مستند الشّيعة - ج ٢

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي

مستند الشّيعة - ج ٢

المؤلف:

أحمد بن محمّد مهدي النّراقي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-77-9
ISBN الدورة:
964-5503-75-2

الصفحات: ٥١٠

الفصل الخامس : في أحكامه‌

وهي أمور نذكرها في مسائل :

المسألة الأولى : لا خلاف في وجوب المرة الواحدة في الغسلات ، ولا ريب في أداء الواجب بها ، للإجماع ، والأصل ، وصدق الامتثال ، والوضوءات البيانية ، والنصوص المعتبرة ، كصحيحة زرارة ، وفيها : « فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات ، واحدة للوجه واثنتان للذراعين » (١).

واخرى : « في الوضوء ، إذا مس جلدك الماء فحسبك » (٢).

ورواية ابن بكير : « من لم يستيقن أنّ الواحدة من الوضوء تجزيه لم يؤجر على الثنتين » (٣) وغير ذلك.

ولا في عدم جواز الزائد على الثلاث ، لتوقيفية العبادة ، وإنّما الخلاف فيما بينهما من الثانية والثالثة.

أمّا الثانية : فاختلفوا في استحبابها وعدمه ، فالأظهر الأشهر ، بل عليه الإجماع في الانتصار (٤) والسرائر ، وعن الغنية (٥) ، ونفى عنه الخلاف بعض المحقّقين ، وحكاه عن أمالي الصدوق (٦) : الأول ، للإجماعات المنقولة والشهرة‌

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٦٠ ـ ١٠٨٣ ، الوسائل ١ : ٤٣٦ أبواب الوضوء ب ٣١ ح ٢.

(٢) الكافي ٣ : ٢٢ الطهارة ب ١٤ ح ٧ ، التهذيب ١ : ١٣٧ ـ ٣٨١ ، الاستبصار ١ : ١٢٣ ـ ٤١٧ ، الوسائل ١ : ٤٨٥ أبواب الوضوء ب ٥٢ ح ٣.

(٣) التهذيب ١ : ٨١ ـ ٢١٣ ، الاستبصار ١ : ٧١ ـ ٢١٨ ، الوسائل ١ : ٤٣٦ أبواب الوضوء ب ٣١ ح ٤.

(٤) الانتصار : ٢٨.

(٥) السرائر ١ : ١٠٠ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٥٤.

(٦) قد يظهر ذلك من الوحيد البهبهاني في حاشية المدارك : ٤٠.

١٨١

الكافيتين في مقام المسامحة.

وللمستفيضة من المعتبرة ، كصحيحتي ابن وهب (١) وصفوان (٢) ، ورواية زرارة : « الوضوء مثنى مثنى » (٣) وزاد في الأخيرة : « من زاد لم يؤجر عليه ».

ورواية يونس : « الوضوء الذي افترضه الله » إلى أن قال : « يغسل ذكره ويذهب الغائط ، ثمَّ يتوضّأ مرتين مرتين » (٤).

ورواية حكاية وضوء علي بن يقطين ، المشهورة (٥) ، وفيها بعد أمره بالثلاث وغسل الرجلين وتبطين اللحية تقية وظهور ارتفاعها : « الآن توضّأ كما أمر الله تعالى ، اغسل وجهك مرة فريضة واخرى إسباغا ، واغسل يديك من المرفقين كذلك » (٦) الحديث.

والمروي في تفسير العياشي كيف يتوضّأ؟ قال : « مرتين مرتين » قلت : كيف يمسح؟ قال : « مرة مرة » (٧).

وفي رجال الكشي عن داود الرقي بعد أمره ـ عليه‌السلام ـ داود الزربي بالثلاث تقية وارتفاعها : « يا داود بن زربي! توضّأ مثنى مثنى ، ولا تزدن عليه ، فإنّك إن زدت عليه فلا صلاة لك » (٨).

__________________

(١) التهذيب ١ : ٨٠ ـ ٢٠٨ ، الاستبصار ١ : ٧٠ ـ ٢١٣ ، الوسائل ١ : ٤٤١ أبواب الوضوء ب ٣١ ح ٢٨.

(٢) التهذيب ١ : ٨٠ ـ ٢٠٩ ، الاستبصار ١ : ٧٠ ـ ٢١٤ ، الوسائل ١ : ٤٤٢ أبواب الوضوء ب ٣١ ح ٢٩.

(٣) التهذيب ١ : ٨٠ ـ ٢١٠ ، الاستبصار ١ : ٧٠ ـ ٢١٥ ، الوسائل ١ : ٤٣٦ أبواب الوضوء ب ٣١ ح ٥.

(٤) التهذيب ١ : ٤٧ ـ ١٣٤ ، الوسائل ١ : ٣١٦ أبواب الوضوء ب ٩ ح ٥.

(٥) المروية في إرشاد المفيد وخرائج الراوندي وكشف الغمّة ( منه رحمه‌الله ).

(٦) إرشاد المفيد ٢ : ٢٢٨ ـ ٢٢٩ ، كشف الغمة ٢ : ٢٢٦ ، الوسائل ١ : ٤٤٤ أبواب الوضوء ب ٣٢ ح ٣.

(٧) تفسير العياشي ١ : ٣٠١ ـ ٥٨ ، المستدرك ١ : ٣٢٧ أبواب الوضوء ب ٢٨ ح ٤.

(٨) رجال الكشي ٢ : ٦٠٠ ـ ٥٦٤ ، الوسائل ١ : ٤٤٣ أبواب الوضوء ب ٣٢ ح ٢.

١٨٢

وقول القائم عليه‌السلام في مكاتبة العريضي : « إنّ الوضوء كما أمر الله غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين واحدة ، واثنان إسباغ ، ومن زاد على الاثنين أثم » (١).

وقول مولانا الرضا عليه‌السلام في مكاتبة المأمون كما في العيون : « واحدة فريضة واثنتان استحباب » (٢).

ويدلّ عليه أيضا : مفهوم الشرط في رواية ابن بكير ، المتقدّمة (٣).

وحمل مرّتين مرّتين ومثنى مثنى في رواياتهما على الغسلتين والمسحتين ، أو التجديد ، أي : تجويزه مرة وعدم مشروعية وضوءين تجديدا ، أو منتهى مرتبة الجواز ـ كما قيل (٤) ـ بعيد جدّا ، بل لا يتحمّله بعضها ، كروايات علي بن يقطين والعياشي والكشي ، بل أخبار مثنى مثنى (٥) ، لمكان مقتضى حقيقة الحمل.

وعلى الغرفتين ـ كما في الوافي (٦) ـ غير صحيح ، إذ فضلهما لا قول به ، وجوازهما لا حدّ له ، والزائد على الثلاث فيه لا إثم عليه.

وعلى التقية ـ كما في المنتقى (٧) ـ لا يلائم روايتي علي بن يقطين والكشي.

خلافا للمحكي عن البزنطي والكليني ، فجعلا الفضل في واحدة واحدة (٨).

وأمّا قولهما بعد ذكر ذلك : إنّ من زاد على مرتين لم يؤجر ، فلا يفيد ثبوت‌

__________________

(١) لم نعثر عليها.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٢٠ ، الوسائل ١ : ٤٤٠ أبواب الوضوء ب ٣١ ح ٢٢.

(٣) في ص ١٨١.

(٤) الحبل المتين : ٢٤ ، الذخيرة : ٤١.

(٥) الوسائل ١ : ٤٣٥ أبواب الوضوء ب ٣١.

(٦) الوافي ٦ : ٣٢٢.

(٧) منتقى الجمان ١ : ١٤٨.

(٨) الكافي ٣ : ٢٧ ، نوادر البزنطي ( مستطرفات السرائر ) : ٢٥.

١٨٣

الأجر للمرتين ، إذ مرادهما أنه لم يؤجر على الوضوء ، بل وضوؤه باطل ، للنهي عنه بخصوصه ، ومفهومه : أنه من لم يزد يؤجر على الوضوء ، وهذا أعم من أن تكون الثانية مستحبة أم لا. أو مرادهما أنه يؤجر على المرتين ، لأنه أحد أفراد المخيّر.

فما ذكره والدي ـ رحمه‌الله ـ من أنّ ما نسب إليهما من عدم استحباب الثانية خلاف الواقع لذلك ، ليس كذلك.

ثمَّ إنه تبعهما على ذلك جماعة من متأخّري المتأخّرين ، وهو الظاهر من المدارك ، والمنتقى ، والبحار ، والوافي ، والهندي في شرح القواعد (١).

للمستفيضة كالرواية : « الوضوء واحدة واحدة » (٢).

والأخرى : عن الوضوء للصلاة ، فقال : « مرة مرة » (٣).

والثالثة : عن الوضوء ، فقال : « ما كان وضوء علي عليه‌السلام إلاّ مرة مرة » (٤). ومثلها الرابعة ، في وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وزاد فيها : « وتوضّأ النبي مرة مرة ، فقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به » (٥).

والخامسة : « إنّ الله وتر يحبّ الوتر ، فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات ، واحدة للوجه واثنتان للذراعين » (٦).

__________________

(١) المدارك ١ : ٢٣٣ ، منتقى الجمان ١ : ١٤٨ ، البحار ٧٧ : ٢٧٣ ، الوافي ٦ : ٣٢١ ، كشف اللثام ١ : ٧٣.

(٢) الكافي ٣ : ٢٦ الطهارة ب ١٧ ح ٧ ، التهذيب ١ : ٧٥ ـ ١٨٩ بتفاوت يسير ، الاستبصار ١ : ٦٩ ـ ٢١٠ ، الوسائل ١ : ٤٣٥ أبواب الوضوء ب ٣١ ح ١.

(٣) الكافي ٣ : ٢٦ أبواب الطهارة ب ١٧ ح ٦ ، التهذيب ١ : ٨٠ ـ ٢٠٦ ، الاستبصار ١ : ٦٩ ـ ٢١١ ، الوسائل ١ : ٤٣٧ أبواب الوضوء ب ٣١ ح ٦.

(٤) الكافي ٣ : ٢٧ الطهارة ب ١٧ ح ٩ ، التهذيب ١ : ٨٠ ـ ٢٠٧ ، الاستبصار ١ : ٧٠ ـ ٢١٢ ، الوسائل ١ : ٤٣٧ أبواب الوضوء ب ٣١ ح ٧.

(٥) الفقيه ١ : ٢٥ ـ ٧٦ ، الوسائل ١ : ٤٣٨ أبواب الوضوء ب ٣١ ح ١١.

(٦) التهذيب ١ : ٣٦٠ ـ ١٠٨٣ ، الوسائل ١ : ٤٣٦ أبواب الوضوء ب ٣١ ح ٢.

١٨٤

والسادسة : « الوضوء واحدة فرض ، واثنتان لا يؤجر ، والثالثة بدعة » (١).

والسابعة : « من توضّأ مرتين لم يؤجر » (٢).

والثامنة المروية في العيون : « الوضوء كما أمر الله في كتابه غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ، ومسح الرأس والرجلين مرة واحدة » (٣).

والتاسعة المروية في البصائر : إني سألت أباك عن الوضوء ، فقال : « مرّة مرة » فما تقول أنت؟ فقال : « إنك لن تسألني من هذه المسألة إلاّ وأنت ترى أني أخالف أبي ، توضّأ ثلاثا وخلّل أصابعك » (٤).

والعاشرة المروية في السرائر عن نوادر البزنطي : « وضع يده في الإناء فمسح رأسه ورجليه. واعلم أنّ الفضل في واحدة واحدة ، ومن زاد على اثنتين لم يؤجر » (٥).

هذا كلّه ، مضافا إلى الوضوءات البيانية.

ويجاب عن الأولين : بأنّ مقتضى هذا التركيب : بيان حقيقة الوضوء التي لا تحقّق له بدونها ، ونحن نسلّم أنّ حقيقته ذلك ، وذلك لا ينافي استحباب شي‌ء آخر ، كما في قولهم : « الوضوء غسلتان ومسحتان » (٦) مع استحباب أمور كثيرة فيه.

نعم ، قوله : « مثنى مثنى ، ومرتين مرتين » يدلّ على الاستحباب ، للإجماع على عدم وجوب التعدّد.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٨١ ـ ٢١٢ ، الاستبصار ١ : ٧١ ـ ٢١٧ ، الوسائل ١ : ٤٣٦ أبواب الوضوء ب ٣١ ح ٣.

(٢) الفقيه ١ : ٢٦ ـ ٨٣ ، الوسائل ١ : ٤٣٦ أبواب الوضوء ب ٣١ ح ١٤.

(٣) عيون الأخبار ٢ : ١٢١ ، الوسائل ١ : ٤٤٠ أبواب الوضوء ب ٣١ ح ٢٢.

(٤) البصائر لسعد بن عبد الله نقل عنه في البحار ٧٧ : ٢٩٥ ـ ٥٢ ، الوسائل ١ : ٤٤٥ أبواب الوضوء ب ٣٢ ح ٤ ، ووجدناها في مختصر البصائر : ٩٤.

(٥) مستطرفات السرائر : ٢٥ ـ ٢ ، الوسائل ١ : ٤٤١ أبواب الوضوء ب ٣١ ح ٢٧.

(٦) التهذيب ١ : ٦٣ ـ ١٧٦ ، الوسائل ١ : ٤٢٠ أبواب الوضوء ب ٢٥ ح ٩.

١٨٥

وعن الثالثة والرابعة ـ مع معارضتهما مع مرسلة ابن أبي المقدام : « إني لأعجب ممّن يرغب أن يتوضّأ اثنتين وقد توضّأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اثنتين » (١) ومع إمكان إرادة أنّ وضوء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكلّ صلاة ما كانت إلاّ مرة ، ولذا توقّف الشهيد في استحباب التجديد لصلاة واحدة (٢) ـ : أنه يمكن أن يكون ذلك لبيان الجواز. بل قيل : إنّ المعلوم من حال النبيّ الاقتصار في العمل على ما وجب ، اشتغالا بالأهم ، وإظهارا للاستحباب وجواز الترك (٣).

مع أنّ في مرسلة مؤمن الطاق : « فرض الله الوضوء واحدة واحدة ، ووضع رسول الله للناس اثنتين اثنتين » (٤) وفي المروي في رجال الكشي : كم عدّة الطهارة؟ فقال : « ما أوجبه الله فواحدة ، وأضاف إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واحدة لضعف الناس ، ومن توضّأ ثلاثا فلا صلاة له » (٥).

ومقتضاهما : أنّ إضافة الثانية للناس لضعفهم وتقصيرهم ، فلعلّ الحجج لبراءتهم عنهما لم يقصدوا إليها ، واختص استحبابها بغيرهم ، كما احتمله والدي في اللوامع ، بل هو الظاهر من كلام العماني والإسكافي بل المفيد (٦).

وأما قوله : « هذا وضوء » إلى آخره ، فالظاهر منه أنه لا يصح أقلّ منه ، لا أن يجب الاقتصار عليه.

مع أنّه لو أريد عدم الصحة ، لخالف مذهب المستدلّ ، وخرج الخبر عن الحجية بالشذوذ ، وإن أريد المرجوحية ، فهي مجاز ليس أولى من غيره ، كبيان‌

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٥ ـ ٨٠ ، الوسائل ١ : ٤٣٩ أبواب الوضوء ب ٣١ ح ١٦.

(٢) الذكرى ٩٦.

(٣) القائل هو صاحب الرياض ١ : ٢٤.

(٤) الفقيه ١ : ٢٥ ـ ٧٧ ، الوسائل ١ : ٤٣٩ أبواب الوضوء ب ٣١ ح ١٥.

(٥) رجال الكشي ٢ : ٦٠٠ ـ ٥٦٤ ، الوسائل ١ : ٤٤٣ أبواب الوضوء ب ٣٢ ح ٢.

(٦) المقنعة : ٤٦ ، ونقل عن العماني في المختلف : ٢٢.

١٨٦

الأقل. بل للخبر تتمة في طرق العامة تؤكّد ذلك وهو أنّه : « ثمَّ توضّأ مرتين وقال : وضوء من ضاعف له الأجر هذا » (١).

مع أنّ حمل الإضافة في الروايتين على العهد وإرادة الوضوء البياني وكونه في مقام بيان أقلّ الواجب ممكن ، بل قوله : « هذا وضوء » إلى آخره ، يومئ إليه ، وبه يجمع بينهما وبين مرسلة ابن المقدام.

وعن الخامسة : بعدم منافاة حبّ الوتر من حيث هو لحبّ غيره من جهة أخرى.

مع أنّ نفيه حبّ الغير ليس إلاّ بالمفهوم الضعيف ، ومع أنه أعم مطلقا من المسألة ، فيجب تخصيصه بأخبارها. والإجزاء المذكور فيه لا يبيّن إلاّ منتهى الوجوب.

وعن السادسة والسابعة : بمعارضتهما مع رواية ابن بكير ، المتقدّمة (٢) بالعموم المطلق ، فيجب حملهما على من لم يستيقن إجزاء الواحدة ، وزعم وجوب الثانية.

مع إمكان إرادة الوضوء الواحدة لكلّ صلاة ، فجوّز التجديد وإن لم يترتّب عليه بخصوصه أجر ، بل كان مخيّرا بين الوضوء والوضوءين ، وحرّم الثالثة ، كما اختاره الشهيد في الثالثة (٣) واحتمله الفاضل فيها (٤). وحينئذ وإن عارضتهما إطلاقات التجديد ، ولكن على الحمل على الغسلة أيضا تعارضهما أخبار الغسلة الثانية.

وعن الثامنة والتاسعة : بما أجيب عن الأولين.

__________________

(١) سنن البيهقي ١ : ٨٠.

(٢) في ص ١٨١.

(٣) الذكرى : ٩٤ ، البيان : ٥٠ ، الدروس : ٩٣.

(٤) التحرير ١ : ١٠ ، المختلف : ٢٢.

١٨٧

وعن العاشرة : بالمعارضة المذكورة مع الموثّقة (١) فتخصّص بها.

مع أنّ الظاهر أنّ قوله : « واعلم .. » من كلام البزنطي ، ولا أقلّ من احتماله ، فلا حجّية فيه في مقابلة ما مرّ.

وأما البيانيات ، فهي في بيان الواجبات ، لخلوّها عن كثير من المستحبات.

هذا وقد يردّ هذا القول أيضا : بأنّه لا يجتمع مع رجحان العبادة ، إذ جزؤها إمّا واجب أو مستحب ، ولا معنى لاتّصافه بالإباحة المطلقة من دون رجحان.

وفيه : أنّ اللازم في العبادة الرجحان الذاتي ، ويمكن أن يكون الكلام هنا في الإضافي بالنسبة إلى الواحدة كما في أحد فردي المخيّر.

ويمكن أيضا أن يكون مرادهما بجواز الثانية جوازها لا بقصد الوضوء.

والحاصل أن يكون كلامهما في هذا الفعل في الوضوء من غير ملاحظة قصد كونه منه ، كما قالوا في تكرار المسح (٢) ، فحرّموا الثالثة فصاعدا ولو بدون قصد الوضوء ، للنصوص ، كالتكفير في الصلاة ، وجوّزوا الثانية إمّا مع المرجوحية كالتمندل ، أو بدونها.

وللمحكي في الخلاف والسرائر عن بعض الأصحاب ، فقال بعدم مشروعية الثانية (٣). والظاهر ـ كما صرّح به والدي ـ رحمه‌الله ـ ونقله جماعة (٤) ـ أنه هو الصدوق ، فإنّ كلامه في الفقيه صريح في عدم الجواز :

قال : قال الصادق عليه‌السلام : « ما كان وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ مرة مرة ، وتوضّأ النبي مرة مرة فقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا‌

__________________

(١) كذا في النسخ ، ولا يخفى أن المراد بها رواية ابن بكير المتقدمة وهي ليست بموثقة ـ كما لم يعبر عنها المصنّف بهذا الوصف فيما تقدم ـ لاشتمالها على زياد بن مروان القندي ، والظاهر ان الكلمة مصحفة : « المتقدمة ».

(٢) سيأتي في ص ١٩٢.

(٣) الخلاف ١ : ٨٧ ، السرائر ١ : ١٠٠.

(٤) منهم الشهيد في الدروس ١ : ٩٣ ، والشهيد الثاني في الروضة ١ : ٧٩.

١٨٨

به » فأما الأخبار التي رويت في أنّ الوضوء مرتين مرتين ، فأحدها بإسناد منقطع ـ فنقل مرسلة مؤمن الطاق المتقدمة (١) ـ فقال : هذا على جهة الإنكار لا الإخبار ، كأنه يقول : حد الله حدا ، فتجاوز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعدّاه ، وقد قال الله عزّ وجلّ ( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) وقد روي : أنّ الوضوء حدّ من حدود الله وأنّ المؤمن لا ينجّسه شي‌ء وإنّما يكفيه مثل الدهن. وقال الصادق عليه‌السلام : « من تعدّى في وضوئه كان كناقضه ». وفي ذلك حديث آخر بإسناد منقطع ـ ثمَّ نقل رواية ابن أبي المقدام ، السابقة (٢) ـ فقال : إنّ النبي كان يجدّد الوضوء لكلّ صلاة. فمعنى هذا الحديث هو : إني لأعجب ممّن رغب عن تجديد الوضوء وقد جدّده النبي. والخبر الذي روي أنّ من زاد على مرتين لم يؤجر ، يؤكد ما ذكرته. ومعناه أنّ تجديده بعد التجديد لا أجر له ، كالأذان : من صلّى الظهر والعصر بأذان وإقامتين أجزأه ، ومن أذّن للعصر كان أفضل ، والأذان الثالث بدعة لا أجر له. وكذلك ما روي أنّ المرتين أفضل ، معناه التجديد. وكذلك ما روي في مرتين أنه إسباغ ـ ثمَّ ذكر أحاديث فضل التجديد ، فقال : وقد فوّض الله إلى نبيه أمر دينه ولم يفوّض إليه تعدّي حدوده. وقول الصادق عليه‌السلام : « من توضّأ مرتين لم يؤجر » يعني به أنه أتى بغير الذي أمر به ووعد الأجر عليه ، فلا يستحق الأجر. انتهى (٣).

وحاصله : حمل أخبار المرة ومرجوحية المرتين على الغسلة والغسلتين ، وأخبار فضل المرتين على التجديد ، وأنّ الثانية في الغسلة غير مأمور بها ، وأنّ فاعلها كناقض الوضوء ، وأنّ جعلها من الوضوء تعدّ عن حدود الله ، فتكون منهيّا عنها وإن لم تكن بنية الوضوء. ولا فرق في ذلك بينها وبين الثالثة والرابعة فتكون‌

__________________

(١) في ص ١٨٦.

(٢) في ص ١٨٦.

(٣) الفقيه ١ : ٢٥.

١٨٩

حراما.

وعلى هذا فما ذكره والدي ـ رحمه‌الله ـ من أن نسبة الحرمة إلى الصدوق مخالف للواقع ، وما قاله كثير من المتأخّرين من نسبة جوازها إليه ، ليس من موقعه.

والباعث على ذلك : قوله في باب حدّ الوضوء : والوضوء مرة مرة ، ومن توضّأ مرتين لم يؤجر ، ومن توضّأ ثلاثا فقد أبدع ، حيث إنه فرّق بين الثانية والثالثة بعدم الأجر على الثانية وارتكاب البدعة في الثالثة.

والظاهر أنّ مراده من قوله « أبدع » دخل فيما هو بدعة ، حيث إن الثالثة مستحبة عند العامة (١) ، فهي من بدعهم. أي : ارتكب ما هو بدعة من العامة ، ومنهي عنه بخصوصه في الروايات ، سواء قصد به الوضوء أم لا كما مرّ.

وأما الثانية فلم يبتدعها أحد بخصوصها ، ولم ينه عنها كذلك ، بل هي غير مأمور بها وغير داخلة في الوضوء. ويلزمها عدم جواز إدخالها فيه بقصد الوضوء ، لكونه تعدّيا عن حدود الله.

وكيف كان ، فالظاهر عدم الريب في ضعف ذلك القول. ويدلّ عليه أيضا بعد ظاهر الوفاق ما تقدّم من أخبار رجحان الثانية (٢). مضافا إلى مستفيضة أخرى دالّة على جوازها ومشروعيتها ، كمرسلة مؤمن الطاق (٣).

وحملها على الإنكار ـ كما في الفقيه (٤) ـ خلاف الأصل والظاهر ، ومخالف لما صرّح به في روايات أخر كما مرّ (٥) ، ومرسلة ابن أبي المقدام ، والمروي في رجال الكشي كما مرّ (٦).

__________________

(١) المهذب في فقه الإمام الشافعي ١ : ١٨ ، الأمّ ١ : ٣٢ ، المغني ١ : ١٥٨.

(٢) في ص ١٨٢.

(٣) المتقدمة في ص ١٨٦.

(٤) الفقيه ١ : ٢٥.

(٥) المتقدمة في ص ١٨٢.

(٦) في ص ١٨٦.

١٩٠

وفي الخصال : « هذه شرائع الدين » إلى أن قال : « غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ، ومسح الرأس والقدمين إلى الكعبين مرة مرة ، ومرتان جائز » (١).

ومستند الصدوق : الأصل أخبار عدم الأجر على المرتين ، بانضمام حمل أخبار رجحانهما على التجديدي. وقد عرفت ضعف الكلّ.

هذا كلّه في الغسلة الثانية ، وأمّا الثالثة فاختلفوا في حرمتها وعدمها. والحقّ هو الأول كما عليه المعظم ، للأصل في العبادات ، والمعتبرة المنجبرة المتقدّمة ، كمرسلة ابن أبي عمير (٢) وروايات الكشي (٣) والعريضي (٤) وزرارة (٥) والسرائر (٦).

خلافا لظاهر من شذ ـ من دون مستند ظاهر ـ كالمفيد ، حيث جعلها تكلّفا ، والزائد عليها بدعة (٧). والقديمين ، فجعلاها غير محتاج إليها (٨).

قيل : ومال إليه في المعتبر (٩) ، وهو فرية ، لأنّه قال بعد حكمه باستحباب الثانية وكون الثالثة بدعة ونسبة استحبابها إلى العامة : وأما كون الثالثة بدعة : فلأنّها ليست مشروعة ، فإذا اعتقد التشريع أثم ، ولأنه يكون إدخالا في الدين ما ليس منه ، فيكون مردودا (١٠).

نعم ، قال بعد إتمام المسألة في الفرع الثاني : هل تبطل الطهارة لو غسل‌

__________________

(١) الخصال : ٦٠٣ ـ ٩ ، الوسائل ١ : ٣٩٧ أبواب الوضوء ب ١٥ ح ١٨.

(٢) التهذيب ١ : ٨١ ـ ٢١٢ ، الاستبصار ١ : ٧١ ـ ٢١٧ ، الوسائل ١ : ٤٣٦ أبواب الوضوء ب ٣١ ح ٣.

(٣) المتقدمة في ص ١٨٦.

(٤) المتقدمة في ص ١٨٣.

(٥) المتقدمة في ص ١٨٢.

(٦) المتقدمة في ص ١٨٥.

(٧) المقنعة : ٤٩.

(٨) نقله عنهما في المختلف : ٢٢.

(٩) القائل هو صاحب الرياض ١ : ٢٤.

(١٠) المعتبر ١ : ١٥٨.

١٩١

يديه ثلاثا؟ قيل : نعم ، لأنه مسح لا بماء الوضوء. والوجه : الجواز ، لأنه لا ينفك من ماء الوضوء الأصلي. انتهى.

ولا يخفى أنه غير جوازها ، ولذا قال بعض من صرّح بحرمتها بعدم بطلان الوضوء معها على الإطلاق ، وعدم البأس بمزج ماء الوضوء بغيره في المسح بعد بقاء مائه ، ولذا نسب الجماعة إلى المعتبر ، القول بعدم إبطال الثالثة للوضوء (١). وهو كذلك إن لم يحصل المسح بمائها. ولزومه إذا كانت في اليسرى ظاهر ، وفي الوجه واليمنى غير ظاهر ، لاضمحلاله بما يرد عليه من بقية ماء الوضوء.

فروع :

أ : تحريم الثالثة إنّما هو إذا كان بقصد الوضوء ، كما هو ظاهر بعض أخباره.

وإطلاق بعض آخر لا يفيد ، لوجوب الاقتصار على موضع انجباره. فلا يحرم لو غسل لا بقصده إلاّ أنه يبطل الوضوء بها لو أتى بها في اليسرى.

ب : لا تكرار في المسح عندنا لا وجوبا ولا استحبابا ، للأصل ، والإجماعين ، وبعض النصوص المتقدّمة (٢) المؤيدة بالوضوءات البيانية. وبذلك يقيّد إطلاق ما مرّ من أنّ الوضوء مثنى مثنى أو مرتين.

ولو كرّره لم يأثم إلاّ مع قصد المشروعية ، وعليه ينزل إطلاق التحريم في كلام الشيخين (٣) وابني حمزة وإدريس (٤) ، بل كلام الأخير صريح فيه. ويكون حينئذ وضوؤه صحيحا بغير خلاف ، كما في السرائر وعن الذكرى (٥) ، بل إجماعا كما في اللوامع.

وهل يكره بدون ذلك القصد؟ صرّح به في اللوامع ، مدّعيا عليه الشهرة بل‌

__________________

(١) منهم صاحب المدارك ١ : ٢٣٤ ، وصاحب الحدائق ٢ : ٣٤٧ ، ويستفاد من المعتبر ١ : ١٦٠.

(٢) في ص ١٨٣ ـ ١٨٢.

(٣) المفيد في المقنعة : ٤٩ ، والطوسي في المبسوط ١ : ٢٣ ، والخلاف ١ : ٨٩ ، والمصباح : ٨.

(٤) الوسيلة : ٥١ السرائر ١ : ١٠٠.

(٥) الذكرى : ٩٥.

١٩٢

الإجماع. ولا بأس به ، لكفاية الدعوى في إثباته.

ج : صرّح في اللوامع بجواز التثنية في بعض الأعضاء دون بعض. وهو كذلك ، للأمر بالتثنية في كلّ منها على حدة ، سيما في روايتي علي بن يقطين والعريضي (١) ، والأصل عدم الارتباط والتوقّف.

وأمّا في جزء من البعض فلا شك في عدم استحبابها ، ولا في عدم جوازها بقصد المشروعية ، ولا في جوازها لا بقصدها. ولكن يخدش في صحة الوضوء لو أتى به في اليسرى لمكان المسح.

والمناط صدق التثنية عرفا ، فلا يضرّ عدم الاستيعاب الحقيقي في الغسلة الأولى إذا صدق غسل كلّ ذلك العضو عرفا.

وكذلك يحرم تثليث بعض الأعضاء بل البعض من البعض. وعلى هذا فيحصل الإشكال في الغرفات المتعدّدة ، سيما إذا استوعب كلّ منها أكثر العضو أو كثيرا منه ، إذ لا يشترط إمرار اليد في تحقّق الغسل. وظاهر الأردبيلي الميل إلى ترك الغرفة الثالثة مطلقا (٢) ، لعدم معهوديتها.

المسألة الثانية : اللازم في الغسل في الوجه واليدين مسمّاه عرفا ، فيشترط الجري فيه اختيارا إجماعا ، ومطلقا على الأصح بل الأشهر ، بل قيل : كاد أن يكون إجماعا (٣).

للأصل ، واستصحاب الحدث ، وعدم صدق الغسل المأمور به بدونه ، لعدم حصوله إلاّ به فيثبته أوامر الغسل.

وبها وبما دلّ على اشتراط الجري كمفهوم حسنة زرارة ، الآتية ، والأخرى : « فما جرى عليه الماء فقد أجزأه » (٤) وصحيحة محمد في اغتسال الجنب : « فما جرى‌

__________________

(١) المتقدمتين في ص ١٨٣ ـ ١٨٢.

(٢) مجمع الفائدة ١ : ١١٦.

(٣) قاله في الرياض ١ : ١٩.

(٤) الكافي ٣ : ٤٣ الطهارة ب ٢٩ ح ٣ ، التهذيب ١ : ١٣٣ ـ ٣٦٨ ، الوسائل ١ : ٢٢٩ أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ٢.

١٩٣

عليه الماء فقد طهر » (١) تقيّد إطلاقات الدهن وكفاية مسّ الماء للجلد (٢).

وتؤيد المطلوب أيضا : صحيحة علي : فيمن أصابه المطر وابتلّت أعضاء وضوئه : « إن غسله فإنّ ذلك يجزيه » (٣).

ويكفي أقلّه ، بأن ينتقل كلّ جزء من الماء من محله إلى غيره ، كما ذكره الفقهاء إمّا صريحا ، أو بتمثيلهم بالدهن الذي لا يزيد عنه غالبا ، لصدق الغسل معه ، ولذا ورد كفاية مثل ما على الحشفة في غسل البول (٤).

ولحسنة زرارة : « الجنب ما جرى عليه الماء من جسده قليله وكثيره فقد أجزأه » (٥).

وصحيحته في الوضوء : « إذا مس جلدك الماء فحسبك » (٦).

ومرسلة الكليني : في رجل كان معه من الماء مقدار كف وحضرت الصلاة فقال : « يقسّمه أثلاثا ثلث للوجه ، وثلث لليد اليمنى ، وثلث لليسرى » (٧).

والأخبار المصرّحة بكفاية مثل الدهن في الوضوء أو الغسل (٨) ، فإنّ التدهين يتحقّق بمثل هذا الجري أيضا ، فتشمله أخباره.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٣ الطهارة ب ٢٩ ح ١ ، التهذيب ١ : ١٣٢ ـ ٣٦٥ ، الاستبصار ١ : ١٢٣ ـ ٤٢٠ ، الوسائل ٢ : ٢٢٩ أبواب الجنابة ب ٢٦ ح ١.

(٢) الوسائل ١ : ٤٨٤ أبواب الوضوء ب ٥٢.

(٣) التهذيب ١ : ٣٥٩ ـ ١٠٨٢ ، الاستبصار ١ : ٧٥ ـ ٢٣١ ، الوسائل ١ : ٤٥٤ أبواب الوضوء ب ٣٦ ح ١.

(٤) الوسائل ١ : ٣٤٣ أبواب أحكام الخلوة ب ٢٦.

(٥) الكافي ٣ : ٢١ الطهارة ب ١٤ ح ٤ ، التهذيب ١ : ١٣٧ ـ ٣٨٠ ، الاستبصار ١ : ١٢٣ ـ ٤١٦ ، الوسائل ٢ : ٢٤ أبواب الجنابة ب ٣١ ح ٣.

(٦) الكافي ٣ : ٢٢ الطهارة ب ١٤ ح ٧ ، التهذيب ١ : ١٣٧ ـ ٣٨١ ، الاستبصار ١ : ١٢٣ ـ ٤١٧ ، الوسائل ١ : ٤٨٥ أبواب الوضوء ب ٥٢ ح ٣.

(٧) الكافي ٣ : ٢٧ الطهارة ب ١٧ ح ٩ ، الوسائل ١ : ٤٣٨ أبواب الوضوء ب ٣١ ح ٩.

(٨) الوسائل ١ : ٤٨٤ أبواب الوضوء ب ٥٢.

١٩٤

والرواية الواردة في بقاء لمعة من جسد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخذه الماء من بلل شعره ومسحه ذلك الموضع مروية في نوادر الراوندي وغيره (١).

والرضوي : « وأدنى ما يكفيك ويجزيك من الماء ما يبلّ به جسدك مثل الدهن » (٢).

خلافا في الأول (٣) للمقنعة والنهاية (٤) وصريح والدي العلاّمة ، فاكتفوا بمجرد البلل الخالي عن الجري حال الضرورة ، مع إمكان حمل كلام الأولين على الاجتزاء بأقلّ الجري حال الضرورة ، فيوافقان في حال الاضطرار لما عليه الشهرة ، وفي الاختيار لما يأتي من مختار الناصرية (٥).

واستدلّ والدي ـ رحمه‌الله ـ بمطلقات أوامر الغسل المتوقّف على الجريان ، وإطلاقات كفاية البل ، كخبري الغنوي : « يجزيك من الغسل والاستنجاء ما بلّت يمينك » (٦) كما في أحدهما و « ما بللت يدك » (٧) كما في الآخر.

وصحيحة زرارة ، المتقدّمة (٨) ، وصحيحة محمّد : « يأخذ أحدكم الراحة من الدهن فيملأ بها جسده ، والماء أوسع من ذلك » (٩) وأخبار الدهن الظاهرة فيما لا يتحقق معه الجريان.

بتخصيص أول الإطلاقين بحال الاختيار ، للإطلاقات الثانية المقيدة بحال‌

__________________

(١) نوادر الراوندي : ٣٩.

(٢) فقه الرضا عليه‌السلام : ٨٣ ، المستدرك ١ : ٣٤٨ أبواب الوضوء ب ٤٤ ح ١.

(٣) المراد من الأوّل ، اعتبار الجري ، والمراد من الثاني ـ الآتي في كلامه ـ كفاية أقلّ الجري ولو بمثل التدهين.

(٤) النهاية : ١٥ ، ولم نعثر عليه في المقنعة.

(٥) في ص ١٩٨.

(٦) الكافي ٣ : ٢٢ الطهارة ب ١٤ ح ٦ ، الوسائل ١ : ٢٤١ أبواب الجنابة ب ٣١ ح ٤.

(٧) التهذيب ١ : ١٣٨ ـ ٣٨٦ ، الاستبصار ١ : ١٢٢ ـ ٤١٥.

(٨) في ص ١٩٤.

(٩) الكافي ٣ : ٢٤ الطهارة ب ١٧ ح ٣ ، الوسائل ١ : ٣٩١ أبواب الوضوء ب ١٥ ح ٧.

١٩٥

الاضطرار إجماعا ، فتكون أخص منه ، فيقيّد بها.

ولما (١) بعد الاستثناء في صحيحة الحلبي : « أسبغ الوضوء إن وجدت ماء وإلاّ فإنّه يكفيك اليسير » (٢) قال ـ رحمه‌الله ـ : واليسير بإطلاقه يتناول ما لا جري معه.

ولمرسلة الكليني ، السابقة (٣) ، وصحيحة علي : عن الرجل الجنب أو على غير وضوء لا يكون معه ماء وهو يصيب ثلجا وصعيدا ، أيّهما أفضل أيتيمّم أم يتمسّح بالثلج وجهه؟ قال : « الثلج إذا بلّ رأسه وجسده أفضل ، فإن لم يقدر على أن يغتسل به فليتيمّم » (٤).

وخبر ابن شريح : يصيبنا الدمق والثلج ونريد أن نتوضّأ ولا نجد إلاّ ماء جامدا ، فكيف أتوضّأ أدلك به جلدي؟ قال : « نعم » (٥).

وتخصيص (٦) ثانيهما بحال الاضطرار ، للإجماع ، ولما قبل الاستثناء من صحيحة الحلبي ، وللإطلاقات الأولى المقيّدة بحال الاختيار بالأخبار المذكورة.

ويجاب عنه : بضعف كلّ من التخصيصين.

أما الأول : فلعدم صلاحية ما ذكر له.

أما الإطلاقات الثانية : فلأنها إنما يعلم تقييدها بحال الاضطرار إجماعا لو اختصّت بالبلّ الخالي عن الجريان المباين للغسل ، وليس كذلك بل أعم منه.

__________________

(١) عطف على قوله : « للإطلاقات » وهكذا قوله الآتي : « ولمرسلة ».

(٢) التهذيب ١ : ١٣٨ ـ ٣٨٨ ، الاستبصار ١ : ١٢٣ ـ ٤١٨ ، الوسائل ١ : ٤٨٥ أبواب الوضوء ب ٥٢ ح ٤.

(٣) في ص ١٩٤.

(٤) التهذيب ١ : ١٩٢ ـ ٥٥٤ ، الاستبصار ١ : ١٥٨ ـ ٥٤٧ ، الوسائل ٣ : ٣٥٧ أبواب التيمم ب ١٠ ح ٣.

(٥) التهذيب ١ : ١٩١ ـ ٥٥٢ ، الاستبصار ١ : ١٥٧ ـ ٥٤٣ ، الوسائل ٣ : ٣٥٧ أبواب التيمم ب ١٠ ح ٢ الدمق ـ محرّكة ـ : ريح وثلج. القاموس ٣ : ٢٤٠.

(٦) عطف على قوله قبل سطور : « بتخصيص أوّل الإطلاقين .. ».

١٩٦

أمّا ما تقدّم على صحيحة محمّد فظاهر. وأمّا هي وما يعقبها : فلتحقّق أقل الجري بالتدهين أيضا ـ كما مرّ (١) ـ ولو كان بقدر الراحة كما في الصحيحة. مع أنّه لا دلالة فيها على مطلوبهم ، لعدم خلوّها عن ضرب من الإجمال ، وعلى هذا فتقييدها بالبلّ المشتمل على الجري المتضمّن مع الغسل ، وإبقاء الحالة على عمومها بالإجماع ، ليس بأولى من تقييدها بحالة الاضطرار به (٣) ، فلا يعلم منافاتها للإطلاق (٤) الأول حتى يقيّد بها.

وأما ما بعد الاستثناء في الصحيحة (٥) : فلاحتمال أن يراد منه اليسير من الغسل ولا شك أنّه أيضا لا يتحقّق إلاّ مع الجريان.

مع أنّه لو أريد اليسير من الماء أيضا ، لم يكن مقيّدا ، لأنّه أعمّ ممّا يتحقق معه الجري ، فيعارض الإطلاق الأول بالعموم من وجه ، فلا يكون أخصّ منه حتى يقيده ، والترجيح للإطلاق (٦) ، لموافقة الكتاب والأصل والشهرة.

وأمّا المرسلة (٧) : فلأنّ الظاهر تحقّق أقلّ الجريان في كلّ موضع بثلث الكف ، كيف مع أنّه تظهر من صحيحة محمد كفاية أقلّ من كف من الدهن لتمام الجسد (٨).

وأما الخبران الأخيران : فلأنّ ظاهرهما المسح بالثلج والجمد. ولم يقل به أحد ، كما يأتي في بحث التيمم.

__________________

(١) في ص ١٩٤.

(٢) كذا في جميع النسخ ، ولعلّ المناسب تغيير العبارة هكذا : وعلى هذا فتقييدها بحالة الاضطرار بالإجماع ، ليس بأولى من تقييدها بالبلّ المشتمل على الجري المتضمّن مع الغسل ، وإبقاء الحالة على عمومها.

(٣) في « ق » للإطلاقات

(٤) يعني صحيحة الحلبي المتقدمة في ١٩٦ رقم ٢.

(٥) في « ق » للإطلاقات.

(٦) يعني مرسلة الكليني المتقدمة في ص ١٩٤.

(٧) المتقدمة ص ١٩٥.

١٩٧

مع أنّهما معارضان مع صحيحتين أخريين آتيتين في ذلك البحث ، دالّتين على وجوب الانتقال إلى التيمم في مثل تلك الحال.

وأمّا التخصيص الثاني : فلمثل ما مرّ أيضا من عدم صلاحية ما ذكر لبيانه.

أمّا الإجماع : فلما عرفت.

وأمّا ما قبل الاستثناء من الصحيحة : فلأنّ الإسباغ غير الغسل ، بل هو نوع منه غير واجب إجماعا فتوى ونصا.

وأمّا الإطلاقات : فلعدم ثبوت تقييدها بحال الاختيار كما مرّ.

وإذ عرفت ضعف التخصيص فيحصل التعارض بين الإطلاقين بالعموم من وجه. والترجيح للأول ، لما مرّ من موافقة الكتاب والشهرة ، بل الإجماع ، لما عرفت من الاحتمال في كلام الشيخين (١) ، مع أنّه لولاه لكان المرجع إلى أصل الاشتغال واستصحاب الحدث.

وخلافا في الثاني لظاهر المدارك ، فإنّ ظاهره عدم صدق الغسل عرفا بمثل ذلك الجري (٢) ، وهو ظاهر الناصريات حيث قال ـ بعد ذكر وجوب فعل ما يسمّى غسلا ـ : وأما الأخبار الواردة بأنّه يجزئك ولو مثل الدهن ، فإنّها محمولة على دهن يجري على العضو ويكثر عليه حتى يسمّى غسلا ولا يجوز غير ذلك. انتهى (٣).

فإنّ الظاهر من قوله : ويكثر عليه ، اشتراط أكثر من هذا الجري ، فإنه لا يقال للقدر من الماء الذي ينتقل من جزء واحد : إنه يكثر عليه.

وهو الظاهر من الحلّي (٤) أيضا.

ودليلهم ـ كما أشير إليه ـ عدم صدق الغسل عرفا على مثله. وهو ممنوع كما‌

__________________

(١) المتقدم في ص ١٩٥.

(٢) المدارك ١ : ٢٣٥.

(٣) الناصريات « الجوامع الفقهية » : ١٨٨.

(٤) السرائر ١ : ١٠٠.

١٩٨

مرّ (١) ، بل الظاهر أنه لولاه ، لما تحقّق الغسل الواجب لكلّ جزء من كلّ عضو بالغرفة الواحدة المجزية إجماعا.

ثمَّ إنه يجب العلم بحصول أقلّ الجري في كلّ جزء جزء من المواضع ، كما تدلّ عليه الروايات المتقدّمة في غسل اليد (٢) ، المصرّحة بوجوب غسل كلّ جزء وإجراء الماء أو إدخاله تحت الخاتم ونحوه ، والأولى بلّ الموضع أوّلا ليجري عليه الماء بسهولة.

المسألة الثالثة : إذا كان بعض أعضاء الطهارة مؤوفا بغير القطع ، من نحو كسر أو قرح أو جرح : فإمّا يكون في موضع الغسل أو المسح.

فإن كان في موضع الغسل : فإما لا تكون عليه جبيرة من خشب أو خرقة أو دواء أو غيرها أو تكون ، فإن كانت عليه ، فإمّا لا يمكن غسل ما تحتها بنزع أو تكرير أو وضع في الماء من غير ضرر ولا مشقة أو يمكن ، فإن أمكن ذلك بأحد الوجوه الثلاثة ، وجب إجماعا ، اتّباعا لأوامر الغسل.

وفي التخيير بين الثلاثة ، كجماعة منهم : الفاضل في التحرير والنهاية (٣) ، والكركي (٤) ، والدروس والبيان (٥) ، بل في اللوامع الإجماع عليه ، للأصل ، وحصول الغسل ، وإطلاق موثّقة عمّار : في الرجل ينكسر ساعده أو موضع من مواضع الوضوء فلا يقدر أن يمسح عليه لحال الجبر إذا جبر ، كيف يصنع؟ قال : « إذا أراد أن يتوضّأ فليضع إناء فيه ماء ويضع الجبيرة في الماء حتى يصل الماء إلى جلده ، وقد أجزأه ذلك من غير أن يحلّه » (٦).

__________________

(١) في ص ١٩٤.

(٢) في ص ١٠٠.

(٣) التحرير ١ : ١٠ ، نهاية الإحكام ١ : ٦٤.

(٤) جامع المقاصد ١ : ٢٣٣.

(٥) الدروس ١ : ٩٤ ، البيان : ٥١.

(٦) التهذيب ١ : ٤٢٦ ـ ١٣٥٤ ، الاستبصار ١ : ٧٨ ـ ٢٤٢ ، الوسائل ١ : ٤٦٥ أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٧.

١٩٩

أو الترتيب فينزع وجوبا مع الإمكان ، وإلاّ فالتكرير أو الوضع ، كالتذكرة (١) ، بل ظاهر التهذيب (٢) والنهاية (٣) ، بل المعتبر والمنتهى (٤) ، بل عليه دعوى الإجماع كما ذكره في اللوامع ، وجعله جمع من مشايخنا الأحوط (٥).

لحسنة الحلبي : عن الرجل تكون القرحة في ذراعه أو نحو ذلك من مواضع الوضوء فيعصبها بالخرقة ويتوضّأ ويمسح عليها إذا توضّأ؟ فقال : « إن كان يؤذيه الماء فليمسح على الخرقة ، وإن كان لا يؤذيه الماء فلينزع الخرقة ثمَّ ليغسلها » وعن الجرح كيف يصنع به في غسله؟ قال : « يغسل ما حوله » (٦).

والرضوي : « إن كان بك في المواضع التي يجب عليها الوضوء قرحة أو دماميل ولم يؤذك فحلّها واغسلها ، وإن أضرّك حلّها ، فامسح يدك على الجبائر والقروح ، ولا تحلّها ولا تعبث بجراحتك » (٧).

قولان (٨) ، أظهرهما : الأخير ، لما ذكر. وبه يدفع الأصل وإطلاق الغسل.

ولا يعارضه الموثّق ، لتقييده بعدم القدرة على المسح على الموضع لأجل الجبيرة ، ولا يكون ذلك ، إلاّ مع تعذّر النزع. وأمّا مجرد وجوده فغير مناف للقدرة كما لا تنتفي بوجود حائل آخر ممكن الرفع.

وها هنا قول آخر محكي عن الذخيرة ، وهو : تقدّم النزع والتكرير على‌

__________________

(١) التذكرة ١ : ٢١.

(٢) التهذيب ١ : ٤٢٦ ، وفيه : وجوب النزع إن أمكن والا فيمسح على الجبائر ، نعم يستحب في صورة عدم إمكان النزع وضع موضع الجبيرة في الماء.

(٣) النهاية : ١٦ وفيها وجوب النزع إن أمكن والا فالمسح عليها ولم يذكر الوضع ولا التكرير.

(٤) المعتبر ١ : ١٦١ ، المنتهى ١ : ٧٢.

(٥) منهم صاحب الرياض ١ : ٢٤.

(٦) الكافي ٣ : ٣٣ الطهارة ب ٢١ ح ٣ ، التهذيب ١ : ٣٦٢ ـ ١٠٩٥ ، الاستبصار ١ : ٧٧ ـ ٢٣٩ ، الوسائل ١ : ٤٦٣ أبواب الوضوء ب ٣٩ ح ٢. وفي الجميع : « اغسل ما حوله » بصورة الأمر.

(٧) فقه الرضا عليه‌السلام : ٦٩ ، المستدرك ١ : ٣٣٧ أبواب الوضوء ب ٣٤ ح ٣.

(٨) هذا مبتدأ مؤخر وخبره قوله « وفي التخيير » المتقدم.

٢٠٠