأخرين من أنّ اليقين والشك يمتنع اجتماعهما في وجود أمرين متنافيين في زمان واحد ، لأن يقين وجود أحدهما يقتضي يقين عدم الآخر ،

__________________

(١) الخلاف ( ١ : ١٨ ).

(٢) التهذيب ( ١ : ٣٦٤ ـ ١١٠١ ) ، الوسائل ( ١ : ٣٣٣ ) أبواب الوضوء ب (٤٥) ح (١).

(٣) الفقيه ( ٢ : ٢٢٦ ـ ١٠٦٥ ) ، الوسائل ( ١ : ٣٣٣ ) أبواب الوضوء ب (٤٥) ح (٤).

(٤) كما في روض الجنان : (٤٢).

(٥) كما في مجمع الفائدة والبرهان ( ١ : ١١٩ ).

٢٥٣

أو تيقنهما وشك في المتأخر تطهّر.

______________________________________________________

والشك في أحدهما يقتضي الشك في الآخر ، ثم تكلّف الجواب بحمل اليقين على الظن (١). وهو غير واضح.

وهذا الحكم أعني وجوب الطهارة مع الشك فيها وتيقن الحدث إجماعي بين المسلمين ، ويدل عليه مضافا إلى العمومات قول أبي جعفر عليه‌السلام في صحيحة زرارة : « ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا » (٢).

قوله : أو تيقنهما وشك في المتأخر تطهر.

إذا تيقن الطهارة والحدث وشك في اللاحق منهما فقد أطلق الأكثر خصوصا المتقدمين وجوب الطهارة ، تمسكا بعموم الأوامر الدالة على وجوب الوضوء عند إرادة الصلاة من الكتاب (٣) والسنة (٤) ، خرج منه من حكم بطهارته ولو بالاستصحاب السالم من معارضة يقين الحدث ، فيبقى الباقي مندرجا تحت العموم.

وفي المسألة قولان آخران أحدهما : أنه ينظر إلى حاله قبل الطهارة المفروضة والحدث ، فإن جهلها تطهّر ، وإن علمها أخذ بضد ما علمه ، فإن علم أنه كان متطهرا فهو الآن محدث ، أو محدثا فهو الآن متطهر ، اختاره المحقق الشيخ علي (٥) ـ رحمه‌الله ـ ، ويظهر من المصنف في المعتبر الميل إليه ، واحتج عليه بأنه إن كان محدثا فقد تيقن رفع ذلك الحدث بالطهارة المتيقنة مع الحدث الآخر ، لأنها إن كانت بعد الحدثين أو بينهما فقد ارتفعت الأحداث السابقة بها ، وانتقاضها بالحدث الآخر غير معلوم ، للشك في تأخره ،

__________________

(١) الشهيد الأول في الذكرى : (٩٨).

(٢) التهذيب ( ١ : ٤٢١ ـ ١٣٣٥ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٨٣ ـ ٦٤١ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٠٥٣ ) أبواب النجاسات ب (٣٧) ح (١).

(٣) المائدة : (٦).

(٤) الوسائل ( ١ : ٢٥٦ ) أبواب الوضوء ب (١).

(٥) جامع المقاصد ( ١ : ٢٨ ).

٢٥٤

______________________________________________________

فيكون متيقنا للطهارة شاكا في الحدث. وإن كان متطهرا فقد تيقن أنه نقض تلك الطهارة بالحدث المتيقن مع الطهارة ، ورفعه بالطهارة الأخرى غير معلوم ، لجواز تقدمها عليه ، تجديدا للطهارة السابقة ، أو مع الذهول عنها ، فيكون متيقنا للحدث شاكا في الطهارة (١).

ويرد عليه في الصورة الأولى : أنّ الأحداث السابقة وإن كانت قد ارتفعت قطعا ، إلا أن الحدث المفروض مع الطهارة متحقق الوقوع أيضا ، فلا بد من العلم برافعه ، وهو غير معلوم ، لجواز تقدم الطهارة عليه.

وفي الثانية : أنّ الطهارة المفروضة رافعة للأحداث السابقة قطعا ، وتأخر الحدث عنها غير معلوم على حد ما قرره في الصورة الأولى ، ويتوجه عليه ما ذكرناه ، وبالجملة : فالفرق بين الصورتين غير ظاهر.

وثانيهما : العمل بما علمه من حاله قبلهما ، إن كان متطهرا فهو الآن متطهر ، وإن كان محدثا فهو الآن محدث ، ذهب إليه العلامة في المختلف وهذه عبارته : مثاله إذا تيقن عند الزوال أنه نقض طهارة وتوضأ عن حدث ، وشك في السابق ، فإنه يستصحب حاله السابق على الزوال ، فإن كان في تلك الحال متطهرا فهو على طهارته ، لأنه تيقن أنه نقض تلك الطهارة ثم توضأ ، ولا يمكن أن يتوضأ عن حدث مع بقاء تلك الطهارة ، ونقض الطهارة الثانية مشكوك فيه فلا يزول اليقين بالشك. وإن كان قبل الزوال محدثا فهو الآن محدث ، لأنه تيقن أنه انتقل عنه إلى الطهارة ثم نقضها ، والطهارة بعد نقضها مشكوك فيها (٢).

وأورد عليه : أنه يجوز توالي الطهارتين ، وتعاقب الحدثين ، فلا يتعيّن تأخر الطهارة في‌

__________________

(١) المعتبر ( ١ : ١٧١ ).

(٢) المختلف ( ١ : ٢٧ ).

٢٥٥

وكذا لو تيقن ترك عضو أتى به وبما بعده ، وإن جف البلل استأنف. وإن شك في شي‌ء من أفعال الطهارة وهو على حاله أتى بما شك فيه ثم بما بعده.

______________________________________________________

الصورة الأولى ، والحدث في الثانية (١). وهو فاسد ، فإن عبارته ـ رحمه‌الله ـ ناطقة بكون الحدث ناقضا والطهارة رافعة ، وذلك مما يدفع احتمال التوالي والتعاقب ، لكن هذا التخصيص يخرج المسألة من باب الشك إلى اليقين ، فإيراد كلامه ـ رحمه‌الله ـ قولا في أصل المسألة ليس على ما ينبغي.

والذي يقتضيه النظر القول بوجوب الطهارة مطلقا ، إلا أن يعلم حاله قبلهما ويعلم من عادته شيئا فيبني عليه ، وبه تخرج المسألة من مسائل الشك.

قوله : وكذا لو تيقن ترك عضو أتى به وبما بعده ، وإن جف البلل استأنف.

وذلك لفوات الموالاة المعتبرة في الوضوء ، ويجي‌ء على مذهب من فسرها بالمتابعة بطلانه بفواتها.

قوله : وإن شك في شي‌ء من أفعال الطهارة وهو على حاله أتى بما شك فيه ثم بما بعده.

المراد بحاله : الحال التي هو عليها ، وهو كونه متشاغلا بالطهارة ، ولا خلاف بين الأصحاب في وجوب الإتيان بالمشكوك فيه ثم بما بعده إذا عرض الشك في هذه الحالة ، لأصالة عدم فعله ، ولما رواه زرارة في الصحيح ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : « إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما ، وعلى جميع ما شككت فيه أنك لم تغسله أو تمسحه مما سمّى الله ، ما دمت في حال الوضوء ، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى في الصلاة أو في غيرها فشككت‌

__________________

(١) كما في جامع المقاصد ( ١ : ٢٨ ).

٢٥٦

ولو تيقن الطهارة وشك في الحدث أو في شي‌ء من أفعال الوضوء بعد انصرافه لم يعد.

______________________________________________________

في بعض ما سمى الله مما أوجب الله عليك فيه وضوءه لا شي‌ء عليك فيه » (١).

قال المحقق الشيخ علي ـ رحمه‌الله ـ : وإنما يعيد على المشكوك فيه وما بعده إذا لم يكثر شكه ، فإن كثر عادة لم تجب عليه الإعادة ، للحرج ، ولأنه لا يؤمن دوام عروض الشك (٢). وهو غير بعيد ، وينبه عليه قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة وأبي بصير الواردة فيمن كثر شكه في الصلاة بعد أن قال : يمضي في شكه : « لا تعوّدوا الخبيث من أنفسكم بنقض (٣) الصلاة فتطمعوه ، فإن الشيطان خبيث معتاد لما عوّد » (٤) فإن ذلك بمنزلة التعليل لوجوب المضي في الصلاة فيتعدى إلى غير المسؤول عنه ، كما قرر في محله.

قوله : ولو تيقن الطهارة وشك في الحدث أو في شي‌ء من أفعال الوضوء بعد انصرافه لم يعد.

أما عدم وجوب إعادة الطهارة مع تيقنها والشك في الحدث فإجماعي بين العلماء ، وأدلته معلومة مما سبق ، بل ظاهر الروايات (٥) عدم مشروعية الطهارة إلا مع تيقن الحدث. وأما عدم الالتفات إلى الشك في شي‌ء من أفعال الوضوء بعد الانصراف من أفعاله وإن لم ينتقل عن محله فإجماعي أيضا ، ويدل عليه روايات منها : صحيحة زرارة‌

__________________

(١) الكافي ( ٣ : ٣٣ ـ ٢ ) ، التهذيب ( ١ : ١٠٠ ـ ٢٦١ ) ، الوسائل ( ١ : ٣٣٠ ) أبواب الوضوء ب (٤٢) ح (١).

(٢) جامع المقاصد ( ١ : ٢٨ ).

(٣) في « س » ، « ق » : بنقص.

(٤) الكافي ( ٣ : ٣٥٨ ـ ٢ ) ، التهذيب ( ٢ : ١٨٨ ـ ٧٤٧ ) ، الإستبصار ( ١ : ٣٧٤ ـ ١٤٢٢ ) ، الوسائل ( ٥ : ٣٢٩ ) أبواب الخلل ب (١٦) ح (٢).

(٥) الوسائل ( ١ : ٣٣٠ ) أبواب الوضوء ب (٤٢) ، (٤٤).

٢٥٧

ومن ترك غسل موضع النجو أو البول وصلى أعاد الصلاة ، عامدا كان أو ناسيا أو جاهلا.

______________________________________________________

المتقدمة (١) وصحيحة أخيه بكير ، قال ، قلت : الرجل يشك بعد ما يتوضأ ، قال : « هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » (٢) وهذه أوضح دلالة من السابقة ، فإنها صريحة في عدم الالتفات إلى شك بعد إكمال الوضوء ، وإن لم يحصل الانتقال إلى حالة اخرى.

وقد يشكل مع تعلق الشك بالعضو الأخير ، لعدم تحقق الإكمال ، والأولى تداركه قبل الانصراف ومنه الجلوس وإن لم يطل زمانه ( على الأظهر ) (٣).

قوله : ومن ترك غسل موضع النجو أو البول وصلى أعاد الصلاة ، عامدا كان أو ناسيا أو جاهلا.

هذه المسألة جزئية من جزئيات من صلى مع النجاسة ، وسيجي‌ء تفصيل حكمها إن شاء الله تعالى.

والحكم بإعادة الجاهل لا يتم على إطلاقه في جاهل الأصل عند المصنف ـ رحمه‌الله ـ ، ويمكن حمله على جاهل الحكم ، فإنّ جهالة الأصل هنا أمر مستبعد.

وربما ظهر من ( إطلاق ) (٤) العبارة عدم وجوب إعادة الوضوء بذلك في الموضعين ، وهو اختيار الشيخ (٥) ، وأكثر الأصحاب.

وذهب ابن بابويه ـ رحمه‌الله ـ إلى أنّ من ترك غسل موضع البول يلزمه إعادة الوضوء أيضا ، بخلاف مخرج الغائط ، فيقتصر فيه على إعادة الصلاة (٦). وكأنه استند في‌

__________________

(١) في ص (٢٥٦).

(٢) التهذيب ( ١ : ١٠١ ـ ٢٦٥ ) ، الوسائل ( ١ : ٣٣١ ) أبواب الوضوء ب (٤٢) ح (٧).

(٣) ليست في : « س » ، « ق ».

(٤) ليست في : « س » ، « ق ».

(٥) المبسوط ( ١ : ٢٤ ).

(٦) المقنع : (٤).

٢٥٨

ومن جدّد وضوءه بنية الندب ثم صلى وذكر أنه أخلّ بعضو من إحدى الطهارتين ، فإن اقتصرنا على نية القربة فالطهارة والصلاة صحيحتان ، وإن أوجبنا نية الاستباحة أعادهما.

______________________________________________________

إعادة الوضوء إلى رواية سليمان بن خالد ، عن أبي جعفر عليه‌السلام : في الرجل يتوضأ فينسى غسل ذكره ، قال : « يغسل ذكره ثم يعيد الوضوء » (١).

والجواب ـ بعد تسليم السند ـ بالحمل على الاستحباب ، جمعا بينها وبين غيرها من الأخبار الكثيرة الدالة على عدم وجوب إعادة الوضوء بذلك صريحا ، كصحيحة علي بن يقطين ، عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يبول فلا يغسل ذكره حتى يتوضأ وضوء الصلاة فقال : « يغسل ذكره ولا يعيد وضوءه » (٢).

وصحيحة عمرو بن أبي نصر ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يبول فينسى أن يغسل ذكره ، ويتوضأ ، قال : « يغسل ذكره ولا يعيد وضوءه » (٣).

قوله : ومن جدد وضوءه بنية الندب ثم صلى وذكر أنه أخل بعضو من إحدى الطهارتين ، فإن اقتصرنا على نية القربة فالطهارة والصلاة صحيحتان ، وإن أوجبنا نية الاستباحة أعادهما.

أجمع علماؤنا على استحباب تجديد الوضوء لكل صلاة على ما نقله جماعة ، وإنما اختلفوا في حصول الإباحة به لو ظهر فساد السابق ، فقال الشيخ في المبسوط بذلك (٤) ،

__________________

(١) التهذيب ( ١ : ٤٩ ـ ١٤٢ ) ، الإستبصار ( ١ : ٥٤ ـ ١٥٨ ) ، الوسائل ( ١ : ٢٠٩ ) أبواب نواقض الوضوء ب (١٨) ح (٩).

(٢) الكافي ( ٣ : ١٨ ـ ١٥ ) ، التهذيب ( ١ : ٤٨ ـ ١٣٨ ) ، الإستبصار ( ١ : ٥٣ ـ ١٥٥ ) ، الوسائل ( ١ : ٢٠٨ ) أبواب نواقض الوضوء ب (١٨) ح (١).

(٣) التهذيب ( ١ : ٤٨ ـ ١٣٩ ) ، الإستبصار ( ١ : ٥٤ ـ ١٥٦ ) ، الوسائل ( ١ : ٢٠٨ ) أبواب نواقض الوضوء ب (١٨) ح (٥).

(٤) المبسوط ( ١ : ٢٤ ).

٢٥٩

______________________________________________________

مع أنه اعتبر فيه في نية الوضوء الواجب الرفع أو الاستباحة ، وقواه في الدروس (١) ، واستوجهه في المعتبر (٢) ، إلا أنه قيده بما إذا قصد به الصلاة ، أي نوى إيقاعها به على الوجه الأكمل.

والأصح ما أطلقه في المبسوط ، أما على ما اخترناه من الاحتزاء بالقربة فظاهر ، وأما على اعتبار الاستباحة فلأن نيتها إنما تكون معتبرة إذا كان المكلف ذاكرا للحدث ، لا مع اعتقاده حصول الإباحة بدونه ، ولأن الظاهر من فحاوي الأخبار أنّ شرعية المجدد إنما هو لاستدراك ما وقع في الأول من الخلل ، ويشهد له أيضا ما رواه الصدوق ـ رحمه‌الله ـ في من لا يحضره الفقيه مع اعتقاده صحة مضمونه : من إجزاء غسل الجمعة عن غسل الجنابة مع نسيانه (٣) ، وما أجمع عليه الأصحاب من إجزاء صوم يوم الشك بنية الندب عن الواجب ، وما ورد من استحباب الغسل في أول ليلة من شهر رمضان ، تلافيا لما عساه فات من الأغسال الواجبة (٤) ، ونحو ذلك.

ومن هنا يندفع ما ذكره العلامة ـ رحمه‌الله ـ في المختلف من التعجب من الشيخ حيث اعتبر في النية الاستباحة ، ولم يوجب إعادة الصلاة هنا (٥).

إذا تقرر ذلك فنقول : إذا توضأ المكلف وضوءا رافعا للحدث فرضا أو نفلا ، ثم جدد وضوءا آخر بنية الندب أو الوجوب ، ثم ذكر الإخلال بعضو من إحدى الطهارتين ، فإن اجتزأنا بالقربة لم يجب عليه إعادة الطهارة ولا الصلاة ، لأن إحدى الطهارتين صحيحة‌

__________________

(١) الدروس : (٢).

(٢) المعتبر ( ١ : ١٤٠ ).

(٣) الفقيه ( ٢ : ٧٤ ـ ٣٢١ ) ، الوسائل ( ٧ : ١٧٠ ) أبواب من يصح منه الصوم ب (٣٠) ح (٢).

(٤) الوسائل ( ٢ : ٩٥٢ ) أبواب الأغسال المسنونة ب (١٤).

(٥) المختلف : (٢٧).

٢٦٠