فوائد الأصول - ج ٤

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٢

حالاته ، فإنه بالنسبة إلى ذلك الحال يلزم اجتماع النقيضين لورود النفي والاثبات عليه ، وكذا يتحقق التنافي لو كان مفاد أحد الدليلين وجوب الصلاة على العالم والجاهل وكان مفاد الآخر عدم وجوبها على الجاهل.

ومن ذلك يظهر (١) فساد الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي بتغاير موضوعيهما (٢) فان موضوع الحكم الظاهري مقيد بالجهل وعدم العلم بالحكم الواقعي وموضوع الحكم الواقعي غير مقيد بذلك ، ضرورة أن الحكم الواقعي وإن لم يمكن فيه الاطلاق والتقييد اللحاظي لحالة العلم والجهل ، إلا أنه لا محيص من نتيجة الاطلاق أو التقييد ، لأنه لا يعقل الاهمال النفس الأمري.

فان كانت النتيجة مطلقة وكان الحكم الواقعي محفوظا في حال علم المكلف وجهله : فلا محالة يلزم اجتماع النقيضين في حال جهل المكلف بالحكم

__________________

١ ـ لا يخفى اختلاف نسخ « الفرائد » في هذا الموضع ، فمن بعضها يظهر : أن الشيخ قدس‌سره في مقام بيان الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي بتغاير الموضوع ، ومن بعضها يظهر : أنه في مقام بيان تغاير موضوع الأصول العملية مع موضوع الامارات ، لا تغاير موضوع الحكم الظاهري مع الحكم الواقعي ، فراجع وتأمل جيدا ( منه ).

٢ ـ أقول : إن كان الغرض من عدم اختلاف موضوع الحكم الواقعي والظاهري عدم اختلافهما وجودا ، ففي غاية المتانة ، كيف! ولولا اجتماعهما في الوجود لا يبقى مجال اجتماعهما في المورد. وإن كان الغرض عدم اختلافهما في عالم عروض الحكم بحسب موطن عروضه ، ففيه : أن معروض الحكم الواقعي هو الذات في الرتبة السابقة عن الجهل بحكمه ، وفي الحكم الظاهري هو الذات في الرتبة اللاحقة عن الجهل بحكمه ، بناء على التحقيق : من جعل الجهل من الجهات التعليلة للحكم الظاهري ، فإنه حينئذ لابد وأن يرى الذاتان في رتبتين : ذات في الرتبة السابقة عن الجهل ، وذات في الرتبة اللاحقة عن الجهل بحكمه ، ومن البديهي : أن أحد الذاتين غير الآخر في هذا العالم وإن كانا منتزعين عن وجود واحد خارجا ، ولقد حققنا في محله أيضا : بأن الحكم الظاهري يستحيل أن يجتمع مع الحكم الواقعي الفعلي إلا بهذا الاعتبار ، كما هو الشأن في وجه الجمع بين قبح التجري مع حسن العمل واقعا ، وكذلك الامر في طرف العكس بعد الجزم بعدم انقلاب الواقع عما هو عليه بمحض قيام الطريق على خلافه ، خصوصا في الطرق العقلية ، فتدبر.

٧٠١

الواقعي ، لاجتماع موضوع الحكم الواقعي والظاهري معا في ذلك الحال ، فيلزم اجتماع الضدين : من الوجوب والحرمة.

وإن كانت النتيجة مقيدة بحال العلم وكان الحكم الواقعي مخصوصا بصورة العلم به : فاجتماع النقيضين وإن لم يلزم لتغاير الموضوعين ، إلا أنه يلزم التصويب الجمع على بطلانه. فالجمع بين الحكم الظاهري والواقعي بتغاير الموضوع ضعيف غايته.

ويتلوه في الضعف الجمع بينهما بحمل الاحكام الواقعية على الانشائية والاحكام الظاهرية على الفعلية ، وقد تقدم الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في حجية الظن مع ما عندنا من الوجه في دفع التنافي بين الحكمين ، فراجع.

وعلى كل حال : قد عرفت أن التعارض إنما يلحق الدليلين ثانيا وبالعرض ، والذي يتصف به أولا وبالذات هو مدلول الدليلين وما يحكيان ويكشفان عنه ويؤديان إليه مطابقة أو التزاما. فإذا تكاذب الدليلان في المؤدى امتنع اجتماع المدلول المطابقي أو الالتزامي لأحدهما مع مدلول الآخر كذلك في عالم الجعل والتشريع ، فلا محالة يقع التعارض بين الدليلين مطلقا أو في بعض الافراد والحالات ، من غير فرق بين أن يتكاذب الدليلان بأنفسهما ابتداء ـ كما إذا كان أحدهما ينفي ما يثبته الآخر ـ وبين أن ينتهي الامر إلى التكاذب ولو لأمر خارج ، كما إذا كان مفاد أحد الدليلين وجوب صلاة الظهر وكان مفاد الآخر وجوب صلاة الجمعة وعلم من الخارج أن الواجب هي إحدى الصلاتين ، فان الدليلين وإن لم يتكاذبا ابتداء ولم يمتنع اجتماع مؤداهما ثبوتا إلا أنه بعد العلم بعدم وجوب إحدى الصلاتين يقع التكاذب بين الدليلين ، فان كلا منهما يثبت مؤداه وينفي بلازمه مؤدى الآخر ، فيؤول الامر إلى امتناع اجتماع المؤديين.

والحاصل : أن ضابط تعارض الدليلين هو أن يؤديان إلى ما لايمكن تشريعه

٧٠٢

ويمتنع جعله في نفس الامر ولكن بعد أن يكون كل منهما واجدا لشرائط الحجية ، فلو علم بكذب أحد الدليلين لمكان العلم بكون أحدهما غير واجد لشرائط الحجية واشتبه بما يكون واجدا لشرائطها كان ذلك خارجا عن باب التعارض (١) بل يكون من اشتباه الحجية باللا حجية ، ولا يأتي فيه أحكام التعارض ، وإنما يعمل فيه ما تقتضيه قواعد العلم الاجمالي.

وفي حكم ذلك ما إذا علم بعدم تشريع مؤدى أحد الدليلين مع إمكانه ثبوتا ، كما إذا كان مؤدى أحد الدليلين وجوب الدعاء عند الهلال وكان مؤدى الآخر وجوب دية الحر في قتل العبد المدبر وعلم بكذب مضمون أحدهما ، فإنه أيضا ليس من باب التعارض ، بل من باب اشتباه الحجية باللا حجة ، ويعمل على ما يقتضيه العلم الاجمالي.

فظهر : أنه مجرد العلم بكذب أحد الدليلين صدورا أو مضمونا لا يكفي في وقوع التعارض بينهما ، بل يعتبر في وقوع التعارض بين الدليلين أمران : أحدهما : أن يكون كل منهما واجدا لشرائط الحجية ، ثانيهما : أن يمتنع اجتماع مدلولهما ثبوتا

__________________

١ ـ أقول : باب اشتباه الحجة باللا حجة لا يحتاج إلى العلم بكذب أحدهما ، بل هو صورة العلم بعدم عدالة أحد الراويين أو صدور أحدهما تقية ولو علم بصدورهما عن الامام عليه‌السلام وهذه الجهة غير صورة العلم بكذب أحد الدليلين مع العلم بعدالتهما وعدم إعمال التقية فيهما ، ففي هذه لا محيص من كونه من باب التعارض. وحينئذ ففي فرض العلم بعدم تشريع أحد الحكمين ولو من الخارج ـ كمثال الهلال ودية الحر ـ يدخل في باب التعارض ولو بالعرض ، نظير ما اعترف به : من وجوب صلاة الظهر والجمعة. ولا أظن أن أحدا يرى الفرق بين المثالين إلا في وحدة سنخ الحكم في الثاني دون الأول ، وإلا فمع اشتراكهما في إمكان تشريع الحكمين ذاتا وامتناعه عرضا ـ الذي هو ملاك التعارض بالعرض بين الدليلين ـ لا يبقى مجال التفرقة بينهما ، ولقد تقدم منه سابقا أيضا نظير هذا الكلام في الاستصحابين المثبتين ، وتخيل أن اتحاد سنخ الحكم أيضا له دخل في تعارضهما ، وجعل المختلفان مضمونا داخلا في فرض العلم بكذب أحدهما بلا تعارض بينهما ، ولعمري! إن مثل هذه الدعوى مختص بمن لا يسئل عما يفعل ، وإلا فشأن القوم أجل من هذه الدعاوي! فتدبر.

٧٠٣

في عالم الجعل والتشريع ، فتأمل جيدا.

المبحث الثاني

في الفرق بين التعارض والتزاحم

وحاصله : أن التزاحم وإن كان يشترك مع التعارض في عدم إمكان اجتماع الحكمين ، إلا أن عدم إمكان الاجتماع في التعارض إنما يكون في مرحلة الجعل والتشريع ، بحيث يمتنع تشريع الحكمين ثبوتا ، لأنه يلزم من تشريعهما اجتماع الضدين أو النقيضين في نفس الامر.

وأما التزاحم : فعدم إمكان اجتماع الحكمين فيه إنما يكون في مرحلة الامتثال بعد تشريعهما وإنشائهما على موضوعهما المقدر وجوده وكان بين الحكمين في عالم الجعل والتشريع كمال الملائمة من دون أن يكون بينهما مزاحمة في مقام التشريع والانشاء (١) وإنما وقع بينهما المزاحمة في مقام الفعلية بعد تحقق الموضوع خارجا ، لعدم القدرة على الجمع بينهما في الامتثال ، فيقع التزاحم بينهما لتحقق القدرة على امتثال أحدهما ، فيصلح كل منهما لان يكون تعجيزا مولويا عن الآخر ورافعا لموضوعه ، فان كل تكليف يستدعي حفظ القدرة على متعلقه

__________________

١ ـ أقول : جعل الحكم وإنشائه في مقام التشريع على موضوعه المقدر وجوده إن كان قابلا للتحقق ولو لم ينته إلى مرحلة الفعلية الامتثالية ، فلازمه جواز الجعلين حتى في صورة ملازمة امتثال أحدهما لتعجيز الآخر. وإن لم يكن قابلا للتحقق إلا في صورة انتهاء أمره إلى الفعلية ، فكيف يكون مجعولان بينهما الملائمة في ظرف العجز عن امتثال أحدهما ولو من باب الاتفاق؟ بل لا محيص من تقيد إطلاق هذا الجعل بصورة القدرة ، فينتهي الامر حينئذ في صورة العجز عن امتثال أحدهما ولو من باب الاتفاق إلى الجزم بعدم أحد الجعلين واقعا ، كما لا يخفى ، فتدبر.

٧٠٤

وصرفها نحوه وإن لزم منه سلب القدرة عن التكليف الآخر ، والمفروض : ثبوت القدرة على كل منهما منفردا وإن لم يمكن الجمع بينهما ، فكل من الحكمين يقتضي حفظ موضوعه ورفع موضوع الآخر بصرف القدرة إلى امتثاله ، فيقع التزاحم بينهما في مقام الامتثال.

فما في بعض الكلمات : من أن تزاحم الحكمين إنما يكون لأجل تزاحم المقتضيين والملاكين اللذين يقتضيان تشريع الحكمين على طبقهما ، ضعيف غايته ، فان تزاحم الملاكين لا دخل له بتزاحم الحكمين ، بداهة أن عالم تزاحم الملاكات غير عالم تزاحم الاحكام ، فان تزاحم الملاكات إنما يكون في عالم تشريع الاحكام وإنشائها على موضوعاتها ، ولا محالة يقع الكسر والانكسار بين الملاكين ، فتتعلق إرادة الشارع بتشريع الحكم على طبق أقوى الملاكين لو كان أحدهما أقوى من الآخر ، وإلا فلابد من الحكم بالتخيير ، وأين هذا من تزاحم الحكمين؟ فان تزاحم الاحكام إنما يكون في عالم صرف قدرة المكلف على الامتثال بعد تشريع الاحكام على طبق ما اقتضته الملاكات ، فإرجاع تزاحم الاحكام إلى تزاحم الملاكات لا يخلو عن غرابة ، مع ما بين البابين من البون البعيد. وقد تقدم منا الكلام في تفصيل ذلك في الجزء الأول من الكتاب.

فتحصل : أن الفرق بين باب التعارض وباب التزاحم هو أن التعارض إنما يكون باعتبار تنافي مدلولي الدليلين في مقام الجعل والتشريع ، والتزاحم إنما يكون باعتبار تنافي الحكمين في مقام الامتثال ، إما لعدم القدرة على الجمع بينهما في الامتثال ، كما هو الغالب في باب التزاحم (١) وإما لقيام الدليل من الخارج

__________________

١ ـ أقول : بعد بناء الأصحاب طرا على الفرق بين العلم والقدرة في صلاحية القدرة لتقييد الخطاب ولو عقلا ، بخلاف العلم ـ لكونه في رتبة لاحقة عن الخطاب باطلاقه بلا صلاحية لتقييد مضمونه ـ لا محيص من إرجاع العلم إلى شرائط تنجيز الخطاب دون نفسه ، بخلاف القدرة ، فإنه من شرائط نفسه السابقة عن مرحلة تنجزه. وحينئذ لا يبقى مجال لاطلاق الخطاب لحال العجز ولو كان العجز اتفاقيا ،

٧٠٥

__________________

ولازمه عدم تشريع إطلاق الحكم ، نظير عدم تشريع إطلاقه في مجمع العامين من وجه ، خصوصا الحاصل من باب الاتفاق مع فرض وجود الملاكين فيه. وحينئذ كيف يرى فرق بين الخطابين في المجمع الحاصل من باب الاتفاق وبين الخطابين الغير الشامل لصورة العجز عن موافقتهما؟ إذ كل منهما في عدم تشريع الاطلاقين في الخطابين على حد سواء ، فلم يجعل أحدهما من باب العلم بعدم تشريع أحدهما ـ فيكون من باب التعارض ـ بخلاف الآخر؟ وحينئذ لو كان مدار تزاحم الحكمين صورة وجود الحكمين باطلاقهما لصورة العجز عن أحد الامتثالين ، فلا محيص من عدم تقيد مضمون الخطاب بالعجز ، بل كان مثل العلم شرط تنجيز الخطاب ، وهو بمكان من البعد من كلمات الأصحاب المؤسسين لهذه الأساسات والجاعلين لهذه الاصطلاحات!! فظهر مما ذكرنا : أن المدار في باب التزاحم لو كان على ما أفيد ، فيلزم على مسلك تقيد مضمون الخطاب بالقدرة إرجاع موارد العجز أيضا إلى باب التعارض بين إطلاقي الخطابين ، كما في العامين من وجه بالنسبة إلى المجمع ، وحينئذ على الاسلام السلام!!!.

وبالجملة : التحقيق أن يقال : إنه لا نعني من باب التزاحم إلا صورة الجزم بوجود الغرضين مع ضيق خناق المولى من تحصيلهما ، ولذا لو علم من الخارج أهمية أحدهما يكشف ذلك من تقيد الحكم في الآخر مع العلم بفوت غرضه ، كما أنه لو فرض الجهل به ليحكم العقل بتنجز غرضه الآخر المعلوم. كما أنه لو كان أحدهما موسعا والآخر مضيقا بحيث لا يتزاحمان في الوجود يحكم العقل بحفظ الغرضين مهما أمكن ، بل ولو كان أحدهما مشروطا بالقدرة يحكم العقل بتقديم المطلق في التأثير بمناط التخصص والتخصيص. كما أنه لو كان لأحدهما بدل يحكم العقل بتقديم ما لا بدل له في التأثير في فعلية حكمه وتشريعه ، إلى غير ذلك من نتايج التزاحم.

وهذا بخلاف ما لو لم يحرز الغرضان في المورد ، بل يعلم بعدم وجود الغرض في أحد الموردين ، فإنه لا مجال لجريان ما ذكرنا من النتايج ، بل لا محيص إلا من إعمال مرجحات باب التعارض على ما سيجيء ( إن شاء الله تعالى ).

ولذا ترى أن القائلين بامتناع اجتماع الأمر والنهي لم يلتزموا باعمال قواعد التعارض : من الاخذ بالأرجح سندا من حيث العدالة والوثوق ، بل أعلموا فيه نتايج التزاحم ، خصوصا في حكمهم بصحة الصلاة مع الجهل بالغصبية أو بحرمته. وعليه : فلا أدري الداعي عن العدول عن مشي القوم إلا حيث الانفراد وبيان اصطلاح جديد لجلب أذهان صغار الطلاب نحوه! وإظهار ما يقتضيه جمود لفظ تزاحم الحكمين أو الغرضين والملاكين! مع ما عرفت : أن ما أفيد من الفرق لا يتم إلا بجعل القدرة كالعلم من شرائط التنجز والامتثال دون الخطاب ، ولعمري! إن هذا المعنى مما لم يلتزم به أحد ، حتى سيد

٧٠٦

على عدم وجوب الجمع بينهما ، كما في بعض فروع زكاة المواشي ، كما لو كان المكلف مالكا لخمس وعشرين من الإبل في ستة أشهر ثم ملك واحدا آخر من الإبل وصارت ستة وعشرين ، فمقتضى أدلة الزكاة هو وجوب خمس شياه عند انقضاء حول الخمس والعشرين ووجوب بنت مخاض عند انقضاء حول الستة والعشرين ، ولكن قام الدليل على أن المال لا يزكى في المقام الواحد مرتين ، فيقع التزاحم حينئذ بين الحكمين ، لأنه لابد من سقوط ستة أشهر إما من حول الخمس والعشرين وإما من حول الستة والعشرين ، فإنه لولا السقوط وبقاء كل حول منهما على حاله يلزم تزكية المال في ظرف ستة أشهر مرتين ، كما لا يخفى.

وبالجملة : وقوع التزاحم بين الحكمين لا يختص بصورة عدم القدرة على الجمع بينهما في الامتثال ، بل قد يتفق التزاحم بين الحكمين مع التمكن من الجمع بينهما ، إلا أن ذلك نادر ، والغالب أن يكون التزاحم لعدم القدرة على الجمع بين المتزاحمين ، وأقسامه خمسة.

فان التزاحم تارة : يكون لأجل اتفاق اتحاد متعلق الحكمين في الوجود مع كونهما متغايرين بالذات ومختلفين في الهوية ، بحيث يكون الاتحاد بينهما من قبيل التركيب الانضمامي ـ نظير تركب الجسم من المادة والصورة ـ وعلى ذلك يبتني جواز اجتماع الأمر والنهي ويندرج مورد تصادق متعلق الأمر والنهي في صغرى التزاحم ، كما هو المختار. وأما لو كان التركيب بين المتعلقين اتحاديا ـ نظير التركيب من الجنس والفصل ـ وكان أحد المتعلقين متحدا مع الآخر بالهوية والذات ولو في الجملة وفي بعض الموارد ، فلا يكون من باب التزاحم ، بل

__________________

الأساطين « السيد محمد الأصفهاني » أستاذ هذا المحقق الذي قوام تحصيله وأساس فضله منه حسب ما سمعنا عنه مرارا ، فتدبر فيما ذكرنا تعرف.

٧٠٧

يندرج مورد تصادق متعلق الأمر والنهي في صغرى التعارض ـ كتعارض العامين من وجه ـ وعلى ذلك يبتني امتناع اجتماع الأمر والنهي ، فإنه على هذا يكون الامر بالصلاة والنهي عن الغصب بعينه كالأمر باكرام العالم والنهي عن إكرام الفاسق ، ولا إشكال في أنه في مورد تصادق العالم والفاسق يقع التعارض بين الدليلين ، لأنه يلزم أن يتعلق الامر بعين ما تعلق به النهي ، وقد تقدم في الجزء الثاني من الكتاب تفصيل ذلك بما لا مزيد عليه.

وأخرى : يكون التزاحم لأجل اتفاق وقوع التلازم بين متعلق الحكمين ، بمعنى أنه اتفق الملازمة بين امتثال أحد الحكمين لمخالفة الآخر ، فلو كانت الملازمة بينهما دائمية يندرجان في صغرى التعارض ، لامتناع تشريع حكمين يلزم من امتثال أحدهما مخالفة الآخر دائما (١) كما لو فرض أنه قام الدليل على وجوب استقبال القلبة وحرمة استدبار الجدي في القطر الذي تكون القبلة فيه نقطة الجنوب ـ كالعراق ـ فان الدليلين يتعارضان لا محالة ، وذلك واضح.

وثالثة : يكون التزاحم لأجل اتفاق وقوع أحد المتعلقين مقدمة لوجود الآخر ، كما لو توقف انقاذ الغريق على التصرف في أرض الغير ، فلو كان أحد المتعلقين مقدمة لوجود الآخر دائما لم يندرجا في باب التزاحم ، بل يندرجان في باب التعارض ، لامتناع تشريع الحكمين على هذا الوجه ، كما لا يخفى.

ورابعة : يكون التزاحم لأجل اتفاق وقوع المضادة بين المتعلقين ، كما لو

__________________

١ ـ أقول : لا يرى فرقا إلا في استحالة أصل التشريع في الثاني وإطلاقه في الأول ، فلازمه أيضا استحالة تشريع الحكم في خصوص مورد العجز من باب الاتفاق ، نظير عدم تشريع إطلاق الحكمين في العامين من وجه ، خصوصا مع وجود الملاك فيهما ، وهذا المقدار لا يجدي فرقا في إدخال أحدهما في باب التعارض والآخر في التزاحم. ولئن قيل : بأن الخطاب مع عدم انتهائه إلى الحكم بالامتثال دائما مستحيل ولغو بخلاف ما لو لم يكن ذلك رأسا ، ولذا نفرق في القدرة بين الصورتين. لنقول : بأن لازمه لغوية الخطاب مع ملازمته مع الجهل ، ومرجعه إلى شرطية فعلية الخطاب بالعلم به أحيانا ، وهو دور ، فتدبر.

٧٠٨

اتفقت نجاسة المسجد في وقت الصلاة ، فلو كانت المضادة دائمية يخرج عن باب التزاحم.

وخامسة : يكون التزاحم لأجل كون أحد المتعلقين مترتبا في الوجود والامتثال على الآخر وقد اتفق عدم قدرة المكلف على الجمع بين إيجاد المتعلقين كل في محله ، كالقيام في الركعة الأولى والثانية مع عدم تمكن المكلف من القيام إلا في إحدى الركعتين لضعف ونحوه. فهذه جملة أقسام التزاحم.

وأما مرجحات باب التزاحم :

فهي أمور :

منها : ما إذا كان أحد المتزاحمين مضيقا والآخر موسعا ، فان المضيق يقدم على الموسع.

ومنها : ما إذا كان أحد المتزاحمين مشروطا بالقدرة الشرعية دون الآخر ، فيقدم ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية على ما يكون مشروطا بها.

ومنها : ما إذا كان لاحد المتزاحمين بدل اضطراري دون الآخر ، فان مالا بدل له مقدم على ماله البدل.

ومنها : ما إذا كان ظرف امتثال أحد المتزاحمين مقدما على ظرف امتثال الآخر ، فان المقدم في الامتثال يقدم على غيره.

ومنها : ما إذا كان أحد المتزاحمين أهم من الآخر ، فإنه يقدم الأهم على غيره.

فهذه الأمور الخمسة مرجحات باب التزاحم ، وقد تقدم الكلام فيها وفي أمثلتها في الجزء الأول ، فراجع.

وأما مرجحات باب التعارض : فسيأتي الكلام فيها ( إن شاء الله تعالى ).

٧٠٩

فتحصل : أن التعارض يغاير التزاحم موضوعا وحكما ولا يمكن أن يشتبه أحدهما بالآخر ، فتأمل جيدا

المبحث الثالث

يعتبر في التعارض أن لا يكون أحد الدليلين حاكما على الآخر ، فان الحاكم إنما يثبت أو ينفي مالا يثبته دليل المحكوم أو ينفيه ، فلا يعقل أن يعارض المحكوم دليل الحاكم ، وذلك واضح لم يقع فيه الكلام. وإنما وقع الكلام في ضابط الحكومة.

فقيل : إن ضابط الحكومة هو أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي شارحا ومفسرا لما أريد من الدليل الآخر.

ولعل منشأ تفسير الحكومة بذلك : هو ما ذكره الشيخ قدس‌سره في مبحث التعادل والتراجيح ، قال قدس‌سره « وضابط الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه ، فيكون مبينا لمقدار مدلوله مسوقا لبيان حاله متفرعا عليه » إلى أن قال : « والفرق بينه وبين التخصيص أن كون التخصيص بيانا للعام بحكم العقل الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع العمل بالخاص ، هذا بيان بلفظه ومفسر للمراد من العام ، وهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير » انتهى.

والتحقيق : أنه لا يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي مفسرا لمدلول الآخر وشارحا له ، بحيث يكون مصدرا بأحد أداة التفسير أو ما يلحق بذلك ، فان غالب موارد الحكومات لا ينطبق على هذا الضابط ، بل لم يوجد فيها ما يكون مصدرا بأحد أداة التفسير.

٧١٠

وإن قيل : إن المراد من التفسير ما يعم تفسير قرينة المجار لذي القرينة ، حيث إن قرينة المجاز إنما تكون شارحة لما أريد من لفظ ذي القرينة مع عدم كونها مصدرة بأداة التفسير.

قلنا : قصر الحكومة على ذلك أيضا يوجب خروج غالب الموارد عنها.

فدعوى : أنه يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين مبينا لما أريد من مدلول الآخر وما يكون اللفظ ظاهرا فيه ، مما لا شاهد عليها ، فإنه ليست الحكومة مدلول دليل لفظي حتى يدعى أن المستفاد من الدليل ذلك.

والظاهر أن مراد الشيخ قدس‌سره من التفسير في قوله : « وهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير » ليس هو التفسير اللفظي ، بل المراد منه نتيجة التفسير وإن لم يكن تفسيرا لفظيا ، بداهة أنه لو كان مفاد أحد الدليلين بمدلوله المطابقي ما تقتضيه نتيجة تحكيم الخاص والمقيد على العام والمطلق ، لكان حاكما على الآخر ، مع أنه ليس في تحكيم الخاص والمقيد على العام والمطلق ما يوجب شرح اللفظ : فان الخاص والمقيد لم يتعرض لما أريد من لفظ العام والمطلق ، بل وظيفة الخاص والمقيد بيان الموضوع النفس الأمري وما تعلقت به الإرادة الواقعية ، من دون أن يتصرف في لفظ العام والمطلق ، بناء على ما هو التحقيق : من أن التخصيص والتقييد لا يوجب التجوز في لفظ العام والمطلق. نعم : بناء على أن التخصيص والتقييد يقتضي المجازية ، يكون الدليل الذي كان مفاده المطابقي ما تقتضيه نتيجة تحكيم الخاص والمقيد على العام والمطلق شارحا ومبينا لما أريد من لفظ العام والمطلق ، فان الخاص والمقيد يكون حاله حال سائر قرائن المجاز ، إلا أن ذلك بمعزل عن الواقع ، كما أوضحناه في محله.

وبالجملة : تحكيم قوله : « لا تكرم النحويين » على قوله : « أكرم العلماء » لا يقتضي أزيد من أن الموضوع النفس الأمري لوجوب الاكرام هو العام الغير النحوي ، من دون أن يستلزم ذلك تصرفا في لفظ « العلماء » فلو فرض أنه كان

٧١١

هذا المعنى مدلول دليل آخر لا بلسان التخصيص والتقييد ، كما لو قال عقيب قوله « أكرم العلماء » : « العالم هو غير النحوي » أو قال : « النحوي ليس عالما » كان قوله هذا حاكما على قوله : « أكرم العلماء » مع أنه ليس فيه شرح وتفسير لفظي ، فتخصيص الحكومة بما يكون فيها شرح اللفظ بلا موجب ، بل سيأتي في شرح عبارة الشيخ قدس‌سره ما يظهر منه جريان الحكومة فيما بين الأصول العقلائية التي لا مسرح للفظ فيها.

فالتحقيق : أنه لا يعتبر في الحكومة أزيد من أن يرجع مفاد أحد الدليلين إلى تصرف في عقد وضع الآخر بنحو من التصرف (١) إما بأن يكون مفاد أحدهما رافعا لموضوع الآخر في عالم التشريع ، كما في حكومة الامارات على الأصول العملية وحكومة الأصول بعضها على بعض ـ على ما تقدم بيانه في خاتمة الاستصحاب ـ وإما بأن يكون مفاد أحدهما إدخال ما يكون خارجا عن موضوع الآخر أو إخراج ما يكون داخلا فيه. وقد يرجع مفاد أحد الدليلين إلى التصرف في عقد حمل الآخر لا في عقد وضعه ، كأدلة نفي الضرر والعسر والحرج ، فإنها تكون حاكمة على الاحكام الأولية ، مع أنه لا يرجع مفادها إلى التصرف

__________________

١ ـ أقول : الأولى أن يقال : إن قوام الحكومة بنظر أحد الدليلين إلى مفاد دليل الآخر من حيث عقد حمله ، إما بتوسيط التصرف في موضوعه بنحو من العناية إخراجا أم إدخالا ، أو بلا توسيط هذا التصرف بل كان ناظرا بدوا إلى تعين مفاد دليل الآخر بلا تصرف فيه بنحو من العناية إلى موضوعه أو حكمه. ومن الثاني عموم « لا ضرر » وأمثاله على أدلة التكاليف ، وقد تقدم أن تقديم الاستصحاب السببي على المسببي أو على « قاعدة الحلية » و « الطهارة » من هذا القبيل أيضا. ومن الأول كل مورد يكون أحد الدليلين نافيا لموضوع الآخر تعبدا وتنزيلا ، أو مدخلا لغيره فيه كذلك ، إذا قوام حكومة هذا اللسان أيضا إنما هو بملاحظة نظره إلى حكمه المصحح لتنزيله.

ومن هنا نقول : بأنه قد يقع المعارضة بين إطلاق نظر التنزيل بالنسبة إلى حكم مع دليل ذلك الحكم فيرجع فيه إلى إعمال قواعد الجمع : من الاخذ بأقوى الدليلين. نعم : لو كان في نظره أقوى كان دليل التنزيل مقدما على الآخر ولو كان بينهما عموم من وجه.

٧١٢

في موضوعات الاحكام ، بل يرجع تصرفها إلى إلى نفس الاحكام ، كما أوضحناه في « رسالة لا ضرر ». ولكن الغالب في الحكومات رجوع تصرف الحاكم إلى عقد وضع المحكوم ، سواء كانت الحكومة فيما بين الأدلة المتكفلة لبيان الاحكام الواقعية ، كحكومة قوله : « لا شك لكثير الشك » على قوله : « من شك بين الثلاث والأربع فليبن على الأربع » أو كانت الحكومة فيما بين الأدلة المتكفلة لبيان الاحكام الظاهرية ، كحكومة الامارات على الأصول ، فان الحكومة في جميع ذلك ترجع إلى تصرف دليل الحاكم في عقد وضع دليل المحكوم بنحو من التصرف ، من غير فرق بين أن يتقدم دليل المحكوم على دليل الحاكم في الورود والتعبد والتشريع أو يتأخر عنه. ولا وجه لما في بعض الكلمات : من أنه يعتبر في الحكومة أن يتقدم تشريع مفاد المحكوم على تشريع مفاد الحاكم ، بحيث يلزم لغوية التعبد بدليل الحاكم لولا سبق تشريع ما يتكفله دليل المحكوم والتعبد به.

وكأن من اعتبر في الحكومة ذلك غره ما يعطيه ظاهر كلام الشيخ قدس‌سره من قوله في كلامه المتقدم : « مسوقا لبيان حاله متفرعا عليه الخ » وأنت خبير بأنه من أوضح أفراد الحكومة حكومة الامارات على الأصول ، مع أنه يصح التعبد بالامارات ولو لم يسبق التعبد بالأصول ، بل ولو مع عدم التعبد بها رأسا.

نعم : الغالب في الحكومة التي تكون بين الأدلة المتكفلة للأحكام الواقعية هو سبق تشريع مفاد دليل المحكوم على مفاد دليل الحاكم ، كقوله : « لا شك لكثير الشك » أو قوله : « لا شك للامام مع حفظ المأموم » ونحو ذلك ، فإنه لولا سبق تشريع أحكام الشكوك لا يحسن تشريع مفاد قوله : « لا شك لكثير الشك ».

فتحصل مما ذكرنا : أنه لا يعتبر في الحكومة شرح اللفظ وتفسير أحد الدليلين لما أريد من دليل الآخر ، ولا يعتبر أيضا تقدم تشريع مفاد المحكوم على مفاد الحاكم ، بل الذي يعتبر في الحكومة : هو أن يرجع مفاد أحد الدليلين إلى

٧١٣

نحو تصرف في عالم التشريع في عقد وضع الآخر ـ كما هو الغالب ـ مع بقاء الموضوع في عالم التكوين على حاله ، ولذلك كانت نتيجة الحكومة هي التخصيص كما أن نتيجة الورود هي التخصص ، وقد تقدم تفصيل الفرق بين التخصيص والورود والحكومة والتخصص في أول مبحث البراءة وأشرنا إليه أيضا في خاتمة الاستصحاب.

وإجمال الفرق بين هذه العناوين : هو أن التخصص عبارة عن « خروج الشيء عن موضوع الدليل بذاته تكوينا » كخروج الجاهل عن قوله : « أكرم العلماء » وكخروج العالم بالحكم الشرعي عن موضوع التعبد بالامارات والأصول العملية.

وأما الورود : فهو عبارة عن « خروج الشيء عن موضوع أحد الدليلين حقيقة بعناية التعبد بالآخر » كخروج الشبهة عن موضوع الأصول العقلية بالتعبد بالامارات والأصول الشرعية ، فالورود يشارك التخصص في كون الخروج في كل منهما يكون على وجه الحقيقة ، إلا أن الخروج في التخصص يكون بذاته تكوينا بلا عناية التعبد ، وفي الورود يكون بعناية التعبد.

وأما الحكومة : فقد عرفت أنها عبارة عن « تصرف أحد الدليلين في موضوع الآخر رفعا أو وضعا ولكن لا حقيقة بل حكما » ففي الحقيقة دليل الحاكم إنما يتصرف فيما يتكفله دليل المحكوم من الحكم الشرعي بعناية التصرف في الموضوع.

وأما التخصيص : فهو عبارة عن « سلب الحكم عن بعض أفراد موضوع العام بلا تصرف في الموضوع » فالتخصيص يشارك الحكومة في كون التصرف في كل منهما إنما يكون في الحكم الشرعي ، إلا أن التصرف في الحكومة إنما يكون بتوسط التصرف في الموضوع ، وفي التخصيص يكون التصرف ابتداء في الحكم ، ولأجل ذلك لا تلاحظ النسبة بين دليل الحكام والمحكوم ولا قوة الظهور وضعفه ، بل يقدم الحاكم ولو كانت النسبة بينه وبين المحكوم العموم من وجه

٧١٤

وكان ظهور الحاكم أضعف من ظهور المحكوم ، بداهة أن لحاظ النسبة وقوع الظهور فرع التعارض ، وقد عرفت : أن دليل المحكوم لا يمكن أن يعارض دليل الحاكم ، لان دليل المحكوم إنما يثبت الحكم على فرض وجود موضوعه ـ كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقة ـ ودليل الحاكم ينفي وجود الموضوع أو يثبته ، فلا يمكن أن يعارض قوله : « أكرم العلماء » مع قوله : « النحوي ليس بعالم » أو قوله : « المنجم عالم » فدليل الحاكم دائما يتكفل بيان مالا يتكفل بيانه دليل المحكوم ، فلا يعقل وقوع المعارضة بينهما ، وذلك واضح لا ينبغي تطويل الكلام فيه (١).

المبحث الرابع

العام والخاص المتخالفان في السلب والايجاب وإن كانا متعارضين بحسب ما لكل منهما من الظهور ابتداء ، إلا أن أصالة الظهور في طرف الخاص تكون

__________________

١ ـ أقول : قد أشرنا إلى تصوير المعارضة بينهما أحيانا في بعض المقامات ، مثل ما لو كان في البين كبريات متعددة ، كعنوان « النجفي » و « العراقي » وكثر ابتلائه ببعضها دون بعض ، ففي هذه الصورة لو قيل : « زيد ليس عراقيا » أو « نجفيا » ربما ينصرف الذهن منه إلى الحكم الذي هو مورد ابتلائه دون غيره ، وربما يكون في * إطلاق نظره إلى غير هذا الحكم في غاية الضعف ، بحيث كان إطلاق دليل الكبرى للمورد أظهر ، ففي مثل هذه الصورة يقدم دليل الكبرى على دليل التنزيل ، وتوجب صرف نظره الذي به قوام حكومته إلى غيره من سائر الكبريات ، وربما يكون الظهوران يتساويان ، فقهرا يتساقط الظهوران بلا تقديم أحدهما على الآخر ، كما هو ظاهر ، فتدبر فيما ذكرنا كي يغرنك صورة ما أفاده من البرهان المقتضي لعدم معقولية المعارضة بين دليل الكبرى ودليل التنزيل في الصغرى إخراجا أو إدخالا.

وتوضيح المغالطة : أنه لو فرض عدم تكفل دليل الكبرى لاثبات صغراه لا يكاد تقديم دليل التنزيل ما لم يكن في نظره إلى مثل هذا الكبرى أيضا أقوى منه ، ومع أقوائية نظره إليه من دليل الكبرى بالنسبة إلى المورد كان دليل التنزيل حاكما عليه ولو كان دليل الكبرى أيضا ناظرا إلى إثبات موضوعه. وحينئذ لا يبقى لما ذكر من البرهان نتيجة وإن كان قابلا لاغتشاش الأذهان.

* والظاهر زيادة كلمة « في » ( المصحح ).

٧١٥

حاكمة على أصالة الظهور في طرف العام ، بل في بعض الفروض يحتمل أن تكون واردة عليها ، وإلى ذلك إشارة الشيخ قدس‌سره بقوله : « ثم إن ما ذكرنا من الورود والحكومة جار في الأصول اللفظية أيضا ، فإن أصالة الحقيقة أو العموم معتبرة إذا لم يعلم هناك قرينة على المجاز. فان كان المخصص مثلا دليلا علميا كان واردا على الأصل المذكور ، فالعمل بالنص القطعي في مقابل الظاهر كالعمل بالدليل العلمي في مقابل الأصل العملي. وإن كان المخصص ظنيا معتبرا كان حاكما على الأصل الخ ». ولا بأس بشرح عبارة الشيخ قدس‌سره في المقام ، فإنها لا تخلو عن دقة ، بل قد التبس المراد منها على كثير من الاعلام ، وقبل ذلك ينبغي تقديم مقدمة قد تقدم الكلام فيها في حجية الظواهر.

وهي أن لكل كلام صادر عن كل متكلم دلالة تصورية ودلالة تصديقية. أما الدلالة التصورية : فهي عبارة عن دلالة مفردات الكلام على معانيها اللغوية ، فان لكل كلمة من الكلمات التي يتركب منها الكلام ظهورا في المعنى الموضوعة له ، وهو الذي يخطر في ذهن السامع عند اشتغال المتكلم في الكلام إذا كان السامع عالما بالأوضاع.

وأما الدلالة التصديقية : فتطلق على معنيين :

أحدهما : دلالة جملة الكلام على ما هو المتفاهم منه عند أهل المحاورات ، وهو الذي يقع في جواب السؤال عما قاله المتكلم ، فيقال : قال كذا وكذا ، وثبوت هذه الدلالة للكلام يتوقف على فراغ المتكلم عنه ، فإنه لا يصح السؤال والجواب عما قاله المتكلم مع اشتغاله بالكلام ، إذ للمتكلم أن يلحق بكلامه ما شاء من القرائن والمقيدات والمخصصات في حال اشتغاله بالكلام ، فلا ينعقد لجملة الكلام ظهور إلا بعد فراغ المتكلم عن كلامه ، فينعقد لكلامه ظهور فيما له من المعنى العرفي بحسب ما جرت عليه طريقة المحاورات ، فقد يكون الظهور

٧١٦

العرفي لجملة الكلام مطابقا لظهور مفردات الكلام إذا لم يحتف به قرينة المجاز أو التقييد والتخصيص ، وقد يكون ظهور الجملة مخالفا لظهور المفردات إذا احتف بالكلام أحد هذه الأمور.

ثانيهما : دلالة الكلام على إرادة المتكلم مؤداه وأن مفاده العرفي هو المقصود من إلقاء الكلام ، وهذا المعنى من الدلالة هي التي تقع في جواب السؤال عما أراد المتكلم من كلامه فيقال : أراد كذا وكذا ، فقد يصح الجواب عن السؤال بأنه أراد ما يكون الكلام ظاهرا فيه بحسب المحاورات العرفية إذا لم يعتمد المتكلم على القرائن المنفصلة ، وقد لا يصح الجواب بذلك إذا علم أن المتكلم اعتمد في بيان تمام مراده على القرائن المنفصلة أو كان عادته على ذلك وإن لم يعلم اعتماده على المنفصل في هذا الكلام الخاص ، كما هو الشأن فيما صدر من الأئمة عليهم‌السلام فإنه جرت عادتهم على الاعتماد بالمنفصلات غالبا لمصالح هم أعرف بها ، ولذا ترى أن العام أو المطلق ورد عن إمام عليه‌السلام والخاص أو المقيد ورد عن إمام آخر عليه‌السلام مع ما بينهما من الفصل الطويل ، وسيأتي الكلام في توجيه ذلك. والمقصود في المقام هو بيان عدم جواز الحكم بان ظاهر الكلام هو المراد النفس الأمري إذا كان المتكلم ممن يعتمد غالبا على المنفصلات. وأما إذا لم يكن من عادته ذلك : فان علم في كلام خاص أنه اعتمد على المنفصل فلا يجوز الاخذ بظاهر كلامه ، وإن لم يعلم ذلك فلا إشكال في جواز الاخذ بظاهر كلامه ولو احتمل أنه اعتمد على المنفصل ، لان الطريقة العقلائية قد استقرت على اتباع ظهور الكلام وعدم الاعتناء باحتمال مخالفته للمراد النفس الأمري ، وهذا كله مما لا إشكال فيه.

إنما الاشكال في أن عمل العقلاء على ما يكون الكلام ظاهرا فيه (١) هل

__________________

١ ـ وتظهر الثمرة بين الوجهين في المورد الذي لا تجري فيه أصالة عدم القرينة من جهة احتمال وجود القرينة على الخلاف احتمالا عقلائيا ، فإنه بناء على اعتبار نفس الظهور يبنى على ظاهر الكلام. وأما بناء على عدم كفاية

٧١٧

هو لأجل حصول الظن منه ـ ولو نوعا ـ بأن ظاهره هو المراد؟ أو أن متابعة العقلاء لظهور الكلام لأجل البناء على أصالة عدم القرينة المنفصلة؟ (١) ولا محيص عن أحد الوجهين ، فإنه لا يمكن أن يكون بناء العقلاء على الاخذ بالظهور لمحض التعبد ، إذ ليس في طريقة العقلاء ما يقتضي التعبد ، فاما أن يكون الوجه في عمل العقلاء على الظهور كون الكلام كاشفا في نوعه عن المراد النفس الأمري فلا يحتاج في استخراج المراد إلى أصالة عدم القرينة المنفصلة ، وإما أن يكون الوجه فيه أصالة عدم القرينة فلا يكفي كون الكلام كاشفا في نوعه عن المراد ، بل لابد مع ذلك من إحراز عدم القرينة المنفصلة ولو بالأصل ، فيكون بناء العقلاء أولا على أصالة عدم القرينة ثم يعتمدون على أصالة الظهور ، وهذا بخلاف الوجه الأول ، فإنه ليس فيما وراء أصالة الظهور أصل آخر يعول عليه العقلاء في مقام استخراج المراد من الكلام.

والتحقيق يقتضي التفصيل بين الموارد ، فإنه في المورد الذي يتعلق الغرض باستخراج واقع مراد المتكلم وما تعلقت به الإرادة النفس الأمرية لا يكتفى بمجرد

__________________

نفس الظهور لا يبنى على الظهور ، لعدم جريان أصالة عدم القرينة ، فان أصالة عدم القرينة وإن كانت من الأصول العقلائية ، إلا أنه ليس بناء العقلاء على جريانها مع احتمال وجود القرينة احتمالا عقلائيا فتأمل ( منه ).

١ ـ أقول : هذا الكلام إنما يتم بناء على كون المراد من الظهور الذي هو موضوع هذا البحث هو الدلالة التصورية وإلا فالظهور بمعنى الدلالة التصديقية قوام نفسه بها. ثم انه على اي معنى من الظهور إنما يصح التشقيق بناء على التحقيق : من عدم حجية أصالة عدم القرينة عند الشك في قرينية الموجود ، وإلا فلا يبقى مجال لهذا التشقيق بعد عدم تعبد من العقلاء في الأصل المزبور ، بل مدار بنائهم فيه أيضا على الظن النوعي بعدمه ولو بعد الفحص ، إذ حينئذ يلازم الظهور المزبور بنفسه أو بحجيته مع أصالة عدم القرينة. وما أفاد المقرر : من بيان الثمرة أيضا ينبغي حصرها في صورة الشك في قرينية الموجود ، وإلا مجرد عقلائية احتمال وجود القرينة لا يمنع عن الأصل المبني على الظن النوعي ، وإنما يمنع عن جريان الأصل في فرض الشك في قرينية الموجود ، كما هو الشأن في الشك في حائلية الموجود مع بنائهم على أصالة عدم الحائل في موارده ، ولعل المورد أيضا من مصاديقه ، فتدبر.

٧١٨

ظهور الكلام ، بل لابد من إحراز عدم القرينة المنفصلة ولو بالأصل (١) وفي المورد الذي لم يتعلق الغرض باستخراج واقع مراد المتكلم يكتفى بظهور الكلام ، كما إذا كان صدور الكلام لأجل البعث والزجر وتحريك إرادة العبد نحو المؤدى ، فان العبد ملزم بظاهر الكلام وليس له الاعتذار باحتمال وجود القرينة المنفصلة على خلاف ما يقتضيه ظاهر الكلام ، كما أنه ليس للمولى إلزام العبد بغير ظاهر كلامه.

وبالجملة : المتبع في مقام الاحتجاج والاعتذار نفس ظهور الكلام لا غير ، وقد تقدم تفصيل ذلك في حجية الظن.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنه إذا ورد عام وخاص فالخاص لا يخلو : إما أن يكون قطعي السند والدلالة ، كالنص المتواتر أو المحفوف بالقرائن القطعية. وإما أن يكون ظني السند والدلالة ، كالخبر الواحد الظاهر في المؤدى. وإما أن يكون قطعي السند وظني الدلالة ، كالمتواتر الظاهر في المؤدى. وإما أن يكون ظني السند وقطعي الدلالة ، كالنص من الخبر الواحد. فهذه جملة ما يتصور من أقسام الخاص.

فان كان قطعي السند والدلالة : فلا إشكال في تخصيص العام به ، ولا مجال لجريان أصالة الظهور في طرف العام ، لان الخاص رافع لموضوعها ، للعلم بأن العموم ليس بمراد ، فالخاص يكون واردا على أصالة العموم.

بل يمكن أن يقال : إن مؤدى الخاص يكون خارجا عن مفاد أصالة الظهور بالتخصص لا بالورود ، لما عرفت : من أن ورود أحد الدليلين على الآخر إنما

__________________

١ ـ أقول : إذا تعلق الغرض باستخراج واقع المراد كيف يكتفي بأصالة عدم القرينة؟ بل لا محيص له من تحصيل الجزم بعدمها ، كيف! والأصل المزبور لا يجدي إلا عذرا في المخالفة ، وهذا العذر موجود في الاخذ بالظهور على غرضه ، مع أن محط البحث تعين ما هو الحجة ، وليس أحد الحجتين أقوى من الآخر في الكشف عن الواقع كي يختص الحجية به ، فتدبر.

٧١٩

يكون بمعونة التبعد بأحدهما ، والخاص القطعي السند والدلالة لا يحتاج إلى التعبد ، لأنه يعلم بصدوره وإرادة مؤداه ، والعلم لا تناله يد التعبد. وعلى كل حال : لا إشكال في تقدم الخاص على العام إذا كان قطعي السند والدلالة.

وإن كان ظني السند والدلالة أو كان قطعي السند وظني الدلالة : فظاهر إطلاق كلام الشيخ قدس‌سره هو عدم تخصيص العام به ، بل يعمل بأقوى الظهورين : ظهور العام في العموم وظهور الخاص في التخصيص.

ولكن الأقوى : وجوب الاخذ بظهور الخاص وتخصيص العام به ولو كان ظهوره أضعف من ظهور العام (١) فان أصالة الظهور في طرف الخاص تكون حاكمة على أصالة الظهور في طرف العام ، لان الخاص يكون بمنزلة القرينة على التصرف في العام ، كما يتضح ذلك بفرض وقوع العام والخاص في مجلس واحد من متكلم واحد ، فإنه لا يكاد يشك في كون الخاص قرينة على التصرف في العام ، كما لا ينبغي الشك في حكومة أصالة الظهور في القرينة على أصالة الظهور

__________________

١ ـ أقول : لا إشكال في تقدم ما سيقت للقرينية على التصرف في غيره ، ولا يلاحظ فيه الأظهرية. ولكن عمدة الكلام في هذا المعنى ، إذ مرجع سوقه قرينة على التصرف في الغير إلى سوقه لبيان حال الغير ، ولا يكون إلا بكونه ناظرا إلى شرح الغير ، وهو ليس إلا شأن الحاكم. واما المخصص ـ حسب اعترافه سابقا ـ لا يكون له مثل هذا النظر ابدا ، وإنما مفاده حكم آخر مضاد مع حكم غيره في فرد خاص أو مناقض ، ففي هذه الصورة لا مجال لدعوى سوقه للقرينة على شرح غيره ، بل كان معارضا مع غيره محضا ، وفي مثله لا محيص من الترجيح بالأقوى ، فيجري على الأقوى حكم القرينة ، لا انه حقيقة قرينة ، فاجراء حكم القرينة على الخاص حينئذ فرع أقوائيته ، وإلا فلو كان العام في دلالته على المورد أقوى ـ ولو من جهة إبائه عن التخصيص ـ يجري على العام حكم القرينة على التصرف في الخاص مثلا. ولعمري! إن ما أفيد في المقام من غرائب الكلام ، وأغرب منه استشهاده بتقديم « يرمي » على « الأسد » إذ مجرد وضعية الدلالة لا يقتضي الأقوائية بعد انصراف « يرمي » إلى الرمي بالنبال الغير المناسب للحيوان. واما بناء الأصحاب على تقديم الخاص : فإنما هو من جهة أظهرية الخاص عن العام ، فلو وجد مورد يكون العام بملاحظة بعض الخصوصيات آبيا عن التخصيص اي شخص يقدم الخاص عليه لمحض كونه خاصا! كما لا يخفى.

٧٢٠