مدارك الأحكام - ج ١

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي

مدارك الأحكام - ج ١

المؤلف:

السيد محمّد بن علي الموسوي العاملي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٦

______________________________________________________

وإطلاق الخبر يقتضي وجوب التيمّم مطلقا ، وإن أمكن الغسل في المسجد ، وساوى زمانه زمان التيمم أو نقص عنه ، وبه قطع المحقق الشيخ علي ـ رحمه‌الله ـ في حاشية الكتاب.

ورجح جماعة (١) منهم جدي ـ قدس‌سره ـ في جملة من كتبه (٢) ، وجوب الغسل مع مساواة زمانه لزمان التيمّم ، أو نقصه عنه ، وعدم استلزامه تنجيس شي‌ء من المسجد أو آلاته.

واستدل عليه جدي ـ رحمه‌الله ـ في روض الجنان بأنّ فيه جمعا بين ما دلّ على الأمر بالتيمم مطلقا ، وهو صحيحة أبي حمزة السابقة ، وبين ما دلّ على اشتراط عدم الماء في جواز التيمم ، قال : وإنما قيّدنا جواز الغسل في المسجد مع إمكانه بمساواة زمانه لزمان التيمم أو قصوره عنه مع أنّ الدليل يقتضي تقديمه مطلقا مع إمكانه ، لعدم القائل بتقديمه مطلقاً ، وإلاّ لكان القول به متوجها.

وفيه نظر : فإنا لم نقف على ما يقتضي اشتراط عدم الماء في جواز التيمم لغير الصلاة ، وأيضا فقد ثبت بالنصوص الصحيحة تحريم الكون للجنب في المساجد مطلقا (٣) ، وغاية ما علم استثناؤه من ذلك حالة التيمم بالنص السابق ، فيبقى غيره مندرجا تحت العموم.

والأظهر الاقتصار على التيمم ، وقوفا على ظاهر الخبر. وكما جاز أن يكون الأمر بالتيمم مبنيا على الغالب من تعذر الغسل في المسجدين فيجوز أن يكون وجهه اقتضاء الغسل فيهما إزالة النجاسة ـ فإنّ مورد الخبر المحتلم وهو ملازم للنجاسة ـ وقد أطلق‌

__________________

(١) منهم المحقق في المعتبر ( ١ : ١٨٩ ) ، والشهيد الأول في الدروس : (١).

(٢) المسالك ( ١ : ٢ ) ، روض الجنان : (١٩).

(٣) الوسائل ( ١ : ٤٨٤ ) أبواب الجنابة ب (١٥).

٢١

______________________________________________________

جماعة من الأصحاب تحريم إزالتها في المسجد (١) ، وصرح بعضهم بعموم المنع وإن كانت الإزالة في الكثير (٢).

وينبغي التنبيه لأمور :

الأول : مورد الخبر كما عرفت هو المحتلم في المسجد ، والحق به كل مجنب حصل في المسجد ، لعدم تعقّل الفرق بينه وبين غيره. وفيه نظر ، فإنّ عدم تعقل الخصوصية لا يقتضي عدمها في نفس الأمر ، والذي ثبت كونه حجة في هذا الباب مفهوم الموافقة ، ومنصوص العلة ، وما عداهما داخل في القياس الممنوع منه.

الثاني : قيل الحائض كالجنب في ذلك (٣) ، لمرفوعة محمد بن يحيى ، عن أبي حمزة ، عن الباقر عليه‌السلام ، حيث قال فيها بعد أن ذكر تيمم المحتلم للخروج : « وكذلك الحائض إذا أصابها الحيض تفعل كذلك » (٤) وأنكر المصنف في المعتبر الوجوب ، لقطع الرواية ، ولأنه لا سبيل لها إلى الطهارة بخلاف الجنب ، ثم حكم بالاستحباب (٥).

وكأن وجهه ما ذكره ـ رحمه‌الله ـ من ضعف السند ، وما اشتهر بينهم من التسامح في أدلة السنن. وبذلك يندفع ما أورده عليه في الذكرى : من أنه اجتهاد في مقابلة النص ، وعارضه به من اعترافه بالاستحباب (٦).

الثالث : لو صادف هذا التيمم فقد الماء ، فهل يكون مبيحا؟ الأظهر : نعم إن لم يكن المتيمم متمكنا من استعمال الماء حالة التيمم ، وحينئذ فلا يجب عليه المبادرة إلى‌

__________________

(١) منهم ابن إدريس في السرائر : (٦٠) ، والعلامة في القواعد ( ١ : ٢٩ ) ، والشهيد الأول في الذكرى : (١٥٧).

(٢) منهم المحقق الكركي في جامع المقاصد ( ١ : ٩٧ ).

(٣) كما في جامع المقاصد ( ١ : ٤ ) ، والذكرى : (٢٥) ، والدروس : (١).

(٤) الكافي ( ٣ : ٧٣ ـ ١٤ ) ، الوسائل ( ١ : ٤٨٥ ) أبواب الجنابة ب (١٥) ح (٣).

(٥) المعتبر ( ١ : ٢٢٢ ).

(٦) الذكرى : (٢٥).

٢٢

والمندوب ما عداه.

______________________________________________________

الخروج من المسجد ، وتصح له الصلاة فيه من هذه الجهة.

الرابع : لا يلحق باقي المساجد بالمسجدين في شرعية التيمم للخروج منها ، لعدم النص ، وتوقف العبادة على التوقيف. وقرّب شيخنا الشهيد ـ رحمه‌الله ـ في الذكرى استحباب التيمم فيها ، لما فيه من القرب إلى الطهارة ، وعدم زيادة الكون فيها له على الكون له في المسجدين (١). وهو ضعيف ودليله مزيف.

الخامس : يكفي في هذا التيمم ضربة واحدة ، لما سنبينه إن شاء الله تعالى من أجزائها في مطلق التيمم ، ورجّح بعض المتأخرين وجوب المرتين فيه (٢) ، والاستحباب فيه أولى.

قوله : والمندوب ما عداه.

هذا الإطلاق مناف لما سيصرح به من إباحة التيمم لكل ما تبيحه المائية ، فإنه يقتضي وجوب التيمم عند وجوب ما لا يستباح إلاّ به. وقد عدل جمع من المتأخرين عن هذه العبارة إلى أنّ التيمم يجب لما تجب له الطهارتان (٣) وهو مشكل أيضا ، لانتفاء الدليل عليه.

والأظهر أنّ التيمم يبيح كلما تبيحه المائية ، لقوله عليه‌السلام في صحيحة جميل : « إنّ الله جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا » (٤) وفي صحيحة حماد : « هو بمنزلة‌

__________________

(١) الذكرى : (٢٥).

(٢) كما في المنتقى ( ١ : ٣٥١ ) حيث أوجب الضربتين في التيمم مطلقا.

(٣) منهم الشهيد الثاني في المسالك ( ١ : ٢ ).

(٤) الفقيه ( ١ : ٦٠ ـ ٢٢٣ ) ، التهذيب ( ١ : ٤٠٤ ـ ١٢٦٤ ) ، الوسائل ( ٢ : ٩٩٤ ) أبواب التيمم ب (٢٣)

٢٣

وقد تجب الطهارة بنذر وشبهه.

______________________________________________________

الماء » (١) وفي صحيحة محمد بن مسلم : « فقد فعل أحد الطهورين » (٢).

فما ثبت توقفه على مطلق الطهارة من العبادات يجب له التيمم ، وما ثبت توقفه على نوع خاص منها ، كالغسل في صوم الجنب مثلا ، فالأظهر عدم وجوب التيمم له مع تعذره ، إذ لا ملازمة بينهما. فتأمل.

فرع : هل يستحب التيمم بدلا من الغسل المستحب مع تعذره؟ فيه وجهان ، أظهرهما : العدم وإن قلنا أنه رافع للحدث ، لعدم النص ، وجزم جدي ـ قدس‌سره ـ بالاستحباب على هذا التقدير (٣) وهو مشكل.

قوله : وقد تجب الطهارة بنذر وشبهه.

نذر الطهارة يتحقق بنذر الأمر الكلي ، وبنذر أحد جزئياته ، فهنا مسألتان :

الاولى : أن ينذر الطهارة ، والواجب فعل ما يصدق عليه اللفظ حقيقة ، فإن قصد المعنى الشرعي بنى على ثبوته واحتيج إلى تعيينه ، وإن قصد المعنى العرفي بنى على ما تقدم من الخلاف فيه. وفي حمله على المائية خاصة أو الترابية أو تخييره بينهما أوجه ، منشؤها أنّ مقولية الطهارة على الأنواع الثلاثة هل هو بطريق الاشتراك ، أو التواطؤ ، أو التشكيك ، أو الحقيقة والمجاز ، فعلى الأولين يتخير. وكذا على الثالث على الأظهر ، ويحتمل انصرافه إلى الفرد الأقوى لأنه المتيقن ، وإلى الأضعف تمسكا بأصالة البراءة من الزائد ، وهما ضعيفان. وعلى الرابع يحمل على المائية خاصة ، إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة.

__________________

(١) التهذيب ( ١ : ٢٠٠ ـ ٥٨١ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٦٣ ـ ٥٦٦ ) ، الوسائل ( ٢ : ٩٩٥ ) أبواب التيمم ب (٢٣) ح (٢).

(٢) التهذيب ( ١ : ١٩٧ ـ ٥٧١ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٦١ ـ ٥٥٧ ) ، الوسائل ( ٢ : ١٨٤ ) أبواب التيمم ب (١٤) ح (١٥).

(٣) روض الجنان : (٢٠).

٢٤

______________________________________________________

الثانية : أن ينذر أحد أفرادها ، وشرطه أن يكون مشروعا ، فلو نذر الوضوء مع غسل الجنابة ، أو غسل الجمعة يوم الأربعاء ، أو التيمم للصلاة مع التمكن من استعمال الماء ، لم ينعقد قطعا. وإطلاق جماعة من الأصحاب أنّ الوضوء ينعقد نذره دائما (١) ، غير واضح. والأجود حمل الوضوء والغسل مع الإطلاق ، على الراجح شرعا وإن لم يكن رافعا ، والله أعلم.

__________________

(١) منهم الشهيد الثاني في المسالك ( ١ : ٢ ) ، وروض الجنان : (٢٠).

٢٥

وهذا الكتاب يعتمد على أربعة أركان :

الأوّل : في المياه ، وفيه أطراف :

الأوّل : في الماء المطلق :

وهو كل ما يستحق إطلاق اسم الماء عليه من غير إضافة. وكله طاهر مزيل للحدث والخبث.

______________________________________________________

قوله : الركن الأول ، في المياه.

جمعه باعتبار تعدد أفراده ، والمراد بها الأعم من الحقيقة والمجاز.

قوله : الأول ، في الماء المطلق ، وهو : كل ما يستحق إطلاق اسم الماء عليه من غير إضافة.

قد عرفت أنّ الغرض من هذه التعريفات إنما هو مجرد كشف معنى الاسم وإبدال اللفظ المجهول بلفظ معلوم ، فلا يرد على هذا التعريف أنه فاسد ، لاشتماله على لفظ الماء فيكون دوريا ، ولفظة : كل ، وهي لا تذكر في التعريف لأنها لعموم الأفراد والتعريف إنما هو للماهية.

ومعنى استحقاقه لإطلاق الاسم : أنّ ذلك الاسم موضوع بإزائه عند أهل العرف بحيث يستفاد منه من دون إضافة ، وجواز تقييد بعض أفراده كماء البحر ونحوه لا يخرجه عن الاستحقاق.

قوله : وكله طاهر مزيل للحدث والخبث.

أجمع العلماء كافة على أنّ الماء المطلق طاهر في نفسه ومطهر لغيره ، سواء نزل من السماء ، أو نبع من الأرض ، أو أذيب من الثلج والبرد ، أو كان ماء بحر ، أو غيره ،

٢٦

______________________________________________________

حكاه في المنتهى (١). ويدل عليه قوله تعالى ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) (٢) ، وقوله عز وجل ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) (٣).

والطهور يرد في العربية على وجهين (٤) : صفة ، كقولك : ماء طهور أي : طاهر ، واسم غير صفة ، ومعناه : ما يتطهر به كالوضوء والوقود ـ بفتح الواو فيهما ـ لما يتوضأ به ويوقد به.

وإرادة المعنى الثاني هنا أولى ، لأن الآية مسوقة في معرض الإنعام ، فحمل الوصف فيها على الفرد الأكمل أولى وأنسب.

أقول : وهذا التوجيه ـ مع إمكان المناقشة فيه ببعد إرادة المعنى الاسمي من الطهور من حيث اللفظ ، لوقوعه صفة للماء ، وابتنائه على ثبوت الحقيقة الشرعية للمطهر على وجه يتناول الأمرين ـ فهو أولى مما ذكره الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في التهذيب من أنّ الطهور لغة هو المطهّر ، لأن فعولا موضوع للمبالغة ، وكون الماء مما يتطهر به ليس مما يتكرر ويتزايد ، فينبغي أن يعتبر فيه غير ذلك ، وليس بعد ذلك إلاّ أنه مطهّر (٥). لتوجه المنع إلى ذلك ، وعدم ثبوت الوضع بالاستدلال كما لا يخفى.

والمراد بالحدث في عرف أهل الشرع : المانع من الصلاة ، الذي يتوقف رفعه على‌

__________________

(١) المنتهى ( ١ : ٤ ).

(٢) الأنفال : (١١).

(٣) الفرقان : (٤٨).

(٤) راجع كتاب العين ( ٤ : ١٩ ) ، والصحاح ( ٢ : ٧٢٧ ) ، والقاموس ( ٢ : ٨٢ ) ، والنهاية ( ٣ : ١٤٧ ).

فإنهم فسروا الطهور بما يتطهر به ، أي المعنى الثاني. وقد يستفاد من بعضها المعنى الأول.

(٥) التهذيب ( ١ : ٢١٤ ).

٢٧

وباعتبار وقوع النجاسة فيه ينقسم إلى : جار ، ومحقون ، وماء بئر.

أما الجاري : فلا ينجس إلا باستيلاء النجاسة على أحد أوصافه.

______________________________________________________

النية. وبالقيد الأخير يخرج الخبث ، والمراد به نفس النجاسة.

قوله : وباعتبار وقوع النجاسة فيه ينقسم إلى جار ، ومحقون ، وماء بئر.

إنما اختصت هذه الأقسام بالذكر لأن اختلاف الأحكام عنده منوط باختلافها ، وكان الأولى جعل ماء الحمام قسما رابعا ، حيث لم يشترط في مادته الكرية ، فإنه بذلك يخالف غيره من المياه.

قوله : أما الجاري ، فلا ينجس إلا باستيلاء النجاسة على أحد أوصافه.

المراد بالجاري : النابع ، لأن الجاري لا عن مادة من أقسام الراكد اتفاقا. وقد اشتملت هذه العبارة على مسألتين ، إحداهما بالمنطوق والأخرى بالمفهوم :

الأولى : نجاسة الماء الجاري باستيلاء النجاسة على أحد أوصافه ، والمراد بها : اللون ، أو الطعم ، أو الرائحة ، لا مطلق الصفات كالحرارة والبرودة ، وهذا مذهب العلماء كافة ، نقله في المعتبر (١). والأصل فيه الأخبار المستفيضة كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شي‌ء إلاّ ما غيّر لونه ، أو طعمه ، أو ريحه » (٢).

وما رواه حريز في الصحيح ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ منه واشرب ، فإذا تغيّر الماء أو تغير الطعم فلا تتوضأ منه‌

__________________

(١) المعتبر ( ١ : ٤٠ ).

(٢) السرائر : (٨) ، المعتبر ( ١ : ٤٠ ) ، الوسائل ( ١ : ١٠١ ) أبواب الماء المطلق ب (١) ح (٩) ، لكن صرح في المعتبر بأنه عامي وقال في السرائر : قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ المتفق على رواية ظاهرة ـ : إنه خلق.

٢٨

______________________________________________________

ولا تشرب » (١).

ويستفاد من العبارة من حيث الاستثناء من المنفي ، المقتضي لحصر الحكم في المثبت ، أن تغيّر أحد أوصاف الماء بالمتنجس ، أو بمجاورة النجاسة لا يقتضي تنجيسه ، وهو كذلك.

وهل يعتبر فيه التغيير الحسي ، أم يكفي التقديري مع توافق الماء والنجاسة في الصفات؟ قولان : أظهرهما الأول ، لأن التغير حقيقة في الحسي ، لصدق السلب بدونه ، واللفظ إنما يحمل على حقيقته.

وقيل بالثاني (٢) ، واختاره العلامة في جملة من كتبه (٣) ، واحتج عليه في المختلف بأنّ التغير الذي هو مناط النجاسة دائر مع الأوصاف ، فإذا فقدت وجب تقديرها. وهو إعادة للمدعى.

واحتج عليه ولده في الشرح : بأنّ الماء مقهور بالنجاسة ، لأنه كل ما لم يصر الماء مقهورا لم يتغير بها على تقدير المخالفة ، وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا : كل ما تغير على تقدير المخالفة كان مقهورا (٤).

ويتوجه عليه : منع كلية الأولى ، فإن المخالف يقول بعدم صيرورة الماء مقهورا مع تغيره بالنجاسة على تقدير المخالفة ، فكيف يكون عدم التغير التقديري لازما لعدم صيرورة الماء مقهورا ، لا ينفك عنه.

__________________

(١) الكافي ( ٣ : ٤ ـ ٣ ) الا أن فيه : وتغير الطعم ، التهذيب ( ١ : ٢١٦ ـ ٦٢٥ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٢ ـ ١٩ ) ، الوسائل ( ١ : ١٠٢ ) أبواب الماء المطلق ب (٣) ح (١).

(٢) كما في روض الجنان : (١٣٤) ، وجامع المقاصد ( ١ : ٩ ).

(٣) المنتهى ( ١ : ٨ ) ، القواعد ( ١ : ٤ ).

(٤) إيضاح الفوائد ( ١ : ١٦ ).

٢٩

______________________________________________________

هذا كله إذا لم تستهلك النجاسة الماء ، وإلاّ ثبت التنجيس قولا واحدا.

قال بعض المحققين : وهل يعتبر فيه أوصاف الماء وسطا ، نظرا إلى شدة اختلافها ، كالعذوبة والملوحة ، والرقة والغلظة ، والصفاء والكدرة ، فيه احتمال ، ولا يبعد اعتبارها ، لأنّ لها أثرا بيّنا في قبول التغير وعدمه (١). هذا كلامه رحمه‌الله.

ويتوجه عليه ما سبق ، ومن الجائز اختلاف المياه في الانفعال بالنجاسة الواحدة لاختلاف هذه الصفات ، حيث إنّ بعضها يقبل الانفعال والآخر لا يقبله.

فرع : لو خالفت النجاسة الجاري في الصفات ، لكن منع من ظهورها مانع ، كما لو وقع في الماء المتغير بطاهر أحمر ، دم مثلا ، فينبغي القطع بنجاسته ، لتحقق التغير حقيقة ، غاية الأمر ، أنه مستور عن الحس ، وقد نبه على ذلك الشهيد في البيان (٢).

الثانية : إنّ الجاري لا ينجس بدون ذلك ، وإطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق بين قليله وكثيره.

واعتبر العلامة ـ رحمه‌الله ـ فيه الكرية ، وحكم بنجاسة ما نقص عن الكر منه بالملاقاة كالمحقون (٣). والمعتمد الأول ، ولنا عليه وجوه من الأدلة :

الأول : أصالة الطهارة ، فإنّ الأشياء كلها على الطهارة إلاّ ما نصّ الشارع على نجاسته ، لأنها مخلوقة لمصالح العباد ، ولا يتم النفع إلاّ بطهارتها.

الثاني : الإجماع ، نقله المصنف في المعتبر (٤). وقال الشهيد في الذكرى : إنه لم يقف في ذلك على مخالف ممن سلف (٥). واستغربه جدي ـ قدس‌سره ـ لتصريح‌

__________________

(١) جامع المقاصد ( ١ : ٩ ).

(٢) البيان : (٤٤).

(٣) كما في المنتهى ( ١ : ٦ ) ، والتذكرة ( ١ : ٣ ).

(٤) المعتبر ( ١ : ٤١ ).

(٥) الذكرى : (٨).

٣٠

______________________________________________________

العلامة باعتبار الكرية فيه (١). وهو غير جيد ، فإن مراده بمن سلف من تقدم على العلامة ، لأنه نقل عنه اعتبار ذلك بعد هذه العبارة بغير فصل.

الثالث : الأخبار ، كقول الصادق عليه‌السلام فيما روي عنه بطرق متعدد : « كل ماء طاهر حتى تعلم أنه قذر » (٢).

وصحيحة حريز ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب ، فإذا تغير الماء أو تغير الطعم فلا تتوضأ منه ولا تشرب » (٣).

وصحيحة أبي خالد القماط أنه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : في الماء يمرّ به الرجل وهو نقيع ، فيه الميتة والجيفة : « إن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضّأ منه ، وإن لم يتغير ريحه أو طعمه فاشرب وتوضّأ » (٤).

وحسنة محمد بن ميسر ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن الرجل الجنب ، ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ، ويريد أن يغتسل منه ، وليس معه إناء يغترف به ، ويداه قذرتان ، قال عليه‌السلام : « يضع يده ويتوضأ ويغتسل ، هذا مما قال الله عز وجل ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) » (٥).

وصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع ، عن الرضا عليه‌السلام ، قال : « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلاّ أن يتغير ريحه أو طعمه ، فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه ،

__________________

(١) كما في روض الجنان : (١٣٥).

(٢) الوسائل ( ١ : ٩٩ ) أبواب الماء المطلق ب (١).

(٣) المتقدمة في ص (٢٨).

(٤) التهذيب ( ١ : ٤٠ ـ ١١٢ ) ، الإستبصار ( ١ : ٩ ـ ١٠ ) ، الوسائل ( ١ : ١٠٣ ) أبواب الماء المطلق ب (٣) ح (٤).

(٥) الكافي ( ٣ : ٤ ـ ٢ ) ، الوسائل ( ١ : ١١٣ ) أبواب الماء المطلق ب (٨) ح (٥) ، مع اختلاف يسير.

٣١

______________________________________________________

لأن له مادة » (١).

وجه الدلالة : أنه عليه‌السلام جعل العلة في عدم فساده بدون التغير ، أو في طهارته بزواله ، وجود المادة ، والعلة المنصوصة حجة كما تقرر في الأصول.

وصحيحة الفضيل ، عن الصادق عليه‌السلام قال : « لا بأس بأن يبول الرجل في الماء الجاري ، وكره أن يبول في الراكد » (٢) وفي الاستدلال بهذه الرواية نظر.

احتج العلامة (٣) ـ رحمه‌الله ـ بعموم الأدلة الدالة على اعتبار الكرية ، كقوله عليه‌السلام في صحيحتي معاوية بن عمار (٤) ، ومحمد بن مسلم (٥) : « إذا كان الماء قدر كر لم ينجّسه شي‌ء ».

والجواب أولا بمنع العموم ، لفقد اللفظ الدال عليه. سلّمنا العموم ، لكن نقول : عمومان تعارضا من وجه ، فيجب الجمع بينهما بتقييد أحدهما بالآخر ، والترجيح في جانب الطهارة بالأصل ، والإجماع ، وقوة دلالة المنطوق على المفهوم.

بقي هنا بحث ، وهو أنّ شيخنا الشهيد ـ رحمه‌الله ـ قال في الدروس في حكم الجاري : ولا يشترط فيه الكرية على الأصح ، نعم يشترط دوام النبع (٦).

__________________

(١) التهذيب (١) : ٢٣٤ ـ ٦٧٦ ) ، الإستبصار ( ١ : ٣٣ ـ ٨٧ ) ، الوسائل ( ١ : ١٠٥ ) أبواب الماء المطلق ب (٣) ح (١٢).

(٢) التهذيب ( ١ : ٤٣ ـ ١٢١ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٣ ـ ٢٣ ) ، الوسائل ( ١ : ١٠٧ ) أبواب الماء المطلق ب (٥) ح (١).

(٣) لم نعثر على هذا الاستدلال صريحا في كتبه ، ولكن قال في النهاية ( ١ : ٢٢٩ ) : ولو قل الجاري عن الكر نجس ، لعموم نجاسة القليل.

(٤) الكافي ( ٣ : ٢ ـ ١ ) ، التهذيب ( ١ : ٤٠ ـ ١٠٨ ) ، الإستبصار ( ١ : ٦ ـ ٢ ) ، الوسائل ( ١ : ١١٧ ) أبواب الماء المطلق ب (٩) ح (٢).

(٥) الكافي ( ٣ : ٢ ـ ٢ ) ، التهذيب ( ١ : ٣٩ ـ ١٠٧ ) ، الإستبصار ( ١ : ١١ ـ ١٧ ) ، الوسائل ( ١ : ١١٧ ) أبواب الماء المطلق ب (٩) ح (١).

(٦) الدروس : (١٥).

٣٢

ويطهر بكثرة الماء الطاهر عليه متدافعا حتى يزول تغيّره. ويلحق بحكمه ماء الحمام إذا كان له مادة.

______________________________________________________

وكلامه يحتمل أمرين :

أحدهما : وهو الظاهر ، أن يريد بدوام النبع استمراره حال ملاقاته للنجاسة ، ومرجعه إلى حصول المادة حينئذ ، وهو لا يزيد على اعتبار أصل النبع.

والثاني : أن يريد به عدم انقطاعه في أثناء الزمان ككثير من المياه التي تخرج في زمن الشتاء وتجفّ في الصيف ، وقد حمل جل من تأخر عنه كلامه على هذا المعنى.

وهو مما يقطع بفساده ، لأنه مخالف للنص ، والإجماع ، فيجب تنزيه كلام مثل هذا المحقق عنه.

واعلم أنه متى تغير شي‌ء من الجاري اختص بالنجاسة ، دون ما فوقه ، وما تحته ، وما حاذاه ، إلاّ أن ينقص ما تحته عن الكر ويستوعب التغير عمود الماء فينجس ما تحت المتغير أيضا ، لانفصاله عما فوقه. ولو قلنا باشتراط كريته كان كالمحقون ، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى.

قوله : ويطهر بكثرة الماء الطاهر عليه متدافعا حتى يزول تغيره.

لا يخفى أنّ توقف طهارة الجاري المتغير بالنجاسة على تدافع الماء الطاهر وتكاثره عليه حتى يزول التغير إنما يتم إذا اعتبرنا في تطهير الماء النجس امتزاج الماء الطاهر به ، وإلاّ فالمتجه الاكتفاء في طهارته بزوال تغيره مطلقا ، لمكان المادة.

ويجي‌ء على قول العلامة ـ رحمه‌الله ـ باعتبار الكرية في الجاري اشتراط كون الماء الطاهرة المتدافع على النجس كراً فصاعدا ، ويلزمه أنه لو نقص عن الكرية يبقى ذلك الماء على النجاسة إلى أن يطهر بغيره ، وهو بعيد جدا.

قوله : ويلحق بحكمه ماء الحمام إذا كان له مادة.

المراد بماء الحمام ما في حياضه الصغار مما لا يبلغ الكر ، إذ حكم الكثير منه حكم غيره.

٣٣

______________________________________________________

وظاهر العبارة عدم اشتراط كثرة المادة. وبه صرح في المعتبر ، فقال : ولا اعتبار بكثرة المادة وقلتها ، لكن لو تحقق نجاستها لم تطهر بالجريان (١).

ولعل مستنده إطلاق قول الباقر عليه‌السلام ، في رواية بكر بن حبيب : « ماء الحمام لا بأس به إذا كان له مادة » (٢).

وقول الصادق عليه‌السلام في صحيحة داود بن سرحان وقد سأله عن ماء الحمام : « هو بمنزلة الجاري » (٣).

وهما مع ضعف سند الأولى بجهالة بكر بن حبيب (٤) ، وعدم اعتبار المادة في الثانية ، لا يصلحان لمعارضة ما دل على انفعال القليل بالملاقاة ، إذ الغالب في مادة ماء الحمام بلوغ الكرية ، فينزل عليه الإطلاق.

والمعتمد اعتبار الكرية ، لما سيجي‌ء من الأدلة الدالة على انفعال القليل بالملاقاة ، ولأن المادة الناقصة عن الكر كالعدم.

وتنقيح المسألة يتم ببيان أمور :

الأول : اشترط أكثر المتأخرين (٥) في عدم نجاسة ما في الحياض بلوغ المادة كرا بعد ملاقاة النجاسة للحوض. ومقتضى ذلك أنه لا يكفي بلوغ المجموع الكر.

__________________

(١) المعتبر ( ١ : ٤٢ ).

(٢) الكافي ( ٣ : ١٤ ـ ٢ ) ، التهذيب ( ١ : ٣٧٨ ـ ١١٦٨ ) ، الوسائل ( ١ : ١١١ ) أبواب الماء المطلق ب (٧) ح (٤).

(٣) التهذيب ( ١ : ٣٧٨ ـ ١١٧٠ ) ، الوسائل ( ١ : ١١٠ ) أبواب الماء المطلق ب (٧) ح (١).

(٤) لم ينص الأصحاب عليه بتوثيق ولا تضعيف. راجع رجال الطوسي : ( ١٠٨ ، ١٥٦ ) ، ومعجم رجال الحديث ( ٣ : ٣٤٣ ـ ١٨٤٠ ).

(٥) منهم العلامة في التبصرة : (٣) ، والشهيد الأول في البيان : (٤٤) ، والسيوري في التنقيح الرائع ( ١ : ٣٨ ) ، والشهيد الثاني في روض الجنان : (١٣٧).

٣٤

______________________________________________________

وقد ذكر المصنف ـ رحمه‌الله ـ في المعتبر (١) ، وغيره (٢) : أنّ الغديرين إذا وصل بينهما بساقية كانا كالماء الواحد ، مع بلوغ المجموع منهما ومن الساقية كرا. وهو بإطلاقه يقتضي عدم الفرق بين ما سطوحه مستوية أو مختلفة. بل صرح العلامة ـ رحمه‌الله ـ في التذكرة بالاكتفاء ببلوغ المجموع الكر مع عدم تساوي السطوح ، بالنسبة إلى السافل (٣). فيكون حكم الحمام أغلظ من غيره ، والحال يقتضي العكس ، كما صرحوا به (٤).

والجمع بين الكلامين وإن كان ممكنا بحمل مسألة الغديرين على استواء السطوح ، أو كون الساقية في أرض منحدرة ، لا نازلة من ميزاب ونحوه ، إلاّ أنّ فيه تقييدا للنص ، وكلام الأصحاب ، من غير دليل.

ورجح جدي ـ قدس‌سره ـ في فوائد القواعد الاكتفاء بكون المجموع من المادة وما في الحوض كرا مع تواصلهما مطلقا ، لعموم قوله عليه‌السلام في عدة أخبار صحيحة : « إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء » (٥). وهو متجه ، وعلى هذا فلا فرق بين ماء الحمام وغيره. ومن العجب اعتبار العلامة في التذكرة (٦) وغيرها (٧) في ماء الحمام كرية المادة وتصريحه بتقوي الأسفل بالأعلى إذا بلغ المجموع الكر ، ثم استشكاله في انسحاب حكم ماء الحمام إلى غيره.

__________________

(١) المعتبر ( ١ : ٥٠ ).

(٢) كما في المنتهى ( ١ : ٩ ) ، وتحرير الأحكام : (٤).

(٣) التذكرة ( ١ : ٤ ).

(٤) منهم المحقق في المعتبر ( ١ : ٤٢ ) ، والعلامة في المنتهى ( ١ : ٦ ) ، والمحقق الكركي في جامع المقاصد ( ١ : ٩ ) ، والأردبيلي في مجمع الفائدة ( ١ : ٢٦٣ ).

(٥) المتقدمة في ص (٣٢).

(٦) التذكرة ( ١ : ٣ ).

(٧) كما في المنتهى ( ١ : ٦ ).

٣٥

______________________________________________________

الثاني : لو تنجس ما في الحياض فهل يطهر بمجرد اتصال المادة به ، أم يشترط الامتزاج؟ فيه وجهان ، اختار أولهما العلامة في التحرير ، والمنتهى ، والنهاية (١) ، في مسألة الغديرين ، فحكم بطهارة النجس منهما باتصاله بالبالغ كرا. ورجحه المحقق الشيخ علي (٢) ـ رحمه‌الله ـ وجدي ـ قدس‌سره ـ في جملة من كتبه (٣). واختار ثانيهما العلامة في التذكرة والمنتهى في هذه المسألة (٤).

احتج الأولون بأن اتصال القليل بالكثير قبل النجاسة كاف في دفع النجاسة وإن لم يمتزج به ، فكذا بعدها ، لأن عدم قبول النجاسة في الأول إنما هو لصيرورة الماءين ماءا واحدا بالاتصال.

وبأن الامتزاج إن أريد به امتزاج كل جزء من الماء النجس بجزء من الطاهر لم يمكن الحكم بالطهارة أصلا ، لعدم العلم بذلك ، وإن اكتفى بامتزاج البعض لم يكن المطهر للبعض الآخر هو الامتزاج ، بل مجرد الاتصال ، فيلزم إما القول بعدم طهارته أصلا ، أو القول بالاكتفاء بمجرد الاتصال.

قال في المنتهى : الاتفاق واقع على أنّ تطهير ما نقص عن الكر بإلقاء الكر عليه ، ولا شك أنّ المداخلة ممتنعة ، فالمعتبر إذا الاتصال الموجود هنا (٥).

وبأن الأجزاء الملاقية للطاهر يجب الحكم بطهارتها ، عملا بعموم ما دل على طهورية الماء ، فتطهر الأجزاء التي تليها كذلك ، وكذا الكلام في بقية الأجزاء. وهذا اعتبار حسن نبّه عليه المحقق الشيخ علي ـ رحمه‌الله ـ في بعض فوائده ، وجدي ـ رحمه‌الله ـ

__________________

(١) تحرير الأحكام ( ١ : ٤ ) ، المنتهى ( ١ : ٩ ) ، نهاية الأحكام ( ١ : ٢٣٠ ).

(٢) كما في جامع المقاصد ( ١ : ١٢ ).

(٣) كما في روض الجنان : ( ١٣٨ و ١٤١ ) ، والروضة البهية ( ١ : ٣٢ ).

(٤) التذكرة : ( ٣ و ٤ ) ، المنتهى ( ١ : ٦ ).

(٥) المنتهى ( ١ : ٩ ).

٣٦

ولو مازجه طاهر فغيّره أو تغير من قبل نفسه لم يخرج عن كونه مطهرا ، ما دام إطلاق الاسم باقيا عليه.

______________________________________________________

في روض الجنان (١).

احتج المشترط بامتياز الطاهر من النجس مع عدم الامتزاج ، وذلك يقتضي اختصاص كل بحكمه.

قلنا : ذلك محل النزاع ، فالاستدلال به مصادرة. والأولى الاستدلال عليه بأصالة عدم الطهارة بدونه. ويجاب بعموم الأدلة الدالة على طهورية الماء ، لكن في إثبات العموم نظر.

الثالث : الظاهر الاكتفاء في تطهير ما في الحياض بكرية المادة ، ولا يشترط زيادتها عن الكر ، وبه صرح في المنتهى في مسألة الغديرين (٢). ويلوح من اشتراطهم في تطهير القليل إلقاء الكر عليه دفعة واحدة اعتبار زيادة المادة عن الكر هنا. وسيأتي ما فيه إن شاء الله تعالى.

قوله : ولو مازجه طاهر فغيّره أو تغير من قبل نفسه لم يخرج عن كونه مطهرا ما دام إطلاق اسم الماء باقيا عليه.

هذا الحكم مجمع عليه بين الأصحاب ، ووافقنا عليه أكثر العامة (٣) ، تمسكا بعموم ما دلّ على طهورية الماء. ويندرج في الطاهر ما لا يمكن التحرّز منه كالطحلب ، وما ينبت في الماء ، وما يتساقط من أوراق الشجر ، وما يكون في مقره أو ممره من النورة‌

__________________

(١) روض الجنان : (١٣٨).

(٢) المنتهى ( ١ : ٩ ).

(٣) منهم الشافعي في كتاب الام ( ١ : ٧ ) ، والجصاص في أحكام القرآن ( ٣ : ٣٣٨ ) ، وابن قدامة في المغني ( ١ : ٣٦ ) ، وابن رشد في بداية المجتهد ( ١ : ٢٣ ) ، والمرداوي في الإنصاف ( ١ : ٢٢ ).

٣٧

وأما المحقون : فما كان منه دون الكر فإنه ينجس بملاقاة النجاسة.

______________________________________________________

والملح. وما يمكن فيه ذلك كقليل الزعفران ونحوه ، وخالف في الثاني بعض العامة (١) ، ولا يعبأ به.

قوله : وأما المحقون ، فما كان منه دون الكر ، فإنه ينجس بملاقاة النجاسة.

أطبق علماؤنا إلاّ ابن أبي عقيل على أنّ الماء القليل ـ وهو ما نقص عن الكر ـ ينجس بملاقاة النجاسة له ، سواء تغير بها أم لم يتغير ، إلاّ ما استثني.

وقال ابن أبي عقيل : لا ينجس إلاّ بتغيره بالنجاسة (٢) ، وساوى بينه وبين الكثير. والمعتمد الأول.

لنا : قوله عليه‌السلام في صحيحتي محمد بن مسلم ومعاوية بن عمار : « إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء » (٣) ولا يتحقق فائدة الشرط إلاّ بنجاسة ما دون الكر بدون التغير في الجملة.

وما رواه الشيخ في الصحيح ، عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن الحمامة والدجاجة وأشباههما تطأ العذرة ، ثم تدخل في الماء ، يتوضأ منه للصلاة؟ قال : « لا ، إلاّ أن يكون الماء كثيرا قدر كر من ماء » (٤) قيل : وجه المنع من استعمال الماء في الوضوء منحصر في سلب طهارته أو طهوريته ، والثاني منتف إجماعا ، فيثبت الأول (٥).

__________________

(١) منهم الشافعي في كتاب الأم ( ١ : ٧ ) ، وابن قدامة في المغني ( ١ : ٣٦ ).

(٢) نقله عنه في المختلف : (٢).

(٣) تقدمتا في ص (٣٢).

(٤) التهذيب ( ١ : ٤١٩ ـ ١٣٢٦ ) ، الإستبصار ( ١ : ٢١ ـ ٤٩ ) ، الوسائل ( ١ : ١١٥ ) أبواب الماء المطلق ب (٨) ح (١٣).

(٥) كما في المعالم : (٥).

٣٨

______________________________________________________

وفي الصحيح ، عن أبي العباس الفضل بن عبد الملك ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، أنه سأله عن فضل الهرة ، والشاة ، والبقرة ، وغيرها ، حتى انتهى إلى الكلب فقال : « رجس نجس ، لا تتوضأ بفضله ، واصبب ذلك الماء ، واغسله بالتراب أول مرة ، ثم بالماء » (١).

وفي الحسن ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام ، عن الرجل يدخل يده في الإناء وهي قذرة؟ قال : « يكفي الإناء » (٢) وهو كناية عن النجاسة.

احتج ابن أبي عقيل (٣) بأنه قد تواتر عن الصادق عليه‌السلام : « إن الماء طاهر لا ينجسه إلاّ ما غيّر لونه ، أو طعمه ، أو رائحته » (٤) وبقول الباقر عليه‌السلام وقد سئل عن الجرة والقربة تسقط فيها فأرة أو جرذ أو غيره فيموت فيها : « إذا غلبت رائحته على طعم الماء أو لونه فأرقه ، وإن لم يغلب عليه فتوضأ منه واشرب » (٥).

والجواب عن الأول منع العموم ، لفقد اللفظ الدال عليه ، ولو سلم العموم فالخاص مقدم.

فإن قلت : جهالة التاريخ تمنع ذلك ، قلنا : لا فرق ، فإن هذه الأخبار لا يتطرق إليها النسخ ، مع أنّ أكثر الأصوليين على تقديم الخاص مطلقا ، وفيها بحث حررناه في محله.

__________________

(١) التهذيب ( ١ : ٢٢٥ ـ ٦٤٦ ) ، الإستبصار ( ١ : ١٩ ـ ٤٠ ) ، الوسائل ( ١ : ١٦٣ ) أبواب الأسئار ب (١) ح (٤).

(٢) التهذيب ( ١ : ٣٩ ـ ١٠٥ ) ، الوسائل ( ١ : ١١٤ ) أبواب الماء المطلق ب (٨) ح (٧).

(٣) نقله عنه في المختلف : (٢).

(٤) المستدرك ( ١ : ١٨٦ ) ، نقله عن درر اللئالي.

(٥) كما في المعتبر ( ١ : ٤٩ ).

٣٩

ويطهر بإلقاء كر عليه فما زاد دفعة ،

______________________________________________________

وعن الثاني بالطعن في السند ، وإمكان تأويلها بما يوافق المشهور. لكن لا يخفى أنه ليس في شي‌ء من تلك الروايات دلالة على انفعال القليل بوروده على النجاسة ، بل ولا على انفعاله بكل ما يرد عليه من النجاسات ، ومن ثم ذهب المرتضى ـ رحمه‌الله ـ في جواب المسائل الناصرية إلى عدم نجاسة القليل بوروده على النجاسة (١) ، وهو متجه.

وقد استثنى الأصحاب من هذه الكلية أمورا يأتي الكلام عليها في محلها إن شاء الله تعالى.

قوله : ويطهر بإلقاء كر عليه فما زاد دفعة.

المراد بالدفعة هنا وقوع جميع أجزاء الكر في زمان يسير بحيث يصدق اسم الدفعة عليه عرفا ، لامتناع ملاقاة جميع أجزاء الكر للماء النجس في آن واحد.

واكتفى شيخنا الشهيد ـ رحمه‌الله ـ في الذكرى بإلقاء كر عليه متصل ، ولم يشترط الدفعة (٢). فاعترضه المحقق الشيخ علي ـ رحمه‌الله ـ بأن فيه تسامحا ، لأن وصول أول جزء منه إلى النجس يقتضي نقصانه عن الكر فلا يطهر ، ولورود النص بالدفعة ، وتصريح الأصحاب بها (٣). وهو غير جيد ، فإنه يكفي في الطهارة بلوغ المطهر الكر حال الاتصال إذا لم يتغير بعضه بالنجاسة وإن نقص بعد ذلك ، مع أنّ مجرد الاتصال بالماء النجس لا يقتضي النقصان ، كما هو واضح.

وما ادّعاه من ورود النص بالدفعة منظور فيه ، فإنا لم نقف عليه في كتب الحديث ، ولا نقله ناقل في كتب الاستدلال ، وتصريح الأصحاب ليس حجة ، مع أنّ العلامة ـ رحمه‌الله ـ في التحرير ، والمنتهى اكتفى في تطهير الغدير القليل النجس باتصاله‌

__________________

(١) المسائل الناصرية ( الجوامع الفقهية ) : (١٧٩).

(٢) الذكرى : (٨).

(٣) كما في جامع المقاصد ( ١ : ١٢ ).

٤٠