مستند الشيعة في أحكام الشريعة - ج ٣

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشيعة في أحكام الشريعة - ج ٣

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-78-7
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٥١٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

مع أنه إن اُريد كون ظرف التمكن الآن اللاحق ، لزم عدم جواز التيمّم فيه ، والظاهر أنه لم يقل به أحد .

فإن قيل : معنى قوله : إن لم تجدوا ، أي في الوقت ، ومقتضاه عدم التيمّم المستلزم لوجوب الوضوء على من صدق عليه الواجد في الوقت ، ومع وجود الماء في جزء منه يصدق عليه أنه واجد الماء في الوقت ، فيجب عليه الوضوء وتترتّب عليه لوازمه .

قلنا ـ مع إيجابه بطلان التيمّم فيه ـ : إنه على ذلك يكون لواجد الماء في الوقت فردان : المتمكن حين إرادة الوضوء ، والغير المتمكن منه ، ولا شك أنّ الثاني مخرج حيث لا يجوز التكليف بما لا يطاق ، فيختصّ بالأول ، فلا يفيد .

بل (١) لفهم العرف وحكم العقل بذلك من الخطاب ، كفهمه وحكمه بوجوب المقدمة وسائر لوازم الخطابات ومفاهيهما ؛ فإنّ مما لا شك فيه أنه لو قال المولى لعبده : كُنْ على السطح ، وكان له سُلّم ، فكسره بعد الأمر اختياراً يذمّه العقلاء غاية الذم ، ويستحقّ العقاب واللوم عند أهل العرف .

وكذا إذا قال : كُنْ على السطح إن قدرت على السلّم ، وإلّا فكُنْ في السرداب .

وكذا إذا قال له : اشتر لي فرساً فإن لم تجده فحماراً ، فوجد في السوق فرساً موافقاً لمطلوب مولاه يبيعونه ، فلم يشتره حتى يباع بالغير ثم اشترى حماراً ، يذمّ غاية الذم ويلام حقّ الملامة .

بل التحقيق أنّ ذلك مقتضى وجوب مقدمة الواجب ، وما يدلّ عليه يثبته ، وحكم الإِبقاء بعينه حكم التحصيل ، فيكون الحكم كذا في كلّ مقدمة يكون الواجب بالنسبة إليها مطلقاً .

بل يظهر ممّا ذكرنا عدم الاختصاص بالوقت ، بل حرمة الإِتلاف ونحوه فيما

__________________

(١) هذا عطف على قوله : لا لما قيل . . . المذكور في ص ٣٦٠ .

٣٦١
 &

قبله أيضاً مع عدم ظنّ الوجدان ، لجريان الدليل فيه أيضاً ، كما صرّح به بعض مشايخنا المحقّقين (١) .

ويؤكده ما في بعض الروايات من الأمر باغتسال المجدور لو أجنب اختياراً وتيمّمه لو احتلم (٢) ، وما دلّ على عدم رضاه عليه السلام بالمسافرة إلى الأرض التي لا ماء فيها وأنه إهلاك للدين (٣) ، بل هذا ظاهر جدّاً .

وأمّا عدم الأمر بالمأمور به بعد نفي القدرة فكعدم الأمر بالواجب الذي صار ممتنعاً بالاختيار ، فإنه وإن لم يكلّف به بعد الامتناع ولكنه يعاقب على الترك ، لأنه متروك بالاختيار .

ط : لو وجد من الماء ما لا يكفيه لطهارته فهو في حكم العدم فيتيمّم ، ولا يجب صرفه إلى بعض الأعضاء ـ إجماعاً ـ في الوضوء بل في الغسل أيضاً ، وعليه الإِجماع في الناصريات والتذكرة والمنتهى (٤) ، وهو الحجة فيه .

مضافاً إلى عدم توقيف لهذا النوع من التطهير شرعاً ، وظهور أن المراد من عدم الوجدان عدم وجدان ما يفي بالمطلوب .

وفي روض الجنان : أنه ربما حكي عن الشيخ في بعض أقواله التبعيض (٥) .

فإن كان مراده أن يطهر ما يفي به الماء به وبالتراب غيره ، فمعه ظاهر الآية في بادىء النظر ، إلّا أنّ الإِجماع على الارتباط ، وعدم كون غسل كل عضو واجباً مستقلاً ، وظهور ذلك من الأخبار أيضاً يدفعه .

وإن كان مراده صرف الماء في بعض الأعضاء مع التيمّم التام ، كما احتمله

__________________

(١) الوحيد البهبهاني في شرح المفاتيح ( المخطوط ) .

(٢) الوسائل ٣ : ٣٧٣ أبواب التيمم ب ١٧ .

(٣) الوسائل ٣ : ٣٩١ أبواب التيمم ب ٢٨ ح ٢ ، ٣ .

(٤) المسائل الناصريات ( الجوامع الفقهية ) : ١٩٠ ، التذكرة ١ : ٦٦ ، المنتهى ١ : ١٣٣ .

(٥) روض الجنان : ١١٩ .

٣٦٢
 &

في نهاية الفاضل والحبل المتين ـ في الغسل (١) ـ فعموم نحو : الميسور لا يسقط بالمعسور ، مع عدم المانع منه في الغسل من بطلانه بفوات الموالاة يقرّبه ، إلّا أنّ عدم دلالته ـ كما ذكرنا مراراً ـ مضافاً إلى ظواهر الصحاح الثلاث لابن مسلم (٢) والحلبي (٣) وجميل (٤) ، ورواية الحسين بن أبي العلاء (٥) يطرده .

هذا إذا كان مكلّفاً بطهارة واحدة ، ولو كان مكلّفاً بطهارتين وكفى الماء لإحداهما فإن كفى للوضوء خاصة تعيّن ، وإن كفى للغسل تخيّر على الأظهر ؛ لأنّهما فرضان مستقلّان ولا مرجّح .

بل مقتضى القواعد التخيير بين الطهارة من الخبث والحدث لو وجبتا ولا يكفي الماء إلّا لإِحداهما .

ولكن الظاهر الاتّفاق على تقديم رفع الخبث والتيمّم ، كما صرّح به في المعتبر والمنتهى والتذكرة (٦) .

وتؤيّده صحيحة الحذّاء : الحائض ترى الطهر وهي في السفر وليس معها من الماء ما يكفيها لغسلها وقد حضرت الصلاة ، قال : « إذا كان معها بقدر ما تغسل فرجها فتغسله ثم تتيمّم وتصلّي » (٧) .

دلّت بترك الاستفصال على تقديم غسل الفرج على وضوء الحائض .

__________________

(١) نهاية الاحكام ١ : ١٨٦ ، الحبل المتين : ٩٤ .

(٢) التهذيب ١ : ٤٠٥ / ١٢٧٢ ، الوسائل ٣ : ٣٨٧ أبواب التيمم ب ٢٤ ح ٤ .

(٣) الفقيه ١ : ٥٧ / ٢١٣ ، التهذيب ١ : ٤٠٥ / ١٢٧٣ ، الوسائل ٣ : ٣٨٦ أبواب التيمم ب ٢٤ ح ١ .

(٤) الكافي ٣ : ٦٦ الطهارة ب ٤٢ ح ٣ ، الفقيه ١ : ٦٠ / ٢٢٣ ، التهذيب ١ : ٤٠٤ / ١٢٦٤ ، الوسائل ٣ : ٣٨٦ أبواب التيمم ب ٢٤ ح ٢ .

(٥) التهذيب ١ : ٤٠٤ / ١٢٦٦ ، الوسائل ٣ : ٣٨٧ أبواب التيمم ب ٢٤ ح ٣ .

(٦) المعتبر ١ : ٣٧١ ، المنتهى ١ : ١٥٣ ، التذكرة ١ : ٦١ .

(٧) الكافي ٣ : ٨٢ الحيض ب ٧ ح ٣ ، التهذيب ١ : ٤٠٠ / ١٢٥٠ ، الوسائل ٢ : ٣١٢ أبواب الحيض ب ٢١ ح ١ .

٣٦٣
 &

وقد يعلّل أيضاً : بأنّ رفع الحدث له بدل بخلاف رفع الخبث (١) .

ويضعّف : بأنّ البدلية إنما هي مع عدم الماء ، مع أنّ البدلية معارضة بتجويز الشارع الصلاة في النجاسة مع تعذّر إزالتها ، أو عارياً .

ثم على القول بتعيين التقديم لو عكس لم يجزئ ؛ لعدم كون ما أتى مأموراً به .

الثاني من المسوغات : ضيق الوقت عن الطهارة وإدراك ركعة مع وجود الماء عنده . سوّغ معه التيمّم في المنتهى والحدائق (٢) .

لما ورد في الأخبار من أنّ التراب بمنزلة الماء ، وإنما يكون كذلك لو ساواه في أحكامه ، وأنّ ربّ الماء ربّ الصعيد الذي هو كناية عن اتّحادهما في جميع الأحكام . وأنّ الله جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً (٣) .

ولوجوب الصلاة في الوقت ، فإما تجب بدون الطهور ، أو مع المائية ، أو الترابية . والأول باطل ، والثاني تكليف بما لا يطاق ، فلم يبق إلّا الثالث .

ولأنّ علّة مشروعية التيمّم محافظة وقت الصلاة ، وإلّا لوجب تأخيرها إلى حين التمكن ، وهذه العلّة موجودة في المورد فيشرع فيه التيمّم .

ولأنّ المقصود الأصلي الصلاة في الوقت ، والطهارة مقصودة بالعرض ، ولا يترك ما بالذات لتحصيل ما به العرض الذي له عوض .

ولأن الله سبحانه اختار وقوع الصلاة في الوقت على طهارة الثوب والبدن ، والقيام ، والاستقرار ، والقراءة ، والاستقبال ، وغير ذلك من الأجزاء والشرائط ، والطهارة المائية أيضاً مثلها ضرورة .

ومرجع الدليل إلى الاستقراء أو القياس على سائر الشرائط والأجزاء ، كما كان الدليل الثالث قياساً على سائر المسوغات .

__________________

(١) كما في المعتبر ١ : ٣٧١ .

(٢) المنتهى ١ : ١٣٧ ، الحدائق ٤ : ٢٤٧ .

(٣) الوسائل ٣ : ٣٨٥ أبواب التيمم ب ٢٣ .

٣٦٤
 &

ولكون التمكن من الاستعمال شرطاً في وجوب المائية ، وهو هنا مفقود ؛ لعدم رضا الشارع بفوت الصلاة .

ويرد على الأول : منع عموم التنزيل كما بيّن في محلّه . ومنع كون ما ذكر كناية عن التساوي في جميع الأحكام سيما مع الاختلاف في كثير منها . ومنع التشبيه في كيفية الطهورية ، لكونه خلاف الواقع ، بل إنما هو في مجرد الجعل .

وعلى الثاني : منع وجوب الصلاة في الوقت ، والعمومات الدالّة عليه مخرجة منها ما إذا لم يتمكّن من إيقاعها مع ما ثبت طهوريته قطعاً . وهنا كذلك ، لعدم التمكّن من إيقاعها مع المائية ، وعدم ثبوت طهورية التراب في المورد . ولا يلزم منه عدم كونه معاقباً لو أخلّ عمداً ، بل هو كبعيد تَرَك الذهاب إلى الحج حتى دخل وقت لا يمكنه الوصول إلى الموقف .

وعلى الثالث : أنه قياس مردود . والتعليل المذكور ممنوع ، وإلّا لزم جواز التيمّم بالدقيق والزجاجة مع فقد الأرض ، بل جواز الصلاة بدون الطهور مع عدم التمكن منه .

وعلى الرابع : أنه محض استبعاد لا يصلح للاستدلال .

وعلى الخامس : أنه إمّا استقراء ظني لا حجية فيه ، بل يمكن منع إفادته ظناً أيضاً حيث إنه تسقط الصلاة بتعذّر الطهور وهو من الشرائط ، أو قياس يعلم ضعفه مما مرّ .

وعلى السادس : أنه عين المصادرة ، لمنع عدم رضاه بفوتها حينئذٍ وإن لم يكن راضياً قبل انتفاء التمكن ، كما في مثال الحج .

ولأجل ما ذكر من ضعف هذه الأدلّة ، وأصالة عدم مشروعية التيمّم ، وصدق وجدان الماء ، والتمكن من الاستعمال ـ غاية الأمر عدم اتّساع وقت الصلاة له ، ولم يثبت كون ذلك مسوّغاً للتيمّم ـ ذهب في المعتبر إلى وجوب الطهارة ‌

٣٦٥
 &

المائية والقضاء ، وحكم بعدم جواز التيمّم (١) ، واستظهره في المدارك (٢) ، وهو الظاهر من البيان حيث أوجب الإِعادة على مثل ذلك لو تيمّم وصلّى (٣) ، وجعله في شرح القواعد مقتضى مذهب الشيخ في مسألة المخلّ بالطلب (٤) .

وفرّق المحقّق الشيخ علي في شرح القواعد بين من كان الماء موجوداً عنده بحيث يخرج الوقت باستعماله ، وبين من كان بعيداً عنه بحيث خرج بالسعي إليه ، فلم يجوّز التيمّم وأوجب المائية في الأول دون الثاني ؛ استناداً إلى انتفاء صدق عدم الوجدان في الأول وصدقه في الثاني (٥) .

وهو الحقّ . لا لما ذكره ؛ لما أورده عليه في روض الجنان من أنّ المراد بوجدان الماء في باب التيمّم فعلاً أو قوة ، فلا يتمّ الفرق ، لصدق الوجدان في الصورتين (٦) . بل لقوله عليه السلام في مرسل العامري السابق : « ولم ينته إلى الماء » (٧) إلى آخره ، فإنه يشمل من علم وجود الماء ولم يمكنه الوصول إليه إلّا بفوات الوقت .

ثم إنه لا فرق في جميع ما ذكر بين ما إذا كان تأخير الطهارة بالماء إلى الضيق عمداً أو نسياناً أو اضطراراً ، كأن يكون نائماً أو محبوساً أو نحو ذلك ؛ لجريان الدليل وإن احتاج في تعدّي المرسلة إلى جميع الصور إلى ضمّ الإِجماع المركّب .

وصرّح في البيان بالتيمّم في الأخير مطلقاً (٨) .

ولو احتاط فيه بالتيمّم والصلاة ثم القضاء بالمائية ـ بل في الأولين أيضاً ـ كان أولى .

__________________

(١) المعتبر ١ : ٣٦٦ .

(٢) مدارك الأحكام ٢ : ١٨٥ .

(٣) البيان : ٨٤ .

(٤) جامع المقاصد ١ : ٤٦٧ .

(٥) جامع المقاصد ١ : ٤٦٧ .

(٦) روض الجنان : ١٢٨ .

(٧) راجع ص ٣٥٥ .

(٨) البيان : ٨٤ .

٣٦٦
 &

الثالث : عدم الوصلة إلى الماء مع وجوده ، إمّا بالعجز عن الحركة المحتاج إليها في تحصيله لكبر أو مرض أو ضعف ، ولم يجد معاوناً ولو باُجرة مقدورة ، أو بفقد الآلة التي يتوصّل بها إليه ، كأن يكون في بئر ، أو بكونه ملكاً للغير ولم يبذله إلّا بثمن لا يقدر عليه ؛ بالإِجماع في الجميع ، وصدق عدم الوجدان .

ولو أمكن له شدّ الثياب بعضها ببعض في الثاني وجعلها آلة ـ ولو ببلّها وعصرها ـ وجب ، إلّا أن تكون ثياب بدنه وخاف ببلّها الضرر .

ولو توقّف على شقّ الثوب الموجب لنقص القيمة ، قالوا بوجوبه (١) .

وفيه إشكال لو وصل حدّ الضرر عرفاً ، وقياسه على ثمن الماء مشكل .

ومثل الثمن الغير المقدور الثمن الذي يخاف ببذله تلف نفسه إجماعاً ؛ له ، ولقوله تعالى : ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (٢) والمروي في الدعائم ـ المنجبر ضعفه بما ذكر ـ في المسافر يجد الماء بثمن غال : « أن يشتريه [ إذا كان واجداً لثمنه ولا يتيمّم ، لأنه ] إذا كان واجداً لثمنه فقد وجده ، إلّا أن يكون في دفعه الثمن ما يخاف على نفسه التلف إن عدمه والعطب فلا يشتريه ويتيمّم بالصعيد ويصلّي » (٣) .

وكذا الثمن الذي يوجب بذله عليه الحرج ، أو المشقة باعتبار وقوعه في الفقر والمسكنة وذلّ السؤال ، أو الضيق في المعيشة ، أو مكادحة الديّان ونحو ذلك ؛ لأدلّة نفي العسر والحرج ، المعارضة مع ما يأتي ممّا يدلّ على وجوب الشراء ولو بأضعاف الثمن بالعموم من وجه ، الموجب للرجوع إلى أصالة عدم وجوب الشراء ، المستلزم لجواز التيمّم بالإِجماع المركّب .

وأمّا ما لا يوجب بذله ما ذكر فيجب بذله وشراء الماء ولا يجوز التيمّم ولو

__________________

(١) كما في التذكرة ١ : ٦٠ ، وجامع المقاصد ١ : ٤٧٤ ، والحدائق ٤ : ٢٧٢ .

(٢) البقرة : ١٩٥ .

(٣) دعائم الاسلام ١ : ١٢١ ، مستدرك الوسائل ٢ : ٥٤٩ أحكام التيمم ب ٢٠ ح ١ بتفاوت يسير ، وما بين المعقوفين من المصدر .

٣٦٧
 &

كان أضعاف ثمنه ، إجماعاً كما عن الخلاف (١) ، بل ولو كان إجحافاً كثيراً ، وفاقاً للسيد وابن سعيد والإِرشاد وروض الجنان والحدائق (٢) ، واللوامع ، بل الأكثر على ما هو المحتمل من كلامهم من كون المراد من الضرر الحالي المشترط انتفاؤه عندهم ما ذكرنا ، كما يومىء إليه إيجابهم الشراء بأضعاف الثمن ، واستدلال بعضهم على اشتراطه بالنهي عن التهلكة وقتل الأنفس (٣) ، وصرّح بذلك والدي ـ قدس سره ـ في اللوامع .

لتوقّف الوضوء الواجب عليه ، ولصدق الوجدان فلا يجوز التيمّم فلم يبق إلّا وجوب الشراء .

وللمروي في الدعائم المتقدم (٤) ، وصحيحة صفوان : عن رجل احتاج إلى الوضوء للصلاة وهو لا يقدر على الماء ، فوجد قدر ما يتوضأ به بمائة درهم أو بألف درهم وهو واجد لها ، يشتري ويتوضّأ أو يتيمّم ؟ قال : « لا ، بل يشتري ، قد أصابني مثل هذا فاشتريت وتوضّأت ، وما يشتري (٥) بذلك مال كثير » (٦) .

وفي تفسير العياشي مسنداً إلى العبد الصالح : عن قول الله عزّ وجلّ : فلم تجدوا ماءً ، ما حدّ ذلك ؟ فإن لم تجدوا بشراء أو بغير شراء ، إن وجد قدر وضوئه بمائة ألف أو ألف وكم بلغ ؟ قال : « ذلك على قدر جدته » (٧) .

__________________

(١) الخلاف ١ : ١٦٥ .

(٢) حكاه عن السيد في المعتبر ١ : ٣٦٩ ، ابن سعيد في الجامع للشرائع : ٤٥ ، الإِرشاد ١ : ٢٣٣ ، روض الجنان : ١١٨ ، الحدائق ٤ : ٢٦٤ .

(٣) كما في كشف اللثام ١ : ١٤٤ .

(٤) في ص ٣٦٧ .

(٥) في الفقيه : « ما يسوؤني » .

(٦) الكافي ٣ : ٧٤ الطهارة ب ٤٦ ح ١٧ ، الفقيه ١ : ٢٣ / ٧١ ، التهذيب ١ : ٤٠٦ / ١٢٧٦ ، الوسائل ٣ : ٣٨٩ أبواب التيمم ب ٢٦ ح ١ .

(٧) تفسير العياشي ١ : ٢٤٤ / ١٤٦ ، وعنه في الوسائل ٣ : ٣٨٩ أبواب التيمم ب ٢٦ ح ٢ بتفاوت يسير .

٣٦٨
 &

وفي حاشية الإِرشاد لفخر المحققين : أن مولانا الصادق عليه السلام اشترى وضوءه بمائة دينار .

خلافاً للمحكي عن الإِسكافي ، فنفى الوجوب مع غلاء الثمن مطلقاً ، بل قال : يتيمّم ويصلّي ويعيد إذا وجد الماء (١) ، وهو محتمل نهاية الفاضل (٢) ؛ لأنّ بذل الزائد ضرر وعسر وحرج ، وهي في الشريعة منفية ؛ ولسقوط السعي في طلبه للخوف على شي‌ء من ماله ، كما في الأخبار (٣) .

ويضعّف الأول : بأنّ الضرر وأخويه قد يثبت بالدليل ، كما في جميع موارد بذل المال ، والأخبار المتقدمة أدلّة خاصة بالنسبة إلى أدلّتها ، لأنّ بذل القدر المذكور فيها ضرر وعسر لا محالة ، فيجب تخصيصها بها ، مع أنّ في قوله عليه السلام : « وما يشتري بذلك مال كثير » (٤) إشارةً إلى منع الضرر والعسر .

والثاني : بأنه قياس باطل .

ولمحتمل المحكي عن الأكثر (٥) ، فنفوا الوجوب مع التضرّر ببذل الثمن بحسب حال المكلّف ، كما هو أحد احتمالي كلامهم ، أو في حال الشراء المقابل لزمان الاستقبال ، كما هو الاحتمال الآخر ؛ لأدلّة نفي العسر والضرر .

ويضعّف : بأنّ المراد بالضرر إن كان ما ذكرناه فهو كذلك ، وإن كان ما دون ذلك فلا ؛ لأخصية أخبار الشراء عن أدلّة نفيهما كما ذكر ، بل ينافي تصريحهم بوجوب الشراء ولو كان بأضعاف ثمنه ، واستدلالهم بحديث مائة درهم وألف ومائة ألف ومائة دينار ، حيث إنّ كلّ ذلك ضرر ولو كان المكلّف ذا سعة وثروة‌

__________________

(١) حكاه عنه في الرياض ١ : ٧٤ .

(٢) نهاية الإِحكام ١ : ١٩٤ .

(٣) انظر الوسائل ٣ : ٣٤٢ أبواب التيمم ب ٢ .

(٤) صحيحة صفوان المتقدمة في ص ٣٦٨ .

(٥) منهم ابن ادريس في السرائر ١ : ١٤١ ، والعلامة في التحرير ١ : ٢١ ، والشهيد في الدروس ١ : ١٣١ .

٣٦٩
 &

كثيرة ، ولذا يستدلّون على ثبوت خيار الغبن بتفاوت ما هو أقلّ من ذلك بأخبار نفي الضرر ، وكذا في موارد كثيرة اُخرى ، والإِجحاف الذي وقع في كلام بعضهم لا قدر معيّن له ولا دليل على نفيه في المقام ، إلّا أن يراد به ما ذكرناه .

وقد يستدلّ له : بعدم تبادر صورة الإِجحاف من الأخبار ، وبجواز التيمّم مع الخوف على قليل من المال في السعي إلى الماء ، والنهي عن تضييع المال ، وجواز المدافعة عنه .

ويضعّف الأول : بمنع عدم التبادر جدّاً ، بل ما صرّح به فيها هو عين الإِجحاف إن اُريد به ما هو ظاهره .

والبواقي : بكونه قياساً مع الفارق وهو النص ، والإِجماع في بعض الموارد ، ومفهوم الآية في المقام ، وعموم نفي الضرر الخالي عمّا يصلح للتخصيص في البواقي .

لا ما قيل من أنّ الحاصل بالبواقي عوض المال على غاصبه وهو منقطع ، وبالمقام الثواب وهو دائم (١) ؛ لتحقّق الثواب فيها أيضاً مع البذل اختياراً طلباً للعبادة ، بل قد يجتمع فيها العوض والثواب معاً .

فرع : لو وُهب الماء أو اُعيرت الآلة وجب القبول ، على ما هو ظاهر الأصحاب ؛ لصدق الوجدان . وكذا لو وُهب ثمنهما أو وهبت الآلة ، وفاقاً للشيخ والمدارك ـ قدّس سرّهما ـ والمنتهى (٢) ، واللوامع ؛ لما ذكر .

وخلافاً للمعتبر (٣) ، بل للمحكي عن الأكثر ؛ لاستلزامه المنّة ولا يجب تحمّلها .

وفيه : أنّه ربما يخلو عن المنّة ، وعلى فرضها ليس في تحمّلها الحرمة ، بل ولا الضرر والمشقّة ، فيجب من باب المقدمة .

__________________

(١) كما في نهاية الإِحكام ١ : ١٩٤ ، والتنقيح الرائع ١ : ١٣٢ .

(٢) الشيخ في المبسوط ١ : ٣١ ، المدارك ٢ : ١٩٠ ، المنتهى ١ : ١٣٣ .

(٣) المعتبر ١ : ٣٧١ .

٣٧٠
 &

ولو علم مع قوم ماء فإن علم إباءهم من البذل ، لم يجب طلبه منهم ، لعدم الفائدة ، وإلّا وجب ، لأنّه نوع تحصيل لشرط الواجب فيجب .

الرابع : احتياج تحصيل الماء إلى مشقّة شديدة يصدق معها العسر أو الحرج‌ لمرض أو بُعْد مسافة أو نحو ذلك ؛ لأدلّة انتفائها المعارضة لدليل وجوب التحصيل بالعموم من وجه ، الموجب للرجوع إلى أصالة عدم وجوب تحمّلهما ، المستلزم لعدم وجوب الوضوء ، المستلزم لتسويغ التيمّم ، بالإِجماع .

الخامس : الخوف من تحصيل الماء على النفس ، بالإِجماع المحقّق والمصرّح به في كلام جماعة (١) ؛ وهو الحجة فيه .

مضافاً إلى عمومات نفي العسر ، فإنه لا شك في أنّ في التحصيل مع ذلك الخوف عسراً شديداً ، ورواية الرقي ، المتقدّمة (٢) .

ورواية يعقوب بن سالم : عن الرجل لا يكون معه ماء ، والماء عن يمين الطريق ويساره غلوتين أو نحوهما ، قال : « لا آمره أن يغرّر بنفسه فيعرض له لصّ أو سبع » (٣) .

والمروي في الدعائم : وقالوا صلوات الله عليهم في المسافر : « إذا لم يجد الماء إلّا بموضع يخاف فيه على نفسه ـ إن مضى في طلبه ـ من لصوص أو سباع ، أو ما يخاف منه التلف والهلاك يتيمم ويصلّي » (٤) .

والاستدلال له بأخبار الركية والبئر (٥) غير جيّد ؛ لأنّ عدم إيجاب دخول البئر يمكن أن يكون للخوف وللمشقة ، فلا يمكن الاستدلال به لشي‌ء منهما .

__________________

(١) منهم المحقق في المعتبر ١ : ٣٦٦ ، والعلامة في المنتهى ١ : ١٣٤ ، وصاحب المدارك ٢ : ١٩٠ .

(٢) في ص ٣٥١ .

(٣) الكافي ٣ : ٦٥ الطهارة ب ٤١ ح ٨ ، التهذيب ١ : ١٨٤ / ٥٢٨ ، الوسائل ٣ : ٣٤٢ أبواب التيمم ب ٢ ح ٢ .

(٤) دعائم الاسلام ١ : ١٢١ ، مستدرك الوسائل ٢ : ٥٢٥ أحكام التيمم ب ١ ح ١ .

(٥) انظر الوسائل ٣ : ٣٤٣ أبواب التيمم ب ٣ .

٣٧١
 &

بل وكذا لو خاف غيره على نفسه بذهاب من معه إلى تحصيل الماء ؛ لظاهر الإِجماع ، ولزوم العسر على ذلك الغير لولاه ، بل الظاهر الإِجماع على سقوط الوجوب لو خاف الذاهب على الغير وإن لم يخف ذلك الغير لصغر أو جنون أو نوم .

ولا فرق بين أن يكون الخوف على الهلاكة أو الجراحة أو الضرب الشديد الذي يشق تحمّله عادة ؛ لإِطلاق تعرّض اللصّ والخوف منه ، وصدق العسر .

وكذا لو كان الخوف على المال الكثير أو القليل الصادق على تلفه الضرر عرفاً إذا كان خوفه لأجل القطع ـ ولو عادة ـ بالتلف ؛ لأدلّة نفي الضرر .

ولو كان خوفه لمجرّد احتمال التلف أو مظنته ففيه إشكال ؛ لعدم جريان أدلّة نفي الضرر ، إلّا أن يكون المال كثيراً بحيث يكون في تعريضه في مظنة التلف عسر حتى تجري فيه أدلّة نفيه ، فيسقط وجوب التحصيل أيضاً .

وظاهر المشهور : السقوط مع الخوف مطلقا ًعلى المال كذلك .

والاستدلال بروايتي الرقيّ وابن سالم (١) ضعيف ؛ لصراحتهما في الخوف على النفس ، ولذلك ـ مع وجوب تقديم أدلّة وجوب الطهارة على ما يعارضها من أدلّة نفي الضرر والحرج ـ ذهب بعض مشايخنا الأخباريين إلى عدم السقوط بالخوف على المال مطلقاً (٢) .

وما ذكره من وجوب التقديم لا وجه له .

ومثل الخوف على النفس الخوف على البضع والعرض ؛ لكون تعريضهما في مظنة الضياع حرجاً وأيّ حرج .

وكذا الخوف الحاصل بسبب مجرد الجبن إذا كان شديداً يعدّ تحمّله عسراً ، وفاقاً للمعتبر ونهاية الإِحكام والتذكرة (٣) ، بل في اللوامع : عليه ظاهر الوفاق ،

__________________

(١) المتقدمتين في ص ٣٥١ و ٣٧١ .

(٢) الحدائق ٤ : ٢٧٥ .

(٣) المعتبر ١ : ٣٦٦ ، نهاية الإِحكام ١ : ١٨٨ ، التذكرة ١ : ٥٩ .

٣٧٢
 &

وخلافاً للتحرير والبيان (١) ، وتوقّف في المنتهى (٢) .

بل وكذا مع جبن الغير ، فيسقط ذهاب رفيقه إلى تحصيل الماء ، لما مرّ ، بل ممّا ذكر يظهر السقوط مع الخوف على مال الغير إذا كان قاطعاً بالتلف ، وأمّا بدونه فلا دليل على السقوط إلّا إذا كان تعريضه في مظنّة التلف موجباً لعسر .

السادس : الخوف من استعمال الماء على النفس أو البدن ؛ لوجود مرض يخاف شدّته ، أو ازدياده ، أو بطء برئه ، أو عسر علاجه ، أو قرح أو جرح كذلك ، أو لخوف حدوث مرض ، فإنّ كلّ ذلك مسوّغ للتيمّم ؛ بالإِجماع .

مضافاً في المريض بأقسامه : إلى إطلاق الآية الدالّة على مشروعية التيمّم لكلّ مريض ، خرج من لا يخاف شيئاً ممّا ذكرنا بالإِجماع ، فيبقى الباقي .

ومرسلة ابن أبي عمير : « يتيمّم المجدور والكسير بالتراب إذا أصابته الجنابة » (٣) وقريبة منها مرسلته الاُخرى (٤) ، ومرسلة الفقيه (٥) .

وفيه وفي المقروح والمجروح : إلى المروي في الدعائم : « ومن كانت به قروح أو علّة يخاف منها على نفسه يتيمّم » (٦) .

وفيهما وفي خائف الحدوث : إلى استلزام التكليف باستعمال الماء الضرر فيما علم تحقّق هذه الاُمور عادة ، والعسر والحرج إذا ظنّ ذلك .

وفي الثاني خاصة : إلى صحيحة محمد : عن الرجل يكون به القرح والجراحة يجنب ، قال : « لا بأس بأن لا يغتسل ، يتيمّم » (٧) .

__________________

(١) التحرير ١ : ٢١ ، البيان : ٨٥ .

(٢) المنتهى ١ : ١٣٤ .

(٣) الكافي ٣ : ٦٨ الطهارة ب ٤٥ ح ٢ ، الوسائل ٣ : ٣٤٧ أبواب التيمم ب ٥ ح ٤ .

(٤) التهذيب ١ : ١٨٥ / ٥٣٣ ، الوسائل ٣ : ٣٤٨ أبواب التيمم ب ٤٥ ح ١٠ .

(٥) الفقيه ١ : ٥٩ / ٢١٧ ، الوسائل ٣ : ٣٤٨ أبواب التيمم ب ٥ ح ١٢ .

(٦) دعائم الاسلام ١ : ١٢١ . مستدرك الوسائل ٢ : ٥٢٧ أحكام التيمم ب ٤ ح ٢ .

(٧) الكافي ٣ : ٦٨ الطهارة ب ٤٥ ح ١ ، التهذيب ١ : ١٨٤ / ٥٣٠ ، الوسائل ٣ : ٣٤٧ أبواب التيمم ب ٥ ح ٥ .

٣٧٣
 &

وموثّقته : في الرجل تكون به القروح في جسده فتصيبه الجنابة ، قال : « يتيمّم » (١) .

وصحيحتي ابن سرحان والبزنطي : في الرجل تصيبه الجنابة وبه قروح أو جروح أو يخاف على نفسه البرد ، فقال : « لا يغتسل ويتيمّم » (٢) .

وفي الأخير كذلك : إلى فحوى السقوط مع خوف الشدّة ، وصحيحة ابن سنان : عن الرجل تصيبه الجنابة في الليلة الباردة ويخاف على نفسه التلف إن اغتسل ، قال : « يتيمّم ويصلّي ، فإذا أمن البرد اغتسل وأعاد الصلاة » (٣) وقريبة منها مرسلة جعفر (٤) .

كلّ ذلك إذا لم يجنب متعمّداً ، وأمّا معه فيجب عليه الغسل ـ على الأظهر ـ وإن أصابه ما أصابه ، ما لم يخف التلف على نفسه . وفاقاً للإِسكافي (٥) ، وظاهر الفقيه وصريح الهداية (٦) ، والمفيد (٧) ، والشيخ في بعض كتبه (٨) ، والمحقّق في النافع (٩) ، والحرّ العاملي من المتأخّرين (١٠) .

لصحيحة محمد : عن رجل تصيبه الجنابة في أرض باردة ولا يجد الماء وعسى

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٨٥ / ٥٣٢ ، الوسائل ٣ : ٣٤٨ أبواب التيمم ب ٥ ح ٩ .

(٢) صحيحة ابن سرحان : التهذيب ١ : ١٨٥ / ٥٣١ ، الوسائل ٣ : ٣٤٨ أبواب التيمم ب ٥ ح ٨ ، صحيحة البزنطي : التهذيب ١ : ١٩٦ / ٥٦٦ ، الوسائل ٣ : ٣٤٧ أبواب التيمم ب ٥ ح ٧ .

(٣) الفقيه ١ : ٦٠ / ٢٢٤ ، التهذيب ١ : ١٩٦ / ٥٦٨ ، الاستبصار ١ : ١٦١ / ٥٦٠ ، الوسائل ٣ : ٣٧٢ أبواب التيمم ب ١٦ ح ١ .

(٤) الكافي ٣ : ٦٧ الطهارة ب ٤٣ ح ٣ ، التهذيب ١ : ١٩٦ / ٥٦٧ ، الاستبصار ١ : ١٦١ / ٥٥٩ ، الوسائل ٣ : ٣٦٧ أبواب التيمم ب ١٤ ح ٦ .

(٥) حكاه عنه في المختلف : ٥٢ .

(٦) الفقيه ١ : ٦٠ ، الهداية : ١٩ .

(٧) المقنعة : ٦٠ .

(٨) النهاية : ٤٦ ، المبسوط ١ : ٣٠ ، الخلاف ١ : ١٥٦ .

(٩) المختصر النافع : ١٧ .

(١٠) الوسائل ٣ : ٣٧٣ أبواب التيمم ب ١٧ ( عنوان الباب ) .

٣٧٤
 &

أن يكون الماء جامداً ، فقال : « يغتسل على ما كان » حدّثه رجل أنّه فعل ذلك فمرض شهراً من البرد ، فقال : « اغتسل على ما كان فإنه لا بدّ من الغسل » (١) .

وصحيحة سليمان : عن رجل كان في أرض باردة فتخوّف إن هو اغتسل أن يصيبه عنت من الغسل ، كيف يصنع ؟ قال : « يغتسل وإن أصابه ما أصابه » قال : « وذكر أنه كان وجعاً شديد الوجع فأصابته جنابة وهو في مكان بارد وكانت ليلة شديدة الريح ، فدعوت الغلمة فقلت لهم : احملوني فاغسلوني ، فقالوا : إنّا نخاف عليك ، فقلت : ليس بدّ ، فحملوني ووضعوني على خشبات ثم صبّوا عليّ الماء فغسلوني » (٢) .

تعارضتا مع الأخبار المتقدّمة حيث إنّها أوجبت التيمّم على من ذكر مطلقاً ، وهما أوجبتا الغسل عليه ، فخُصّت المتقدّمة بغير المتعمّد ، وهُما بالمتعمّد ، بشهادة المرفوعتين :

إحداهما : عن مجدور أصابته جنابة ، قال : « إن أجنب نفسه فليغتسل ، وإن كان احتلم فليتيمّم » (٣) .

والاُخرى : « إن أجنب نفسه فعليه أن يغتسل على ما كان منه ، وإن كان احتلم فليتيمّم » (٤) .

مع أنّ بملاحظة الإِجماع المحقّق على سقوط الغسل عن غير المتعمّد ، واختصاص الصحيحين بالمتعمّد قطعاً ، يصيران أخصّ مطلقاً من أخبار التيمّم ،

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٩٨ / ٥٧٦ ، الاستبصار ١ : ١٦٣ / ٥٦٤ ، الوسائل ٣ : ٣٧٤ أبواب التيمم ب ١٧ ح ٤ .

(٢) التهذيب ١ : ١٩٨ / ٥٧٥ ، الاستبصار ١ : ١٦٢ / ٥٦٣ ، الوسائل ٣ : ٣٧٣ أبواب التيمم ب ١٧ ح ٣ .

(٣) الكافي ٣ : ٦٨ الطهارة ب ٤٥ ح ٣ ، الفقيه ١ : ٥٩ / ٢٩١ ، التهذيب ١ : ١٩٨ / ٥٧٤ ، الاستبصار ١ : ١٦٢ / ٥٦٢ ، الوسائل ٣ : ٣٧٣ أبواب التيمم ب ١٧ ح ١ .

(٤) الكافي ٣ : ٦٧ الطهارة ب ٤٣ ح ٢ وفيه : على ما كان عليه ، التهذيب ١ : ١٩٧ / ٥٧٣ ، الاستبصار ١ : ١٦٢ / ٥٦١ ، الوسائل ٣ : ٣٧٣ أبواب التيمم ب ١٧ ح ٢ .

٣٧٥
 &

فيجب تخصيصها بهما ، كما يجب تخصيصهما وتخصيص المرفوعتين بغير من خاف تلف نفسه بصحيحة ابن سنان ومرسلة جعفر ، المتقدّمتين (١) ، حيث تتعارضان معها بالعموم من وجه وترجّحان عليها بموافقة الكتاب الموجب للتيمّم على المريض والنافي للعسر والحرج والناهي عن التعرّض للتهلكة ، كما هو ظاهر الشيخ وصريح النافع (٢) .

خلافاً للهداية والمفيد (٣) ، فلم يخصّصاها ، وأوجبا الغسل وإن كان فيه تلف نفسه . ولا وجه له .

كما لم يخصّص الأكثر متعمّد الجنابة عن أخبار التيمّم مطلقاً ، وأوجبوا عليه التيمّم أيضاً ؛ اتّكالاً على عدم صلاحية الصحيحتين والمرفوعتين لمعارضتها ، لمخالفتها لما دلّ على عدم تحريم تعمّد الجنابة حينئذٍ من الإِجماع والنصوص وخصوص فعل المعصوم كما في الصحيحين ، فلا يترتّب على فاعلها عقوبة وانتقام . ومناقضتها للاُصول القطعية الكتابية والسُنية المثبتة لليسر والسهولة ، النافية للحرج والضرر ، الكاشفة عن تقديم اعتناء الشارع بالأبدان على اعتنائه بالأديان ، الموجبة لطرح الصحيحين وأخويهما ، لتواتر الأخبار بأنّ كلّ خبر مخالف للكتاب والسنّة مردود . ومضادّتها لحكم العقل بوجوب دفع الضرر المظنون .

مع ما في الصحيحين من عدم التفرقة فيهما بين المتعمّد وغيره بل ظهورهما في غير المتعمّد ، وفي ثانيتهما من أعمّية العنت عن المشقّة اليسيرة أيضاً ، وفي المرفوعتين من عدم ظهورهما في حصول الضرر بالغسل وضعف سنديهما ، وفي الأربعة من مخالفة الشهرة الموجبة للشذوذ المخرج عن الحجية .

مضافاً إلى معارضتها بالتساوي مع صحيحة محمد : عن الرجل أجنب في‌

__________________

(١) في ص ٣٧٤ .

(٢) الشيخ في النهاية : ٤٦ ، المختصر النافع : ١٧ .

(٣) الهداية : ١٩ ، المفيد في المقنعة : ٦٠ .

٣٧٦
 &

السفر ولم يجد إلّا الثلج أو ماءً جامداً ، فقال : « هو بمنزلة الضرر ، يتيمّم » (١) الحديث ، حديث إنّها ظاهرة في المتعمّد .

وكذا رواية السكوني في حكاية أبي ذر أنه أتى النبي صلّى الله عليه وﺁله فقال : يا رسول الله هلكت ، جامعت على غير ماء ، قال : فأمر النبي صلّى الله عليه وﺁله بمحمل فاستترت به [ وبماء ] فاغتسلت أنا وهي ، ثم قال : « يا أبا ذر يكفيك الصعيد عشر سنين » (٢) فإنها صريحة في المتعمد .

ويجاب : بأنّ عدم تحريم تعمّد الجنابة ـ لو سلّم ـ لا يخالفها ؛ إذ لا ملازمة بين وجوب الغسل وإن خيف الضرر وبين تحريم التعمد ، ولا يلزم أن يكون ذلك عقوبة ، بل يجوز أن يكون من جهة إقدام المكلّف نفسه على ذلك الضرر ، وقد ثبت في الشريعة من الضرر بواسطة إقدام المكلّف ما لا يثبت إذا لم يتعمّد عليه ، ولذا لا يحكم بخيار الغبن مع علم المغبون .

وأمّا الاُصول المذكورة فلا شك أنها بعنوان العموم والأصل ، فتخصّص مع الدليل الخاص ، ولذا يثبتون التكاليف الشاقّة والمضارّ الكثيرة من الضمانات والجنايات وغيرها بالأدلّة المخصوصة ، ويقدّمون الأديان على الأبدان في مجاهدة الكفّار ومقارعة السيف والسنان ومبارزة الشجعان ، وما نحن فيه من ذلك القبيل ، إذ ما ذكر أدلّة خاصة بالنسبة إلى الاُصول المذكورة .

ومنه يظهر الجواب عن ردّ الخبر المخالف للكتاب والسنّة ، فإنه إنما هو إذا لم يكن بالعموم والخصوص المطلقين ( ولذا أجمعوا على تخصيص عام الكتاب بخاص الأخبار ، وكذا تقديم الموافق للكتاب والسنّة عند التعارض إنما هو إذا لم

__________________

(١) الكافي ٣ : ٦٧ الطهارة ب ٤٣ ح ١ ، التهذيب ١ : ١٩١ / ٥٥٣ ، الاستبصار ١ : ١٥٨ / ٥٤٤ ، الوسائل ٣ : ٣٥٥ أبواب التيمم ب ٩ ح ٩ .

(٢) الفقيه ١ : ٥٩ / ٢٢١ ، التهذيب ١ : ١٩٤ / ٥٦١ ، الوسائل ٣ : ٣٦٩ أبواب التيمم ب ١٤ ح ١٢ وما بين المعقوفين من المصدر .

٣٧٧
 &

يكن بالعموم والخصوص المطلقين ) (١) وإلّا فالخاص مقدّم كما فيما نحن فيه ، مع أنّ تلك الأخبار الأربعة أيضاً لها موافقة مع آية الغسل في غير المرضى .

وأمّا حكم العقل بوجوب دفع الضرر المظنون على القطع ـ فمع كونه في حيّز المنع جدّاً ـ إنما هو إذا لم يكن على عدم الوجوب دليل .

والقول بأنه أمر عقلي لا يقبل التخصيص ، واهٍ جدّاً ؛ لأنّه مخالف لما ثبت من الشرع قطعاً من الاُمور المضرّة ، كالجهاد والحجّ والزكاة والخمس ، فإذا لم يجب دفع الضرر المقطوع بل وجب تحمّله فكيف بالمظنون !؟

والقول بأنّ بعد أمر الشارع والقطع بأنّ بإزائها أجراً عظيماً لا يكون ضرراً ، يجري في المقام أيضاً .

وأمّا عدم التفرقة في الصحيحين بين المتعمّد وغيره ظاهراً فغير ضائر ؛ لأنّ الإِجماع والمرفوعتين قرائن على التخصيص ، وخروج بعض أفراد المطلق لا يوجب عدم حجيته في الباقي .

وكذا أعمية العنت ؛ لأنّ بعد شموله للمشقة الشديدة يكون حجة فيها أيضاً ، سيما مع التأكّد بقوله : « وإن أصابه ما أصابه » وسيما مع ذكر غسله عليه السلام مع شدة الوجع بحيث حملوه وغسلوه ، وسيما مع ما في الصحيح الأول من حكاية حدوث المرض شهراً .

وأمّا دعوى ظهورهما في غير المتعمّد فلا أعرف له وجهاً سيما الصحيح الثاني ، بل استشهاده بفعله عليه السلام قرينة على التعمّد ؛ لما قد ثبت من عدم احتلامهم عليهم السلام .

وأمّا توهّم عدم صراحة المرفوعتين في التضرر بالغسل فهو من الغرائب ؛ إذ أمره عليه السلام بالتيمّم مع الاحتلام قرينة على التضرّر .

وأمّا الردّ بضعف السند فهو عندي غير معتمد ، وبمخالفة الشهرة فهو غير

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في « هـ » .

٣٧٨
 &

سديد ، لأنّ الشهرة الموجبة لشذوذ مخالفها هي الشهرة القوية من القدماء ، ومع موافقة مثل الصدوق والشيخين والإِسكافي (١) ـ الذين هم من أعيان القدماء وأركانهم ـ كيف ينسب الخبر إلى الشذوذ ويخرج عن الحجية ؟! سيما مع موافقة مثل المحقّق وبعض آخر من المتأخّرين (٢) .

وأمّا الروايتان الأخيرتان فصراحة اُولاهما بل ظهورها في المتعمد ممنوعة ، والثانية صريحة في أنّ سبب التيمّم عدم الماء ، فلا تعارض معها ، مع أنه لو سلّم اختصاص الاُولى بالمتعمّد فهي عامة من جهة شمولها للخوف من الضرر ولعدم إمكان الغسل بسبب عدم القدرة على إذابة الثلج والجمد ، وما مرّ مخصوص بالخوف ، لوجود الماء ، بقرينة الأمر بالاغتسال للمتعمّد ، فيقدّم .

ثم الظاهر اختصاص وجوب المائية مع التعمّد بغسل الجنابة ، كما هو مورد الأخبار ، فلا يتعدّى إلى غيره ، كغسل المسّ ، والوضوء لمن أحدث عمداً .

وهل التعمّد الموجب للاغتسال مع خوف الضرر هو ما كان حال المرض أو الخوف ؟ أو يشمل ما إذا تعمّد الجنابة صحيحاً غير خائف ثم حدث قبل الغسل ما يوجب الخوف ؟ فيه وجهان .

فروع :

أ : المدار في المرض المسوّغ للتيمّم ـ حدوثاً أو زيادةً ـ هو ما يعدّ ضرراً وكان تحمّله عسراً عادة ؛ لأنّ انتفاءهما شرعاً هو سبب التسويغ ، فيقتصر على مورد خوفهما .

وأمّا إطلاق الآية والأخبار في المريض وإن اقتضى الاكتفاء بغير ما أخرجه الإِجماع وإن كان يسيراً ، إلّا أنّ المروي عن الصادقين في المجمع أنه المرض الذي يضرّ معه استعمال الماء ، والذي يوجب العجز عن السعي إليه (٣) ـ المنجبر ضعفه

__________________

(١ و ٢) راجع ص ٣٧٤ .

(٣) مجمع البيان ٢ : ٥٢ .

٣٧٩
 &

بالشهرة بل بعمل كلّ الأصحاب كما في البحار (١) ـ أوجب التقييد بالمضر ، فلا يتعدّى إلى غيره .

ثم إنّ مراتب الضرر متفاوتة ، فهل المسوّغ هو الضرر مطلقاً وإن كان يسيراً ، كالصداع ووجع الضرس ، كما عن الشهيد والكركي (٢) ، بل الإِرشاد ونهاية الفاضل حيث علّقا الجواز على مطلق المرض (٣) ، واستصوبه بعض مشايخنا المحقّقين (٤) ؟ أو الشديد ، كما اختاره الفاضلان (٥) ؟

التحقيق : أنّ المدار على ما يشقّ تحمّله عادة ولم يعدّ سهلاً يسيراً عرفاً ؛ لأنّ الحكم في الأدلّة لا يخلو عن كونه معلّقاً على الضرر أو المرض أو العسر أو الحرج ، والظاهر اتّحاد موارد الأربعة في المقام وورود الجميع على ما يعدّ تحمّله شاقّاً في العادة ، فإنّ ما لم يكن كذلك لا يصدق عليه شي‌ء من العنوانات ، وما كان كذلك يصدق عليه أحدها أو جميعها ، ومن هذا يتّجه كون النزاع لفظياً .

ولا يشترط أن يكون الأمر الحادث ما يسمّى مرضاً عرفاً والمتّصف به مريضاً ، بل يكفي كونه أذىً يعسر تحمّل مثله عادة .

ب : الخوف من المرض المسوّغ للتيمّم أعم من أن يكون بعنوان اليقين ، أو الظن الحاصل من التجربة ، أو إخبار ذي تجربة عادل أو غير عادل ، مسلم أو كافر ، امرأة أو صبي ، واحد أو متعدّد . لعموم الآية وأخبار القروح والجروح (٦) ، ولم يعلم سوى خروج صورة عدم حصول ظن أصلاً . واختصاصها بالمريض بالفعل غير ضائر ، لعدم الفاصل . مع أنّ ارتكاب أمر يظنّ معه حدوث ما لا

__________________

(١) البحار ٧٨ : ١٣١ .

(٢) الشهيد في الذكرى : ٢٢ ، الكركي في جامع المقاصد ١ : ٤٧٢ .

(٣) الارشاد ١ : ٢٣٣ ، نهاية الاحكام ١ : ١٩٥ .

(٤) المحقق في الشرائع ١ : ٣٨ ، العلامة في التحرير ١ : ٢١ .

(٥) الوحيد البهبهاني في شرح المفاتيح ( المخطوط ) .

(٦) انظر الوسائل ٣ : ٣٤٦ أبواب التيمم ب ٥ .

٣٨٠