مستند الشّيعة - ج ٢

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ٢

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-77-9
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٥١٠

يشترط سوى القربة ، كما عن المفيد (١) ، والبصروي (٢) والتستري (٣) ، والنهاية (٤) ، والمحقق في بعض رسائله ، وبعض من اشترط غيرها أيضا ، كالسيّد (٥) ، والمبسوط (٦) ، والمعتبر (٧) وهو مختار أكثر المتأخرين.

للأصل السالم عن المعارض ، المؤيد بأمرهم عليهم‌السلام بجميع أنواع الوضوء من الواجب والمندوب بطريق واحد من غير تعرض للوجوب والندب.

وخلافا للحلبي ، والحلّي ، والقاضي (٨) ، والراوندي (٩) ، وابني زهرة وحمزة (١٠) ، والفاضل (١١) ، والكركي ، والجامع ، والشرائع ، والذكرى (١٢) ، فأوجبوه وصفا أو غاية.

لاستصحاب الحدث إلى تحقق الرافع اليقيني.

ولوجوب الامتثال المتوقف على إيقاع الفعل على وجهه ، وهو لا يتم إلاّ بنية الوجه.

ولأنّ الوضوء تارة يقع على وجه الوجوب ، وأخرى على الندب ، فحيث كان أحد الأمرين مطلوبا اشترط تشخيصه لتحصيل الامتثال ، وليتحقق الموافقة‌

__________________

(١) المقنعة : ٤٦.

(٢) نقله عنه في الذكرى : ٨٠.

(٣) هكذا في جميع النسخ والمظنون انه تصحيف « البشرى » للسيد جمال الدين بن طاوس كما نقل عنه في الذكرى : ٨٠.

(٤) النهاية : ١٥.

(٥) نقل عنه في كشف اللثام ١ : ٦٢.

(٦) المبسوط ١ : ١٩.

(٧) المعتبر ١ : ١٣٩.

(٨) الكافي في الفقه : ١٣٢ ، السرائر ١ : ٩٨ ، المهذب ١ : ٤٣.

(٩) نقله عنه في الذكرى : ٨٠.

(١٠) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٥٣ ، الوسيلة : ٥١.

(١١) التذكرة ١ : ١٤ ، القواعد ١ : ١٠.

(١٢) جامع المقاصد ١ : ٢٠١ ، الجامع للشرائع : ٣٥ ، الشرائع ١ : ٢٠ ، الذكرى : ٨٠.

٦١

للمأمور به.

والقول بأنه في وقت العبادة الواجبة المشروطة به لا يكون إلاّ واجبا وبدونه مندوب ، فيكون متعينا أبدا ، مردود بأنه لا شك في وقوع الأمر الاستحبابي به لبعض الغايات والوجوبي لآخر ، ولا يرتفع الأوّل حال الثاني ، فلا بدّ من التعيين كما في الصلاتين : الواجبة والمندوبة ، والغسلين.

والجواب عن الأوّل : أنّه لم يثبت في حق من صدر عنه أحد الموجبات إلاّ وجوب إتيانه بالأفعال المعهودة التي هي الوضوء شرعا أو استحبابه ، فإن أريد بالحدث كونه بحيث يجب عليه هذه الأفعال للمشروط بالوضوء ، فالإتيان بها يكون مزيلا للاستصحاب يقينا ، وإن أريد غير ذلك فلا نسلّم ثبوته.

والحاصل : أن حدوث حالة لمن عليه الوضوء سوى كونه يجب أو يستحب عليه الإتيان بالأفعال المقررة غير ثابت من دليل حتى يستصحب.

سلّمناه ولكن الوضوء الشرعي رافع له بالإجماع بل الأخبار ، وهو ما ثبت كونه وضوءا بدليل شرعي.

والمستفيضة الحاكية لوضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

ونحو رواية زرارة : عن الوضوء الذي افترضه الله على العباد لمن جاء من الغائط أو بال ، قال : « يغسل ذكره ويتوضأ مرتين مرّتين » (٢).

ورواية ابن فرقد بعد السؤال عن حد الوضوء ، قال : « تغسل وجهك ويديك وتمسح رأسك ورجليك » (٣) ـ مضافة إلى الأصل ـ دالّة على كون هذه الأفعال وضوءا ، غاية الأمر ثبوت لزوم قصده مع القربة من الخارج أيضا ، فتكون هي معه رافعة ، ضرورة تحقق اللازم مع الملزوم.

__________________

(١) راجع الوسائل ١ : ٢٧١ أبواب الوضوء ب ١٥.

(٢) لم نعثر على رواية لزرارة بهذا المضمون. الموجود رواية يونس بن يعقوب : التهذيب ١ : ٤٧ ـ ١٣٤ ، الاستبصار ١ : ٥٢ ـ ١٥١ ، الوسائل ١ : ٣١٦ أبواب أحكام الخلوة ب ٩ ح ٥.

(٣) الكافي ٣ : ٢١ الطهارة ب ١٤ ح ٣ ، الوسائل ١ : ٣٨٧ أبواب الوضوء ب ١٥ ح ١.

٦٢

وعن الثاني : بمنع توقف الامتثال على ما ذكر وإن هو إلاّ مصادرة.

وعن الثالث : أنّ الامتثال إنّما يحصل بالموافقة للمأمور به التي هي معنى الصحة ، ومعنى المطابقة أن يكون المأتي به بأجزائه وشرائطه ، موافقا للمأمور به كذلك ، بمعنى أنّ ما اتي به لو طوبق مع ما أمر به لم ينقص منه شي‌ء ، فإذا كان المأتي به كذلك يكون صحيحا ، والآتي به ممتثلا ، ولا يحتاج إلى شي‌ء آخر.

وعلى هذا ، فيكون فرق بين قول الشارع : توضأ وجوبا أو ندبا ، وقوله : يجب أو يستحب التوضؤ ، فالمأمور به في الأوّل هو أفعال الوضوء بزيادة الوجوبية أو الندبية ، وفي الثاني أفعال الوضوء مجردة عن غيرها ، غاية الأمر أن أمره بها إيجابي أو ندبي ، فإن كان ( الحال في الوضوء ) (١) الإيجابي والندبي من قبيل الأوّل فلا شك في وجوب نية الوجه ، كما مر في المسألة السابقة ، وإن كان من الثاني لا تجب ، لعدم دخوله في المأمور به ، فالمأتي به موافق لكلّ من الأمرين منفردا ، موجب للبراءة من أحدهما لا بعينه.

ثمَّ لمّا كان الأمر في الوضوء من قبيل الثاني ، إذ لم يرد إلاّ أنه يستحب الكون على الوضوء حال كذا ، ويجب حال كذا ، ولم يرد أنه توضأ تطوّعا لكذا ووجوبا لكذا ، لم يلزم في صحته قصد الوجه ، بل ولا في ترتّب الآثار الوجوبية أو الندبية ، حيث ثبت فيه التداخل ، وترتّب جميع الآثار على وضوء واحد.

المسألة السادسة : لا تشترط فيه نية الاستباحة أو الرفع ، وفاقا لمن ذكر في المسألة السابقة من المكتفين بالقربة ، وللشرائع ، لما ذكره.

وخلافا للسيد (٢) ، فأوجب الأوّل.

وللمبسوط والسرائر والجامع والمعتبر والذكرى ، والفاضل ، والكركي ، فأحدهما.

__________________

(١) في « ح » : الحاكي للوضوء.

(٢) يمكن استفادته من الناصريات ( الجوامع الفقهية ) : ١٨٣.

٦٣

وللحلبي والقاضي والراوندي وابني زهرة وحمزة (١) ، فالأمران معا.

احتجّ الأوّل : بالاستصحاب. وجوابه مرّ.

وبمثل قوله عليه‌السلام : « لكل امرئ ما نوى ».

ويضعّف بأنه يدلّ على أنّ ما نوى له ، لا على أنّ ما لم ينو ليس له إذا كان مما لم يثبت توقف تحققه على النية.

وبقوله سبحانه ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) (٢) الآية.

قيل (٣) : وجه الدلالة أنّ المفهوم منه وجوب إيقاع الوضوء لأجل الصلاة ، فيكون التعليل قيدا للمأمور ، فلا يتم إلاّ بإيجاده ، وهو ليس إلاّ بقصده.

وفيه : أنّه إنّما يصح لو كان التعليل متعلقا بالإيقاع ، وأمّا إذا كان متعلقا بالوجوب فلا ، فإن أريد أنّ المفهوم من الآية الأوّل فممنوع ، وإن أريد أنّ المفهوم منها الثاني أو أحدهما لا يفيد.

ومن هذا يظهر فساد ما قيل ـ في دفع إيراد من أورد أنّ وجوب الوضوء للصلاة لا يستلزم وجوب قصد التعليل ـ من أنّه أيّ فرق بين كون الفعل للصلاة وكونه لله أو لأجل أنّ الله أمرني أو لأجل أنّي مطيع له ونحوها؟ حيث لا يوجب الأول قصد التعليل ، والبواقي توجبه (٤).

فإنا لا نقول بالفرق بين وجوب كون الفعل للصلاة وبين وجوب كونه لله ونحوه ، بل نقول بالفرق بين قوله : إذا قمتم للصلاة فافعلوا وبين وجوب كونه لله ، أو قوله : اعملوا لله ، أو يجب أن يكون العمل خالصا لله ، فإنّ الأوّل يحتمل علّية الصلاة للوجوب دون البواقي. بل فرق بين قوله : يجب إيقاع الفعل لأجل الصلاة وبين ما ذكر ، لاحتمال كون التعليل علّة للإيجاب دون البواقي ، فإنّه لا‌

__________________

(١) مرت الإشارة إلى مصادر الأقوال في ص ٦١ فراجع.

(٢) المائدة : ٦.

(٣) المختلف : ٢٠.

(٤) شرح المفاتيح : ( مخطوط ).

٦٤

يحتمل أن يكون مراده أنّ الله علّة للإيجاب ، أو إطاعة أمره علّة له.

قيل : لو قال المولى لعبده : أعط الحاجب درهما ليأذن لك ، فأعطاه لا لأجل ذلك ، بل لغرض آخر ، لم يكن ممتثلا ولا آتيا بما أمره به مولاه ، إذ الامتثال العرفي لا يتحقق إلاّ بقصد ما هو مطلوب الآمر ، وأنّ ارتكابه لأجل أنّ الآمر أمره لا لغيره ، ولو أتى به لا لأمره لا يمتثل البتّة (١).

قلنا : لا شك أنّه لو أعطى لا لأجل أنّ مولاه أمره ، لم يكن ممتثلا ، وليس الكلام فيه ، بل فيما إذا أعطى لأجل أنّه أمره مولاه من غير قصد أنه لأجل الإذن بل ذاهلا عنه.

ولا نسلّم عدم الامتثال حينئذ ، بل هو ممتثل آت بما أمره به مولاه إلاّ إذا علم يقينا أنّه أراد الإعطاء بقصد الإذن.

والمناسب للمقام ما إذا قال المولى أعطه درهما ليأذن لك ، ودرهما ليحفظ دابتك ، فأعطى الدرهمين لأجل أمر المولى من غير قصد العلّتين ، إما للذهول والغفلة أو لنسيان العلّة ، فإنّه يعدّ ممتثلا قطعا ، ولو أعطى درهما من غير قصد ، امتثل أحد الأمرين ، مع أنّه فرق بين قوله : أعطه ليأذن لك ، وإذا أردت الإذن فأعطه درهما ، وما نحن فيه من الثاني.

قيل : فرق بين أن يقول : لا بدّ من الوضوء حال الصلاة ، وأن يقول : إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ ، ولذا يفيد الثاني التكرار بتكرار الصلاة دون الأوّل (٢).

قلنا : الفرق بينهما من الجهة التي كلامنا فيها ممنوع جدا ، وأما إفادة الثاني للتكرار فلأجل دلالة الفعل على التجدّد ، ولذا لو قال : لا بدّ أن يتوضأ حين الصلاة ، يفيده ، بل وكذا لا بدّ من الوضوء إذا أخذ بالمعنى المصدري.

واستدلّ الثاني بما مر أيضا بضميمة اتحاد مئال الاستباحة ورفع الحدث.

__________________

(١) شرح المفاتيح : ( مخطوط ).

(٢) شرح المفاتيح : ( مخطوط ).

٦٥

واحتج الثالث ـ بعد دعوى تغايرهما ، لانفكاك كلّ منهما عن الآخر في التيمم ووضوء الحائض (١) ـ بشرعية الوضوء لأجل الأمرين ، فيجب قصدهما كما مر. وجوابهما ظهر.

واعلم أن التخصيص بالرفع والاستباحة ، لأن الكلام في الوضوء للصلاة ، ويعلم منه الحال في الغايات الأخر.

المسألة السابعة : قد ظهر من وجوب نية القربة ، وعدم حصول الامتثال بدونها ، أنه لو نوى غيرها منفردا بطل العمل.

ولو ضمّه معها ، فلو كان رياء ـ وهو العمل بمرأى لإراءته لا لغرض شرعي ، ومنه السمعة ، وهو العمل بمسمع أحد لإسماعه كذلك ـ بطل مطلقا سواء كلّ منهما مقصودا ذاتا أو كلاهما معا ، أو أحدهما خاصة وقصد الآخر بالعرض ، بالإجماع من غير السيد (٢) الغير القادح في تحققه ، وهو الحجة.

مضافا إلى خبري علي بن سالم وعقبة المتقدمين (٣) الدالّين على عدم قبول ما لم يكن خالصا لله ، والرياء بجميع أقسامه ينافيه ، مع تصريح الأوّل بعدم قبول ما أشرك فيه غير الله معه ، وفي رواية ابن عيينة السالفة (٤) ما يصرّح بذلك أيضا.

وإلى النهي عن الرياء كلّه إجماعا وكتابا وسنّة :

__________________

(١) قال الفاضل الهندي في كشف اللثام ١ : ٦١ ـ في مقام حكاية الاستدلال على وجوب القصد إلى الاستباحة والرفع ـ : لافتراقهما معنى ، ووجودا في دائم الحدث والمتيمم ، لاستباحتهما خاصة ، والحائض لرفع غسلها الأكبر من غير استباحة. وقال المحقق القمي في غنائم الأيام : ٢١ وبأن الرفع والاستباحة قد يتفارقان في غسل الحائض بدون الوضوء ، والمتيمم. وبالتأمل في هاتين العبارتين يظهر قصور عبارة المتن ، والأنسب تبديل « الوضوء » بالغسل ، حتى يكون موردا لانفكاك الاستباحة عن الرفع كما أن التيمم مورد لانفكاك الرفع عن الاستباحة فتدبر.

(٢) الانتصار : ١٧.

(٣) في ص ٤٦.

(٤) في ص ٤٩.

٦٦

أثبت الله سبحانه في كتابه الكريم الويل للذين يراءون (١) وقال أيضا في مقام الذمّ ( يُراؤُنَ النّاسَ ) (٢).

وفي الخبر : « كل رياء شرك » (٣).

وفي آخر : « إياك والرياء ، فإنّه من عمل لغير الله وكله الله إلى من عمل له » (٤).

وفي ثالث : « اعملوا لله في غير رياء وسمعة » (٥).

وفي رواية داود : « من أظهر للناس ما يحب الله وبارز الله بما كرهه لقي الله وهو ماقت له » (٦).

ولا شك أنّ المرائي جامع للوصفين ، إذ نفس الإظهار للناس من غير غرض صحيح مما يكرهه الله.

وفي صحيحة زرارة : عن الرجل يعمل الشي‌ء من الخير فيراه إنسان فيسّره ذلك ، فقال : « لا بأس ، ما من أحد إلاّ وهو يحبّ أن يظهر الله له في الناس الخير إذا لم يكن صنع ذلك لذلك » (٧).

دل بمفهوم الشرط على ثبوت البأس ـ الذي هو العذاب ـ إذا صنع ذلك‌

__________________

(١) الماعون : ٦.

(٢) النساء : ١٤٢.

(٣) الكافي ٢ : ٢٩٣ الايمان والكفر ب ١١٦ ح ٣ ، الوسائل ١ : ٧٠ أبواب مقدمة العبادات ب ١٢ ح ٤.

(٤) الكافي ٢ : ٢٩٣ الايمان والكفر ب ١١٦ ح ١ ، الوسائل ١ : ٦٥ أبواب مقدمة العبادات ب ١١ ح ٦.

(٥) الكافي ٢ : ٢٩٧ الايمان والكفر ب ١١٦ ح ١٧ ، الوسائل ١ : ٦٦ أبواب مقدمة العبادات ب ١١ ١٠.

(٦) الكافي ٢ : ٢٩٥ الايمان والكفر ب ١١٦ ح ١٠ ، الوسائل ١ : ٦٤ أبواب مقدمة العبادات ب ١١ ح ٣.

(٧) الكافي ٢ : ٢٩٧ الايمان والكفر ب ١١٦ ح ١٨ ، الوسائل ١ : ٧٥ أبواب مقدمة العبادات ب ١٥ ح ١.

٦٧

لذلك.

هذا ، مع أنّ العمل رياء بأقسامه متابعة للهوى ، وهو منهي عنه في الكتاب والسنّة ، والنهي في العبادة يوجب الفساد.

ومنه يظهر البطلان مطلقا لو كانت الضميمة محرّما آخر غير الرياء.

ولا فرق فيها (١) بين ما إذا كان الضمّ في تمام العبادة أو جزئها الواجب أو وصفها اللازم ، وبالجملة كلّ ما يبطل العمل بانتفائه.

وكذا بين ما إذا كان في ماهية التمام أو الجزء أو الوصف ، أو في أحد أفراد واحد منها الذي يوجد به المأمور به ، لعدم اجتماع الوجوب والحرمة في واحد شخصي ولو من جهتين بينهما عموم وخصوص مطلقان أو من وجه.

فيبطل الوضوء لو توضّأ بالماء البارد ، والصلاة لو صلّى في المسجد ، رياء أو بقصد محرّم آخر ، أي : إذا كان كونه في المسجد كذا وإن لم يكن في نفس صلاته رياء ، لأنّ الكون جزء الصلاة ، كما في الصلاة في الدار المغصوبة. أو صلّى في أول الوقت رياء ، لأن هذه الصلاة أحد أفراد المخيّر ، فيتعلّق به النهي ، ومحل الرياء هو الصلاة في أول الوقت.

وكذا لو قرأ سورة معينة رياء ، أو أحسن القراءة ، أو أجهر فيها ، أو تأنى فيها ، أو صلّى جماعة لذلك.

وبالجملة : كل ما يتأدّى به الواجب تبطل الصلاة بقصد الرياء ، أو محرّم آخر فيه.

وأمّا في غير ذلك فلا ولو كان وصفا قائما بواجب ، لعدم تعلّق النهي عن الوصف بموصوفه ، فلا يبطل الوضوء بالرياء في الاستقبال فيه ، ولا الغسل بالرياء في الخروج من الماء في الارتماس ، ولا الصلاة بالرياء في التخشّع فيه ، كإطراق الرأس ، وغمض العين ، وضم اليدين إلى الفخذين ، ومدّ العنق في الركوع ،

__________________

(١) في « ه‍ » و « ق » فيهما.

٦٨

والتطويل في السجود بعد التقرّب في القدر الواجب ، ونحو ذلك.

خلافا للسيّد (١) ، فلم يبطل العمل بقصد الرياء مطلقا وإن قال بعدم استحقاقه الثواب ، وهو مبني على أصله من عدم توقف الإجزاء على القبول ، ورده في الأصول.

وقوّى ما ذكره بعض متأخّري المتأخّرين ، فقال : الواجب أمران : فعل المأمور به ، والإخلاص في نيته ، ولا يوجب الإخلال بالأخير الإخلال بالأوّل وإن أوجب الإثم (٢).

ولا يخفى أنّ ما ذكره إنّما كان صحيحا لو كان المأمور به هو قصد التقرب والخلوص ، والمنهي عنه هو إرادة إراءة الناس دون العمل المرائي فيه. وليس كذلك ، بل المأمور به ـ كما هو مدلول الأخبار السابقة ـ العمل الخالص والعمل لله ، فما لم يكن كذلك لم يكن مأمورا به ، والمنهي عنه هو العمل لغير الله ، وهو الذي اثبت فيه البأس في رواية زرارة (٣) ، وفيه متابعة الهوى.

مع أنّه قد صرّح فيما مرّ بعدم قبول ما أشرك فيه غير الله ، وما لم يكن خالصا ، ولازمه عدم كونه مأمورا به فيفسد قطعا.

وأيضا : لا بدّ في صحة العمل من كونه بحيث يصدق معه الامتثال ، وهو لا يتحقق إلاّ بما فعل بقصد الإطاعة.

ولو كانت الضميمة غير الرياء أو محرّم آخر ، كالتبرّد ، أو التسخّن ، أو نحوهما ، ففيها أقوال :

الصحة مطلقا ، اختاره في المعتبر والشرائع (٤) ، وعن المبسوط والجامع (٥).

__________________

(١) الانتصار : ١٧.

(٢) كشف اللثام ١ : ٦٤.

(٣) المتقدمة ص ٦٧.

(٤) المعتبر ١ : ١٤٠ ، الشرائع ١ : ٢٠.

(٥) المبسوط ١ : ١٩ ، الجامع للشرائع : ٣٥.

٦٩

وقيل : الظاهر أنّه المشهور (١).

والبطلان كذلك ، حكي عن ظاهر نهاية الإحكام (٢) والإيضاح والبيان والروض وشرح الإرشاد للأردبيلي (٣).

والتفصيل بالصحة مع رجحانها ، والبطلان بدونه ، وقد تزاد فيه ملاحظة الرجحان أيضا.

وبها (٤) إن كانت القربة الباعث الأصلي ، وعرض قصد الضميمة ، والبطلان في غيره ، احتمله الشهيد في قواعده والذكرى (٥) ، واختاره والدي العلاّمة ـ رحمه‌الله ـ مع التخصيص بغير الراجح ، وأمّا معه فالصحة مطلقا ، وادّعى عليها الإجماع تبعا لجمع آخر (٦) منهم صاحب المدارك (٧).

والتحقيق فيها : أن متعلّق الضميمة إمّا نفس مهية المأمور به من العبادة أو جزؤها أو شرطها أو وصفها المطلوبة ، أو خصوصياتها وأوصافها الغير اللازمة.

فإن كان الأوّل (٨) ، فإن كانت الضميمة مقصودة بالذات ، أي باعثا أصليا فالحقّ البطلان مطلقا ، سواء كانت القربة أيضا كذلك ، بأن يكون كلّ منهما سببا مستقلا أو يكونا معا كذلك حتى يكون كلّ منهما جزء السبب ، أو لم تكن القربة كذلك.

أمّا الأوّل : فلعدم انصراف الفعل إلى القربة ، لعدم المرجّح.

__________________

(١) قاله في الحدائق ٢ : ١٨٨.

(٢) نهاية الاحكام ١ : ٣٣.

(٣) الإيضاح ١ : ٣٦ ، البيان : ٤٤ ، الروض : ٣٠ ، مجمع الفائدة ١ : ٩٩.

(٤) عطف على : بالصحة والضمير راجع إليها ، يعني : والتفصيل بالصحة ان كانت القربة ..

(٥) القواعد والفوائد ١ : ٨٠ ، الذكرى : ٨١.

(٦) كصاحبي الذخيرة : ٢٥ ، والمفاتيح ١ : ٤٩.

(٧) المدارك ١ : ١٩١.

(٨) مراده من الأوّل كون متعلق الضميمة نفس الماهية أو جزأها أو شرطها أو وصفها المطلوبة.

٧٠

وأمّا الثاني (١) : فلذلك أيضا ، لأنّ جزء السبب لا يعد سببا ، والفعل للمركب ليس فعلا لكل جزء ، مع أنّ الفعل فيهما لا يستند إلى القربة عرفا.

وأمّا الثاني (٢) فظاهر.

هذا إذا لم تكن الضميمة راجحة ، وأمّا مع رجحانها فإن (٣) أمكن الاستناد إلى القربة ، ولكن لا يتحقق امتثال هذا الأمر في هذه الصورة عرفا ، بل لا دليل على موافقته لهذا المأمور به ، فلو صام وكان باعثه الحمية والنذر معا أو كل منهما منفردا ، فلا دليل على أنّه لامتثال الأمر بالصوم دون الأمر بالحمية ، فلا يصح بل يبطل إلاّ مع ثبوت التداخل فيصح.

وإن لم تكن الضميمة مقصودة ذاتا ، بل عرض قصدها تبعا بحيث لولاها لفعل ولو انحصر المقصود بها لم يفعل ، فمع الرجحان لا إشكال في الصحة ، لعدم المنافاة للقربة وصدق الامتثال في العرف والعادة ووجود المرجّح للموافقة ، وبدونه ففيه إشكال ، ينشأ من تصريح الأخبار بعدم قبول العمل الغير الخالص ، وعدم خلوص مثل ذلك لغة وعرفا ، ومن تفسير العمل الخالص في خبر ابن عيينة بما لا يريد فيه حمد غير الله ، فيختص بالخالي عن الرياء ، وفي بعض الصحاح ما يشعر بأنّه ما ليس فيه شي‌ء من عبادة الأوثان (٤) ، والمفروض كذلك. والثاني أقوى ، والأوّل أحوط.

وإن كان الثاني (٥) ، فلا يبطل أصلا ولو كانت الضميمة مستقلة ، كأن ينوي التبرد من اختيار الماء البارد في التوضؤ ، لا أن يتوضّأ لذلك ، أو التسخن لاختيار الحار ، والاستسخان من الصلاة في موضع حار إذا كان الباعث على أصل الوضوء‌

__________________

(١) يعني ما إذا كان كل منهما جزء السبب.

(٢) يعني إذا لم يكن التقرّب باعثا أصليا.

(٣) إن وصلية ، والأنسب تغيير العبارة هكذا : فإنه حينئذ وإن أمكن الاستناد ..

(٤) الكافي ٣ : ١٥ الايمان والكفر ب ١١ ح ١ ، الوسائل ١ : ٥٩ أبواب مقدمة العبادات ب ٨ ح ١.

(٥) وهو ما إذا كان متعلق الضميمة الخصوصيات والأوصاف غير اللازمة.

٧١

والصلاة هو القربة.

والحاصل : أنّه إذا (١) لم يضم (٢) مع القربة في الإتيان بأصل الواجب ـ الذي هو المطلق ـ شي‌ء ، لا يضر قصد آخر في التعينات والتشخصات والخصوصيات أصلا.

والظاهر أنه إجماع بل ضرورة ، فهما الحجتان فيه.

مضافا إلى الأصل ، وإلى أن الترجيح بلا مرجّح باطل ، فلا بدّ في تعيين أحد الأمكنة أو الأزمنة أو اللباس أو المياه من مرجح ، ولا يجب أن يكون المرجح أمرا راجحا شرعا ضرورة ، بل قد لا يتحقق غالبا ، بل يصح مع المرجوحية الإضافية أيضا كالصلاة في الحمام.

وإلى أنّ الخصوصية أمر وراء المطلق الذي هو المأمور به وإن اتحدت معه في الوجود ، فيكون هذا الفعل متعلّقا للقربة من حيث المهية ، وللضميمة من حيث الخصوصية ، فاختلاف الحيثيتين أوجب تعلق القصدين ، فهذا متقرب به من حيث إنّه كون للصلاة ـ مثلا ـ ومسخّن منه من حيث إنّه الكون في الشمس.

ولا يقاس ذلك بالصلاة في الدار المغصوبة ونحوها ، لأن الوجوب والحرمة وسائر الأحكام الخمسة أمور متضادة لا يجتمع اثنان منها في محل إلاّ بحيثيتين تقييديتين ، بخلاف التقرب والتسخّن مثلا ، فإنهما ليسا من المتضادين ، ولذا يبطل فيما كان من هذا القبيل إذا كانت الضميمة محرمة مطلقا.

فروع :

أ : لو لم يقصد الرياء ذاتا ولا عرضا ، ولكن سرّه إذا رآه إنسان أو سمعه لم يضر ، لعدم صدق الرياء عليه ، وقد صرّح به في صحيحة زرارة المتقدمة (٣).

__________________

(١) في « ق » ان.

(٢) في « ه‍ » و « ق » ينضم.

(٣) في ص ٦٧.

٧٢

ب : لو أتى ببعض الأجزاء المستحبة كالقنوت في الصلاة ، والمضمضة أو الغسلة الثانية في الوضوء ونحو ذلك رياء يبطل المستحب قطعا ، ولكن لا يبطل الصلاة والوضوء لأجل ذلك.

نعم ، قد يبطل المسح ببطلان التثنية أو تكون لمعة من الموضع جافا لم تغسل من الأولى فيبطل الوضوء لأجله ، كما أن قد تبطل الصلاة ببطلان القنوت من جهة الفصل (١) الكثير لو وصل إليه ، أو من جهة التكلم بالمحرم. وقيل : من جهة عدم اتصال نية الصلاة (٢). وفيه نظر.

ج : سيأتي أن حقيقة النية هي الداعي المحرك دون المخطر بالبال ، فربما كان الباعث غير امتثال أمر الله ويخطر بباله القربة مع العلم بأنها ليست الباعث أو للغفلة أو الجهل به ، والعبادة حينئذ باطلة ، سيما في الأخيرة ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً ) (٣) الآية. وربما يكون الأمر بالعكس ، فلا باعث له على العمل إلاّ وجه الله ، ولكن يشكك وتخطر بباله خطرات من غير أن تكون لها مدخلية في التأثير ، وعبادته حينئذ صحيحة. ولو شك في الباعث والمحرك لم يصح العمل ، للزوم العلم بالانبعاث من القربة.

د : لو طرأ الرياء في أثناء العبادة يفسد ولو في آخرها إذا كانت مرتبطة الإجزاء.

نعم ، لو حصل بعد الفراغ لم يضر فيها وإن استفيد من الأخبار حبطها لو أظهرها.

المسألة الثامنة : المعتبر في النية هي الداعية إلى الفعل المحركة للإنسان‌

__________________

(١) في « ه‍ » و « ق » الفعل.

(٢) شرح المفاتيح ( مخطوط ).

(٣) الكهف : ١٠٣.

٧٣

إليه ، اللازمة لفعل كل عاقل مختار ، دون الصورة المخطرة بالبال.

ولتوضيح الفرق بينهما وتحقيق الحال في المعتبر منهما نقول : إنّ من يسافر إلى الكوفة لتحصيل نفع ، لا بدّ له أن يتصور أولا الكوفة ، والنفع ، وحصوله فيها ، وتوقفه على المسافرة إليها ، والمسافرة ، فإذا حصلت تلك التصورات ، تحصل للنفس حالة تبعث الأعضاء والجوارح على المسافرة إليها. وهذه الحالة هي المعبّر عنها بالداعي والباعث ، وهي قد تحصل للنفس من غير التفاتها إليها وإلى أنها الباعثة ، وقد يكون ملتفتا إليها ، فيتصور وينتقش في باله أن يسافر إلى الكوفة لأجل النفع ، وذلك الالتفات والتصوير هو الإخطار.

ثمَّ الحالة الداعية إذا حصلت للنفس تبقى فيها إلى الفراغ عن العمل ، وتبعث الجوارح على كل جزء من أجزائه التدريجية ، أو إلى قصده ترك العمل ، أي قصد المنافي ، ولكن قد تبقى معها التصورات المذكورة ، وقد لا يبقى منها معها شي‌ء ، كما أن الخارج إلى الكوفة قد يشتغل قلبه حين الذهاب بأمور شاغلة له ، بحيث يذهل عن نفسه فضلا عن الكوفة والسفر إليها وتحصيل النفع فيها ، ومع ذلك هو في الحركة والذهاب ، والمحرك هو هذه الحالة المخزونة في النفس وإن كان ذاهلا عنها ، بل الغالب في أفعال الناس ذلك.

ألا ترى أنّه إذا كنت جالسا ودخل عليك من يستحق التواضع تقوم له حين دخوله عليك من غير أن تتصوّر وتلتفت في بالك إني أقوم تواضعا لفلان لاستحقاقه ذلك.

ثمَّ الأولى وهي الحالة مع بقاء التصورات تسمّى بالنية الفعلية ، والثانية هي النية الحكمية ، وهي ترتفع إما بتمام العمل ، أو بقصد منافيه ، وهي كافية في وقوع الفعل بالنية ، ولذا يعدّ المسافر قاصدا في كل جزء من حركته ذهابا وإيابا ، ولا يقال : إنّه متحرك بلا نية وقصد ، وإن لم يلتفت في كل جزء إلى الذهاب والمقصد ، ولا يعدّ تواضعك خاليا عن القصد والنية ، ويترتب عليه ثوابه ، بل لو تكلّف الالتفات وتخيل ذلك يستقبحه كل أحد اطّلع عليه.

٧٤

ومن هذا ظهر وجه ما ذكرنا من اعتبار مجرد الداعي وكفايته الذي هو تلك الحالة ، إذ لا يثبت من أدلة وجوب نية القربة في العبادات سواها ، لصدق النية معها ، وتحقق الامتثال عرفا ، وعدم الدليل على الزائد ، فينفى بالأصل.

نعم ، لمّا كان يتوقف حصولها ابتداء على التصورات المتقدمة ، فلو لم يخطر بالبال أولا الكوفة والنفع والسفر ، أو الشخص الوارد والتواضع ، لما أمكن انبعاث الأعضاء والجوارح إلى السفر والقيام ، فلا بدّ من النية الفعلية في ابتداء العمل لتحصيل تلك الحالة ـ أي النية الحكمية ـ وإن لم يتوقف بقاؤها عليها ، فلا يضر عزوب التصورات بعده ، لبقاء الحالة بدونها.

وهذا هو الباعث على اتفاقهم على اشتراط النية الفعلية في الابتداء والاكتفاء بالحكمية بعدها ، فإنّه لو لا الفعلية ابتداء لما حصلت الحكمية أيضا بخلاف الأثناء ، فإنّ الفعلية الابتدائية كافية في حصول الحكمية وبقائها إلى الانتهاء أو قصد المنافي.

وممّا ذكرنا ظهر معنى الاستدامة الحكمية المشروطة في العبادات ، ووجه اشتراطها في جميع أجزائها ، فإنّها لو تخلّفت عن جزء صدر بلا نية. ومعنى النية الفعلية المشروطة في أول أجزائه ، ووجه اشتراطها فيه ، فإنّه لمّا كان حصول الحكمية موقوفا عليها وامتنع تحققها بدون سبقها ، فلو تأخّر جزء عنها لصدر بلا نية فيبطل ، وببطلانه يبطل العمل ، وليس اشتراطها لأجل أنّها النية خاصة.

وظهر من جميع ما ذكر أنّ ها هنا أمورا ثلاثة : التصورات المذكورة وهي النية بمعنى الإخطار ، إذ ليس هو إلاّ خطور الفعل وأنّه يفعله لما ذا ، والتصورات المقارنة مع الحالة الباعثة للنفس على الاشتغال وهي النية الفعلية ، والحالة المذكورة مع عدم الالتفات وهي النية الحكمية ، وهي لازمة البقاء بعد حصول الفعلية وعدم الانتقال إلى مخالفها كما يأتي. وعلى هذا فمرجع الاستدامة الحكمية إلى عدم الانتقال من الفعلية إلى نية مخالفها.

وهذا المعنى لها هو الذي ذكره الأكثر وحكي عنهم ، كما عن المبسوط‌

٧٥

والشرائع والمنتهى والجامع والتذكرة ونهاية الأحكام (١) ، ونسبه الشهيد إلى الأكثر (٢).

بل ـ كما قيل (٣) ـ يرجع إليه ما عن الغنية والسرائر (٤) من أنّها أن يكون ذاكرا للفعل غير فاعل لنية مخالفها ، بجعل قولهم غير فاعل مفسّرا لسابقه.

وقد يجعل هذا المعنى مغايرا لسابقه ويجعل مجموع الفقرتين تفسيرا لها.

ولا يخفى أنّه على هذا يكون عين النية الفعلية ، لأنّها أيضا ليست شيئا سوى التذكر للأمور المذكورة مع الحالة المحركة اللازمة على كل تقدير ، وقد عرفت عدم دليل على لزومها في تمام الأجزاء ، بل هي ليست معتبرة في نفسه في جزء من الأجزاء وإن اعتبرت لأجل حصول الحكمية ، إلاّ أن يكون المراد التذكر للفعل فقط ، دون سائر التصورات من أنّه يفعله ولما ذا يفعله ، وذلك أيضا لا دليل على اعتباره أصلا.

وقد يقال في توجيه وجوبه (٥) : إنّه كما تجب النية في أول الفعل تجب في كل جزء منه أيضا ، ولمّا كانت النية عندهم هو الإخطار أو الفعلية ، ويتعذّر اعتبارها في جميع الفعل إذ ( ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) (٦) يتوجه بأحدهما إلى الإخطار وبالآخر إلى إحداث الأجزاء والحركات والسكنات ، فلا بدّ من الاكتفاء بمجرد التذكر ، إذ « ما لا يدرك كله لا يترك كله » (٧) بل ذلك هو الوجه في اعتبار‌

__________________

(١) المبسوط ١ : ١٩ ، الشرائع ١ : ٢٠ ، المنتهى ١ : ٥٥ ، الجامع للشرائع : ٣٥ ، التذكرة ١ : ١٥ ، نهاية الاحكام ١ : ٤٤٩.

(٢) في الذكرى : ٨١.

(٣) كشف اللثام ١ : ٦٣.

(٤) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٥٣ ، السرائر ١ : ٩٨.

(٥) أي وجوب التذكر للفعل فقط.

(٦) الأحزاب : ٤.

(٧) غوالي اللئالي ٤ : ٥٨.

٧٦

الحكمية بالتفسير الأوّل أيضا.

نعم ، من لم يجعل النية هي الإخطار أو الفعلية ، بل اكتفى بمجرد الداعي ، كما هو مقتضى الأدلة ، اعتبرها بنفسها في تمام العمل لإمكانها ، ولا صارف عنها يوجب المصير إلى الحكمية بأحد المعنيين.

وفيه : أنّ الحكمية بمعنى كونه ذاكرا للفعل لا تتحقق أيضا إلاّ بعد قلبين ، يتذكّر بأحدهما الفعل ، لأنّ التذكّر أيضا من فعل القلب ، ولا يتفاوت في ذلك تذكّر الفعل خاصة أو مع غيره.

نعم ، يصلح ذلك توجيها لاعتبارها بالمعنى الأوّل (١) ، لأنّه لا يحتاج إلى تذكّر ، ولكنه ليس أمرا غير الداعي والمحرّك المخزون في النفس وإن لم يلتفت إليه ، إذ مجرد عدم الانتقال من غير كون الداعي لا يؤثّر في الفعل أصلا ، وعلى هذا فلا يحتاج في وجه اعتباره إلى ذلك التكلف الركيك ، بل هو عين النية الثابتة بالأدلّة ، ولذا ترى العامل يقال : إنّه عامل بالقصد إذا نواه أولا وإن ذهل في الأثناء إذا كان مشتغلا غير منتقل بنيته هذا.

ثمَّ إنّه بقي ها هنا شي‌ء ، وهو أنّ الثابت ممّا ذكر وجوب عدم تأخّر الفعلية عن أول جزء من العمل ، وأمّا لزوم عدم تقدّمها عليه فلم يثبت ، فإنّه قد تحصل النية الفعلية قبل العمل ثمَّ تبقى الحالة التي هي الحكمية حتى تقارن أول الجزء ، وعلى ما ذكر يجب أن يكون العمل حينئذ صحيحا مع أنّ الأكثر صرّحوا بوجوب مقارنة الفعلية التي يعبّرون عنها بالنية لأوّل جزء.

أقول : هذا المقام هو محل غرور جماعة من المتأخرين ، حتى قال بعضهم : بسقوط البحث عن كلفة المقارنة ، وتقديمها في الوضوء عند غسل اليدين (٢). وآخر : بأنّه لا أدري ما الباعث للتفرقة بين أول الجزء والأثناء مع تساوي الأجزاء‌

__________________

(١) وهو عدم الانتقال من النية إلى مخالفها.

(٢) كما في الرياض ١ : ١٨.

٧٧

فيما يشترط به من نحو النية (١). وطعن ثالث (٢) بأكثر الفقهاء الذين يبحثون عن أول وقت النية وبمن يحصرها بين حاصرين (٣). ورابع : بأنّ اشتراط المقارنة إنّما هو على مذاق الموجبين للإخطار على ما هو الحري بالاعتبار (٤).

ونحن نقول لحسم مادة الإشكال : إنّه مما لا شك فيه أنّ حصول تلك الحالة الداعية ـ التي تسمى مع عدم الالتفات إليها بالنية الحكمية ـ موقوف على التصورات المذكورة ، وبقاءها على الاشتغال بالعمل نفسه أو بمقدماته ، ولا يمكن بقاؤها بدون ذلك ، فلو لم يشتغل بشي‌ء منها ولم يحضر التصورات لم يمكن بقاء الحالة ، ولذا ترى أنّ من تصوّر زيدا في يوم وتصوّر بيته ولقاءه والذهاب إلى بيته للقائه ، وحصلت في نفسه حالة باعثة على الذهاب غدا إلى بيته للقائه ، فلا يمكن ذهابه في الغد إلاّ بتجديد التصورات ، ولو ذهل عنها بالكلية واشتغل قلبه بأمر آخر امتنع منه الذهاب ، بخلاف من اشتغل بالذهاب فإنّه يذهب مع الذهول عن زيد وبيته ، بل عن ذهابه لو لم يقصد غيره مما ينافيه.

وهذا هو السر فيما ترى من أنّك تقصد اشتغال أمر في الغد وتتركه للذهول عمّا قصدت ، وإذا اشتغلت به لا تتركه وإن ذهلت عنه.

وتوهم إمكان بقاء الحكمية بدون الاشتغال أيضا فاسد جدّا ، فإنّ من يقصد قبل الزوال الوضوء بعد الزوال ، ثمَّ يشتغل بأمر آخر لا يمكن أن يتوضّأ بعد الزوال إلاّ بشعوره بالوضوء وبفعله.

ولعل السرّ في ذلك احتياج الباقي في البقاء إلى المؤثر ، فمع الاشتغال يكون هو المؤثّر في البقاء ، بمعنى أن التصوّرات علة لحدوث الحالة وهي للاشتغال بأول‌

__________________

(١) يستفاد هذا الإشكال من مشارق الشموس : ٩٣.

(٢) الحدائق ٢ : ١٧٤.

(٣) إشارة الى ما ذكره العلامة وغيره : نية الصلاة يجب أن تكون محصورة بين الألف والراء في تكبيرة الإحرام ( منه ره ).

(٤) كما في شرح المفاتيح ( مخطوط ).

٧٨

جزء ، وهو لبقاء الحالة حين الاشتغال ، هي للاشتغال بالجزء الثاني ، وهو لبقائها وهكذا ، وأمّا إذا لم يشتغل وعزبت التصورات ، فلا علة لبقاء الحالة فتنتفي.

وإذ ظهر لك توقف الحكمية على الاشتغال ، فلو لم تقارن الفعلية لأوّل جزء مما يتعلّق بالعمل بل تقدّمت عليها فتنتفي الحكمية بعدها وقبل الاشتغال ، فيكون الفاعل حال الاشتغال بأول جزء خاليا عن النية ، فلا بدّ من تجديد التصورات لتحصيل الحالة ، وهذا هو المقارنة.

وبه يظهر لك سبب التفرقة وإمكان الحصر وعدم توقف اشتراط المقارنة على وجوب الإخطار ، ويرتفع الطعن عن العلماء الأخيار ، بل ملاحظة ما ذكرنا يتّضح أمر النية بالتمام ، ويندفع بعض الإشكالات والإيرادات عن المقام.

فروع مما يتعلق بالنية :

أ : إذ قد عرفت وجوب مقارنة النية الفعلية لأوّل فعل ما (١) يتعلق بالعبادة ، تعلم أنّ وقت نية الوضوء عند غسل الوجه ، ويجوز تقديمها عند غسل اليدين المستحب للوضوء التفاتا إلى كونه من الأجزاء المندوبة له.

ولا يجوز عند جماعة (٢) ، لعدم كونه من الوضوء عندهم وإن استحب.

فالجواز مبني على كونه من الوضوء أو مستحبا برأسه ، وكذا المضمضة والاستنشاق.

ولا يبعد القول بكفاية النية عند غسل اليد للوضوء ولو لم يكن جزءا ، بل عند التهيّؤ للوضوء ولو بتحصيل الماء وأمثاله ، وكذا كل عبادة ، فإنّه ظهر مما ذكرنا أنّ وقت النية الفعلية هو ابتداء الاشتغال بالعمل نفسه أو بما يتعلق به ، ولا يحتاج إلى الاشتغال بجزء معين منه.

نعم ، لا بدّ حينئذ من كون نفس العبادة لا يحتمل غيرها من غير العبادات ،

__________________

(١) في « ه‍ » و « ق » ممّا.

(٢) راجع مجمع الفائدة ١ : ١٠٠ ، والمدارك ١ : ١٩٢.

٧٩

إمّا بنفسها أو بما يميزها من الأمور الخارجية حتى يصدق الامتثال ، ولا من العبادات حتى تتعين الآثار المترتبة على ما يريد فعله ، وإلاّ لاحتاجت في أول جزء منها إلى قصدها لتميزها عن غيرها ، ولذا يحتاج الذاهب من بيته إلى الحمام قاصدا للغسل تجديد النية عند الارتماس ، إلاّ إذا لم يكن من عادته الارتماس لغير الغسل.

ب : وإذ عرفت عدم العبرة بالإخطار ، وأنّ الداعي هو محل الاعتبار ، تعلم أنّه لو أراد فعلا معيّنا وحرّكه الداعي إليه كصلاة الظهر ، ثمَّ خطر بباله حين المقارنة غيرها كالصبح أو العصر لم يضر.

ج : وإذ عرفت اشتراط القربة والخلوص في نية العبادات ، وأنّه ربما يشتبه الأمر أو تحصل الغفلة فعليك بالمجاهدة ، ومعرفة الرياء وآثاره وعلاماته والمعالجة ، وعدم الغفلة عن مكائد النفس الأمّارة ، فإنّ تحصيل الخلوص أمر صعب لا يتأتى في الأغلب إلاّ مع المجاهدات الصعبة ، كما يدلّ عليه قول الأمير عليه‌السلام : « تخليص العمل من الفساد أشد من طول الجهاد » (١).

وما ورد عنهم من أنّ « الرياء شرك خفي وأخفى من دبيب النملة » (٢) إلى غير ذلك.

ومن ذلك ظهر فساد ما ذكره بعض المتأخّرين (٣) من سهولة الخطب في النية ، وأنّ المعتبر فيها محض تخيل المنوي بأدنى توجه ، وهذا القدر لا ينفك عنه أحد من العقلاء.

وكذا ظهر مما ذكرنا ـ من الأخبار الواردة في النية والقربة ومن معنى النية ـ فساد ما قيل : من أنّ اشتراط النية بالمعنى المعروف من بدع فقهائنا المتأخرين‌

__________________

(١) الكافي ٨ : ٢٤ خطبة الوسيلة لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، بتفاوت يسير.

(٢) تحف العقول : ٤٨٧ بتفاوت يسير.

(٣) منهم صاحبا المدارك ١ : ١٨٥ ، والمفاتيح ١ : ٤٨.

٨٠