فوائد الأصول - ج ٤

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٢

فردا آخر من النجس بتعبد يخصه في عرض التعبد بنجاسة الملاقى ( بالفتح ). وحينئذ لا يجب الاجتناب عن الملاقي لاحد طرفي المعلوم بالاجمال ، للشك في ملاقاته للنجس ، فتجري فيه أصالة الطهارة بلا معارض.

فإن قلت : كيف تجري أصالة الطهارة في الملاقي مع أنه كالملاقي يكون طرفا للعلم الاجمالي ، لأنه عند العلم بنجاسة أحد الشيئين وملاقاة ثالث لأحدهما يحصل علوم ثلاثة : علم بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف ، وعلم بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) أو الطرف ، وعلم بنجاسة الملاقى والملاقي معا أو الطرف ، لأنه بعد الملاقاة يعلم باتحاد حكم الملاقى والملاقي فيكونان معا بمنزلة طرف واحد للعلم الاجمالي ، كما لو علم بوقوع قطرة من الدم إما في هذا الاناء الواحد وإما في ذينك الانائين ، ومقتضى هذه العلوم الثلاثة هو تعارض أصالة الطهارة في كل من الملاقي والملاقى والطرف ، فيجب الاجتناب عن الجميع مقدمة لحصول العلم بالاجتناب عن النجس المعلوم في البين.

قلت : حصول العلوم الثلاثة وإن كان وجدانيا لا سبيل إلى إنكاره ، إلا أن المؤثر من هذه العلوم الثلاثة هو الأول وهو العلم بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف ، ولا أثر للعلمين الآخرين.

أما الأول منهما : وهو العلم بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) والطرف ، فلسبق التكليف بالاجتناب عن الطرف ، لأنه كان طرفا للملاقى ( بالفتح ) قبل تحقق الملاقاة ، وقد تقدم في بعض المباحث السابقة : أنه لا أثر للعلم الاجمالي إذا كان في بعض أطرافه أصل مثبت للتكليف في الرتبة السابقة عن العلم الاجمالي ولو كان الأصل المثبت عقليا ، كما إذا كان طرفا لعلم إجمالي آخر ـ كما في

__________________

لعدم ارتكاز إلى السراية من الداني إلى العالي ، ولكن هذا المقدار لا يجدي لوجوب الاجتناب عنه بعد فرض طولية علمه لعلم آخر سابق عنه في التنجز ، ولقد شرحنا في مثله بأنه لا مجال لتنجز التكليف به ، كما لا يخفى على من راجع الحاشية الطويلة الأولى في وجه نجاسة الملاقي ( بالكسر ).

٨١

المقام ـ فلا يجري الأصل النافي فيما يجري فيه الأصل المثبت ، فتبقى أصالة الطهارة جارية في الملاقي ( بالكسر ) بلا معارض (١) وهذا من غير فرق بين سبق العلم بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) والطرف على العلم بالملاقات ، أو سبق العلم بالملاقات على العلم بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) والطرف ، غايته أن الأول يوجب عدم تأثير العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) أو الطرف ، والثاني يوجب انحلاله ، لان المدار على سبق المعلوم لا على سبق العلم ، وسيأتي توضيحه.

وأما الثاني منهما : وهو العلم بنجاسة الملاقي والملاقى أو الطرف ، فلان الملاقي ( بالكسر ) ليس في عرض الملاقى ( بالفتح ) حتى يكونا معا بمنزلة طرف واحد ، لأن الشك في نجاسة الملاقي وطهارته مسبب عن الشك في طهارة الملاقى ونجاسته ، والأصل الجاري في الشك السببي ليس في رتبة الأصل الجاري في الشك المسببي ليجريان معا أو يسقطان معا ، بل رتبة الأصل السببي مقدمة على الأصل المسببي (٢) ولا تصل النوبة إليه مع جريان الأصل السببي توافقا في

__________________

١ ـ أقول : على مسلكه من جريان الأصل بلا معارض في طرف لا يحتاج إلى اسقاط المتأخر عن التأثير ، وإنما هو شأن من التزم بأن منجزية العلم مانع عن الجريان ولو بلا معارض ، فلا يخلو هذه الكلمات عن الخلط بين المسلكين ، فتدبر.

٢ ـ أقول : ما أفيد على مبناه : من أن منشأ سقوط الأصل في أطراف العلم جهة معارضته في غاية المتانة ، لان الأصل السببي يجري على أي حال في موضوعه بلا معارض ، لسقوط أصل الطرف بمعارضته مع الأصل في السبب. وأما لو بنينا على المختار : من علية العلم للموافقة القطعية أيضا ـ بحيث يكون المانع عن جريان الأصل في العلم المنجز للتكليف هو نفس العلم ولو لم يكن للأصل معارض ـ فلا محيص في جريان الأصل المسببي الفارغ عن المعارض من أن لا يكون في طرف العلم المنجز ، ولو بأن يكون مسبوقا بحسب الرتبة بعلم آخر منجز لطرفيه ، كي يرد العلم المتأخر رتبة على ما يتنجز طرفيه في الرتبة السابقة الموجب لمنع العلم المتأخر عن صلاحية المنجزية في أحد الطرفين من جهة سبقه بعلة أخرى ، وحيث كان الامر كذلك ، فتمام المدار في جريان الأصل النافي المسببي الغير المعارض على عدم

٨٢

المؤدى أو تخالفا ، لان الأصل السببي رافع لموضوع الأصل المسببي ، كما يأتي بيانه

__________________

سبق علمه بمنجز آخر رتبة ، ومن المعلوم : أن إثبات هذه الجهة لا يمكن إلا بفرض كون العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) ناشئا عن العلم بالملاقات مع طرف العلم بالنجاسة في البين ، وإلا فلو فرض العلم بنجاسة المتلاقيين من الأول من غير جهة الملاقاة ، ولو بمثل إخبار معصوم أو شيء آخر مفيد لليقين بنجاستهما ، ثم علم بأن منشأ النجاسة في الملاقي ( بالكسر ) ملاقاته مع الملاقى ( بالفتح ) فالعلم الاجمالي بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) لا يكون مسبوقا بالعلم الآخر ، بل هما في عرض واحد ، كما لو علم بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) مع الطرف الآخر ، ثم علم بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) من قبل العلم بملاقاته مع الآخر ، فلا محيص في مثل هذه الصورة العلم بين المسبب والطرف سابقا عن العلم بالسبب والطرف ، عكس الصورة الأولى ، ففي مثل هذا يكون التنجز منحصرا بالمسبب دون السبب ، عكس السابق.

كما أن في الصورة الثانية كان العلمان في رتبة واحدة بلا سبق لأحدهما على الآخر رتبة ، فلا موجب لتنجز الملاقى والطرف بلا تنجز الملاقي ( بالكسر ) مع كونه أيضا طرفا لهذا العلم.

وتوهم : أن مدار تأثير العلم في التنجز على سبق المعلوم ولحوقه لا على سبق العلم ، كلام ظاهري ، إذ بعد الجزم بأن التكليف ـ في أي وقت أو مرتبة كان ـ لا يعقل أن يتنجز إلا في ظرف تعلق العلم به ، بحيث يستحيل أن يؤثر العلم في تنجز المعلوم قبل تحققه ، فمن حين تحقق العلم يلاحظ بأنه إن كان العلم المزبور قام على طرفه منجز سابق أو مقارن يخرج العلم المزبور عن المنجزية ، وإلا يبقى منجزا لمعلومه ، وحينئذ إذا فرض كون العلم بالسبب ناشئا عن العلم بالمسبب ، يستحيل تأثير العلم بالسبب لسبقه بالمنجز بحسب الرتبة ، ومجرد سبق المعلوم رتبة كيف يجدي في قلب العلم أو تأثيره في التنجز في المرتبة السابقة؟.

وتوهم : أن العلم من عوارض المعلوم فمع سبق المعلوم قهرا يسبق علمه عن العلم بمسببه ، مدفوع غاية الدفع ، إذ مجرد سبق شيء في الوجود الخارجي على شيء لا يقتضي سبق علمه ، لعدم كون العلم من عوارض الوجود خارجا ، وإنما ظرف عروضه الذهن ، غاية الامر بما هو منظور خارجيا ، لا الخارج ، ومن البديهي أن السبق في الوجود لا يقتضي السبق في عالم التصور ، ولذا ربما يصير العلم بالمعلول علة للعلم بالعلة بلا انقلاب العلمين عما هما عليه من العلية والمعلولية ، وحيث كان كذلك ، فلا وقع لهذا الكلام : من أن المدار في سبق التنجز على سبق المعلوم لا العلم. والعجب من مثل هذا المقرر! حيث إنه يجري الأصل في طرف واحد بلا معارض ، ومثله لا يحتاج إلى إثبات سبق العلم بمنجز آخر ، بل يكفيه مجرد سبق المعلوم رتبة في جريان الأصل في المسبب بلا معارض ، ولا داعي له على إثبات عدم سبق لعلم بمنجز آخر أو سبقه ، كي يلتزم بمثل هذا المحذور وصدور هذه الكلمات قبال استاذنا الأعظم

٨٣

( إن شاء الله تعالى ) في خاتمة الاستصحاب ، وإنما تصل النوبة إلى الأصل المسببي عند عدم جريان الأصل السببي لموجب ، فأصالة الطهارة الجارية في الملاقي ( بالكسر ) ليست في عرض أصالة الطهارة الجارية في الملاقى ( بالفتح ) لتسقط بسقوطها ، بل جريانها موقوف على سقوط أصالة الطهارة في الملاقى ( بالفتح ) بالمعارضة لأصالة الطهارة الجارية في الطرف الآخر ، ففي ظرف جريان أصالة الطهارة في الملاقى لم تجر أصالة لطهارة في الملاقي ( بالكسر ) وفي ظرف جريان أصالة الطهارة فيه لم يكن لها معارض ، لسقوط معارضها في الرتبة السابقة.

وقياس الملاقى والملاقي بالانائين في المثال المتقدم في كونهما طرفا واحدا للعلم الاجمالي ليس في محله ، فان الشك في نجاسة أحد الانائين وطهارته في المثال ليس مسببا عن الشك في نجاسة الآخر وطهارته ، بل الشك في كل منهما مسبب

__________________

الذي مبناه على مانعية نفس العلم عن جريان الأصل في الطرف ولو بلا معارض.

نعم : على مسلكه يلزم إشكال آخر ، وهو أن أصالة الطهارة في الملاقي ( بالكسر ) وإن كان معارضا مع أصالة الطهارة في الطرف ، ولكن بعد سقوط أصالة الطهارة فيه ينتهي النوبة إلى أصالة حليته ويصير هذا الأصل في رتبة أصالة الطهارة في الملاقي ( بالكسر ) فيتساقطان ، ثم بعد ذلك ينتهي النوبة إلى أصالة الحلية في الملاقي ( بالكسر ) وهو لا ينتج إلا في جواز شربه ، ولا يجدي في صحة وضوئه المشروط بطهارة مائه ، مع أن بنائهم على صحة الوضوء بالملاقي ( بالكسر ) لأصالة طهارته.

ولعمري! أن هذه الشبهة من غوامض الشبهات. والعجب من الماتن! إنه لم لم يتعرض له ، مع أنه مسبوق به ، ولعله من جهة وضع تقريره على الاقتضاء على ما أفاده أستاذه ـ والتحقيق أن هذه الشبهة على مسلك اقتضاء العلم وسقوط الأصول مما لا محيص عنه. وأما على مسلكنا : من مانعية العلم عن جريان الأصل في طرفه ولو بلا معارض ، فالاشكال لا وقع له ، لأنه لو فرض عدم معارضة أصالة الحل في الطرف مع أصالة الطهارة في الملاقي ( بالكسر ) لا مجال لجريانه في الطرف الآخر ، لان العلم الاجمالي السابق بعدما يتنجز التكليف بحرمة الشرب والوضوء به أولا لا يكاد يجري فيه أصالة الحلية في طرفه ، لسبق تنجز التكليف في المحتمل المانع عن الأصل النافي ، وحينئذ لا؟ كاد يجري هذا الأصل ، كي؟ صلح للمعارضة مع أصالة الطهارة في الملاقي ( بالكسر ).

٨٤

عن وقوع النجاسة فيهما أو في الاناء الثالث ، فالأصل في كل من الانائين يجريان في عرض واحد ويسقطان بالمعارضة للأصل الجاري في الاناء الثالث.

فظهر : أن المؤثر من العلوم الثلاثة التي ذكرها المستشكل هو خصوص العلم بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف.

إزاحة شبهة :

للمحقق الخراساني قدس‌سره تفصيل في وجوب الاجتناب عن الملاقي أو الملاقى.

فتارة : أوجب الاجتناب عن الملاقى ( بالفتح ) دون الملاقي ، وذلك فيما إذا تأخر العلم بالملاقات عن العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف.

وأخرى : أوجب الاجتناب عن الملاقي ( بالكسر ) دون الملاقى. وقد ذكر لذلك موردين :

الأول : ما إذا تأخر العلم بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف عن العلم بالملاقات والعلم بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) أو الطرف ، كما إذا علم أولا بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) أو الطرف من دون التفات إلى سبب نجاسة الملاقي ، ثم حدث العلم بالملاقات والعلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف والعلم بأنه ليس لنجاسة الملاقي ( بالكسر ) على تقدير أن يكون هو النجس الذي تعلق العلم به أولا سبب إلا جهة ملاقاته ، لأن المفروض أنه ليس في البين إلا نجاسة واحدة ، والتقييد بانحصار سبب نجاسة الملاقي بالملاقات وإن لم يصرح به في متن الكفاية ، إلا أنه صرح بذلك في حاشية الكفاية ، ووجه الحاجة إلى القيد واضح.

الثاني : ما إذا علم بالملاقات ، ثم حدث العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف ، ولكن حال حدوث العلم الاجمالي كان الملاقي ( بالكسر )

٨٥

موردا للابتلاء ، والملاقى ( بالفتح ) خارجا عن مورد الابتلاء ثم عاد إلى مورد الابتلاء.

وثالثة : أوجب الاجتناب عن الملاقي والملاقى معا ، وذلك فيما إذا حصل العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف بعد العلم بالملاقات مع كون كل منهما في مورد الابتلاء.

هذا حاصل ما أفاده في الكفاية على طبق ما ذكره في الحاشية.

ولا يخفى عليك : أن هذا التفصيل مبني على كون حدوث العلم الاجمالي بما أنه علم وصفة قائمة في النفس تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن الأطراف وإن تبدلت صورته وانقلبت عما حدثت عليه ، لأنه يكون المدار حينئذ على حال حدوث العلم ، ومن المعلوم : أنه قد يكون متعلق العلم الاجمالي حال حدوثه هو نجاسة الملاقي ( بالكسر ) أو الطرف ، وقد يكون هو نجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف ، وقد يكون هو نجاستهما معا أو الطرف.

ولكن الانصاف : فساد المبنى بمثابة لا سبيل إلى الالتزام به ، ضرورة أن المدار في تأثير العلم الاجمالي إنما هو على المعلوم والمنكشف لا على العلم والكاشف ، وفي جميع الصور المفروضة رتبة وجوب الاجتناب عن الملاقي ( بالفتح ) والطرف سابقة على وجوب الاجتناب عن الملاقي ( بالكسر ) وإن تقدم زمان العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) أو الطرف على العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف ، لان التكليف في الملاقي إنما جاء من قبل التكليف بالملاقى ، فلا أثر لتقدم زمان العلم وتأخره بعدما كان المعلوم في أحد العلمين سابقا رتبة أو زمانا على المعلوم بالآخر ، كما أنه لا أثر لخروج الملاقى ( بالفتح ) عن محل الابتلاء في ظرف حدوث العلم مع عوده إلى محل الابتلاء بعد العلم ، ووضوح الامر وإن كان بمثابة لا يحتاج إلى إطالة الكلام فيه ، إلا أنه لا بأس بزيادة بيان لإزاحة الشبهة.

٨٦

فنقول : إنه يعتبر في تأثير العلم الاجمالي واقتضائه التنجيز بقائه على صفة حدوثه وعدم تعقبه بما يوجب انحلاله وتبدل المنكشف به (١) لان اعتبار العلم الاجمالي إنما هو لكونه طريقا وكاشفا عن التكليف المولوي ، فلابد من انحفاظ طريقيته وكاشفيته ، وهو إنما يكون ببقائه على صفة حدوثه وعدم حدوث ما يوجب تغييرا في ناحية المعلوم ، فالعلم الاجمالي بوجوب الاجتناب عن أحد الشيئين إنما يقتضي الاجتناب عنهما إذا لم يحدث ما يقتضي سبق التكليف بالاجتناب عن أحدهما ولو كان ذلك علما إجماليا آخر كان المعلوم به سابقا في الزمان أو في الرتبة على المعلوم بالعلم الاجمالي الأول ، وإلا كان المدار على العلم الاجمالي الثاني الذي سبق معلومه معلوم الأول وسقط العلم الأول عن الاعتبار.

فلو علم بوقوع قطرة من الدم في أحد الانائين ، ثم بعد ذلك علم بوقوع قطرة أخرى من الدم في أحد هذين الانائين أو في الاناء الثالث ، ولكن ظرف وقوع القطرة المعلومة ثانيا أسبق من ظرف وقوع القطرة المعلومة أولا ، فلا ينبغي التأمل في أن العلم الاجمالي الثاني يوجب انحلال الأول لسبق معلومه عليه (٢) ومن الواضح : أن العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) والطرف دائما يكون المعلوم به متأخرا عن المعلوم بالعلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) والطرف ،

__________________

١ ـ أقول : لا ريب في ذلك ، وإنما الكلام في أن سبق التكليف بشيء آخر وعدمه لا يوجب انقلاب العلم عما هو عليه ، والمفروض أن المنجزية يدور مدار العلم بالتكليف ، فإذا فرض علم آخر بتكليف آخر سابق عليه ، فان كان هذا العلم مسببا عن العلم الأول فالمنجزية للسابق ولو كان في التكليف لاحقا ، فما قيل في المقام حينئذ لا يخلو عن مصادرة.

٢ ـ أقول : فليت شعري! أين هذا الجزم؟ فإنه بعد أن لا يعقل أن يكون العلم المتأخر منجزا للمعلوم في الزمان السابق عن العلم ، فالعلم الحاصل من الأول بأن هذا الكأس واجب الاجتناب في أول الصبح أو الكأس الآخر في آخر اليوم ، هذا العلم التدريجي أين ذهبت؟ وأي مانع عن منجزيته؟ ولعمري ان هذه الكلمات كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء!!!.

٨٧

تقارن العلمان في الزمان ، أو تقدم تعلق العلم بالملاقي ( بالكسر ) على تعلق العلم بالملاقى أو انعكس الامر ، لما عرفت : من أنه لا عبرة بزمان حدوث العلم ، بل العبرة بزمان حدوث المعلوم. والنجاسة المعلومة بين الملاقى ( بالفتح ) والطرف تكون أسبق من النجاسة المعلومة بين الملاقي ( بالكسر ) والطرف في جميع الصور ، ففي أي زمان يحدث العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) والطرف يسقط العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي والطرف عن التأثير ، لأنه يتبين سبق التكليف بالاجتناب عن أحد طرفيه وهو طرف الملاقى ( بالفتح ) فتكون الشبهة بالنسبة إلى الملاقي ( بالكسر ) بدوية تجري فيه أصالة الطهارة بلا معارض.

هذا كله ، مضافا إلى أن الذوق يأبى عن أن يكون الحكم وجوب الاجتناب عن الملاقي ( بالكسر ) دون الملاقى ، مع أن التكليف به إنما يأتي من قبل التكليف بالملاقى ( بالفتح ).

نعم : لو فرض أن الملاقى ( بالفتح ) كان في ظرف حدوث العلم خارجا عن محل الابتلاء ولم يعد بعد ذلك إلى محله ولو بالأصل ، فالعلم الاجمالي بنجاسته أو الطرف مما لا أثر له ، ويبقى الملاقي ( بالكسر ) طرفا للعلم الاجمالي فيجب الاجتناب عنه وعن الطرف (١) لان العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) والطرف وإن تقدم معلومه على العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي

__________________

١ ـ أقول : بناء على مشرب اقتضاء العلم وجريان الأصل النافي بلا معارض ، لنا أن نقول : إنه لا بأس بجريان الأصل في الخارج عن محل الابتلاء بلحاظ آثاره المبتلى به ، فيسقط بالمعارضة مع الأصل في الطرف ، فيجري الأصل في الملاقي ( بالكسر ) أيضا بلا معارض.

نعم : له أن يقول : إن ما نحن فيه من قبيل قاعدة الطهارة بالنسبة إلى استصحابها ، فلو تم الجواب هناك لتم هنا ، ولقد عرفت عدم تمامية الجواب هناك ، فلا يتم في المقام أيضا ، ولذا أوردنا على شيخنا العلامة بأن الجمع بين إطلاق جريان الأصل في المسبب حتى مع تقدم علمه على العلم بالسبب مع الالتزام بجريان الأصل في المقام لا يخلو عن التهافت ، لعدم مناسبته مع واحد من المسلكين في علية العلم واقتضائه ، فتدبر.

٨٨

( بالكسر ) أو الطرف ، إلا أنه لما كان الملاقى ( بالفتح ) خارجا عن محل الابتلاء فلا أثر للعلم الاجمالي بنجاسته أو الطرف. ولا تجري فيه أصالة الطهارة لتعارض أصالة الطهارة في الطرف ليبقى الأصل في الملاقي ( بالكسر ) سليما عن المعارض ، بل المعارض للأصل الجاري في الطرف هو الأصل الجاري في الملاقي ( بالكسر ) وذلك كله واضح ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.

تذييل :

قد عرفت : أن عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لاحد طرفي المعلوم بالاجمال كان مبنيا على أن لا تكون نجاسة الملاقي للنجس لأجل سراية النجاسة منه إليه ، بل لكونها فردا آخر من النجاسة أوجب الشارع الاجتناب عنه بتعبد يخصه.

ولو شك في أحد الوجهين ، ففي وجوب الاجتناب عن الملاقي لاحد طرفي العلم الاجمالي وعدمه وجهان : أقواهما وجوب الاجتناب عنه.

ويتضح وجهه بتقديم مقدمة ربما تمر عليك في بعض المباحث الآتية ، وهي : أنه لو دار الامر بين شرطية أحد الشيئين ومانعية الآخر :

فتارة : لا يكون بين الشيئين واسطة ، بل كانا من الضدين اللذين لا ثالث لهما ، كما إذا شك في أن الجهر بالقراءة شرط في الصلاة أو أن الاخفات بها مانع ، فإنه لا واسطة بين الجهر والاخفات ولا يمكن خلو القراءة عن الوصفين.

وأخرى : يكون بين الشيئين واسطة ، كما إذا شك في أن السورة بشرط الوحدة شرط في الصلاة؟ أو أن القران مانع؟ فإنه يمكن خلو الصلاة عن السورة والقران ، فتكون الصلاة بلا سورة واسطة بينهما.

لا إشكال في جريان البراءة عن الشرطية المشكوكة في القسم الثاني ، لرجوع الشك فيه إلى الأقل والأكثر ، لان شرطية السورة بقيد الوحدة تقتضي بطلان

٨٩

الصلاة بلا سورة ، ومانعية القران لا تقتضي ذلك ، فلا يشترك جعل الشرطية مع جعل المانعية في جميع الآثار ، بل يكون في جعل الشرطية أثر زائد تجري فيه البراءة ويعمه حديث الرفع.

وبعبارة أوضح : في المثال المذكور يعلم تفصيلا بأن القران مبطل للصلاة ، إما لفقد الشرط من السورة بقيد الوحدة ، وإما لوجود المانع ، ويشك في بطلان الصلاة بلا سورة للشك في شرطية السورة ، فتجري فيه البراءة (١).

__________________

١ ـ أقول : وببيان أظهر : أن الشك في مانعية القران لا يكون ملزما باتيان السورة بذاته ، فالبرائة يجري فيه بلا مانع ، بخلاف المقام ، فإنه بعد الجزم بوجوب إتيان القراءة الشك في مانعية الاخفات المقرون بالعلم الاجمالي المزبور يلزم باتيان الجهر تحصيلا للجزم بالفراغ ، وحينئذ فما أفيد : من جريان الأصل عند الشك في وجود المانع في غاية المتانة على المختار : من أن حكم العقل بالفراغ بعد ثبوت الاشتغال تنجيزي ، لأنه على المانعية أصالة عدم وجود ما هو المانع يجدي في الفراغ الجعلي ، ولا يجدي هذا الأصل في طرف وجود الشرط ، بل أصله يقتضي عدم الفراغ.

وأما لو بنينا على مبناه : من جريان الأصل في أحد طرفي العلم الاجمالي بلا معارض من كون حكم العقل في مرتبة الفراغ حكما تعليقيا ، فلا شبهة حينئذ في كون أمر وضع هذا الحكم ورفعه بيد الشارع ولو بايجاد منشأه من الترخيص على تركه ، وحينئذ فللشارع أن يرخص في ترك تحصيل الجزم بحصول الشرط ولو من جهة الشك في حرمة تركه فعلا ، فيشمله حينئذ عموم « كل شيء لك حلال » بل وحديث الرفع ، لتطبيقه على رفع المؤاخذة عن ترك تحصيل ما هو مشكوك وجوبه ولو بإبداء الترخيص في تركه.

وتوهم حكومة استصحاب وجوبه على مثل هذه الأصول ، مدفوع أولا بأن الاستصحاب كيف يجري في فرض توارد الحالتين؟ أو في صورة الشك في محققات أمر بسيط؟ وثانيا أن هذه الجهة غير مرتبط بما أفيد : من القصور في اقتضاء حديث الرفع وغيره للشمول في المقام. هذا كله ، مع أن بقاء الوجوب وعدمه من ناحية الفراغ وعدمه عقلي وليس أمر وضعه ورفعه بيد الشارع ، فلا مجال لجريان الاستصحاب المزبور عند الشك في الوجوب من ناحية الفراغ ، بل المرجع في مثله ليس إلا قاعدة الاشتغال ، فإذا فرضنا أن حكم العقل تعليقي ، فلا قصور لجريان الأصول السابقة ، فيرتفع حكم العقل بتحصيل الجزم به ، ولازم ذلك حينئذ عدم كون ما نحن فيه من قبيل الشك في شرطية الجهر أو مانعية الاخفات ، إذ لا بأس بجريان الأصل عند الشك في وجود الشرط ، بخلاف المقام ، فان جريان أصالة الطهارة في الملاقي ( بالكسر ) فرع إحراز السببية والمسببية بينهما ، ومع الشك لا قصور في شمول العموم له ،

٩٠

وأما القسم الأول : فالشك فيه يرجع إلى المتبانين لا الي الاقل والاكثر لاشتراك الشرطية والمانعيه في الاثار وليس للشرطية اثر زائد تجري فيه البرائة ، اذ كما ان الشرطية الجهر تقتضي بطلان الصلاة عند الاخفات بالقراءة ، كذلك مانعية الاخفات تقتضي بطلان الصلاة عنده فلا فرق بين ان يكون الجهر شرطا او يكون الاخفات مانعا ، ويتحدان في عالم الجعل والثبوت في الاثر.

نعم : نفس الشك في الشرطية يقتضي اثرا زائدا عما يقتضيه الشك في المانعية ، لان الشرط لابد من إحرازه ولا يكفي الشك في وجوده ، بخلاف المانع ، فإنه لا يلزم إحراز عدمه بناء على جريان أصالة عدم المانع عند الشك في وجوده.

ففي المثال لو شك المأموم في أن الامام أجهر بالقراءة أو أخفت بها ، فبناء على مانعية الاخفات تجري أصالة عدم وجود المانع ويتم صلاته مع الامام ، وبناء على شرطية الجهر ليس له إتمام صلاته معه ، لعدم إحراز ما هو الشرط في صحة صلاته (١) فلزوم إحراز الشرط إنما يكون من الآثار المترتبة على نفس الشك في الشرطية ، وليس من آثار جعل الشرطية ، وحينئذ يقع الكلام في أن هذا المقدار من الأثر الذي اقتضاه الشك لا الجعل مما تجري فيه البراءة ويعمه حديث الرفع ، أو لا؟.

وغاية ما يمكن أن يقال في تقريب جريان الأصل ، هو أنه يلزم من جعل الشرطية ضيق وكلفة على المكلفين ، لأنه يلزمهم إحراز وجود الشرط ، بخلاف جعل المانعية ، فإنهم في سعة عن ذلك ، فيعمها حديث الرفع وتجري فيها البراءة ، لان في رفع الشرطية منة وتوسعة على المكلفين.

__________________

فيتساقط الجميع ، كما لا يخفى.

١ ـ أقول : لولا جريان أصالة الصحة في صلاته حتى مع الشك في فقد شرطه.

٩١

هذا ، ولكن قد تقدم في مبحث البراءة ـ عند شرح الحديث المبارك ـ أنه يعتبر في الرفع مضافا إلى ذلك أن يكون المرفوع من المجعولات الشرعية التي يمكن أن تنالها يد الوضع والرفع التشريعي ولو تبعا ، وخصوصية لزوم إحراز الشرط ليست بنفسها من المجعولات الشرعية ولا من لوازم المجعول الشرعي ، بل هي من الآثار المترتبة على الشك فيما هو المجعول الشرعي ، ومثل هذه الخصوصية لا يعمها حديث الرفع ولا تجري فيها البراءة.

إذا عرفت ذلك ، فنقول في المقام : إن الوجهين اللذين ذكرناهما في نجاسة الملاقي يشتركان في الأثر ، لأنه يجب الاجتناب عن ملاقي النجس على كل تقدير ، سواء قلنا بالسراية أو لم نقل ، وليس هناك أثر يختص به أحد الوجهين في عالم الجعل والثبوت.

نعم : يفترقان في حال الشك ويظهر لاحد الوجهين أثر زائد عنده ، فإنه بناء على السراية يجب الاجتناب عن الملاقي لاحد طرفي المعلوم بالاجمال ولا تجري فيه أصالة الطهارة مع أنه يشك في ملاقاته للنجس ، على ما تقدم بيانه ، وبناء على الوجه الآخر لا يجب الاجتناب عنه وتجري فيه أصالة الطهارة ، فيكون الشك في أحد الوجهين لنجاسة الملاقي كالشك في شرطية أحد الشيئين ومانعية الآخر في الضدين اللذين لا ثالث لهما من حيث عدم اقتضاء أحد الجعلين أثرا زائدا عما يقتضيه الجعل الآخر واقتضاء الشك فيما هو المجعول أثرا زائدا.

فان قلنا في دوران الامر بين شرطية أحد الشيئين ومانعية الآخر بجريان البراءة عن الأثر الذي اقتضاه الشك قلنا به في المقام أيضا ، وتجري أصالة الطهارة في الملاقي لاحد الطرفين ، وإن قلنا بعدم جريان البراءة في ذلك المقام فاللازم الاجتناب عن الملاقي لاحد الطرفين ، ولا تجري فيه أصالة الطهارة ، لأنه طرف للعلم الاجمالي وجدانا ، وإنما أخرجناه عن ذلك بمعونة السببية والمسببية

٩٢

بالبيان المتقدم. والسببية والمسببية كانت مبنية على أن لا تكون نجاسة الملاقي بالسراية ، فلو احتمل كونها بالسراية ـ كما هو المفروض ـ تبقى طرفيته للعلم الاجمالي على حالها كالملاقي ( بالفتح ) ولا تجري فيه أصالة الطهارة ، لمعارضتها بأصالة الطهارة الجارية في الطرف الآخر (١) فتأمل فإنه لا يخلو عن دقة.

الامر الخامس :

لو اضطر إلى ارتكاب بعض الأطراف :

فتارة : يكون الاضطرار قبل تعلق التكليف بأحدها وقبل العلم به ، كما لو اضطر إلى استعمال أحد مقطوعي الطهارة أو الحلية ثم حدثت نجاسة أحدهما أو حرمته والعلم بها. وأخرى : يكون الاضطرار بعد تعلق التكليف بأحدها وقبل العلم به. وثالثة : يكون الاضطرار بعد العلم به أيضا أو مقارنا له.

وعلى جميع التقادير : فتارة يكون الاضطرار إلى أحدها المعين. وأخرى إلى أحدها لا بعينه.

فإن كان الاضطرار قبل تعلق التكليف والعلم به وكان إلى المعين ، فلا إشكال في عدم وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر الغير المضطر إليه ، لاحتمال أن يكون متعلق التكليف هو المضطر إليه ، فالعلم الاجمالي الحادث لم يتعلق بالتكليف الفعلي ، والأصول غير جارية في جميع الأطراف لتسقط بالمعارضة ، لعدم جريان الأصل النافي للتكليف في الطرف المضطر إليه ، للقطع بعدم وجوب الاجتناب عنه ، فيبقى الطرف الآخر جاريا فيه الأصل بلا

__________________

١ ـ أقول : ولعمري! ان المسألة في المقام يتم بكلمتين ، وملخصه أن جريان الأصل في الملاقي فرع إحراز المسببية ، إذ مع الشك فيه فلا قصور في شمول العموم له أيضا في ظرف شموله للبقية ، فتساقط الأصول جميعا ، وبعد ذلك أين الداعي على بسط الكلام في شيء آخر؟ لا يكاد يتم المقايسة بينه وبين المقام إلا على مختارنا ـ كما أسلفناه مفصلا ـ لا على مختاره.

٩٣

معارض.

ولو كان إلى غير المعين ، فحكمه الاضطرار إلى الواحد لا بعينه بعد تعلق التكليف بأحد الأطراف وقبل العلم الاجمالي به. وسيأتي أن الأقوى فيه وجوب الاجتناب عما عدا ما يدفع به الاضطرار.

وإن كان الاضطرار بعد تعلق التكليف بأحدها وقبل العلم به وكان إلى المعين ، فالأقوى فيه أيضا عدم وجوب الاجتناب عن الطرف الغير المضطر إليه وفاقا للشيخ قدس‌سره لان الاضطرار إلى بعض الأطراف قبل العلم الاجمالي كتلف بعضها قبله ، ولا إشكال في عدم وجوب الاجتناب عن الباقي الغير التالف ، لاحتمال أن يكون التالف هو متعلق التكليف ، فلا يكون العلم الاجمالي علما بالتكليف ، فلا تعارض بين الأصول ، بل الأصل في التالف لا يجري ، وفي الباقي يجري بلا معارض (١) والاضطرار ملحق بالتلف في جميع المقامات ، لان المضطر إليه كالمعدوم.

فإن قلت : لا أثر لتأخر حدوث العلم الاجمالي عن الاضطرار إذا كان المعلوم سابقا على الاضطرار ، فان المدار على المعلوم لا على العلم ، إذ العلم إنما يكون طريقا وكاشفا عن التكليف ، فلابد من ملاحظة زمان ثبوت التكليف لا زمان حدوث العلم ، والمفروض : أن التكليف بالاجتناب عن أحد الأطراف كان سابقا على الاضطرار ولم يعلم وقوع الاضطرار إلى متعلق التكليف ليسقط التكليف بسببه ، فلابد من تحصيل العلم بالمسقط ليأمن من تبعة التكليف المعلوم في البين ، ولا يحصل ذلك إلا بالاجتناب عن الطرف الغير المضطر إليه.

__________________

١ ـ أقول : هذا كله على ممشاه : من أن سقوط الأصول عن الأطراف بالتساقط ، وهكذا على ممشانا : من مانعية العلم عن الجريان ولو بلا معارض ، لأنه فرع العلم بالتكليف ، وليس حتى مع سبق التكليف ، لان سبقه لا يجدي شيئا بعد عدم كون العلم إلا منجزا من حينه ، كما لا يخفى.

٩٤

وقد حكي أن شيخنا الأستاذ ـ مد ظله ـ كان في الدورة السابقة بانيا على هذا الوجه ولكن عدل عنه في هذه الدورة وأجاب عن الاشكال بما سيتلى عليك

قلت : العلم الاجمالي وإن كان بالنسبة إلى متعلقه لا يكون إلا كاشفا وطريقا ، إلا أنه بالنسبة إلى التنجيز وجريان الأصول في الأطراف وتعارضها وتساقطها يكون تمام الموضوع ، بداهة أنه قبل العلم الاجمالي بتعلق التكليف بأحد الأطراف لا تجري الأصول فيها لكي يقع التعارض بينها ، لان الأصول العملية إنما جعلت وظيفة للمتحير والشاك ، ولا شك مع عدم العلم الاجمالي ، فقبل العلم الاجمالي لا تجري الأصول النافية للتكليف في الأطراف ، وبعد العلم الاجمالي لا تعارض بينها ، لعدم جريان الأصل في الطرف المضطر إليه ، للقطع بعدم وجوب الاجتناب عنه ، ولا يعقل التعبد بما يكون محرزا بالوجدان ، فلم يبق إلا الطرف الآخر جاريا فيه الأصل بلا معارض. وقد عرفت في بعض المباحث السابقة التلازم بين تأثير العلم الاجمالي وتعارض الأصول.

فالأقوى : أنه لا فرق في عدم وجوب الاجتناب عن غير المضطر إليه بين سبق التكليف على الاضطرار وعدمه إذا كان العلم به بعد الاضطرار.

وقس عليه ما إذا كان العلم مقارنا للاضطرار ، لان العلم الاجمالي إنما يقتضي تنجيز التكليف الذي يمكن امتثاله والانبعاث عنه بعد العلم ، فالعلم المقارن للاضطرار لا يوجب التنجيز فلا تعارض بين الأصول ، وهو واضح.

هذا كله إذا كان الاضطرار إلى المعين قبل العلم الاجمالي أو مقارنا له.

وأما إذا كان بعد العلم الاجمالي ، فالأقوى فيه وجوب الاجتناب عن الطرف الغير المضطر إليه ، لان التكليف قد تنجز بالعلم الاجمالي فلابد من الخروج عن عهدته (١) وأقصى ما يقتضيه الاضطرار إلى المعين هو الترخيص فيما

__________________

١ ـ أقول : مجرد حدوث العلم الاجمالي بين الشيئين لا يوجب التنجز إلى الأبد ، لان كل طريق

٩٥

اضطر إليه ورفع التكليف عنه على تقدير أن يكون هو متعلق التكليف واقعا وهذا لا يوجب الترخيص فيما عداه ورفع التكليف عنه على تقدير أن يكون هو متعلق التكليف ، لان الضرورات تتقدر بقدرها ، فلا مجوز لارتكاب ما عدا المضطر إليه ، لا عقلا ولا شرعا.

أما عقلا : فلعدم جريان البراءة العقلية فيه ، لعدم تقبيح العقل مؤاخذة من خالف التكليف وارتكب الحرام المعلوم في البين تشهيا بلا اضطرار إليه.

وأما شرعا : فلتساقط الأصول النافية للتكليف بمجرد حدوث العلم الاجمالي ، وعروض الاضطرار لا يوجب رجوع الأصل في الطرف الغير المضطر إليه ، كما لا يوجب ذلك في الطرف الباقي عند تلف الآخر بعد العلم الاجمالي ، فالاضطرار إلى البعض بعد العلم الاجمالي كتلف البعض بعده لا يوجب سقوط العلم الاجمالي عن التأثير بعدما حدث مؤثرا.

__________________

عقلي أم شرعي إنما يوجب التنجز في آن وجوده ، ولا يؤثر في التنجز حتى في حال انعدامه ، كما أن سقوط الأصول بمناط المعارضة لا يقتضي سقوطها مطلقا حتى مع ذهاب المانع من البين ، وحينئذ هذا المقدار من البيان لا يجدي لاثبات وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر لا في المقام ولا في باب تلف مورد التكليف.

وما أفيد من الفرق : من عدم كون التلف حدا بخلاف الاضطرار ، قد حققنا بطلانه بأن ما هو ليس بحد نفس معروض التكليف لا متعلقه ، كيف وهو من قبيل شرط التكليف! فكيف لا يكون من حدوده؟ وبالجملة نقول : إنه لولا تشكيل العلم الاجمالي بين التدريجيين ومنجزيته لما يكاد إثبات منجز في البين من حين الاضطرار.

وربما يستفاد من بعض كلمات المقرر التزامه بمثل هذا العلم وتشبثه به في قوله : من « التكليف المردد بين المحدود وغير المحدود » خصوصا مع تمثله بالصلاة المزبورة ، فان أراد ما ذكرنا فلقد أجاد ، وإن أراد أن العلم بين المحدود وغير المحدود بمجرد الحدوث منجز إلى الأبد ، فهو أولى شيء ينكر ، فتدبر. والظاهر أنه أراد المعنى الأخير بقرينة إيراده على استاذنا الأعظم في فرقه بين الاضطرار بعد العلم في المعين وبين غير المعين ، وسيتضح ذلك ( إن شاء الله تعالى ) عند التعرض لكلامه.

٩٦

وهذا بخلاف ما إذا كان الاضطرار حاصلا قبل العلم الاجمالي ، فان العلم فيه يحدث قاصرا عن التأثير ، فلا يقاس أحدهما بالآخر ، بل حق القياس أن يقاس الاضطرار قبل العلم الاجمالي بتلف البعض قبله ، والاضطرار بعد العلم الاجمالي بتلف البعض بعده.

وما قيل في المقام : من الفرق بين تلف البعض بعد العلم والاضطرار إليه بعده ، من أن تلف موضوع التكليف ليس من حدود التكليف وقيوده الشرعية ، بل سقوط التكليف بتلف الموضوع إنما هو لأجل انعدام الموضوع وقواته ، فالمعلوم بالاجمال من أول الامر هو التكليف المطلق الغير المقيد شرعا بعدم تلف الموضوع ، وقد تنجز التكليف المطلق بالعلم الاجمالي ، فلابد من الخروج عن عهدته بترك التصرف في الطرف الباقي ، وهذا غير الاضطرار إلى موضوع التكليف ، فان التكليف من أول الامر محدود شرعا بعدم عروض الاضطرار إلى متعلقه ، فلا موجب لتنجز التكليف مطلقا حتى مع حصول الاضطرار الذي اخذ حدا للتكليف شرعا ، لأنه لا يقين باشتغال الذمة بالتكليف إلا إلى هذا الحد ، فلا يجب رعاية التكليف بعد الحد.

واضح الفساد : فإنه لا فرق في تأثير العلم الاجمالي واقتضائه التنجز بين أن يتعلق بالتكليف المطلق الغير المحدود شرعا وبين أن يتعلق بالتكليف المردد بين المحدود وغير المحدود مع تعدد المتعلق ، كما إذا علم إجمالا بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة ، فإنه لا ينبغي التأمل في تأثير العلم الاجمالي في وجوب صلاة الظهر بعد انقضاء ساعة من الزوال ، مع أن العلم الاجمالي قد تعلق بالتكليف المردد بين المحدود وغيره ، فان التكليف بصلاة الظهر لا حد لآخره شرعا بل يمتد وقته إلى آخر العمر ، لثبوت القضاء فيها ، بخلاف صلاة الجمعة ، فان التكليف بها محدود شرعا إلى انقضاء ساعة من الزوال ، ولا فرق بين انقضاء الساعة في المثال وبين عروض الاضطرار إلى المعين فيما نحن فيه ، لان كل من الساعة

٩٧

والاضطرار جعل حدا للتكليف شرعا.

فدعوى : أن العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين المحدود وغيره لا يقتضي التنجيز ، مما لا سبيل إليها.

نعم : تصح هذه الدعوى مع وحدة متعلق العلم ، كما لو علم بوجوب إكرام زيد وتردد بين اليوم واليومين ، فإنه في مثل ذلك يمكن أن يقال : بعدم وجوب الاكرام في اليوم الثاني وجريان البراءة عنه إن لم نقل بجريان استصحاب وجوب الاكرام الثابت في اليوم الأول.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن الاضطرار إلى المعين لا يرفع تأثير العلم الاجمالي بالنسبة إلى الطرف الآخر إذا كان طرو الاضطرار بعد العلم.

وأما الاضطرار إلى غير المعين ، فالأقوى فيه وجوب الاجتناب عما عدا ما يدفع به الاضطرار مطلقا في جميع الصور ، سواء كان الاضطرار قبل تعلق التكليف بأحد الأطراف أو بعده ، وسواء كان قبل العلم به أو بعده أو مقارنا له ، فان الاضطرار إلى غير المعين يجتمع مع التكليف الواقعي ولا مزاحمة بينهما ، لامكان رفع الاضطرار بغير متعلق التكليف (١) مع قطع النظر عن العلم والجهل

__________________

١ ـ أقول : لا يخفى أن الاضطرار بغير المعين إنما يجتمع مع التكليف بالمعين ما لم يزاحم هذا التكليف بتكليف آخر ولو عقليا ظاهريا ، إذ حينئذ يلزم العقل بجعل الاضطرار في غير مورد التكليف ، فيؤثر التكليف بلا مزاحم في إيجاد متعلقه.

وأما لو كان في البين إلزام آخر ـ ولو ظاهريا ـ لا مجال لالزام العقل بجعل الاضطرار في الطرف الآخر ، فللمكلف جعل اضطراره في مورد التكليف ، ففي هذه الصورة يزاحم الاضطرار مورده ، ولازم ذلك صلاحية مثل هذا الاضطرار لرفع اليد عن التكليف الواقعي ، غاية الامر لا مطلقا بل مشروطا باختيار ترك الآخر ، ونتيجة ذلك عدم بقاء الواقع على فعليته المطلقة ، بل قهرا يبقى للواقع تكليف توسطي بين ثبوته في الواقع بقول مطلق وبين نفي التكليف رأسا ، ولازمه جواز ترك الموافقة القطعية وإن قلنا بعلية العلم الاجمالي ، وذلك من جهة نقص في المعلوم ، لا في العلم ، وحينئذ ليست المسألة من صغريات ذلك البحث ، كما لا يخفى.

٩٨

الطاري ، بل لولا الجهل بشخص متعلق التكليف لكان يتعين رفع الاضطرار بغيره ، فالاضطرار إلى غير المعين قبل العلم بالتكليف ـ بل قبل تعلق التكليف بأحد الأطراف ـ كلا اضطرار ، لا يوجب التصرف في الواقع ولا يصادم متعلق التكليف ولا تقع المزاحمة بينهما إلا بعد العلم بتعلق التكليف بأحد الأطراف والجهل بشخصه (١) فإنه في هذا الحال لا يمكن التكليف برفع الاضطرار بغير

__________________

١ ـ أقول : مع الغض عما ذكرنا في الحاشية السابقة وقلنا : بأن الاضطرار الغير المعين غير مصادف واقعا لمورد التكليف رأسا ، بل العلم الاجمالي بالتكليف المطلق باق مع الاضطرار المزبور ، ولكن الاشكال أيضا في أن الاضطرار الناشي عن الجمع بين المحتملين لا يصلح إلا لرفع الحكم بلزوم الجمع بينهما الذي هو عبارة أخرى عن الحكم بوجوب الموافقة القطعية ، وهذا الحكم في طول الحكم الواقعي ، ولا مساس له به ، وإنما الكلام في أن الترخيص الاضطراري على ترك الجمع ورفع اليد عن الموافقة القطعية مع بقاء الواقع على إطلاق فعلية في موضوعه إنما يتم بناء على كون العلم الاجمالي بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعية مقتضيا ، إذ حينئذ يجمع بين الترخيص الاضطراري عن الجمع بين المحتملين وفعلية الواقع المعلوم على ما هو عليه بنحو يجمع بين الاحكام الواقعية والظاهرية في غير مقام بلا مضادة بينهما أصلا.

وأما لو بنينا على علية العلم الاجمالي حتى بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعية ـ بمعنى كون حكم العقل في طرف قيام الطريق على التكليف حكما تنجيزيا بلزوم تحصيل الجزم بالفراغ ـ فلا شبهة في أن الترخيص الظاهري ولو بمناط الاضطرار في ترك الموافقة القطعية غير معقول ، لان في ظرف العلم بالتكليف حكم العقل بلزوم الموافقة القطعية لا يكاد تناله يد الجعل منعا وإثباتا ، وحينئذ فلو ورد في البن ترخيص بعنوان الاضطرار على ترك الموافقة ، فلا محيص من أن يكون ذلك برفع اليد عن منشأه من فعلية الواقع على تقدير المصادفة مع مورد الترخيص ، وحينئذ يبقى مجال توهم أن العلم الاجمالي بتكليف فعلي على تقدير دون تقدير لا يصلح للتنجيز ، كما هو الشأن في الاضطرار إلى المعين ، قيل وإلى ذلك نظر استاذنا الأعظم ، لا إلى مجرد المضادة بين الاحكام الظاهرية والواقعية ، كي يرد عليه بمنع تكفل الخطاب للمرتبة المتأخرة عن جهله ، وما أبدى في حاشية الكفاية أيضا : من الفرق بين الاضطرار بعد العلم وقبله إنما هو في الدورة الأخيرة حيث أوردنا عليه بالعلم بين التدريجيين ، وهو غير مرتبط بما أفاد في المقام في وجه المضادة ، ولا مرتبط بمقام كلية المضادة بين الاحكام الظاهرية والواقعية ، بل لو بنينا على عدم المضادة لابد وأن نلتزم بالمضادة في المقام على المختار : من علية العلم الاجمالي للتنجيز ، وحينئذ

٩٩

متعلق التكليف ، لعدم العلم بشخصه ، ومن الممكن أن يصادف ما يدفع به الاضطرار لمتعلق التكليف.

والحاصل : أنه فرق بين بين الاضطرار إلى المعين والاضطرار إلى غير المعين ، فان الاضطرار إلى المعين يزاحم التكليف الواقعي بنفس وجوده إذا صادف كون متعلق التكليف هو المضطر إليه ، ولا تتوقف المزاحمة بينهما على العلم بالتكليف والجهل بموضوعه ، بل تدور المزاحمة مدار واقع المضطر إليه ، فان كان هو متعلق التكليف فلا محالة تقع المزاحمة بينهما ويسقط التكليف بسببه ، ولذا كان العلم الحاصل بعد الاضطرار إلى المعين لا يقتضي التنجيز ، لاحتمال أن يكون المضطر إليه هو متعلق التكليف.

وهذا بخلاف الاضطرار إلى غير المعين ، فإنه بوجوده الواقعي لا يزاحم التكليف ، لأنه لا يتعين رفع الاضطرار بمتعلق التكليف لامكان رفع الاضطرار بغيره.

والذي يدلك على ذلك ، هو أنه لو علم بمتعلق التكليف في حال الاضطرار ، فالواجب رفع الاضطرار بغيره ، بخلاف الاضطرار إلى المعين ، فان العلم بالمتعلق لا يزيد شيئا إذا اتفق كون المضطر إليه هو متعلق التكليف.

__________________

فتوجه كلامه بما ذكر توجيه بما لا يرضى صاحبه في خصوص المقام ، إذ ليس نظره في وجه المضادة المزبورة إلى كلية المضادة بين الحكم الظاهري والواقعي ، فتدبر تعرف حقيقة مرامه.

نعم : الذي يرد عليه هو أن الترخيص التنجيزي لا تضاد الحكم الواقعي حتى في ظرف المضادة مع فعلية الواقع بقول مطلق ، وإنما يضاد إطلاق فعليته ، وذلك لا ينافي مع العلم بالتكليف الناقص الحافظ للمتعلق بمرتبة منه بالنسبة إلى الطرفين ، ومثل هذا العلم لا يقتضي إلا الفرار عن المخالفة القطعية ، ولا يقتضي وجوب الموافقة القطعية.

ومما ذكرنا تعرف أن ما وجهه المقرر في وجه لزوم الاجتناب عن الآخر إنما يتم على مسلكه : من بقاء الحكم الواقعي على فعليته المطلقة ، بناء على مختاره من كون العلم مقتضيا بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، وإلا فبناء على مسلكنا ، فلا يتم إلا ما ذكرنا من العبارتين ، فتدبر تعرف.

١٠٠