فوائد الأصول - ج ٤

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٢

في ذي القرينة ولو كان ظهور القرينة أضعف من ظهور ذيها ، كما يظهر ذلك من قياس ظهور « يرمي » في قولك : « رأيت أسدا يرمي » في رمي النبل على ظهور « أسد » في الحيوان المفترس ، فإنه لا إشكال في كون ظهور « أسد » في الحيوان المفترس أقوى من ظهور « يرمي » في رمي النبل ، لأنه بالوضع وذلك بالاطلاق ، والظهور الوضعي أقوى من الظهور الاطلاقي ، ومع ذلك لم يتأمل أحد في حكومة أصالة ظهور « يرمي » في رمي النبل على أصالة ظهور « أسد » في الحيوان المفترس وليس ذلك إلا لأجل كون « يرمي » قرينة على التصرف في « أسد » ونسبة الخاص إلى العام كنسبة « يرمي » إلى « أسد ». فلا مجال للتوقف في تقديم ظهور الخاص في التخصيص على ظهور العام في العموم.

والشيخ قدس‌سره في المقام وإن عارض ظهور الخاص مع ظهور العام وحكم بأنه يؤخذ بأقوى الظهورين ، إلا أنه لم يلتزم بذلك في شيء من المسائل الفقهية ، فإنه لم يتفق في مورد عامل مع الخاص والعام معاملة التعارض ، بل يقدم الخاص مطلقا على العام ، سواء كان الخاص ظني السند والدلالة أو كان قطعي السند وظني الدلالة ، غايته أنه في الأول يكون الخاص حاكما على العام من جهتين : من جهة السند ومن جهة الدلالة ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح ( إن شاء الله تعالى ).

وبذلك يندفع ما ربما يتوهم : من أن تقديم الخاص على العام لو كان بالحكومة فما الفرق بينها وبين التخصيص؟ فان التخصيص على هذا يرجع إلى الحكومة ، فلا وجه للمقابلة بينهما.

بيان الدفع : هو أن المقابلة بينهما إنما يكون لمكان أن أحد الدليلين تارة : يكون بنفسه حاكما على الآخر ولو كانت النسبة بينهما العموم من وجه. وأخرى : يكون أحد الدليلين في حد نفسه معارضا للدليل الآخر ، إلا أن أصالة الظهور فيه تكون حاكمة على أصالة الظهور في الآخر ، كالعام والخاص ، فان

٧٢١

الخاص في حد نفسه معارض مع العام ولو في بعض المدلول ، ولكن أصالة ظهوره في التخصيص تكون حاكمة على أصالة ظهور العام في العموم ، فترتفع المعارضة من بينهما ، فتأمل جيدا.

بقي في المقام حكم ما إذا كان الخاص ظني السند وقطعي الدلالة ، ولأجله مهدنا المقدمة ، وكان غرضنا منها شرح ما ذكره الشيخ قدس‌سره في حكم هذا القسم من الخاص ، فإنه بنى أولا على كون ظهور الخاص حاكما على ظهور العام ، ثم احتمل أن يكون واردا عليه بناء على كون العمل بظاهر العموم معلقا على عدم القرينة على التخصيص ، وعقبه بقوله : « فتأمل » وأما بناء على كون العمل بالظهور من جهة الظن النوعي بأنه هو المراد النفس الأمري : فقد جزم فيه بالورود ولم يحتمل فيه الحكومة. وقد خفي مراد الشيخ قدس‌سره من ذلك على كثير من طلبة العلم.

وعلى كل حال : لا كلام في تخصيص العام بهذا القسم من الخاص ، وإنما الكلام في وجه ذلك ، وأنه للحكومة أو للورود؟ أو يفصل بين الوجهين في اعتبار أصالة الظهور؟ فان بنينا على كون الوجه فيها أصالة عدم القرينة يكون الخاص حاكما على العام ، وإن بنينا على كون الوجه فيها الظن النوعي يكون الخاص واردا عليه (١).

__________________

١ ـ أقول : مبنى ورود أصالة السند في الخاص على أصالة ظهور العام أو حكومته ليس إلا بجعل المعلق عليه في أصالة ظهور العام عدم الحجة على التخصيص كشفا أو قرينة أو عدم العلم به واقعا ، فعلى الأول : لا محيص إلا من الورود ، وعلى الثاني : لا محيص إلا من الحكومة ، وبقية ما أفيد ليس إلا تطويلا بلا طائل. ولا يظن أحد بان منشأ ترديد « شيخنا الأعظم » في الحكومة أو الورود ما ذكر من وجه حجية أصالة الظهور انه من باب الكشف أو أصالة عدم القرينة ، مع أن أول ذهن من صغار الطلاب يلتفت بعدم الفرق بين المسلكين في هذه الجهة! لان أصالة الظهور في العام إن كان معلقا على عدم الحجة على الخاص ، فدليل الخاص ولو كان ظنيا وارد على أصالة ظهور العام ، من دون فرق بين وجه حجيته من حيث الكشف أو أصالة عدم القرينة ، إذ على اي حال ورد الحجة على التخصيص ،

٧٢٢

والأقوى : هو الحكومة مطلقا. ولعل نظر الشيخ قدس‌سره في احتمال الورود في الوجه الأول إلى أن بناء العقلاء على متابعة الظهور مقيد من أول الامر بعدم قيام القرينة على خلاف الظهور والخاص يكون قرينة على عدم إرادة ظهور العام ، فإنه قطعي الدلالة ، وكونه ظني السند لا يمنع عن قرينيته ، لأن المفروض. أنه قام الدليل القطعي على التعبد بسنده ، فيكون التعبد بسند الخاص رافعا لموضوع أصالة الظهور في طرف العام حقيقة ، لما عرفت : من أن موضوع أصالة الظهور مقيد بعدم قيام قرينة الخلاف وعدم ثبوت ما يقتضي عدم إرادة الظهور ، وقد ثبت ذلك ، فيكون نسبة الخاص إلى العام كنسبة الأدلة الشرعية إلى الأصول العقلية ، فكما أن التعبد بالأدلة رافع لموضوع الأصول العقلية ، كذلك التعبد بسند قطعي الدلالة رافع لموضوع بناء العقلاء على أصالة ظهور العام في العموم ، هذا غاية ما يمكن من تقريب الورود.

وفيه : أن الخبر الخاص بما هو خبر لا يكون قرينة على إرادة خلاف الظهور ، لاشتراك العام والخاص في ذلك ، وليس بناء العقلاء مقيدا بعدم ورود مطلق الخبر الخاص ، فان مطلق الخبر الخاص لا يكون قرينة على عدم إرادة العموم ، بل الخاص إنما يكون قرينة باعتبار كون مثبتا لمؤداه ، فان كان ثبوت المؤدى قطعيا كان رافعا لموضوع أصالة الظهور حقيقة وتصح دعوى الورود ، وإن لم يكن قطعيا فلا مجال لدعوى الورود. والخاص المبحوث عنه في المقام وإن كان قطعي الدلالة ، إلا أنه ظني السند ، ومعه لا يمكن حصول العلم بثبوت المؤدى ، فلو لم يقم دليل على التعبد بالسند كان وجوده كعدمه ، لا تصادم دلالته القطعية ظهور العام ولا يكون مثبتا للمؤدى ولا يصح لان يكون قرينة على التصرف

__________________

فيرتفع موضوع أصالة الظهور حقيقة. وإن كان معلقا على عدم العلم بعدم التخصيص واقعا فيرتفع موضوع أصالة الظهور حكما ، من دون فرق أيضا بين وجه الحجية ابدا ، ولا نعني من الحكومة أيضا إلا هذا. ولعمري اني لا أرى من هذه الكلمات إلا تطويلا بلا طائل وتفصيلا بلا حاصل!!.

٧٢٣

فيه. نعم : بعد قيام الدليل على التعبد بالسند يكون الخاص مثبتا للمؤدى ، وبتوسط ذلك يكون قرينة على إرادة خلاف الظهور ، فقرينية الخاص إنما تتم بمقدمتين : التعبد بسنده وثبوت المؤدى به ، وقد تقدم في المباحث السابقة : أن ضابط الورود هو أن يكون أحد الدليلين رافعا لموضوع الآخر بنفس التعبد ولو مع عدم ثبوت المتعبد به ، بحيث لو فرض انفكاك التعبد عن ثبوت المتعبد به لكان رافعا لموضوع الآخر. وأما إذا توقف الرفع على ثبوت المتعبد به ، فلا يكون أحدهما واردا على الآخر ، بل يكون حاكما عليه ، فما نحن فيه لا يندرج في ضابط الورود.

فالانصاف : أنه لا مجال لاحتمال كون الخاص واردا على أصالة الظهور ورافعا لموضوعها حقيقة مع كونه ظني السند ، ولعل الشيخ قدس‌سره أشار بقوله : « فتأمل » إلى تضعيف احتمال الورود لا إلى تقويته ـ كما عن بعض المحشين ـ هذا كله إذا كان الوجه في بناء العقلاء على متابعة الظهور هو أصالة عدم القرينة.

وإن كان الوجه فيه هو حصول الظن النوعي بكون الظهور كاشفا عن كونه هو المراد النفس الأمري : فالأقوى فيه أيضا الحكومة ، فإنه لا موجب لتوهم الورود إلا دعوى : أن بناء العقلاء على حجية الظهور مقيد بما إذا لم يكن في البين حجة أقوى توجب بطلان اقتضاء الظهور للحجية ، بداهة أن المتقضي لحجية الظهور والاخذ به إنما هو حيثية كشفه وحكايته عن المراد وإرائته لمتعلق الإرادة الواقعية ، والخاص إذا كان قطعي الدلالة مع التعبد بصدوره يوجب بطلان كشف العام عن كونه هو المراد وتبطل إرائته عن كونه متعلق الإرادة الواقعية ، فيكون الخاص رافعا لموضوع أصالة الظهور في طرف العام حقيقة ، ولا نعني بالورود إلا كون أحد الدليلين رافعا لموضوع الآخر حقيقة.

وبالجملة : الفرق بين الوجهين في اعتبار أصالة الظهور مما لا يكاد يخفى ،

٧٢٤

فإنه بناء على كون المدرك في اعتبارها أصالة عدم القرينة يمكن أن يقال : إن الخبر الخاص بنفسه لا يكون قرينة ، بل قرينيته باعتبار كونه مثبتا للمؤدى بتوسط التعبد بالسند ، فلا يتم فيه الورود ، بالبيان المتقدم. وأما بناء على كون المدرك في اعتبار أصالة الظهور هو جهة كشفه وإرائته ولو نوعا عن المراد النفس الأمري : فلا محيص عن كون الخاص واردا على أصالة الظهور ورافعا لموضوعها ، فان القطع بدلالة الخاص بضميمة التعبد بصدوره يقتضي بطلان كاشفية الظهور وإرائته عن المراد النفس الأمري ، ولعله لذلك جزم الشيخ قدس‌سره بالورود في هذا الوجه.

ولكن مع ذلك كله لا يتم الورود ، فإنه على كل حال الخاص إنما يكون رافعا لموضوع أصالة الظهور بتوسط إثباته للمؤدى ، ولا يكفي في ذلك مجرد التعبد بالسند ما لم يقتض ثبوت المتعبد به والمخبر عنه ، وقد تقدم : أنه مهما كان رفع موضوع أحد الدليلين بتوسط ثبوت المتعبد به في الآخر يخرج عن ضابط الورود ويندرج في ضابط الحكومة.

فالأقوى : أنه لا فرق بين الوجهين وأنهما يشتركان في كون الخاص حاكما على ظهور العام ، ولا يكون واردا عليه ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا ، وتأمل في عبارة الشيخ قدس‌سره حق التأمل.

المبحث الخامس

في حكم التعارض

اعلم : أن التعارض إما أن يكون بين دليلين لا غير ، كما إذا قام أحد الدليلين على الوجوب والآخر على الحرمة. وإما أن يكون بين أكثر ، كما إذا

٧٢٥

قام ثالث في المثال على الإباحة. وعلى كلا التقديرين : فإما أن يكون أحد المتعارضين واجدا لمزية وخصوصية يكون الآخر فاقدا لها ، وإما أن يكونا متساويين في المزايا والخصوصيات. وعلى الأول : فالمزية إما أن تكون في السند ، أو في جهة الصدور ، أو في الدلالة ، فهذه جملة ما يتصور في أقسام تعارض الأدلة.

فان كانا متساويين في المزايا والخصوصيات : فالقاعدة فيهما تقتضي التساقط. ولكن قام الدليل على التخيير في الأخذ بأحدهما وطرح الآخر ، وسيأتي البحث فيه.

وإن كان أحدهما واجدا للمزية : فالمزية إن كانت في السند أو في جهة الصدور ، فلابد من الاخذ بصاحب المزية وطرح الآخر. ويدل على ذلك أخبار الترجيح ، ويأتي البحث عنها أيضا ( إن شاء الله تعالى ).

وإن كانت المزية في الدلالة : فاللازم هو الجمع بين المتعارضين وعدم جواز طرح أحدهما. وعن « غوالي اللئالي » دعوى الاجماع على أن الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح.

والمقصود بالكلام في هذا المبحث هو بيان المزية التي توجب الجمع بين المتعارضين في الدلالة إذا كان التعارض بين دليلين لا غير. وأما إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين : فسيأتي الكلام فيه في مبحث مستقل. فنقول : لا إشكال في أنه ليس كل مزية تقتضي الجمع بين الدليلين. والمراد من « الامكان » في قولهم : « الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح » ليس هو الامكان العقلي ، فإنه ما من دليلين متعارضين إلا ويمكن الجمع بينهما عقلا ، فينسد باب التعارض ، بل المراد من « الامكان » هو الامكان العرفي على وجه لا يوجب الجمع بين الدليلين خروج الكلام عن قانون المحاورات العرفية ، فلابد من الجمع بين الدليلين من أن يكون أحدهما واجدا

٧٢٦

لمزية تكون قرينة عرفية على التصرف في الآخر.

وبالجملة : مجرد إمكان التأويل وحمل أحد المتعارضين على خلاف طاهره لا يكفي في جواز الجمع بين الدليلين ، وإلا لزم طرح الأخبار الواردة في باب المتعارضين ـ من الترجيح بالسند أو التخيير ـ أو حملها على الفرد النادر ، وهو ما إذا كان التعارض بين النصين اللذين لا يحتمل فيهما الخلاف ، وإلا ففي غالب موارد التعارض يمكن فيه التأويل وحمل أحد المتعارضين على خلاف ظاهره. فلابد وأن يكون مرادهم من « الامكان » هو الامكان العرفي ، بحيث يساعد عليه طريقة المحاورة بين أهل اللسان ، على وجه لا يبقى العرف متحيرا في استكشاف المراد من الدليلين ، فلا عبرة بالجمع التبرعي الذي لا يساعد عليه العرف والعقلاء ، كما لا عبرة بمجرد كون أحد الدليلين أظهر من الآخر ، فان الأظهرية لا تقتضي التصرف في الظاهر وحمله على خلاف ظاهره ما لم تصل الأظهرية إلى حد تكون قرينة عرفية على التصرف في الآخر (١) وكذا لا عبرة بما ذكروه في تعارض الأحوال : من الشيوع والغلبة وكثرة الاستعمال ونحو ذلك ، فإنه لا أثر لشيء منها في رفع التعارض عن المتعارضين ، بل طريق رفع التعارض ينحصر بأحد أمرين : إما أن يكون أحدهما نصا في مدلوله والآخر ظاهرا ، وإما أن يكون أحدهما بظهوره أو أظهريته في مدلوله قرينة عرفية على التصرف في الآخر (٢) والجمع العرفي يدور مدار أحد هذين الأمرين ويندرج في كل منهما موارد عديدة.

__________________

١ ـ أقول : بمعنى كون أحد التصرفين أبعد عن الآخر مع اشتراكهما في بعد التصرف ، بل لابد وأن يكون الأظهرية بمثابة توجب قرب التصرف في الآخر بالنسبة إلى الأظهر ، كما لا يخفى.

٢ ـ أقول : لا نتصور قرينية الظاهر للتصرف في غيره مع عدم مزية له على غيره بالدلالة إلا في باب الحكومة ، وإلا ففي باب التخصيص لا محيص من التفاضل في الظهور بمقدار يصير التصرف في غيره قريبا عرفيا ، كما أشرنا إليه.

٧٢٧

فمن الموارد التي تندرج في النصوصية : ما إذا كان أحد الدليلين أخص من الآخر وكان نصا في مدلوله قطعي الدلالة ، فإنه يوجب التصرف في العام ورودا أو حكومة ، على التفصيل المتقدم.

ومنها : ما إذا كان لاحد الدليلين قدر متيقن في مقام التخاطب (١) فان القدر المتيقن في مقام التخاطب وإن كان لا ينفع في مقام تقييد الاطلاق ما لم يصل إلى حد يوجب انصراف المطلق إلى المقيد ـ كما تقدم تفصيله في مبحث المطلق والمقيد ـ إلا أن وجود القدر المتيقن ينفع في مقام رفع التعارض عن الدليلين ، فان الدليل يكون كالنص في القدر المتيقن ، فيصلح لان يكون قرينة على التصرف في الدليل الآخر ، مثلا لو كان مفاد أحد الدليلين وجوب إكرام العلماء ، وكان مفاد الآخر حرمة إكرام الفساق ، وعلم من حال الآمر أنه يبغض العالم الفاسق ويكرهه أشد كراهة من الفاسق الغير العالم ، فالعالم الفاسق متيقن الاندراج في عموم قوله : « لا تكرم الفساق » ويكون بمنزلة التصريح بحرمة إكرام العالم الفاسق ، فلابد من تخصيص قوله : « لا تكرم العلماء » بما عدا الفساق منهم.

ومنها : ما إذا كانت أفراد أحد العامين من وجه بمرتبة من القلة بحيث لو خصص بما عدا مورد الاجتماع مع العام الآخر يلزم التخصيص المستهجن ، فيجمع بين الدليلين بتخصيص مالا يلزم منه التخصيص المستهجن وإبقاء ما يلزم منه ذلك على حاله ، لان العام يكون نصا في المقدار الذي يلزم من خروجه عنه

__________________

١ ـ أقول : في النصوصية لا يحتاج إلى كونه قدرا متيقنا في التخاطب ، بل لو كان متيقنا عقلا يكفي في عدم قابلية التصرف فيه ، لأنه ينتهي إلى استيعاب التخصيص المستهجن دون غيره ، فإنه يصير حينئذ هذا المقدار متيقن الإرادة من اللفظ ، بحيث لا يبقى مجال التصرف فيه ، فقهرا يتصرف في غيره. والظاهر أن ما ذكر من المثال أيضا يساعد ما ذكرنا بناء على معلومية حاله بالقرائن الخارجية ، بلا كون هذا المقدار من القرائن الحافة بالكلام المنشأ لاستفادة هذا المقدار من اللفظ بالنصوصية ، كما لا يخفى.

٧٢٨

التخصيص المستهجن ، ولا عبرة بقلة أفراد أحد العامين وكثرتها ، بل العبرة باستلزام التخصيص المستهجن.

ومنها : ما إذا كان أحد الدليلين واردا مورد التحديدات والأوزان والمقادير والمسافة ونحو ذلك ، فان وروده في هذه الموارد يوجب قوة الظهور في المدلول بحيث يلحقه بالنص ، فيقدم على غيره عند التعارض.

ومنها : ما إذا كان أحد العامين من وجه واردا في مورد الاجتماع مع العام الآخر ، كما إذا ورد قوله : « كل مسكر حرام » جوابا عن سؤال حكم الخمر ، وورد أيضا ابتداء قوله : « لا بأس بالماء المتخذ من التمر » فان النسبة بين الدليلين وإن كانت هي العموم من وجه ، إلا أنه لا يمكن تخصيص قوله : « كل مسكر حرام » بما عدا الخمر ، فإنه لا يجوز إخراج المورد ، لان الدليل يكون نصا فيه ، فلابد من تخصيص قوله : « لا بأس بالماء المتخذ من التمر » بما عدا الخمر.

هذا كله فيما يندرج في « الامر الأول » وهو ما إذا كان أحد المتعارضين نصا في تمام المدلول أو في بعضه دون الآخر.

وأما ما يندرج في الامر الثاني : وهو أن يكون أحد الدليلين قرينة عرفية على التصرف في الآخر ، فهو وإن لم ينضبط كلية ، لاختلاف ذلك باختلاف المقامات والخصوصيات المحتفة بالكلام ـ من القرائن الحالية والمقالية وخصوصيات المتكلم وغير ذلك مما يكون أحد الكلامين قرينة على التصرف في الآخر ـ إلا أن المنضبط من ذلك أمور :

منها : ما إذا تعارض العام الأصولي والاطلاق الشمولي ودار الامر بين تقييد المطلق أو تخصيص العام (١) كقوله : « أكرم العالم » و « لا تكرم الفساق » فإنهما

__________________

١ ـ أقول : يكفي في مقدمات الحكمة كون المتكلم في مقام بيان مرامه بهذا اللفظ المشغول به ، فان هذا المقدار يوجب ظهور اللفظ في المرام بمحض عدم ضم قرينة بهذا الكلام. ولا ينافي ذلك وجود قرينة منفصلة أخرى على جزء مرامه واقعا ، إذ إرادته الواقعية المتعلقة بجزء آخر لا ينافي كونه في مقام بيان تمام

٧٢٩

يتعارضان في العالم الفاسق ، ويدور الامر بين تقييد قوله : « أكرم العالم » بغير الفاسق ، وبين تخصيص قوله : « لا تكرم الفساق » بما عدا العالم ، ولكن شمول العام الأصولي لمورد الاجتماع أظهر من شمول المطلق له ، لان شمول العام لمادة الاجتماع يكون بالوضع (١) وشمول المطلق له يكون بمقدمات الحكمة ، ومن جملتها عدم ورود ما يصلح أن يكون بيانا للتقييد ، والعام الأصولي يصلح لان يكون بيانا لذلك ، فلا تتم مقدمات الحكمة في المطلق الشمولي ، ولابد حينئذ من تقديم العام الأصولي وتقييد المطلق بما عدا مورد الاجتماع. ولا مجال لتوهم العكس وتخصيص العام الأصولي بالمطلق الشمولي ، فان المطلق لا يصلح للتخصيص إلا إذا تمت فيه مقدمات الحكمة ، ومع وجود العام الأصولي لا يكاد يتم فيه مقدمات الحكمة ، لأنه يصح للمتكلم الاعتماد في بيان مراده على ظهوره الوضعي ، فالمطلق لا يصلح لان يكون مخصصا للعام

__________________

مرامه بالكلام السابق ، إذ لبيان تمام المرام مقام ولتماميته في موضوع المرام واقعا مقام اخر ، لامكان تخلف مقام البيان عن الواقع ولو لمصلحة في إخفاء الواقع فعلا ، غاية الامر يعطي الظهور الذي هو حجة على العبد إلى أن ينكشف الخلاف ، ولذا يكون المطلقات بتمامية مقدمات الحكمة من ظواهر الألفاظ ، وإلا فلو كان الغرض بيان تمام المرام واقعا يلزم كون المطلق داخلا في النصوص القطعية ، ومن لوازم ذلك عدم كفاية الفحص مع بقاء الشك في وجود القرينة المنفصلة في استفادة الاطلاق ، لعدم الجزم بتمامية المرام واقعا ، وهو كما ترى! فلا محيص من الالتزام بكون المطلقات بعد تمامية مقدمات الحكمة من الأدلة الظنية دلالة لا قطعية ، كي لا ينافيه الشك في جزء المرام بعد الفحص ، وحينئذ لا محيص إلا من تفكيك دلالته عن الواقع. وعليه : يكفي في دلالته المزبورة ما ذكرنا من مقام البيان ، وبعد إحراز هذا المقام من المتكلم بملاحظة غلبة هذا المقام مع واقع المرام نوعا يحصل من المقدمات المزبورة دلالة تصديقية نوعية على مرامه واقعا ، كما هو الشأن في كل لفظ صادر من المتكلم الذي كان في مقام الإفادة والاستفادة ، فان الدلالة التصديقية التي هي مدار الحجية في باب الألفاظ على إحراز هذا المقام ، كما لا يخفى ، فتدبر فيما قلت كي ترى عدم تمامية النتيجة المزبورة.

١ ـ أقول : كيف يكون ذلك بالوضع مع الالتزام باحتياج مدخول العام إلى مقدمات الحكمة على مختاره؟!.

٧٣٠

الأصولي ، والعام الأصولي يصلح لان يكون مقيد للمطلق الشمولي ، فلا مجال للتشكيك في تقديم التقييد على التخصيص ، من غير فرق بين ورود العام قبل المطلق أو مقارن له أو متأخر عنه (١).

ودعوى : أن الذي يكون من مقدمات الحكمة هو عدم البيان في مقام التخاطب لا مطلقا فالعام المتأخر عن المطلق لا يصلح لان يكون بيانا ، واضحة الفساد ، فان الذي يكون من مقدمات الحكمة هو عدم البيان المطلق ، لا عدم البيان في خصوص مقام التخاطب (٢) كما أوضحناه في محله.

والمحقق الخراساني قدس‌سره قد أفاد في بعض فوائده الأصولية : من أن اللازم علينا جمع كلمات الأئمة عليهم‌السلام المتفرقة في الزمان وتفرض أنها وردت في زمان ومجلس واحد ويؤخذ ما هو المتحصل منها على فرض الاجتماع.

وهذا الكلام منه ينافي ما ذهب إليه : من أن العبرة على عدم البيان في مقام التخاطب ، لا مطلقا ، فتأمل جيدا.

ومما ذكرنا ظهر وجه تقديم تقييد الاطلاق البدلي على تخصيص العام الأصولي لو دار الامر بينهما (٣) كقوله : « أكرم عالما » و « لا تكرم الفساق » بل

__________________

١ ـ أقول : ولو تأملت فيما قلت ترى كمال المجال في تقديم التخصيص على التقييد في القرائن المنفصلة أحيانا ، فضلا عن الشك فيه.

٢ ـ أقول : ولعمري! لو تأملت فيما ذكرنا ترى وضوح فساد هذا الكلام ، لا الكلام الصادر من أستاذ أستاذك! وما أفاد استاذنا الأعظم في فوائده أراد بيان تشخيص ميزان الأظهرية الموجبة للجمع قبال عدم صلاحية مجرد أبعدية التصرف فيه عن غيره ، بأنه لو جمعا في كلام واحد لكان أحدهما قرينة على التصرف في الآخر ، وذلك لا ينافي ما أفاد : من أن قوام ظهور المطلق بعدم إقامة القرينة على مرامه متصلا بكلامه. ولئن نظرت في غالب إشكالاته على استاذنا ترى كونها من هذا القبيل الذي يضحك به الثكلى!!

٣ ـ أقول : ما أفيد بمقتضى ما ذكرنا في شرح مقدمات الحكمة لا يكاد يتم في واحد من النتايج

٧٣١

الامر في تقييد الاطلاق البدلي أوضح من تقييد الاطلاق الشمولي ، لان المطلوب في الاطلاق البدلي صرف الوجود ، فلا يصلح لان يعارض ما يكون المطلوب فيه مطلق الوجود.

وبذلك يظهر : تقديم تقييد الاطلاق البدلي على تقييد المطلق الشمولي ، كقوله : « أكرم عالما » و « لا تكرم الفاسق » فإن الاطلاق الشمولي يمنع عن كون الافراد في الاطلاق البدلي متساوية الاقدام في حصول الامتثال بأي منها. ولا ينافي ذلك كون الاطلاق في كل منهما بمقدمات الحكمة ، فان مقدمات الحكمة في الاطلاق الشمولي تمنع عن جريان مقدمات الحكمة في الاطلاق البدلي ، لان من مقدمات الحكمة في الاطلاق البدلي كون الافراد متساوية الاقدام ، ومقدمات الحكمة في الاطلاق الشمولي يمنع عن ذلك ، ولا يمكن العكس ، كما لا يخفى وجهه على المتأمل ، فتدبر.

ومنها : ما إذا وقع التعارض بين مفهوم الشرط ومفهوم الغاية ، كقوله : « يجب الامساك إلى الليل » وقوله : « إن جاءك زيد فلا يجب الامساك في الليل » (١) فان مفهوم الشرط يقتضي وجوب الامساك في الليل عند مجيء زيد (٢) ومفهوم الغاية يقتضي عدم

ولكن لما كان ثبوت المفهوم للقضية الشرطية بمقدمات الحكمة ـ كما بيناه في محلة ـ بخلاف القضية الغائية فإنها بالوضع تدل

__________________

المزبورة في المنفصلات. نعم : لا باس بالالتزام بها في المتصلات في كلام واحد بعين ما أفيد من البرهان المزبور ، وإلا ففي المنفصلات لابد من ملاحظة الترجيح في الظهور حتى بين المطلق والعام ، أو الشمولي والبدلي ، كما لا يخفى.

١ ـ لا يخفى : أن المثال لا ينطبق على ما نحن فيه ، فان النسبة بين المفهومين هي العموم المطلق ، فلا وجه لرفع اليد عن مفهوم الشرط مع كونه أخص من مفهوم الغاية ، ولكن الامر في المثال سهل ( منه ).

٢ ـ كذا في النسخة ، والصواب : عدم مجيء زيد ( المصحح ).

٧٣٢

على انتفاء حكم ما قبل الغاية عما بعدها ، فاللازم تقديم مفهوم الغاية على مفهوم الشرط وسقوط القضية الشرطية عن كونها ذات مفهوم.

ومنها : ما إذا وقع التعارض بين مفهوم الشرط ومفهوم الوصف ـ بناء على كون القضية الوصفية ذات مفهوم ـ فإنه يقدم مفهوم الشرط على مفهوم الوصف ، فان القضية الشرطية أظهر في كونها ذات مفهوم عن القضية الوصفية ، حتى قيل : « إن القضية الشرطية بالوضع تدل على المفهوم » فتصلح أن تكون قرينة على التصرف في القضية الوصفية وإخراجها عن كونها ذات مفهوم.

ومنها : ما إذا دار الامر بين التخصيص والنسخ ، فقيل : إن التخصيص أولى ، لكثرة التخصيص وقلة النسخ. وقيل : إن النسخ أولى.

وتفصيل الكلام في ذلك : هو أنه يعتبر في النسخ أن يكون واردا بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ (١) كما أنه يعتبر في التخصيص أن يكون واردا قبل حضور

__________________

١ ـ أقول : بعد كون النسخ في التشريعيات كالبداء في التكوينيات فكما ترى البداء الحقيقي في المخلوق قبل وقت العمل ـ كما لو كان بانيا على ضيافة زيد عند مجيئه ثم بدا له قبل المجئ ـ كذلك أمكن صورته في الخالق بملاحظة الاخبار على طبق المقتضيات المتكفل لها لوح المحو والاثبات ، فيخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا بوقوع موت كذا ، ولكن في اللوح المحفوظ مكتوب حياته لوجود مانع عن تأثير مقتضي موته مثلا ، ومن هذا القبيل باب النسخ في التشريعيات. وعليه : فلا قصور في تصوير النسخ قبل حضور وقت العمل أيضا ، كما أنه لا قصور في إمكان تأخير البيان عن وقت العمل لقيام مصلحة على خلافه ، كما هو الشأن في كلية جعل الحكم الظاهري على خلاف الواقع ، إذ لا أقل من ترك إيجاب الاحتياط وارجاعه إلى حكم العقل بالبرائة الموجب لتفويت الواقع على المكلف لمحض ترك إيجاب الاحتياط ، كما هو ظاهر ، فتدبر.

والمقرر اعترف بالشق الثاني ، فياليت يعترف بالأول أيضا! فتدبر ، إذ لعل اعترافه فيما بعد في تصوير النسخ بعد انقطاع الوحي ـ بامكان ورود الناسخ في زمن النبي ٩ والنبي ٩ أودعه إلى أوصيائه ـ عين الاعتراف بامكان النسخ من الله الوارد على النبي ٩ قبل العمل ، وإنما أوكل النبي ٩ إبرازه إلى الوصي ، وذلك غير وروده واقعا ، كما لا يخفى.

٧٣٣

وقت العمل بالعام ، ولأجل ذلك وقع الاشكال في التخصيصات الواردة على الأئمة عليهم‌السلام بعد حضور وقت العمل بالعام ، فإنه رب عام نبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخاص عسكري عليه‌السلام والمحتملات في مثل هذه المخصصات ثلاثة :

أحدها : أن تكون ناسخة لحكم العمومات.

ثانيها : أن تكون كاشفة عن اتصال كل عام بمخصصه ، وقد اختفت علينا المخصصات المتصلة ووصلت إلينا هذه المخصصات المنفصلة.

ثالثها : أن تكون هي المخصصات حقيقة ولا يضر تأخرها عن وقت العمل بالعام ، لان العمومات المتقدمة لم يكن مفادها الحكم الواقعي ، بل الحكم الواقعي هو الذي تكفل المخصص المنفصل بيانه ، وإنما تأخر بيانه لمصلحة كانت هناك في التأخير ، وإنما تقدم العموم ليعمل به ظاهرا إلى أن يرد المخصص ، فيكون مفاد العموم حكما ظاهريا ، ولا محذور في ذلك ، فان المحذور إنما هو تأخر الخاص عن وقت العمل بالعام إذا كان مفاد العام حكما واقعيا لا حكما ظاهريا.

هذا ، ولكن الالتزام بكون هذه المخصصات ناسخة على كثرتها بعيد غايته ، بل قيل : إنه لا يمكن ، لانقطاع الوحي بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يتحقق النسخ بعده ، وإن كان القول بذلك ضعيف غايته ، فإن انقطاع الوحي لا يلازم عدم تحقق النسخ بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه يمكن أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أودع الحكم الناسخ إلى الوصي عليه‌السلام وأودع الوصي إلى وصي آخر إلى أن يصل زمان ظهوره وتبليغه. وقد وردت أخبار عديدة في تقويض دين الله ( تعالى ) إلى الأئمة عليهم‌السلام وعقد في الكافي بابا في ذلك ، وبعد هذا لا يصغى إلى شبهة عدم إمكان تحقق النسخ بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن مع ذلك لا يمكن الالتزام

٧٣٤

بكون المخصصات الواردة بعد حضور وقت العمل بالعمومات كلها تكون ناسخة للعمومات (١) فالاحتمال الأول ساقط ، ويدور الامر بين أحد الاحتمالين الأخيرين.

__________________

١ ـ أقول : بعد إمكان تأخير المخصص عن وقت العمل بل وتقديم ورود الناسخ على العمل بشهادة تفويض إبرازه إلى الأئمة عليهم‌السلام من بعده ـ إذ ذلك مستلزم لتأخير بروز الناسخ وإعلامه بعد العمل لا وروده إذ يستحيل وروده واقعا بعد انقطاع الوحي ـ كانت التخصيصات الواردة بعد العمومات قابلة للنسخ والتخصيص ، فلا محيص من ترجيح التخصيص بوجه متيقن لا لصرف دعوى البداهة ، خصوصا مع اقتضاء أصالة العموم نسخية الخاص.

وتوهم معارضته مع عموم ما دل على بقاء الاحكام من الحلال والحرام مدفوع غايته ، لان عموم الاحكام لا يكاد ينطبق على المورد إلا بعد جريان أصالة العموم في العام ، لأنه محرز لموضوعه ، فكيف يعارضه أصالة العموم في الحلال والحرام معه؟ إذ لازم جريانه عدم الجريان ، وهو محال. وبعبارة أخرى : أصالة العموم في الاحكام إنما هو في ظرف تحقق موضوعه ، ولا يصلح مثله للمعارضة مع ما يحرز هذا الموضوع ، فقهرا يصير هذا الأصل حاكما ومقدما على الأصل الآخر ، كما أن إطلاق العام زمانا أيضا تبع لهذا العموم ، فكيف يعارضه عمومه؟ نعم : ما يصلح للمعارضة له هو أصالة الاطلاق في طرف الخاص ، فإنه يقتضي ثبوت حكمه من الأول وهو ينافي العموم لهذا الفرد قبل ورود الخاص ، وهذا التقريب على المختار ـ من صلاحية معارضة أصالة الاطلاق في المنفصل مع أصالة العموم ـ في غاية المتانة ، فيجري بعد التعارض حكم التخصيص على الخاص. ولكن هذا الكلام إنما يصح في الخاص الوارد قبل العام ، واما الخاص الوارد بعد العام ، فلا أثر لهذا النزاع بالنسبة إلى من وجد بعد ورود الخاص ، حيث إن احتمال الناسخية لا يؤثر في حقه عملا كي يجري في حقه أصالة العموم فيصلح للمعارضة. نعم : يصلح هذا الثمر بالنسبة إلى الموجودين في زمان الخطابين ، فإنه يثمر هذا النزاع في حقهم بالنسبة إلى القضاء وعدمه ، وإلا فبالنسبة إليهم أيضا لا يجدي أصالة الاطلاق في طرف الخاص بالنسبة إلى ما مضى من زمانه ، فإنه خارج عن محل ابتلائه ، كما لا يخفى.

ثم إن ما ذكرنا كله على فرض إرجاع النسخ إلى التصرف في الدلالة ، وإلا فلو كان باب النسخ ـ كما أشرنا ـ من قبيل صورة البداء فكان التصرف فيه من قبيل التصرف في الجهة. وحينئذ قد يتوهم بأنه في الدوران بينهما يقدم التصرف الدلالي على الجهتي ، كما هو الشأن بين الجمع الدلالي أو الحمل على التقية ، حيث إن بناء الأصحاب على تقديم الجمع على التقية ، فلازمه في المقام تقديم التخصيص على النسخ. ولكن يمكن ان يقال : إن مناط تقديم الجمع على التقية إنما هو من جهة اقتضاء التقية طرح السند

٧٣٥

وقد استبعد الشيخ قدس‌سره الاحتمال الثاني ، بل أحاله عادة ، لكثرة الدواعي إلى ضبط القرائن والمخصصات المتصلة واهتمام الرواة إلى حفظها ونقلها ، فمن المستحيل عادة أن تكون مخصصات متصلة بعدد المخصصات المنفصلة وقد خفيت كلها علينا. فيتعين الاحتمال الثالث ، وهو أن يكون مفاد العمومات حكما ظاهريا والحكم الواقعي هو مفاد المخصصات المنفصلة وقد تأخر بيانها لمصالح أوجبت اختفاء الحكم الواقعي إلى زمان ورود المخصصات ، وقدم العام ليعول عليه ظاهرا ، فيكون التكليف الظاهري في حق من تقدم عن زمان ورود المخصصات هو الاخذ بعموم العام ، نظير الاخذ بالبراءة العقلية قبل ورود البيان من الشارع ، بداهة أن بيان الاحكام إنما كان تدريجيا ، فكما أنه قبل ورود البيان كان الحكم الظاهري هو ما يستقل به العقل : من البراءة والاحتياط ، كذلك كان الحكم الظاهري قبل ورود المخصصات هو ما تضمنته العمومات ، والفرق بينهما : هو أنه في البراءة كان عدم البيان وفي العمومات يكون بيان العدم (١).

هذا حاصل ما أفاده الشيخ قدس‌سره في تقريب الاحتمال الثالث وتبعيد الاحتمال الثاني.

__________________

رأسا ، بخلاف الجمع ، وهذا المناط غير جار في المقام ، حيث إنه على النسخ لا يلزم طرح السند رأسا ، وليس في البين أيضا تعبد خاص بتقديم التصرف الدلالي على الجهتي ، كي يتعدى به إلى المورد. وحينئذ فلا محيص في المقام من إعمال المعارضة المزبورة بين الجمع والجهة في الخاص المتقدم ، فيجري عليه حكم التخصيص ، كما أشرنا. واما في الخاص المتأخر فيجري التفصيل الذي قلنا فيه سابقا ، كما لا يخفى ، فتدبر في ما قلت.

١ ـ لم يظهر لي وجه عدول الشيخ قدس‌سره عن التنظير بالبراءة الشرعية إلى البراءة العقلية ، مع أن التنظير بالبراءة الشرعية كان أولى ، فإنه يمكن ان تكون من بيان العدم لا عدم البيان ، فيتحد مفادها مع مفاد العمومات. والحق انه في العمومات أيضا يكون من عدم البيان لا بيان العدم ، فان العام إنما يكون حجة في المؤدى بواسطة جريان مقدمات الحكمة في مصب العموم ، ومن جملتها عدم بيان المخصص ، كما أوضحناه في محله ، فتأمل جيدا ( منه ).

٧٣٦

ولكن الانصاف : أن الاحتمال الثاني لو لم يكن أقرب من الاحتمال الثالث فلا أقل من أن يكون مساويا له ، فانا نرى أن كثيرا من المخصصات المنفصلة المروية من طرقنا من الأئمة عليهم‌السلام مروية عن العامة بطرقهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكشف ذلك عن اختفاء المخصصات المتصلة علينا ، فلا وجه لاستحالة الوجه الثاني أو استبعاده ، بل يمكن أن يقال : باستحالة الوجه الثالث ، فإنه إن كانت مصلحة الحكم الواقعي الذي يكون مفاد المخصصات المنفصلة تامة فلابد من إظهاره والتكليف به (١) وإن لم تكن تامة ـ ولو بحسب مقتضيات الزمان حيث يكون للزمان دخل في ملاك الحكم ـ فلا يمكن ثبوت الحكم الواقعي حتى يكون مفاد العام حكما ظاهريا ، بل يكون الحكم الواقعي هو مفاد العام إلى زمان ورود الخاص ، ولا محالة يكون الخاص ناسخا لا مخصصا ، ففي الحقيقة الاحتمال الثالث يرجع إلى الاحتمال الأول وهو النسخ. وقد عرفت : أنه لا يمكن الالتزام به ، فلا أقرب من الاحتمال الثاني ، فتأمل جيدا.

وعلى كل حال : لو تردد الخاص بين أن يكون مخصصا أو ناسخا ، فقيل : بتقديم التخصيص لكثرته وشيوعه ، حتى قيل : « ما من عام إلا وقد خص ».

__________________

١ ـ أقول : تمامية مصلحة الحكم الواقعي لا يلازم إبرازه فعلا على المكلف ، بل يكفي فيه إيكال إبرازه إلى أوصيائه عليهم‌السلام مع إعطائه الحجة على خلاف الواقع ، كما لا يخفى.

ثم إن الحكم الظاهري في المقام هو مفاد أصالة العموم لا مفاد العام ، وهذا التعبير في كلماته أيضا مبني على المسامحة أو السهو من القلم.

ولئن شئت توضيح ما ذكرنا بأزيد مما أشرت إليه ، فاسمع بان الغرض من تمامية مصلحة الواقع ان كان عدم وجود مزاحم له في تنجزه على المكلف وإيصاله إليه ، فلازمه استحالة جعل الطريق على خلافه ، وإن كان الغرض تمامية المصلحة في عالم جعل الحكم واقعا على وفقه ولو لم يصل إلى المكلف فعلا بل اقتضت المصلحة إيصاله إليه بعد حين ، فذلك لا ينافي مع إبداء العام على المكلف في صورة كون الحكم المجعول واقعا على طبق الخاص الموكول إبرازه على وصيه ، كما لا يخفى.

٧٣٧

وقيل : بتقديم النسخ ، فإنه لا يلزم من النسخ إلا تقييد الاطلاق ، وهو أولى من تخصيص العام عند الدوران بينهما ، كما تقدم.

وتوضيح ذلك : هو أنه قد اجتمع في العام ظهوران : ظهور في شموله لجميع الافراد حتى الافراد المندرجة تحت عنوان الخاص ، وظهور في استمرار حكمه ودوامه في جميع الأزمنة ، والظهور الأول يستند إلى الوضع ، لان العام بمدلوله الوضعي يعم جميع الافراد ، والظهور الثاني يستند إلى الاطلاق ومقدمات الحكمة ، فان استمرار الحكم لجميع الأزمنة إنما هو بمعونة الاطلاق ومقدمات الحكمة وليس مدلولا لفظيا للعام ، فإذا دار أمر الخاص بين التخصيص والنسخ يقدم النسخ ، لأنه لا يقتضي أزيد من تقييد الاطلاق ، بخلاف التخصيص ، فإنه يلزم منه مخالفة الظهور الوضعي ، وقد عرفت : أنه لو دار الامر بين التصرف في العام الأصولي وبين التصرف في المطلق الشمولي ، يكون الثاني أولى. ولذلك أورد على الشيخ قدس‌سره من قوله بتقديم التخصيص على النسخ مع التزامه بتقديم تقييد الاطلاق على تخصيص العام.

هذا ، ولكن لا يخفى عليك ما في كلا الوجهين من النظر. أما في الوجه الأول : فلان مجرد كون التخصيص أكثر من النسخ لا يوجب حمل الخاص على التخصيص ، لما عرفت : من أنه لا عبرة بالكثرة ما لم تكن قرينة عرفية بحيث توجب ظهور اللفظ في موردها.

وأما الوجه الثاني : فلان النسخ يتوقف على ثبوت حكم العام لما تحت الخاص من الافراد ، ومقتضى ما تقدم : من حكومة أصالة الظهور في طرف الخاص على أصالة الظهور في العام ، هو عدم ثبوت حكم العام لافراد الخاص (١) فيرتفع موضوع النسخ.

__________________

١ ـ أقول : كيف يكون أصالة الظهور في الخاص حاكما على أصالة العموم بعدما كان ذلك

٧٣٨

ودعوى : أن النسخ يكون من قبيل تقييد الاطلاق فيقدم على تخصيص العام ، لا تخلو عن مغالطة ، فان النسخ عبارة عن رفع الحكم الثابت ، وثبوت أحكام الشريعة في جميع الأزمنة ليس من جهة إطلاق الأدلة ، بل من جهة قوله عليه‌السلام « حلال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة » (١) ونحو ذلك من الأدلة الدالة على استمرار أحكام الشريعة وعدم نسخها (٢) فلو ثبت نسخ الحكم في مورد فإنما هو تخصيص لهذه الأدلة ، لا تقييد لاطلاق الأدلة الأولية المتكفلة لبيان أصل ثبوت الاحكام في الشريعة.

نعم : قد يستفاد استمرار الحكم من إطلاق الدليل بمعونة مقدمات الحكمة ، كقوله تعالى : « أوفوا بالعقود » حيث إنه يلزم لغوية تشريع وجوب الوفاء بالعقد مع عدم استمراره في الأزمنة ، وقد تقدم ( في تنبيهات الاستصحاب » أن العموم الافرادي في الآية الشريفة يستتبع العموم الزماني ، ولكن الاستمرار الذي يستفاد من مقدمات الحكمة غير الاستمرار المقابل للنسخ ، فان الاستمرار المقابل للنسخ عبارة عن استمرار الحكم ودوامه إلى يوم القيامة ، والاستمرار بهذا

__________________

بالوضع وذاك بالاطلاق على مختاره؟.

١ ـ أصول الكافي : كتاب فضل العلم ، باب البدع والرأي والمقائيس ، ح ١٩

٢ ـ أقول : هذا الجواب صحيح لو كان المراد من « الاطلاق » إطلاق العام زمانا إلى يوم القيامة ، وهو حينئذ لا يناسب ما أفاد : من تقديم أصالة الظهور في الخاص على أصالة الظهور في العام ، وإلا فلو كان المراد من « الاطلاق » إطلاق دليل الخاص بالنسبة إلى الزمان السابق عنه ـ كما في الخاص المتأخر عن العام ـ فالتمسك في مثله بعموم الحلال والحرام غير صحيح ، إذ ليس شأنه إلا إدامة ما ثبت إلى يوم القيامة ، لا اثبات ما ثبت من الأول ، إذ لا نظر لهذا العام إلا إلى إدامة ما ثبت وليس متكفلا لوقت ثبوته زمانا من حين العام أم بعده. نعم : ما أفيد إشكالا وجوابا صحيح في الخاص المتقدم لا المتأخر ، وهو خلاف ظاهر صدر كلامه الوارد عليه إشكاله بقوله : « ولا يخفى عليك الخ » ولعمري! ان كلماته في المقام لا يخلو عن اختلال النظام ، فتدبر. والتحقيق الرجوع إلى ما قلناه.

٧٣٩

المعنى لا يقتضيه أدلة الاحكام ، بل يحتاج إلى دليل آخر ، بخلاف الاستمرار في مثل الآية الشريفة ، فإنه عبارة عن عدم تحديد الحكم بزمان دون زمان ، وهذا الاستمرار يمكن أن يتكفله دليل الحكم بمعونة مقدمات الحكمة. وبالجملة : الاستمرار المقابل للنسخ غير الاستمرار المقابل لتقييد الحكم وتحديده بزمان خاص.

فدعوى : أن النسخ يكون من تقييد الاطلاق ، واضحة الفساد ، مع أنه لو سلم كونه من تقييد الاطلاق ، فقد عرفت : أنه لا مجال للنسخ إلا بعد ثبوت الحكم ، وظهور الخاص في التخصيص يمنع عن ثبوت حكم العام في أفراد الخاص (١) فيرتفع به موضوع النسخ.

فالأقوى : تقديم التخصيص على النسخ لو دار الامر بينهما ، فتأمل جيدا. هذا تمام الكلام فيما إذا كان لاحد المتعارضين مزية في الدلالة تقتضي التصرف في الآخر بحسب المحاورات العرفية.

المبحث السادس

إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين

فصوره وإن كانت كثيرة ، إلا أنه نحن نقتصر على ذكر أصولها ويعرف منها حكم سائر الصور (٢).

__________________

١ ـ أقول : قد تقدم انه يكفي لاثبات الحكم أصالة العموم في العام المتقدم ، وهو يصلح للمعارضة مع أصالة الظهور في الخاص.

٢ ـ أقول : قبل الشروع في الفروض ينبغي تنقيح مناط تعارض الظهورين وترجيحه ، فأقول : بعدما كان موضوع الحجية هو الظهور بمعنى الدلالة التصديقية النوعية الذي مرجعه إلى الكشف النوعي الحاصل من وضع اللفظ أو ما هو بحكمه الصادر في حال الإفادة والاستفادة ، فلا محيص من كون هذا

٧٤٠