فوائد الأصول - ج ٤

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٢

__________________

المعنى من الكشف النوعي مناط الحجية ، ولازمه كون ما هو الأقوى ظهورا هو المقدم في الحجية ، ولذا نقول : بان وجه الترجيح في باب الجمع بين الظهورين المنفصلين هو الأقوائية في الظهور الذي هو مناط الحجية. وحينئذ فلو فرض وجود الأقوى في البين ورجحنا جانب الأقوى لا ينثلم المناط في الآخر مع انفصال الراجح ، وعليه : فلو فرض وجود معارض آخري أقوى ظهورا من هذا الظهور أيضا أو مساويا له لا يصلح لتقديم الأضعف على ما هو الأقوى بمحض انقلاب النسبة وصيرورة مقدار حجيته أخص من هذا الظهور ، إذ تقديم أخص الحجتين ليس تحت تعبد مخصوص كي يقال بصدق هذا المعني بينهما في مقدار الحجية ، بل وجه التقديم حسب اقوائية ظهور الأخص من حيث مناط الحجية ، وهذا المعنى لا يكاد ينثلم بمحض عدم حجية العام إلا فيما هو أخص مضمونا من الآخر مع كونه أضعف ظهورا في أصل ظهوره الذي هو مناط حجيته.

وتوهم : لزوم ملاحظة النسبة بين الحجتين لا بين الدليلين وبين ما لايكون حجة جزما ، مدفوع : بان ما أفيد في غاية المتانة ، ولكن عمدة الكلام في أن مجرد عمومية النسبة وخصوصيته لا يكون تعبدا مناط الترجيح ، وإنما المناط فيه اقوائية دلالة الأخص مضمونا على الأعم ، وهذا المعنى في المقام غير موجود ، وذلك : لان نتيجة تقديم أحد المنفصلين على الآخر ليس إلا قصر حجيته ببعض مدلوله ورفع اليد عنها عن البعض الآخر ، ومن البديهي : ان قصر حجيته ببعض المدلول لا يوجب اقوائية دلالة الدليل ، لان ظهوره في مقدار الحجية انما هو بعين ظهوره في التمام ، والمفروض : ان هذا الظهور أضعف من غيره ، فكيف يقدم مقدار الحجية حينئذ على ما هو أقوى منه دلالة بمحض أخصية نسبته؟ نعم : لو كان ذلك الأخصية حاصلة من قرينة متصلة كان لتقديمه على غيره مجال ، لانقلاب أصل الظهور ، وأين هذا والقرائن المنفصلة الغير الكاسرة لصولة الظهور! وإنما هي كاسرة لحجيته الغير الموجب لتغيير دلالته ، لبقاء الدلالة فيه على ما كان قوة وضعفا ، كما لا يخفى.

وحيث اتضح لك المرام ، فنقول :

اما الفرع الأول : فحكمه واضح كما أفيد مع اتمامه بأنه لو رجح الخاصين فيطرح العام ويعمل بالخاصين لو لم يكن بينهما معارضة ذاتا ، كما في المثال. ولو رجح العام سندا تقع معارضة عرضية بين الخاصين ، فيحتاج أيضا إلى ترجيح آخر. وإن كان بين الخاصين أيضا معارضة ذاتية ، فلابد من اعمال الترجيح بينهما أولا ، ثم تخصيص العام بالراجح ، ولا وجه لأعمال الترجيح في العام حينئذ ، لأنه فرع معارضة الخاصين معه ، والمفروض : ان وجود الترجيح بينهما توجب قصر الحجية بأحدهما ، فلا يصلح الآخر للمعارضة مع العام ولو بضمه بغيره ، بل المعارض للعام ليس إلا الراجح ، والمفروض : انه

٧٤١

الصورة الأولى : ما إذا ورد عام وخاصان متباينان ، كما إذا قام دليل على وجوب إكرام النحويين ، ودليل آخر على عدم وجوب إكرام الكوفيين من النحويين ، وقام دليل ثالث على عدم وجوب إكرام البصريين منهم ، فان النسبة بين كل من قوله : « لا تكرم الكوفيين » و « لا تكرم البصريين » وبين قوله : « أكرم النحويين » هي العموم المطلق ، والنسبة بين قوله : « لا تكرم الكوفيين » وبين قوله : « لا تكرم البصريين » هي التباين ، ولا إشكال في تخصيص العام بكل من الخاصين إذا لم يلزم منه التخصيص المستهجن أو بقاء العام بلا مورد ، وإلا فيقع التعارض بين العام ومجموع الخاصين ، كما إذا قام دليل على وجوب إكرام العلماء ، وقام دليل آخر على عدم وجوب إكرام فساق العلماء ، وقام دليل ثالث على كراهة إكرام عدول العلماء ، فإنه لو خصص قوله : « أكرم العلماء » بكل من قوله : « لا تكرم فساق العلماء » وقوله : « يكره إكرام عدول العلماء » يبقى العام بلا مورد ، ففي مثل ذلك لابد من معاملة التعارض بين

__________________

أقوى دلالة من العام ، فيقدم عليه جمعا.

واما الفرع الثاني : ففي الفرض المذكور لا يتصور عدم صلاحية العام لتخصيصهما ، إلا من جهة عدم صلاحية الأعم من الخاصين لتخصيصه ، وإلا فمع صلاحيته فيلازم ذلك لصلاحية الأخص منه للتخصيص أيضا ، ففي مثل هذا الفرض لا محيص من تخصيص العام بالأخص من الخاصين ويرجع إلى المرجحات السندية بين العام والخاص الأعم ، بل وعلى مختاره من الانقلاب لابد وان يلاحظ النسبة بين العام المخصص والأعم من الخاصين. وليس هنا مجال دعوى : ان نسبة العام لكل واحد من الخاصين على السوية ، إذ المفروض : ان العام بالنسبة إلى مقدار مدلول الأعم نص غير قابل للتخصيص ، فما هو قابل له ليس إلا الأخص من الخاصين ، فكيف يلاحظ العام مع مجموع الخاصين كي ينتهي إلى ما ذكر من النتيجة؟ فما أفيد في المقام حينئذ لا يخلو عن اغتشاش. ومما ذكرنا في الحاشية السابقة أيضا ظهر بطلان توهم مدارية انقلاب النسبة بعد التخصيص بمنفصل آخر ، كما لا يخفى. وحينئذ فقوله في ذيل هذا الفرع : من مرجعية النسبة الحاصلة بعد التخصيص ، كلام ظاهري كما تقدم وجهه مستوفى ، فتدبر.

٧٤٢

العام ومجموع الخاصين ، وذلك واضح.

الصورة الثانية : ما إذا ورد عام وخاصان مع كون النسبة بين الخاصين العموم المطلق ، كقوله : « أكر العلماء » و « لا تكرم النحويين منهم » و « لا تكرم الكوفيين من النحويين ». وحكم هذا القسم حكم القسم السابق : من وجوب تخصيص العام بكل من الخاصين إن لم يلزم التخصيص المستهجن أو بقاء العام بلا مورد ، وإلا فيعامل مع العام ومجموع الخاصين معاملة التعارض.

وقد يتوهم في هذا القسم : أن العام يخصص بأخص الخاصين ، وبعد ذلك تلاحظ النسبة بين الباقي تحت العام وبين الخاص الآخر ، فقد تنقلب النسبة إلى العموم من وجه بعدما كانت قبل تخصيص العام بأخص الخاصين العموم المطلق ـ كالمثال ـ فإنه بعد تخصيص قوله : « أكرم العلماء » بما عدا الكوفيين من النحويين ـ الذي هو أخص الخاصين ـ تصير النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم النحويين » العموم من وجه ، لان النحوي يعم الكوفي وغيره ، والعالم الغير الكوفي يعم النحوي وغيره ، فيتعارضان في العالم النحوي غير الكوفي.

هذا ، ولكن لا يخفى فساد التوهم ، فإنه لا وجه لتخصيص العام بأخص الخاصين أولا ، ثم تلاحظ النسبة بين الباقي تحت العام وبين الخاص الآخر ، مع أن نسبة العام إلى كل من الخاصين على حد سواء ، فاللازم تخصيص العام بكل منهما دفعة واحدة إن لم يلزم منه المحذور المتقدم ، وإلا فيقع التعارض بينه وبين مجموع الخاصين.

نعم : لو كان أخص الخاصين متصلا بالعام كانت النسبة بين العام المتصل به الأخص وبين الخاص الآخر العموم من وجه ، كما ورد في المثال قوله : « أكرم العلماء غير الكوفيين من النحويين » فان النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم النحويين » العموم من وجه ، لان النسبة إنما تلاحظ بين الكلامين بما لهما من الخصوصيات المحتفة بهما ، فان لحاظ النسبة إنما يكون بين الظهورات

٧٤٣

الكاشفة عن المرادات ، وللخصوصيات دخل في انعقاد الظهور ، فالفرق بين المخصص المتصل والمنفصل مما لا يكاد يخفى.

وكما أن النسبة بين العام المتصل به الأخص وبين الخاص الآخر تكون العموم من وجه ، كذلك تكون النسبة بين العام الفوق الذي لم يتصل به الخاص لو كان وبين الخاص الآخر العموم من وجه ، كما لو فرض أنه قال : « أكرم العلماء » ثم قال : « أكرم العلماء الغير الكوفيين » ثم قال : « لا تكرم النحويين » فإنه كما يقع التعارض بين قوله : « أكرم العلماء غير الكوفيين » وبين قوله : « لا تكرم النحويين » لان النسبة بينهما العموم من وجه ، كذلك يقع التعارض بين قوله : « أكرم العلماء » وبين قوله : « لا تكرم النحويين » ، فان النحوي الكوفي كما يكون خارجا عن عموم قوله : « أكرم العلماء غير الكوفيين من النحويين » كذلك يكون خارجا عن قوله : « أكرم العلماء » فان العام بعد تخصيصه بالمتصل أو المنفصل يخرج عن كون كبرى كلية ويكون معنونا بما عدا الخاص ، فالكوفي من النحوي يكون خارجا عن عموم قوله : « أكرم العلماء » لا محالة ، لاتفاق العام المخصص بالمتصل والخاص الآخر على خروجه وعدم وجوب إكرامه ، فلا يمكن أن يبقى عموم قوله : « أكرم العلماء » على حاله ، بل لابد من أن يكون المراد منه العالم الغير الكوفي من النحويين ، فتكون النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم النحويين » العموم من وجه.

وتوهم : أن قوله : « أكرم العلماء » كما يكون معنونا بغير الكوفي من النحويين كذلك يكون معنونا بغير النحوي مطلقا ، فان النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم النحويين » العموم مطلقا ، وإن كانت النسبة بين العام المتصل به الخاص وبين قوله : « لا تكرم النحويين » العموم من وجه

فاسد ، فان قوله : « لا تكرم النحويين » لا يمكن أن يعنون قوله : « أكرم العلماء » ويخصصه بما عدا النحوي ، لكونه معارضا بقوله : « أكرم العلماء غير

٧٤٤

الكوفيين من النحويين ) والدليل المبتلى بالمعارض لا يمكن أن يعنون العام ويصير مخصصا له. وأما تخصيص العام بما عدا الكوفي من النحويين : فهو مما لا محيص عنه ، لتوافق الأدلة على عدم وجوب إكرامه ، فلا محالة يكون خارجا عن عموم قوله : « أكرم العلماء » فتنقلب النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم النحويين » إلى العموم من وجه.

الصورة الثالثة : ما إذا ورد عام وخاصان وكانت النسبة بين الخاصين العموم من وجه ، كما إذا قال : « أكرم العلماء » ثم قال : « لا تكرم النحويين » وقال أيضا : « لا تكرم الصرفيين » ولا إشكال في تخصيص العام بكلا الخاصين ، فيكون مجمع تصادق الخاصين وهو الصرفي النحوي موردا لكلا الخطابين (١).

الصورة الرابعة : ما إذا ورد عامان من وجه وخاص ، فان كان مفاد الخاص إخراج مورد افتراق أحد العامين تنقلب النسبة إلى العموم المطلق ، كما إذا ورد بعد قوله : « أكرم النحويين ولا تكرم الصرفيين » قوله : « ويستحب إكرام النحوي غير الصرفي » فإنه حينئذ يختص قوله : « لا تكرم النحويين » بالنحويين من الصرفيين ، فتنقلب النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم الصرفيين » إلى العموم المطلق. وإن كان مفاد الخاص إخراج مورد الاجتماع تنقلب النسبة بين العامين إلى التباين ، كما إذا قال في المثال : « ويستحب إكرام الصرفي من النحويين » فإنه على هذا يختص قوله : « لا تكرم الصرفيين » بما عدا النحويين ، ويختص قوله : « لا تكرم النحويين » بما عدا الصرفيين ، فتكون النسبة بينهما التباين.

فظهر : أنه إذا كان بين الدليلين العموم من وجه ، فتارة : تنقلب النسبة إلى

__________________

١ ـ أقول : ومع عدم إمكان تخصيصه بهما يرجع إلى التفصيل المزبور الذي أشرنا إليه في الفرع الأول.

٧٤٥

العموم المطلق إذا قام دليل ثالث على إخراج مادة افتراق أحدهما عن الآخر وأخرى : تنقلب النسبة إلى التباين إذا كان مفاد الدليل الثالث إخراج مادة الاجتماع (١).

الصورة الخامسة : ما إذا ورد دليلان متعارضان بالتباين ، فقد يرد دليل آخر يوجب انقلاب النسبة من التباين إلى العموم المطلق ، وقد يوجب انقلابها إلى العموم من وجه.

فالأول : كقوله : « أكرم العلماء » وقوله : « لا تكرم العلماء » ثم ورد دليل ثالث وأخرج عدول العلماء عن قوله : « لا تكرم العلماء » فتنقلب النسبة بينه وبين قوله : « أكرم العلماء » إلى العموم المطلق. ومن هذا القبيل الأدلة الواردة في إرث الزوجة ، فان منها ما تدل على أنها ترث من العقار مطلقا ، ومنها ما تدل على عدم إرثها مطلقا ، ومنها ما تدل على إرثها إن كانت أم ولد.

والثاني : ما إذا ورد دليل رابع في المثال وخص قوله : « أكرم العلماء » بالفقهاء ، فان النسبة بين قوله : « أكرم العلماء » بعد تخصيصه بالفقهاء وبين قوله : « لا تكرم العلماء » بعد تخصيصه بما عدا العدول ، هي العموم من وجه.

هذا كله في انقلاب النسبة بين الدليلين. ومنه يظهر : انقلاب النسبة بين أكثر من دليلين ، كقوله : « أكرم العلماء » و « لا تكرم الفساق » و « يستحب إكرام الشعراء » فان النسبة بين الأدلة الثلاثة هي العموم من وجه. فقد تنقلب إلى التباين ، كما إذا ورد دليل وأخرج مورد الاجتماع ـ وهو العالم الفاسق الشاعر ـ عن مفاد الأدلة الثلاثة ، فتنقلب النسبة بين الأدلة إلى التباين بلا معارضة. وقد تنقلب النسبة إلى العموم المطلق ، كما إذا أخرج الدليل الرابع مورد الافتراق عن أحد الأدلة الثلاثة ، فتصير النسبة بينه وبين الآخرين العموم

__________________

١ ـ أقول : قد عرفت انقلاب هذه النسبة لا يكون مدارا في العمل أصلا.

٧٤٦

المطلق. وقد تنقلب النسبة إلى التباين مع المعارضة بينهما ، كما إذا أخرج الدليل الرابع مورد الافتراق عن جميع الأدلة الثلاثة ، فيقع التعارض بينها ، لان مجمع العناوين يكون مورد النفي والاثبات ، فتأمل فيما تمر عليك من الأمثلة وكيفية انقلاب النسبة بينها.

وقد أشرنا إلى الوجه في انقلاب النسبة في مثل هذه الموارد ، وحاصله : أن ملاحظة النسبة بين الأدلة إنما هي لأجل تشخيص كونها متعارضة أو غير متعارضة ، وقد تقدم : أن تعارض الأدلة إنما هو لأجل حكايتها وكشفها عما لا يمكن جعله وتشريعه لتضاد مؤدياتها ، فالتعارض بين الأدلة إنما يكون بمقدار كشفها وحكايتها عن المراد النفس الأمري. ومن الواضح : أن تخصيص العام يقتضي تضييق دائرة كشفه وحكايته (١) فان التخصيص يكشف لا محالة عن عدم كون عنوان العام تمام المراد ، بل المراد هو ما وراء الخاص ، لان دليل الخاص لو لم يكشف عن ذلك يلزم لغوية التعبد به وسقوطه عن الحجية ، فلازم حجية دليل المخصص هو سقوط دليل العام عن الحجية في تمام المدلول وقصر دائرة حجيته بما عدا المخصص. وحينئذ لا معنى لجعل العام بعمومه طرف النسبة ، لان النسبة إنما يلاحظ بين الحجتين ، فالذي يكون طرف النسبة هو

__________________

١ ـ أقول : بعد كون المدار في باب الألفاظ على الكشف النوعي بشهادة حجيتها حتى مع الظن الغير المعتبر على الخلاف ، كيف يقتضي تقديم حجة أخرى منفصلة عنه تضيق دائرة كشفه النوعي؟ إذ غاية ما يقتضيه الحجة الأخرى عدم مرادية المدلول واقعا ، وهذا المعنى لا ينافي مع بقاء كشفه النوعي الحاصل لولا هذا الدليل ، كما أن كسر صولة حجية العام ببعض مدلوله الذي هو نتيجة تقديم دليل آخر عليه لا يقتضي قوة دلالته وكشفه ، لان الحكم بالحجة لا يغير الدلالة قوة وضعفا ، فالمقدار من دلالة الدليل الذي هو تحت الحجية هو الموجود في ضمن تمام الدلالة ، ومن البديهي : ان هذا الموجود الضمني بحجيته وعدمها لا يستفيد قوة وضعفا ، بل يبقى على ما كان عليه من قوته وضعفه قبل الحجية ولولاها ، ولذا قلنا بأنه لا معنى لمدارية انقلاب النسبة بهذا المعنى ، ولعمري! لو تأملت فيما ذكرنا ترى منتهى الغرابة في كلامك لا كلام الغير!.

٧٤٧

الباقي تحت العام الذي يكون العام حجة فيه ، فلو خصص أحد العامين من وجه بمخصص متصل أو منفصل يسقط عن الحجية في تمام المدلول ويكون حجة فيما عدا عنوان الخاص ، فتلاحظ النسبة بينه بمقدار حجيته وبين العام الآخر ، ولا محالة تنقلب النسبة من العموم من وجه إلى العموم المطلق.

وبالجملة : انقلاب النسبة بين الأدلة إنما يكون من ثمرات تقديم الخاص على العام وحكومة أصالة الظهور فيه على أصالة الظهور في العام. وبذلك يظهر ضعف ما قيل : من أن النسبة بين الأدلة إنما تكون بما لها من الظهورات والمخصص المنفصل لا يزاحم الظهور وإنما يزاحم الحجية ، فالتخصيص بالمنفصل لا يوجب انقلاب النسبة.

هذا ، والانصاف : أن هذا الكلام بمكان من الغرابة ، فإنه لا معنى لملاحظة النسبة بين ظهور كلامين لا يجوز العمل على أحدهما ، فالقول بعدم انقلاب النسبة عند التخصيص بالمنفصل يساوق القول بعدم حجية المخصص المنفصل ، فتأمل جيدا.

تكملة :

ينبغي تتميم البحث في المقام بالإشارة إلى بيان النسبة بين أدلة ضمان العارية ، وقد كثر الكلام فيها. والأدلة الواردة في باب العارية على طوائف أربع :

منها : ما يدل بعمومه أو إطلاقه على عدم ضمان العارية مطلقا ، كرواية مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت أو سرقت أو ضاعت إذا كان المستعير مأمونا » (١).

__________________

١ ـ الوسائل : الباب ١ من أبواب أحكام العارية ، الحديث ١٠.

٧٤٨

ومنها : ما يدل على عدم الضمان إلا في عارية الدراهم ، كرواية عبد الملك عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « ليس على صاحب العارية ضمان إلا أن يشترط صاحبها ، إلا الدراهم ، فإنها مضمونة اشترط صاحبها أو لم يشترط » (١).

ومنها : ما يدل على عدم الضمان إلا في عارية الدنانير ، كرواية عبد الله بن سنان قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام « لا تضمن العارية إلا أن يكون قد اشترط فيها الضمان ، إلا الدنانير فإنها مضمونة وإن لم يشترط فيها ضمانا » (٢).

ومنها : ما يدل على عدم الضمان إلا في عارية مطلق الذهب والفضة ، كرواية إسحاق بن عمار عنه عليه‌السلام قال : « العارية ليس على مستعيرها ضمان ، إلا ما كان ذهب أو فضة فإنهما مضمونان اشترطا أو لم يشترطا » (٣).

وهذه الأدلة قد توافقت على عدم ضمان العارية إذا لم تكن من جنس الذهب والفضة ، إلا أن يشترط فيها الضمان.

وأما ما كان من جنس الذهب والفضة : فقد اختلفت فيها الروايات ، فظاهر إطلاق رواية « مسعدة بن زياد » عدم المضان فيهما أيضا ، ولكن لابد من الخروج عن هذا الاطلاق لتطابق بقية الأدلة على الضمان فيهما في الجملة. والنسبة بينها وبين رواية « مسعدة » العموم المطلق ، فلابد من تقييد إطلاق رواية « مسعدة » بما عدا جنس الذهب والفضة في الجملة.

وأما النسبة بين بقية الروايات : فهي قد اشتملت على عقد سلبي وعقد إيجابي ، فرواية « الدراهم » تنفي بعموم عقدها السلبي الضمان عما عدا الدراهم حتى الدنانير ، ورواية « الدنانير » تنفي بعموم عقدها السلبي الضمان عما عدا الدنانير حتى الدراهم ، والنسبة بين العقد الايجابي في كل منهما مع العقد السلبي

__________________

١ ـ الوسائل : الباب ٣ من أبواب أحكام العارية ، الحديث ٣.

٢ ـ الوسائل : الباب ٣ من أبواب أحكام العارية ، الحديث ١.

٣ ـ الوسائل : الباب ٣ من أبواب أحكام العارية ، الحديث ٤.

٧٤٩

في الآخر هي العموم المطلق ، فيجب تخصيص عموم العقد السلبي في كل منهما بما عدا مورد العقد الايجابي في الآخر ، فتصير النتيجة عدم الضمان إلا في عارية الدراهم والدنانير ويرتفع التعارض عنهما ، لان الروايتين تكون بمنزلة رواية واحدة تنفي الضمان عما عدا الدراهم والدنانير.

نعم : يبقى التعارض بينها وبين ما دل على الضمان في مطلق الذهب والفضة وإن لم يكونا مسكوكين ، فان مقتضى العقد السلبي في روايتي الدراهم والدنانير هو عدم الضمان في غير المسكوك من الذهب والفضة ، فيعارض مع ما دل على الضمان في مطلق الذهب والفضة.

وقد يقال : إن النسبة بينهما العموم المطلق ، فان ما يدل بعمومه على عدم الضمان أعم مطلقا مما دل على الضمان في الدراهم والدنانير ومما دل على الضمان في مطلق الذهب والفضة ، فيندرج المقام فيما تقدم : من أنه لو ورد عام وخاصان يجب تخصيص العام بكل من الخاصين ولو كانت النسبة بين الخاصين العموم المطلق ، كقوله : « أكرم العلماء » و « لا تكرم النحويين » و « لا تكرم الصرفيين من النحويين ».

وروايات الباب تكون كذلك ، فان فيها عاما ينفي الضمان عن عموم العارية ، وفيها خاصين :

أحدهما : إثبات الضمان في عارية الدراهم والدنانير.

وثانيهما : إثبات الضمان في مطلق الذهب والفضة ، فيكون أحد الخاصين أخص من الآخر.

ولازم ذلك تخصيص العام بكل من الخاصين ، فتكون النتيجة ضمان عارية مطلق الذهب والفضة سواء كانا من المسكوكين أو من غير المسكوكين.

وإلى ذلك يرجع حاصل كلام الشهيد رحمه‌الله على طوله.

٧٥٠

والمحكي عن الكفاية والرياض : أن النسبة بينهما هي العموم من وجه ، وقد أفادا في وجه ذلك بما لا تخلو عن إشكال.

ولذلك اعترض عليهما صاحب الجواهر قدس‌سره بأن إرجاع النسبة بينهما إلى العموم من وجه يقتضي التصرف في ألفاظ الروايات وتغيير عبارة الاخبار ، وإلا فبحسب ما يقتضيه ظاهر الاخبار هو كون النسبة بينهما العموم المطلق ، كما أفاده الشهيد رحمه‌الله.

هذا ، ولكن التحقيق أن النسبة بينهما العموم من وجه ، فان أخص الخاصين ـ وهو ما دل على ضمان عادية الدراهم والدنانير ـ متصل بالعام ، لان رواية الدراهم والدنانير قد اشتملت على عقد سلبي وعقد إيجابي ، ومفاد العقد السلبي هو عدم ضمان العارية ، ومفاد العقد الايجابي ضمان الدراهم والدنانير ، فيكون مفاد العقدين عدم الضمان إلا في عارية الدراهم والدنانير ، وقد تقدم : أنه لو كان أخص الخاصين متصلا بالعام تكون النسبة بينه وبين الخاص الآخر العموم من وجه

فان العقد السلبي في رواية الدراهم والدنانير بعمومه بدل على عدم ضمان الذهب والفضة الغير المسكوكين ـ كالحلي ـ والعقد الايجابي في رواية الذهب والفضة بإطلاقه يدل على ضمان الذهب والفضة الغير المسكوكين ، فيتعارضان ، ولابد إما من تخصيص عموم العقد السلبي في رواية الدراهم والدنانير بما عدا الذهب والفضة الغير المسكوكين ، وإما من تقييد إطلاق العقد الايجابي في رواية الذهب والفضة بخصوص المسكوكين.

ولا يتوهم : أنه بعد التعارض يرجع إلى عمومات عدم الضمان التي لم يتصل بها استثناء الدراهم والدنانير (١) فإنه قد تقدم أيضا أن تلك العمومات قد

__________________

١ ـ أقول : سيأتي ( إن شاء الله تعالى ) ان موارد العامين من وجه خارجة عن مصب اخبار

٧٥١

خصصت ـ ولو بالمنفصل ـ بما عدا الدراهم والدنانير ، فيكون حكمها حكم العام المتصل به الخاص في انقلاب النسبة بينها وبين الخاص الآخر إلى العموم من وجه ، ويكون الحلي الغير المسكوك موردا للنفي والاثبات.

هذا ، وربما يقال : إن تقييد إطلاق رواية الذهب والفضة بخصوص المسكوك منهما أولى من تخصيص عموم ما دل على عدم الضمان بما عدا الحلي الغير المسكوك ، فان قوله عليه‌السلام « ليس في العارية ضمان إلا الدراهم والدنانير » يدل على نفي الضمان في عارية الحلي بالعموم أو بما هو بمنزلة العموم ، فان النكرة في سياق النفي في قوة العموم ، وقد تقدم : أن تقييد الاطلاق أولى من تخصيص العموم إذا دار الامر بينهما.

هذا ، ولكن الانصاف : أن تقييد إطلاق رواية الذهب والفضة بخصوص المسكوك منهما يكون من التقييد بالفرد النادر المستهجن عرفا (١) فان عارية الدراهم والدنانير نادر جدا ، والغالب في عارية الذهب والفضة هو عارية الحلي الغير المسكوك ، لأنه هو الذي يستعار للزينة ، فحمل قوله عليه‌السلام « في عارية الذهب والفضة ضمان » على خصوص الدراهم والدنانير بعيد غايته يأباه أهل المحاورة.

__________________

الترجيح ، لان طرح مجموع المرجوح في مادة الافتراق لا وجه له ، لعدم مزاحم لسنده ، وطرح السند في خصوص مورد الاجتماع مما لا يساعد العرف على التبعيض في هذا السند ، بل المرجع فيه بالنسبة إلى مورد الاجتماع هو التساقط مع الاخذ به في مورد الافتراق. ولا يتوهم بان ذلك تبعيض للسند أيضا ، إذ فرق بين عدم شمول دليل الحجية إلا بمقدار الامكان وبين طرحه بأدلة الترجيح ، وهذا الذي لا يساعد العرف من التبعيض في عالم الطرح بترجيح الغير ، فتدبر.

ثم لو فرض كون المورد أيضا مصب اخبار الترجيح نقول بعد عدم انقلاب النسبة ـ كما حققناه ـ لا قصور في مرجحية العام على فرض إضرار انقلاب النسبة بمرجحية العام.

١ ـ أقول : بناء على إرجاع دلالة المطلقات إلى الدلالة العقلية لعدم البيان لا يبقى مجال لهذا الكلام ، فتدبر.

٧٥٢

فالأولى : تخصيص عموم ما دل على عدم الضمان بما عدا مطلق الذهب والفضة ، فان تقييد الاطلاق وإن كان أولى من تخصيص العموم ، إلا أنه إذا لم يلزم محذور التقييد بالفرد النادر ، وإلا فيقدم تخصيص العام على تقييد المطلق. فالأقوى : ثبوت الضمان في عارية مطلق الذهب والفضة ، كما هو المحكي عن المشهور ، فتأمل جيدا.

المبحث السابع

إذا لم يكن لاحد المتعارضين مزية في الدلالة تقتضي الجمع العرفي بينهما ، فهل الأصل يقتضي سقوطهما رأسا مع قطع النظر عن أخبار الترجيح والتخيير؟ أو أن الأصل لا يقتضي سقوطهما؟ والبحث عن ذلك تارة : يكون مبنيا على القول بالطريقية في الامارات ، وأخرى : يكون مبنيا على القول بالسببية فيها.

أما على القول بالطريقية : فقد يقال ، بل قيل : إن أدلة التعبد بالصدور تعم المتعارضين ، فيكون حكم مظنوني الصدور حكم مقطوعي الصدور في وجوب العمل بظاهرهما معا إن أمكن ، وإلا فيجمع بينهما ولو بضرب من التأويل ، وإن لم يمكن التأويل فيهما يحكم باجمالهما.

وفيه ـ أولا : أنه لا يجب التأويل في المقيس عليه وهو مقطوعا الصدور فضلا عن مظنوني الصدور ، فإنه لا دليل على وجوب التأويل وحملهما على خلاف ظاهرهما مع عدم مساعدة العرف وطريق المحاورة على ذلك. والقطع بالصدور لا يقتضي التأويل ، بل القطع بالصدور يلازم القطع بعدم إرادة المتكلم ظاهر كل منهما ، وأما استخراج المراد منهما بالتأويل : فهو ما لايقتضيه القطع بالصدور ، بل لابد من التوقف.

فما يظهر من الشيخ قدس‌سره من تسليمه وجوب التأويل في مقطوعي

٧٥٣

الصدور ليس على ما ينبغي.

وثانيا : سلمنا وجوب التأويل في مقطوعي الصدور ، ولكن قياس مظنوني الصدور على مقطوعي الصدور ليس في محله ، لان أدلة التعبد بالسند لا يمكن أن تعم المتعارضين ، فان معنى التعبد بالسند هو البناء على صدور الكلام بما له من الظهور في مؤداه ، والمفروض : أنه لا يمكن البناء على صدور كل من المتعارضين بما لهما من الظهور ، وأين هذا من مقطوعي الصدور اللذين لا تنالهما يد التعبد؟.

والحاصل : أن الكلام في إمكان التعبد بسند المتعارضين مع عدم العلم بصدورهما ، واستحالة ذلك بمثابة لا يكاد تخفى ، فإذا لم يمكن التعبد بهما معا فلا يعمهما أدلة الاعتبار ، ولا محيص حينئذ من سقوط كل منهما وعدم وجوب العمل بأحدهما. ولا سبيل إلى توهم وجوب الجمع بينهما ولو بحمل أحدهما أو كلاهما على خلاف الظاهر ، فان ذلك تصرف في الروايتين بلا برهان ، بل تأويل أحدهما وحمله على خلاف ظاهره ينافي التعبد بالسند ، لما عرفت : من أن حقيقة التعبد بالسند هو البناء على صدور الكلام بما له من الظاهر ، فحمله على خلاف الظاهر ينافي أدلة التعبد بالصدور.

فظهر : أن قولهم : « الجمع بين الدليلين أولى من الطرح » إن أريد به ما يعم التأويل والحمل على خلاف الظاهر ، فهو كلام شعري لا محصل له ولا يساعد عليه الدليل والاعتبار! فالأقوى : أن القاعدة في المتعارضين تقتضي سقوطهما معا ، سواء قلنا : إن التعارض يكون بين الظهورين أو قلنا : إنه يكون بين السندين أو قلنا : إنه يكون بين سند كل منهما وظهور الآخر ، فإنه على جميع التقادير أدلة اعتبار السند والظهور لا تعم المتعارضين ، لأنه لا يترتب على التعبد بصدور المتعارضين أثر سوى البناء على إجمالهما وعدم إرادة الظاهر في كل منهما ، ولا معنى للتعبد بصدور كلام تكون نتيجة التعبد إجمال الكلام.

نعم : يمكن التعبد بصدور كلام مجمل يقتضي إجمال كلام آخر ، كما لو ورد

٧٥٤

عقيب قوله : « أكرم العلماء » « لا تكرم بعض العلماء » وتردد البعض بين جميع أفراد العلماء ، فإنه لا مانع من التعبد بصدور قوله : « لا تكرم بعض العلماء » وإن كان أثر التعبد بصدوره إجمال قوله : « أكرم العلماء » فان هذا المقدار من الأثر يكفي في التعبد ، ففرق بين التعبد بمجمل يوجب إجمال ظاهر وبين التعبد بظاهر يوجب إجماله ، فان التعبد بالصدور في الأول لا محذور فيه ، بخلاف التعبد به في الثاني ، إذ لا معنى للتعبد بصدور ظاهر تكون نتيجة التعبد به إجماله وعدم جواز الاخذ بظاهره.

فالانصاف : أنه لا مجال لتوهم شمول أدلة حجية الخبر الواحد للخبرين المتعارضين معا حتى يجب تأويلهما ، فالأصل في المتعارضين السقوط ، ولكن بالنسبة إلى خصوص المؤدى (١).

وأما بالنسبة إلى نفي الثالث : فلا وجه لسقوطهما ، فان المتعارضين يشتركان في نفي الثالث بالدلالة الالتزامية فيكونان معا حجة في عدم الثالث.

وتوهم : أن الدلالة الالتزامية فرع الدلالة المطابقية وبعد سقوط المتعارضين في المدلول المطابقي لا مجال لبقاء الدلالة الالتزامية لهما في نفي الثالث ، فاسد (٢)

__________________

١ ـ أقول : الأولى جرى كلامه هذا بخصوص صورة يعلم بعدم صدور مضمون أحدهما واقعا ، واما لو فرض العلم الاجمالي بكذب أحد الخبرين في صدور الكلام من الامام عليه‌السلام مع احتمال مطابقة مضمونهما للواقع : ففي مثل هذه الصورة لا بأس بالأخذ بكليهما مع عدم اقتضاء كل منهما لنفي غيره ، كما هو الشأن في الأصلين المثبتين في طرفي العلم بمخالفة أحدهما للواقع. ولازم هذا القائل في الأصول التنزيلية بالتساقط إعمال التعارض والتساقط في مثله أيضا.

٢ ـ للمحقق الخراساني قدس‌سره كلام في حاشيته على الفرائد لا يخلو عن إشكال ، فإنه جعل نفي الثالث بأحدهما الغير المعين لا بهما معا ، ومنع عن حجية المتعارضين في الدلالة الالتزامية * بتقريب : ان الدلالة الالتزامية وإن لم تكن تتبع الدلالة المطابقية في الحجية بل إنما تتبعها في الوجود ، إلا ان دليل اعتبار السند إنما يعم الدلالة الالتزامية بتبع الدلالة المطابقية ، فان قوله « صدق العادل » انما يدل على نفي ما ينافي خبر العادل لأجل دلالته على وجوب تصديقه فيما أخبر به ، ولا يدل على تصديقه في نفي ما ينافي

٧٥٥

فان الدلالة الالتزامية إنما تكون فرع الدلالة المطابقية في الوجود لا في الحجية.

وبعبارة أوضح : الدلالة الالتزامية للكلام تتوقف على دلالته التصديقية أي دلالته على المؤدى ، وأما كون المؤدى مرادا : فهو مما لا يتوقف عليه الدلالة الالتزامية. فسقوط المتعارضين عن الحجية في المؤدى لا يلازم سقوطهما عن الحجية في نفي الثالث ، لان سقوطهما عن الحجية في المؤدى إنما كان لأجل التعارض ، وأما نفي الثالث : فلا معارضة بينهما ، بل يتفقان فيه ، فلو كان مفاد أحد المتعارضين وجوب الدعاء عند رؤية الهلال وكان مفاد الآخر حرمة الدعاء في ذلك الوقت ، فبالنسبة إلى نفي الكراهة والإباحة والاستحباب عن

__________________

خبر العادل في عرض دلالته على تصديقه فيما أخبر به ، بل وجوب تصديقه في الأول مترتب على وجوب تصديقه في الثاني ، فإذا فرضنا ان أدلة اعتبار السند لا تعم المتعارضين لم يبق مجال لحجيتهما في الدلالة الالتزامية ، فتأمل ، فان ما ذكر ١ لا يخلو عن مناقشة بل منع * * ( منه ).

* أقول : كلام استاذنا على مبناه في غاية المتانة ، إذ مبناه في حكمه بالتساقط إنما هو من جهة ان في المتعارضين لما نعلم بكذب أحدهما فلا يكاد يدخل المعلوم الكذب بنحو الاجمال تحت دليل التعبد ، فلا يكون داخلا فيه إلا غيره المشكوك إجمالا ، وحينئذ فبالنسبة إلى المدلول المطابقي كان من باب اشتباه الحجة بلا حجة ، فلا مجال للاخذ بواحد منهما ، بخلاف المدلول الالتزامي ، فإنه يؤخذ بما هو حجة في البين لعدم معارض له ، ولعمري! إنك لو تأملت في مسلكك في الأصول التنزيلية من عدم صلاحية دليل التنزيل لما هو معلوم المخالفة إجمالا ، لتصدق في المقام أيضا بان المعلوم المخالفة لا يكون حجة رأسا حتى في مدلوله الالتزامي ، فلا يtبقى لك المثبت له إلا أحدهما المشكوك في البين. نعم : بناء على عدم إضرار العلم الاجمالي بمخالفة أحدهما لشمول دليل التنزيل لكل منهما بمحض كونه مشكوكا تفصيلا ، لا بأس بالأخذ بكل منهما في نفي الثالث بلا إضرار العلم الاجمالي بكذب أحدهما في كونه مشمول دليل التعبد بالنسبة إلى ما لا يلزم منه مناقضة أو مخالفة عملية ، ولازم هذا المسلك الالتزام بجريان الأصول التنزيلية في طرفي العلم إذا لم يلزم منه محذور المخالفة العملية. فهذا المقرر لو أمعن النظر وفتح البصر! يرى التهافت بين مبانيه وبخلط بعضها ببعض ورميه في كل باب رميا بلا شعور.

* * أقول : وهذا الكلام الذي سمعنا منه مرارا صريح في تفكيكه بين المدلول المطابقي والالتزامي ، فكيف تنسب إليه عدم التفكيك؟.

٧٥٦

الدعاء عند رؤية الهلال يتوافقان.

نعم : إذا كان التعارض بينهما لأمر خارج من دون أن يكونا في حد أنفسهما متعارضين ، فلا يتوافقان في نفي الثالث أيضا ، كما إذا كان مفاد أحد الدليلين وجوب صلاة الظهر وكان مفاد الآخر وجوب صلاة الجمعة وثبت من الخارج عدم وجوب الصلاتين معا ، فان الدليلين في حد أنفسهما لا يكونان متعارضين ، لامكان تشريع وجوب كل من الصلاتين واقعا ، وإنما وقع التعارض بينهما لقيام الدليل من الخارج على عدم وجوب الصلاتين معا ، فالدليلان لا يشتركان في وجوب أحدهما في الجملة وعدم وجوب ما عداهما ، بل مفاد أحدهما وجوب خصوص فريضة الظهر ومفاد الآخر وجوب خصوص فريضة الجمعة ، وليس لكل منهما دلالة التزامية على عدم وجوب ما عدا المؤدى ، فلا مانع من سقوط كل منهما في إثبات المؤدى بالمعارضة والرجوع إلى البراءة عن وجوب فريضة.

نعم : لو كان مفاد الدليلين وجوب فريضة في اليوم واختلفا في تعيينها ، فلا يجوز الرجوع إلى البراءة ، لاشتراكهما في وجوب فريضة في الجملة ، فيلزم من الرجوع إلى البراءة طرح ما توافقا عليه. ولكن ليس مفاد الدليلين ذلك ، بل مفاد أحدهما وجوب خصوص صلاة الظهر ومفاد الآخر وجوب خصوص صلاة الجمعة ، فلم يتوافقا في وجوب فريصة. ولا عبرة بتحليل مفاد كل منهما إلى الجنس والفصل واشتراكهما في الجنس ، فان التحليل العقلي لا أثر له في باب الظهورات وما يستفاد من الألفاظ.

فتحصل : أن الدليلين إن كانا متعارضين في المؤدى بأنفسهما ، فهما يشتركان في نفي الثالث الخارج عن المؤديين ، أي يشتركان في نفي الأصل الجاري في المسألة لولا وجود المتعارضين. وإن كانا متعارضين لأمر خارج ، فلا يشتركان في نفي الثالث ، ويجوز الرجوع إلى الأصل الجاري في المسألة : من البراءة والاحتياط. وعلى كلا التقديرين : يتساقطان في المؤدى.

٧٥٧

هذا كله على القول بحجية الامارات من باب الطريقية.

وأما على القول بحجيتها من باب السببية : فحكم الامارات المتعارضة حكم الاحكام المتزاحمة في وجوب الاخذ بأحدها تخييرا إن لم يكن لاحدها مزية تقتضي تعين الاخذ به.

وظاهر إطلاق كلام الشيخ قدس‌سره أنه لا فرق في ذلك بين السببية التي توافق مذهب التصويب وبين السببية التي توافق مسلك التخطئة ، بل سوق كلامه يقتضي أن يكون محل البحث خصوص السببية التي توافق مسلك التخطئة.

وتوضيح الكلام في ذلك : هو أن السببية تستعمل بمعنيين :

أحدهما : ما ينسب إلى المعتزلة ، وهو أن قيام الامارة على وجوب شيء أو حرمته سبب لحدوث مصلحة أو مفسدة في المؤدى غالبة على ما هو عليه تقتضي وجوب المؤدى أو حرمته ، فيكون حال قيام الامارة على الشيء حال تعلق النذر به. وهذا المعنى من السببية لا ينطبق على مذهب المخطئة ، فإنه من أحد وجوه التصويب الذي استقر المذهب على بطلانه.

ثانيهما : ما ينسب إلى بعض الامامية ، وهو أن قيام الامارة على وجوب الشيء أو حرمته وإن لم يكن من العناوين المغيرة للمصلحة أو المفسدة ولا يقتضي وجوب المؤدى أو حرمته ، إلا أن في سلوك الامارة والتطرق بها مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع عند عدم إصابة الامارة له (١)

__________________

١ ـ أقول : قد ذكرنا في مسألة تزاحم الأصلين : من أن التصويب المناسب لمذهب المخطئة لا ينحصر بصورة الالتزام بالمصلحة السلوكية ، بل لو فرض قيام المصلحة بنفس العمل لا محيص من الالتزام بوجوب حقيقي في الرتبة المتأخرة عن الواقع ، كما أن الوجوب الواقعي الناشي عن المصلحة القائمة بالذات يستحيل ان يشمل مرتبة متأخرة عن نفسه ، فلا مضادة حينئذ بين الوجوبين ولا نعنى من التصويب الملائم مع المخطئة إلا هذا. وهذا المعنى من السببية أيضا لا أظن إجماعا ولا عقلا على خلافه ، وإنما الاجماع قام

٧٥٨

وهذا المعنى من السببية لا ينافي التخطئة ، فان المصلحة السلوكية في طول الواقع لا في عرضه ، فلم يجتمع في المؤدى مصلحتان أو حكمان متماثلان أو متضادان ، بل المؤدى بعد باق على ما هو عليه ، غايته أن في سلوك الامارة مصلحة تداركية ، فالسببية بهذا المعنى لا ترجع إلى التصويب ولا تنافي الطريقية. وقد تقدم في مبحث الظن : أن من التزم بالمصلحة السلوكية كالشيخ قدس‌سره لم يلتزم بها مطلقا ، بل إنما يلتزم بها في خصوص انفتاح باب العلم وتمكن المكلف من تحصيل الواقع ، لمكان قبح التعبد بالامارات مع تمكن المكلف من استيفاء المصلحة الواقعية ، فلابد وأن يكون في سلوك الامارات مصلحة تداركية. ونحن قد منعنا عن المصلحة السلوكية حتى في صورة انفتاح باب العلم وقلنا بكفاية مصلحة التسهيل في صحة التعبد بالامارات ولو مع تمكن المكلف من إدراك الواقع ، فراجع ما ذكرناه في مبحث الظن.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنه لو قلنا بالسببية التي توافق مسلك التصويب ، فاندراج الامارات المتعارضة في باب التزاحم واضح إذا كان التعارض لأجل تضاد المتعلقين ، كما إذا كان مفاد أحد الدليلين وجوب شيء وكان مفاد الآخر وجوب ضده.

وأما إذا كان التعارض لأجل اتحاد المتعلقين مع اختلاف الامارتين في السلب والايجاب (١) كما إذا كان مفاد أحد الدليلين وجوب الشيء ومفاد

__________________

على بطلان السببية بمعنى انحصار المصلحة بمؤدى الامارة بلا مصلحة أخرى صالحة للتأثير في وجوب الذات في الرتبة السابقة عن الامارة ، وربما يأبى العقل عن مثله أيضا ، كما لا يخفى ، فتدبر.

ومن العجب! جعله السببية الغير المناسب لمذهب المخطئة هو الذي ذكرنا : من تصوير المصلحتين في الذات وما قام به الامارة ، بخيال تزاحم المصلحتين في التأثير ، مع أن اختلاف الرتبة بين الاثرين مانع عن المزاحمة رأسا ، ولذا قلنا : بان هذه الصورة لها كمال المناسبة للمخطئة ، إذ مالا يناسب له انحصار المصلحة بما قام به الامارة بلا مصلحة في نفس الذات رأسا ، كما لا يخفى.

١ ـ أقول : الأولى في مقام استقصاء صور المسألة ان يقال : إن المصلحة القائمة بالشئ من جهة قيام

٧٥٩

الآخر عدم وجوبه أو حرمته ، ففي اندراج التعارض على هذا الوجه في صغرى التزاحم والقول بالتخيير في الاخذ بأحدهما إشكال بل منع ، لان أقصى ما تقتضيه الامارة هو أن تكون من العناوين الثانوية المغيرة لحسن الشيء وقبحه ، وتوارد العناوين الثانوية على متعلق واحد لا يقتضي التخيير ، ألا ترى؟ أنه لو نذر الشخص فعل شيء ونذر وكيله ـ بناء على صحة الوكالة في النذر ـ ترك الشيء لا يمكن القول بالتخيير في اختيار نذره أو نذر وكيله ، بحيث تلزمه الكفارة لو اختار أحدهما وخالفه ، بل لا محيص من سقوط كل من نذر نفسه ونذر وكيله ، ويرجع متعلق النذر إلى ما كان عليه قبل النذر ، فليكن حال الامارة المتعارضة في متعلق واحد بناء على القول بالسببية فيها حال النذر في التساقط. والذي يسهل الخطب بطلان أصل المبنى وفساده ، هذا إذا قلنا بالسببية التصويبية.

وإن قلنا بالسببية المخطئة : ففي اندراج الامارات المتعارضة في صغرى

__________________

الامارة تارة : قائمة بالذات مطلقا ، وأخرى : قائمة مشروطا بالأخذ بهذه الامارة. كما أن في الامارة القائمة على الإباحة تارة ، تكون الامارة موجبة لقيام مصلحة فيه مقتضية للترخيص فيه ، وأخرى : موجبة لعرائه عن كونه ذا مصلحة ، كما هو الشأن في الاباحات اللااقتضائية.

فان كانت موجبة لقيام المصلحة في المتعلق : فمع وحدة الموضوع وإطلاق المصلحة لا شبهة في تزاحم المقتضيين في أصل تشريع الحكم الفعلي على وفقه ، فمع التساوي ـ كما في المقام ـ ينتج الإباحة بمعنى التخيير بين الفعل والترك ، ومع مزية أحدهما فرضا ينشأ الحكم على وفقه ، وربما ينتهي إلى إنشاء الأحكام الخمسة. ومع تقيد المصلحة بالأخذ به في مقام العمل فلا شبهة في أن تساوي المصلحتين ـ كما هو الشأن في المقام ـ يقتضي عقلا التخيير عقلا في مقام العمل بالأخذ باي واحد منهما ، إذ لا يمكن الاخذ بكليهما. ومع تزاحم الخبرين في اقتضاء المصلحة واقتضاء عدمها ـ كما في التعارض بين الوجوب والإباحة ـ فمع إطلاقهما ينتج الإباحة اللااقتضائية ، ومع اشتراطهما بالأخذ كان أيضا مخيرا بين الاخذ بذي المصلحة فيصير واجبا وبين الاخذ بالامارة الدالة على الإباحة فيصير مباحا لا اقتضائيا في حقه ، كما لا يخفى.

٧٦٠