فوائد الأصول - ج ٤

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٢

وقد أطال الشيخ قدس‌سره الكلام في حديث « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (١) مع أنه لا يحتاج إلى هذا التطويل ، فان المراد من قوله عليه‌السلام « حتى يرد فيه نهي » إن كان هو الورود من قبل الله ( تعالى ) بالوحي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مفاد الحديث مفاد سائر العمومات الاجتهادية ، نظير قوله تعالى : « وأحل لكم ما في الأرض جميعا » (٢) فيكون أجنبيا عن أدلة أصالة البراءة ، بل ينبغي عده من أدلة أصالة الإباحة ردا على من قال بأصالة الحظر قبل الشرع. وإن كان المراد من « الورود » الوصول والعلم بالنهي كان المراد من « الشيء » الشيء المشكوك ، فيكون مفاده مفاد سائر أدلة البراءة ولا خصوصية للحديث المبارك ، وقد عرفت : أن الاستصحاب باعتبار إحرازه يكون رافعا لموضوعها. وقد تكرر منا الكلام في تفصيل ذلك (٣).

ـ الامر السادس ـ

في تعارض الاستصحابين.

وتفصيل الكلام في ذلك : هو أن الشك في بقاء أحد المستصحبين إما يكون مسببا عن الشك في بقاء المستصحب الآخر وإما أن يكون الشك في بقاء كل من المستصحبين مسببا عن أمر ثالث ، ولا يمكن أن يكون الشك في كل منهما مسببا عن الآخر ، فإنه لا يعقل أن تكون علة الشيء معلوله. وما قيل : من أن الشك في عموم كل من العامين من وجه مسبب عن

__________________

١ ـ من لا يحضره الفقيه : ج ١ ح ٩٣٧.

٢ ـ قد تكرر منه رحمه‌الله الاستشهاد بهذه الآية ، ولم نعثر عليها ، والظاهر أنه سهو منه ( المصحح ).

٣ ـ أقول : قد تقدم أن البيان الذي صدر منه لتحكيم الاستصحاب غير تام بالنسبة إلى ما اخذت المعرفة غاية له ، كأصالة الحلية والطهارة : فلا محيص في تحكيمه عليها أيضا بما ذكرنا من البيان.

٦٨١

الشك في عموم الآخر ، فاسد ، فان الشك في عموم كل منهما إنما يكون مسببا عن العلم الاجمالي بعدم إرادة العموم في أحدهما ، لامتناع إرادة العموم في كل منهما ثبوتا في مقام الجعل والتشريع ، وذلك واضح.

فان كان الشك في أحدهما مسببا عن الشك في الآخر : فلا إشكال في حكومة الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسببي ، بل في حكومة كل أصل سببي على كل أصل مسببي ـ ولو لم يكن الأصل السببي من الأصول المحرزة ـ إذا كان الأصل السببي واجدا لشرطين :

أحدهما : أن يكون ترتب المسبب على السبب شرعيا لا عقليا ، بمعنى أن يكون أحد طرفي الشك المسببي من الآثار الشرعية المترتبة على أحد طرفي الشك السببي ، فالشك في بقاء الكلي لأجل الشك في حدوث الفرد الباقي خارج عن محل الكلام ، لان بقاء الكلي ببقاء الفرد عقلي ، فلا يكون استصحاب عدم حدوث الفرد حاكما على استصحاب بقاء الكلي ، بل يجري استصحاب بقاء الكلي في عرض استصحاب عدم حدوث الفرد ، ولا معارضة بينهما ، وقد تقدم تفصيل ذلك في استصحاب الكلي.

ثانيهما : أن يكون الأصل السببي رافعا للشك المسببي ، فالشك في جواز الصلاة في الثوب لأجل الشك في اتخاذه من الحيوان المحلل خارج عن محل الكلام أيضا ، فان أصالة الحل في الحيوان وإن كان تجري ، إلا أنها لا تقتضي جواز الصلاة في الثوب ، لبقاء الشك في جواز الصلاة فيه على حاله ، لان أصالة الحل لا تثبت كون الثوب متخذا من الأنواع المحللة ، على ما تقدم بيانه أيضا في استصحاب الكلي.

فإذا كان الأصل السببي واجدا لهذين الشرطين فلا ينبغي التأمل في حكومته على الأصل المسببي ، لأنه رافع لموضوعه ، فلا يمكن أن يعارضه الأصل

٦٨٢

المسببي ، لان كل حكم مشروط بوجود موضوعه ، فلابد من فرض وجود الموضوع في ترتب الحكم عليه ، ولا يعقل أن يكون الحكم متكفلا لوجود موضوعه. فالأصل المسببي إنما يجري إذا بقي الشك الذي اخذ موضوعا فيه والأصل السببي رافع ومعدم له في عالم التشريع ، لان التعبد بمؤدى الأصل السببي بمدلوله المطابقي يقتضي إلغاء الشك المسببي ، ولا عكس ، وبداهة أن التعبد بطهارة الماء المغسول به الثوب النجس بنفسه يقتضي التعبد بطهارة الثوب (١) إذ لا معنى لطهارة

__________________

١ ـ أقول : مفاد « كل شيء طاهر » الجاري في الماء المشكوك طهارته إذا كان التعبد بطهارته في ظرف الشك به بلا نظر فيه إلى إلغاء الشك أصلا ، فتارة : يكون طهارة ما غسل به من الآثار الواقعية المترتبة على طهارة الماء أعم من الواقعية والظاهرية ، وأخرى : تكون بواقعيتها مترتبة على طهارة الماء واقعا ، وإنما يستفاد طهارته الظاهرية من عناية نظر القاعدة في تعبده بالطهارة في الماء إلى طهارة ما غسل به ، حيث إنه من آثارها بمقتضى دليل الكبرى الواقعي. ولا إشكال في التقديم على الوجه الأول ، ولكن لم يلتزم به أحد ، فلا محيص من الوجه الثاني. وحينئذ ففي التقديم بمناط نفي الموضوع للأصل المسببي إشكال ظاهر ، إذ غاية اقتضاء التعبد بطهارة الماء في ظرف الشك التعبد بطهارة الثوب المغسول به أيضا في ظرف الشك بلا نظر منه إلى نفي الشك ، وحينئذ فلو كان في البين استصحاب نجاسته لا مجال لحكومة هذا الأصل على الاستصحاب المزبور ، إذ كل واحد يثبت التعبد بحكم في ظرف الشك طهارة أو نجاسة ، من دون نظر لأحدهما إلى نفي موضوع الآخر من الشك في الطهارة والنجاسة.

وتوهم : جريان القاعدة في الرتبة السابقة لسبق رتبة شكه فلا يبقى شك في طهارة الثوب كي يجرى الاستصحاب ، مدفوع أولا : أن تقدم رتبة المشكوك لا يقتضي مطلقا تقدم رتبة شكه ـ كما بينا نظيره في العلم الاجمالي في مسألة الملاقي ـ وثانيا : سلمنا تقدم رتبة الشك ، ولكن نقول : إن الحكم بتعبد الأثر في طول التعبد بطهارة الماء ، ولازمه كونه في عرض التعبد بالنجاسة باستصحابه ، فلم لا يجري الاستصحاب كي لا يبقى مجال للتعبد بطهارة الثوب مع فرض وجود موضوعها في رتبة واحدة؟ ومن هنا ظهر : أنه لو بنينا أن لكل واحد من الأصلين النظر إلى نفي الشك يجيء الكلام أيضا في أنه لم تجري أولا التعبد بطهارة الثوب الناظر إلى نفي شكه؟ بل من الممكن أن تجري الاستصحاب الناظر إلى نفي الشك عن طهارة الثوب كي لا يبقى مجال لنظر عموم طهارة الماء إلى التعبد بمثل هذا الأثر ، كما لا يخفى.

وحينئذ ما أفاده المقرر ـ بطوله وتكراره الممل ـ مما لا يسمن ولا يغنى من جوع! فلا محيص في وجه تقديم الأصل السببي إلى بيان آخر ، ولا يكاد يتم هذا البيان ، كما لا يتم في وجه تقديم الاستصحاب السببي على المسببي أيضا ،

٦٨٣

الماء إلا كونه مزيلا للحدث والخبث ، سواء كانت طهارة الماء مؤدى الاستصحاب أو مؤدى قاعدة الطهارة ، فيرتفع الشك في بقاء نجاسة الثوب ، وأما التعبد بنجاسة الثوب : فهو بنفسه لا يقتضي التعبد بنجاسة الماء المغسول به ، نعم : لازم بقاء النجاسة في الثوب هو نجاسة الماء ، فإنه لو كان الماء طاهرا لم تبق النجاسة في الثوب ، فاستصحاب بقاء نجاسة الثوب بمدلوله المطابقي لا يقتضي نجاسة الماء وغير مزيل للشك فيها. فاثبات نجاسة الماء المغسول به الثوب باستصحاب بقاء نجاسة الثوب

__________________

كما لا يخفى.

وحينئذ الذي يقتضيه التحقيق أن يقال في وجه التقديم بمناط الحكومة : هو أن لسان القاعدة إذا كان هو الطهارة في ظرف الشك في طهارة الماء ، فمثل هذا اللسان بعدما كان ناظرا إلى إثبات الأثر ففي الحقيقة نفس جعل الطهارة للماء المشكوك ناظر إلى نفي التعبد بعدم آثار طهارة الماء المشكوك ، ومرجع هذا النظر في الحقيقة إلى النظر إلى نفي استصحاب عدم الآثار مهما شك في طهارة الماء. ولا نعني من الحكومة إلا كون أحد الأصلين ناظرا إلى نفي الآخر ، إما بدوا أو بتوسيط نظره إلى نفي موضوعه ، وما نحن فيه من قبيل الأول ، لا الأخير ، كما هو الشأن في حكومة « لا ضرر » و « لا حرج » على أدلة الاحكام والمقرر تخيل أنه من قبيل الأخير ، فوقع في حيص وبيص ولم يأت مع تكراره بشيء! ومن هنا ظهر حال استصحاب السببي بالنسبة إلى المسببي ، من دون احتياج في وجه التقديم إلى نفي الشك كي يرد عليه أيضا بان شأن الاستصحاب ليس نفي الشك ، مع أنه لو كان كان استصحاب السببي أيضا ينفي الشك عن المسبب.

فان قلت : كما أن نظر الأصل السببي إلى نفي التعبد بعدم آثار طهارة الماء المشكوك ، كذلك نظر الأصل المسببي إلى إثباتها في ظرف الشك بها ، فقهرا كان ناظرا إلى نفي التعبد بأثر طهارة الماء المشكوك أيضا.

قلت : غاية نظر الأصل المسببي إلى نفي ثبوت ما نظر إليه الأصل السببي ، لا إلى نفي نظره ، وبعبارة أخرى : نظر الأصل المسببي إلى نفي التعبد بنقيض مؤداه ، وهو عين ما هو المنظور في الأصل السببي بلا نظر منه إلى نفي نظره إلى اللوازم ، بل بالنسبة إليه ليس إلا من باب تخصيص نظر الأصل السببي إلى غير هذا الأثر. وهذا بخلاف الأصل السببي ، فإنه يرفع التعبد بخلاف أثره بنفس نظره إلى إثبات اللوازم ، وحينئذ فمن طرف الأصل السببي كان نفي الأصل المسببي بنظره إليه ، ومن طرف الأصل المسببي كان نفي النظر إلى الأصل السببي إلى أثره بالتخصيص ، ومن المعلوم : أن عند الدوران بين الحكومة والتخصيص كان الحاكم مقدما على التخصيص ، كما لا يخفى ، فتدبر وافهم واغتنم!!.

٦٨٤

يتوقف على مقدمتين ـ الأولى : بقاء الشك في نجاسة الثوب بعد غسله بالماء المشكوك الطهارة. الثانية : حجية الأصل المثبت. والأصل الذي يكون مؤداه طهارة الماء يرفع الشك في بقاء نجاسة الثوب ، لما عرفت : من أنه لا معنى لطهارة الماء إلا كونه مزيلا للحدث والخبث ، فلم يبق موضوع لاستصحاب بقاء نجاسة الثوب.

ومن هنا يظهر : أن عدم جريان الأصل المسببي لا يبتني على عدم حجية الأصل المثبت ، بل لا يجري الأصل المسببي ولو فرض حجية الأصل المثبت ، لان الأصل إنما يثبت اللوازم والملزومات العقلية والعادية بعد جريانه ، وجريانه يتوقف على وجود موضوعه ، والأصل الجاري في الشك السببي رافع لموضوع الأصل المسببي ، فهو يسقط بسقوط موضوعه في الرتبة السابقة ، ولا تصل النوبة إلى المنع عن إثباته اللوازم والملزومات.

والحاصل : أن جريان الأصل المسببي يتوقف على الشك في مؤداه والشك في مؤداه يتوقف على عدم جريان الأصل السببي ـ إذ مع جريانه يرتفع الشك في مؤدى الأصل المسببي ـ وعدم جريان الأصل السببي يتوقف على جريان الأصل المسببي وإثباته اللوازم العقلية. وأما جريان الأصل السببي : فهو لا يتوقف على شيء ، لان موضوعه محرز بالوجدان وليس له في مرتبة جريانه رافع.

وظني أن المسألة أوضح من أن تحتاج إلى إطالة الكلام فيها ، ولم يعهد الاشكال فيها من أحد إذا كان دليل اعتبار الأصل السببي مغايرا لدليل اعتبار الأصل المسببي ، وإنما استشكل من استشكل فيها مع اتحاد دليل اعتبار الأصلين ، كقوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك ». ومنشأ الإشكال : هو أن نسبة قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » إلى كل واحد من الشك السببي والمسببي يتوقف على شيء ، لان موضوعه محرز بالوجدان وليس له في مرتبة جريانه رافع. وظني أن المسألة أوضح من أن تحتاج إلى إطالة الكلام فيها ، ولم يعهد الاشكال فيها من أحد إذا كان دليل اعتبار الأصل السببي مغايرا لدليل اعتبار الأصل المسببي ، وإنما استشكل من استشكل فيها مع اتحاد دليل اعتبار الأصلين ، كقوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك ».

ومنشأ الإشكال : هو أن نسبة قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » إلى كل واحد من الشك السببي والمسببي على حد سواء ، فإنه يعم كل فرد من أفراد اليقين ولا شك ، كما أن قوله : « أكرم العلماء » يعم جميع

٦٨٥

الافراد المتدرجة في الوجود ، فلا وجه لملاحظة الدليل أولا مع الشك السببي حتى يقال بارتفاع الشك المسببي ، بل يمكن العكس ويلاحظ الدليل أولا مع الشك المسببي فيرتفع به الشك السببي بناء على حجية الأصل المثبت.

وبعبارة أوضح : فردية الشك المسببي للعام محرزة بالوجدان كما أن فردية الشك السببي له أيضا محرزة بالوجدان ، فلا معنى لاخراج الشك المسببي عن كونه فردا للعام بادخال الشك السببي في أفراد العام ، مع أن نسبة العام إلى كل من الفردين على حد سواء.

ويمكن تقريب الاشكال بوجه آخر : وهو أن الحكومة تتوقف على تعدد الدليل ليكون أحد الدليلين حاكما على الآخر ومفسرا لمدلوله ، فلا يعقل الحكومة في دليل واحد ، لأنه يلزم اتحاد الحاكم والمحكوم وكون الدليل الواحد شارحا ومفسرا لنفسه ، فالأصل السببي لا يمكن أن يكون حاكما على الأصل المسببي مع اتحاد دليل اعتبارهما.

هذا ، ولكن لا يخفى عليك فساد ذلك ، فان قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » عام انحلالي ينحل إلى قضايا متعددة حسب تعدد أفراد اليقين والشك في الخارج ، فهو بالنسبة إلى الشك السببي والمسببي بمنزلة دليلين متغايرين ، كما إذا كان لكل منهما دليل يخصه من أول الامر ، فيكون أحد الدليلين رافعا لموضوع دليل الآخر وحاكما عليه. وأما حديث اعتبار الشرح والتفسير في الحكومة : فقد عرفت ما فيه ، وسيأتي تفصيله أيضا ( إن شاء الله تعالى ).

فالتحقيق : أنه لا مجال للتوقف في حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي ، سواء توافقا في المؤدى أو تخالفا ، وسواء كان دليل اعتبارهما متحدا أو متعددا ، فان اتحاد الدليل وتعدده لا دخل له بذلك بعدما كان الدليل عاما انحلاليا.

٦٨٦

وإن شئت قلت : إن قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » لا يمكن أن يعم الأصل السببي والمسببي في عرض واحد جمعا ، إذ يلزم من دخول كل منهما خروج الآخر ، ولكن خروج الأصل السببي عن العموم يوجب التخصيص بلا مخصص ، لأنه فرد للعام وجدانا ، وليس في البين ما يوجب خروجه عنه ، وأما خروج الأصل المسببي عنه فلا يلزم منه ذلك ، بل الأصل المسببي خارج عنه بالتخصص ، لارتفاع موضوعه ، لما عرفت : من أن الأصل السببي رافع للشك المسببي ومعدم له في عالم التشريع ، فلا يلزم من خروجه التخصيص بلا مخصص.

وبعبارة أوضح : دخول الشك المسببي في العموم يحتاج إلى مؤنة خروج الشك السببي عنه ، فإنه لولا خروجه لا يكاد يمكن دخول الشك المسببي فيه ، لعدم انحفاظ الشك ، فلابد في دخوله من خروج الشك السببي ، بخلاف دخول الشك السببي في العموم ، فإنه لا يحتاج إلى مؤنة ، لكونه من أفراد العموم وجدانا ، فهو داخل بنفسه ، ومن المعلوم : أنه إذا توقف شمول العموم لفرد على خروج فرد عنه لا يكون العموم شاملا له من أول الامر لكي يلزم من شموله خروج ما هو معلوم الفردية ، وذلك واضح لا خفاء فيه.

هذا كله إذا كان الشك في أحد المستصحبين مسببا عن الشك في الآخر.

وإن كان الشك في كل منهما مسببا عن أمر ثالث : فهو على أقسام ، لأنه إما أن يلزم من العمل بالاستصحابين مخالفة عملية للتكليف المنجز ، وإما أن لا يلزم منهما مخالفة عملية. وعلى الثاني : فإما أن يقوم دليل من الخارج على عدم إمكان الجمع بين المستصحبين ـ كتتميم الماء النجس كرا بماء طاهر حيث قام الاجماع على اتحاد حكم المائين المجتمعين فلا يمكن بقاء النجس على نجاسته والطاهر على طهارته ـ وإما أن لا يقوم دليل على عدم إمكان الجمع بينهما. فان لم يقم دليل على ذلك : فإما أن يكون لبقاء كل من المستصحبين في

٦٨٧

زمان الشك أثر شرعي ـ كما لو توضأ المكلف بمايع مردد بين الماء والبول غفلة فان استصحاب طهارة البدن يقتضي ترتيب آثار الطهارة على البدن واستصحاب بقاء الحدث يقتضي ترتيب آثار الحدث ـ وإما أن يكون لاحد المستصحبين أثر شرعي في زمان الشك دون الآخر ، كما في دعوى الموكل التوكيل في شراء العبد ودعوى الوكيل التوكيل في شراء الجارية فهذه جملة ما ذكره الشيخ قدس‌سره من الأقسام.

وقبل بيان أحكامه ينبغي تمهيد مقدمتين ، وإن كان قد تقدم الكلام فيهما في أول مبحث الشك في المكلف به.

الأولى : هل الأصل في تعارض الأصول يقتضي التخيير في إعمال أحدها؟ أو أن الأصل في تعارض الأصول يقتضي التساقط؟ فقد يقال ، بل قيل : إن الأصل يقتضي التخيير ، قياسا لها على تعارض الطرق والامارات على القول بالسببية فيها ، على ما سيأتي ( إن شاء الله تعالى ) في مبحث التعادل والتراجيح : من أن الأصل في تعارض الامارات هو التساقط بناء على الطريقية والتخيير بناء على السببية.

والأقوى : هو التساقط ، فان التخيير في إعمال أحد الأصلين المتعارضين مما لا دليل عليه ولا يقتضيه أدلة اعتبار الأصول ، لان أدلة اعتبارها تقتضي إعمال كل أصل بعينه ، فإذا لم يمكن ذلك فلابد من التساقط. وقياس الأصول المتعارضة على الامارات المتعارضة مع الفارق ، فان الامارات المتعارضة بناء على السببية فيها إنما تندرج في صغرى التزاحم ، سواء قلنا بالسببية الباطلة التي ترجع إلى التصويب أو قلنا بالسببية الصحيحة التي توافق مسلك التخطئة. أما على الأول : فرجوع التعارض في الامارات إلى باب التزاحم واضح. وأما على الثاني : فالسببية التي لا تنافي مذهب التخطئة عبارة عن اشتمال كل من الامارات المتعارضة على المصلحة السلوكية ، على ما تقدم بيانها في الجمع بين

٦٨٨

الحكم الظاهري والواقعي (١).

وتقدم أيضا : أنه لا وجه للالتزام بالمصلحة السلوكية ، بل الحق هو أن المجعول في باب الامارات نفس الطريقية والوسطية في الاثبات ، من دون أن يكون في العمل بها مصلحة سوى مصلحة الواقع عند الإصابة. ولكن لو قلنا بالمصلحة السلوكية فإنما نقول بها في حال انفتاح باب العلم والتمكن من إدراك الواقع ، فإنه في هذا الحال يمكن أن يتوهم بقبح التعبد بالامارات مع كونها قد تخالف الواقع ، لأنه يلزم تفويت مصلحة الواقع على المكلف مع تمكنه منها بتحصيل العلم. وأما في صورة انسداد باب العلم وعدم تمكن المكلف من إدراك الواقع : فلا موجب للالتزام بالمصلحة السلوكية ، لأنه لا يلزم من التعبد بالامارات تفويت مصلحة الواقع ، بل باب الوصول إلى المصالح الواقعية منسد على المكلف حسب الفرض ، والمقدار الذي يدركه المكلف من إصابة الامارة للواقع خير جاءه من قبل التعبد بها ، فلا وجه للالتزام بالمصلحة السلوكية في

__________________

١ ـ أقول : قد تقدم منا في مبحث الاشتغال : بأنه بناء على اقتضاء العلم الاجمالي للموافقة القطعية لا عليته لا محيص من استفادة التخيير من إطلاق الأصول ، لان المقدار المتيقن من قبل العقل الحاكم بحرمة المخالفة العملية تنجزيا هو تقيد التعبد بالعمل بكل واحد في حال عدم العمل بالآخر ، ونتيجته التخيير محضا ولو بنينا فيها على الطريقية ، فارجاع البحث في المقام إلى مسألة السببية في الطرق أو طريقيتها أجنبي عن المقام.

ثم إن فيما أفاد : من تصور المصلحة السلوكية على موضوعية الطرق الذي هو راجع إلى المصلحة في تطبيق العمل على المؤدى لا نفسه ، إنما يحتاج إليه بناء على إمكان إطلاق الحكم الواقعي بمقتضياته لمرتبة الشك بنفسه ، وإلا فلا قصور لتصور الحكم الفعلي قائمين * بنفس المؤدى في ظرف الشك بالواقع بلا تضاد بينهما مع اختلاف الرتبة ، مع أن البناء على الأول من مجرد مصلحة السلوك أيضا لا يكفي للجمع بين الحكمين الفعليين ، كما لا يخفى ، فالالتزام بمصلحة السلوك على مذهب المخطئة مما لا يغني من جوع! كما لا يخفى. ولعمري! إن فيما أفيد لا يرى إلا مصادرات محضة ، فتدبر فيها. ولكماته أيضا مواقع نظر أخرى.

* كذا في النسختين ، والصحيح ( الحكمين الفعليين القائمين » ( المصحح ).

٦٨٩

صورة انسداد باب العلم ، بل المصلحة السلوكية تختص بصورة انفتاح باب العلم إن لم نقل : إنه يكفي في صحة التعبد بالامارات مصلحة التسهيل ، وإلا فنمنع عن المصلحة السلوكية حتى في صورة انفتاح باب العلم.

وعلى كل حال : السببية التي توافق مسلك المخطئة عبارة عن اشتمال الامارة على المصلحة السلوكية في صورة التمكن من إدراك الواقع وانفتاح باب العلم.

وعلى هذا تندرج الامارات المتعارضة في باب التزاحم ويكون التخيير في الاخذ بأحدها على القاعدة ، لأنه لا يتمكن المكلف من الجمع بين الامارتين المتعارضتين (١) فلا يمكنه إلا سلوك أحد الطريقين وإدراك إحدى المصلحتين ، فيكون المكلف مخيرا في سلوك أحدهما إن لم يكن لأحدهما مرجحات باب التزاحم. هذا كله في الطرق والامارات.

وأما الأصول العملية : فهي وإن لم تكن طريقا إلى الواقع لأنها ليست كاشفة عن الواقع ، إلا أنه لا يمكن القول بالسببية فيها ، لان التعبد بالأصول العملية إنما يكون في ظرف انسداد باب العلم (٢) وعدم التمكن من إدراك الواقع ، لأنها وظيفة الشاك والمتحير الذي لا تصل يده إلى الواقع ، فالتعبد بها يختص بصورة انسداد باب العلم ، ومعه لا يمكن اشتمال الأصول على المصلحة

__________________

١ ـ أقول : وسيجئ في محله ( إن شاء الله تعالى ) أن نتيجة التزاحم في باب الامارات ليس التخيير على الاطلاق.

٢ ـ لا يخفى : أن هذا البيان لا يتم في الأصول الجارية في الشبهات الموضوعية ، فإنها تجري ولو مع التمكن من تحصيل العلم بالفحص. ولكن الذي يسهل الخطب : هو أنه لا نقول بالمصلحة السلوكية في الامارات فضلا عن الأصول ، بل سيأتي في مبحث التعادل والتراجيح الاشكال في إدراج الامارات المتعارضة في صغرى التزاحم على القول بالسببية بمعنى اشتمالها على المصلحة السلوكية. فالأقوى فيها التساقط ، إلا على القول بالسببية التصويبية ، فإذا كان هذا حال الامارات ، فما ظنك بالأصول العملية! فتأمل جيدا. ( منه ).

٦٩٠

السلوكية ، لأنه يكفي في التعبد بها مصلحة التسهيل وعدم وقوع المكلفين في كلفة الاحتياط ، فإذا لم يكن في الأصول العملية مصلحة السلوك لا يمكن إدراج الأصول المتعارضة في باب التزاحم ، لما عرفت : من أن إدراج الامارات المتعارضة في باب التزاحم إنما كان لأجل اشتمالها على المصلحة السلوكية ، والأصول العملية فاقدة لها ، فلا تندرج في صغرى التزاحم.

وما ذكره الشيخ قدس‌سره من إمكان إدراج الاستصحابين المتعارضين في باب التزاحم إذا فرض أن العمل بأحد الاستصحابين يقتضي سلب القدرة وعدم التمكن من العمل بالآخر ، مجرد فرض لا واقع له ، بل الظاهر أن يكون من المستحيل.

فالانصاف : أن القول بالتخيير في إعمال أحد الأصلين المتعارضين مما لا سبيل إليه ، بل هو قول بلا دليل ، لان نسبة أدلة الاعتبار إلى كل من الأصلين على حد سواء ولا يمكن الجمع بينهما حسب الفرض ، فلابد من التساقط.

ولا موقع للترجيح بين الأصول المتعارضة ، فان الترجيح إن كان لأجل موافقة أحد المتعارضين لأصل عملي آخر ، فالأصل المعارض يعارض كل من الأصلين المتعارضين مع اتحاد رتبتهما ، لان تعارض الأصول العملية إنما يكون باعتبار المؤدى ، فقد يعارض مؤدى أصل لمؤدى أصول متعددة مع اتحاد الرتبة ، وإلا لا يعقل وقوع التعارض بينها ، فالأصل العملي لا يصلح لان يكون مرجحا لاحد الأصلين المتعارضين.

وإن كان الترجيح لأجل موافقة مؤدى أحد المتعارضين لامارة غير معتبرة ، فالامارة لا تكون في رتبة الأصل ولا يمكن أن تكون الامارة مرجحة للأصل ، لان اعتبار الأصل ليس من جهة كشفه عن الواقع حتى تكون موافقة الامارة له مقتضية لأقوائية كشفه وأقربية مؤداه للواقع.

٦٩١

فالترجيح في باب الأصول المتعارضة ساقط من أصله ولا محيص عن القول بالتساقط ، وقد تقدم في مبحث الاشتغال ما ينفع المقام (١) فراجع.

المقدمة الثانية : المجعول في باب الأصول العملية وإن كان هو البناء العملي على أحد طرفي الشك ، الا أنه تارة : يكون المجعول هو البناء العملي على ثبوت الواقع في أحد طرفي الشك وتنزيله عملا منزلة الواقع. وأخرى : يكون المجعول مجرد تطبيق العمل على أحد طرفي الشك ، من دون أن يكون الجعل متكفلا لثبوت الواقع في أحد الطرفين. ويعبر عن الأول بالأصل المحرز أو المتكفل للتنزيل ، وعن الثاني بالأصل الغير المحرز ، ولا يخفى ما في التعبير من المناسبة.

ويدخل في القسم الأول الاستصحاب وقاعدة الفراغ والتجاوز وأصالة الصحة ، فان هذه الأصول كلها متكفلة للتنزيل والاحراز ، والمجعول فيها هو البناء العملي على ثبوت الواقع إن كان مؤدى الأصل مقام الثبوت ـ كالاستصحاب ـ أو البناء العملي على الاتيان بالواقع إن كان مؤدى الأصل مقام الفراغ والسقوط ـ كقاعدة الفراغ والتجاوز ـ.

ويدخل في القسم الثاني البراءة والاحتياط وأصالة الحل والطهارة ، فان المجعول في هذه الأصول مجرد تطبيق العمل على أحد طرفي الشك من دون أن تكون متكفلة لثبوت الواقع أو الاتيان به (٢).

__________________

١ ـ أقول : قد أشرنا ولقد مر منا في مبحث الاشتغال : بأن بناء على الاقتضاء في العلم الاجمالي للموافقة القطعية لا محيص في الأصول النافية المشتملة على الترخيص على خلاف الواقع من التخيير ، لان منجزية العلم وعليته لحرمة المخالفة القطعية مانع عن الجمع بينهما ، ولازمه تقييد العقل جريان كل واحد في ظرف عدم العمل بالآخر ، ولا نعني من التخيير إلا هذا. كما أنه في الأصول المثبتة الموافقة للمعلوم بالاجمال عملا لا بأس بجريانها حتى في الاستصحاب المسمى عندهم بالأصول المحرزة ، فراجع ما تلوناه سابقا بلا احتياج إلى التكرار والاصرار. وبالله عليك! لا تعتني إلى هذا الرعد والبرق ، فإنه لا يزيدك إلا خسارا!!!.

٢ ـ أقول : لو لم يكن قاعدة الطهارة ناظرة ولو تنزيلا إلى إثبات الطهارة الواقعية لابد من الالتزام

٦٩٢

وتظهر الثمرة بين الأصول المحرزة وغيرها في موارد عديدة :

منها : قيام الأصول المحرزة مقام القطع الطريقي ، دون الأصول الغير المحرزة ، وقد تقدم الكلام فيه في مبحث القطع.

ومنها : عدم جريان الأصول المحرزة في أطراف العلم الاجمالي مطلقا ، سواء كان مؤداها نفي التكليف المعلوم بالاجمال ولزم من جريانها مخالفة عملية ، أو كان مؤداها ثبوت التكليف المعلوم بالاجمال ولم يلزم من جريانها مخالفة عملية ، فان التعبد ببقاء الواقع في كل واحد من أطراف العلم الاجمالي ينافي العلم الوجداني بعدم بقاء الواقع في أحدها ، وكيف يعقل الحكم ببقاء النجاسة مثلا في كل واحد من الانائين مع العلم بطهارة أحدهما؟ ومجرد أنه لا يلزم من الاستصحابين مخالفة عملية لا يقتضي صحة التعبد ببقاء النجاسة في كل منهما ، فان الجمع في التعبد ببقاء مؤدى الاستصحابين ينافي ويناقض العلم الوجداني بالخلاف.

وهذا بخلاف الأصول الغير المحرزة ، فإنه لما كان المجعول فيها مجرد تطبيق العمل على أحد طرفي الشك فلا مانع من التعبد بها في أطراف العلم الاجمالي إذا لم يلزم منها مخالفة عملية.

وبذلك يظهر : أن المانع من جريان الأصول المحرزة في أطراف العلم الاجمالي إنما هو عدم قابلية المجعول فيها لان يعم جميع الأطراف ، لا لقصور أدلة اعتبارها ، فإنه لا مانع من شمول قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » لكل واحد من اليقين والشك المتعلق بكل واحد من الأطراف.

فما يظهر من الشيخ قدس‌سره من أن المانع من جريان الأصول في

__________________

بأحد المحذورين ، إذ الدليل الدال على طهارة ماء الوضوء ـ مثلا ـ إما أن يدل على شرطية الطهارة الواقعية أو الأعم من الواقعية والظاهرية ، فعلى الأول : يلزم عدم إحرازه بأصالة الطهارة ، وعلى الثاني : يلزم عدم لزوم إعادة الوضوء مع كشف نجاسة الماء بعد الوضوء ، ولا يلتزم أحد بواحد منهما ، فتدبر. ومن هنا ظهر حال أصالة الحل ، لوحدة اللسان وظهور اتحاد السوق ، فتدبر.

٦٩٣

الأطراف هو عدم شمول الدليل لها لأنه يلزم أن يناقض صدر الدليل ذيله ، لا يخلو عن إشكال ، بل منع ، وقد تقدم منا الكلام في تفصيل ذلك في مبحث الاشتغال. والغرض من إعادته دفع ما ربما يناقش فيما ذكرناه ـ من عدم جريان الأصول المحرزة في أطراف العلم الاجمالي مطلقا وإن لم يلزم منها مخالفة عملية ـ بأنه يلزم على هذا عدم جواز التفكيك بين المتلازمين الشرعيين ، كطهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوء بمايع مردد بين البول والماء ، لان استصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن ينافي العلم الوجداني بعدم بقاء الواقع في أحدهما ، لأنه إن كان المايع ماء فقد ارتفع الحدث وإن كان بولا فقد تنجس البدن ، فالتعبد بالجمع بينهما لا يمكن. بل يلزم عدم جواز التفكيك بين المتلازمين العقليين أو العاديين ، فان استصحاب حياة زيد وعدم نبات لحيته ينافي العلم بعدم الواقع في أحدهما ، لما بين الحياة والنبات من الملازمة ، وكذا التعبد ببقاء الكلي وعدم حدوث الفرد ونحو ذلك من الأمثلة التي تقتضي الأصول العملية فيها التفكيك بين المتلازمين. والالتزام بعدم جريان الاستصحابين إذا أوجبا التفكيك بين المتلازمين الشرعيين أو العقليين والعاديين بعيد غايته ، بل لا يمكن الالتزام به ، فان ثمرة القول بعدم حجية الأصل المثبت إنما تظهر في التفكيك بين المتلازمين ، فدعوى : عدم جريان الأصول المحرزة إذا استلزم منها التفكيك بين المتلازمين ، تنافي القول بعدم حجية الأصل المثبت.

هذا ، والتحقيق في دفع الشبهة هو أن يقال :

إنه تارة : يلزم من التعبد بمؤدى الأصلين العلم التفصيلي بكذب ما يؤديان إليه ، لأنهما يتفقان على نفي ما يعلم تفصيلا ثبوته أو على ثبوت ما يعلم تفصيلا نفيه ، كما في استصحاب نجاسة الانائين أو طهارتهما مع العلم بطهارة أحدهما أو نجاسته ، فان الاستصحابين يتوافقان في نفي ما يعلم تفصيلا من طهارة أحدهما أو نجاسته.

٦٩٤

وأخرى : لا يلزم من التعبد بمؤدى الأصلين العلم التفصيلي بكذب ما يؤديان إليه (١) بل يعلم إجمالا بعدم مطابقة أحد الأصلين للواقع من دون أن يتوافقا في ثبوت ما علم تفصيلا نفيه أو نفي ما علم تفصيلا ثبوته ، بل لا يحصل من التعبد بمؤدى الأصلين إلا العلم بمخالفة أحدهما الواقع ، كما في الأصول الجارية في الموارد التي يلزم منها التفكيك بين المتلازمين الشرعيين أو العقليين ، فإنه لا يلزم من استصحاب طهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوء بمايع مردد بين البول والماء أو من استصحاب بقاء الحياة وعدم نبات اللحية العلم التفصيلي بمخالفة ما يؤديان إليه ، لأنهما لم يتحدا في المؤدى ، بل كان مؤدى أحدهما غير مؤدى الآخر ، غايته أنه يلزم من جريانهما التفكيك بين المتلازمين ، بخلاف استصحاب النجاسة أو الطهارة في كل من الانائين ، فان الاستصحابين متحدان في المؤدى مع العلم التفصيلي بالخلاف.

فالفرق بين القسم الأول والثاني مما لا يكاد يخفى ، والذي منعنا عن جريانه في أطراف العلم الاجمالي هو القسم الأول ، لأنه لا يمكن التعبد بالجمع بين الاستصحابين اللذين يتوافقان في المؤدى مع مخالفة مؤداهما للمعلوم بالاجمالي.

وأما التعبد بالجمع بين الاستصحابين المتخالفين في المؤدى الذي يلزم من جريانهما التفكيك بين المتلازمين : فلا محذور فيه ، فان التلازم بحسب الواقع لا يلازم التلازم بحسب الظاهر ، لأنه يجوز التفكيك الظاهري بين المتلازمين

__________________

١ ـ أقول : لو كان المراد من العلم التفصيلي مجرد العلم بشيء ولو بعنوانه الاجمالي مثل « أحدهما » فكما أن نجاستهما ينافي طهارة أحدهما المعلومة ، كذلك بقاء الأمرين تعبدا ينافي العلم التفصيلي بعدم بقاء أحدهما. وإرجاع ذلك إلى العلم بمخالفة أحد الأصلين للواقع دون الآخر تحكم محض ومفهوم لا محصل له ، ومجرد مخالفة الأصلين للمؤدى لا يجدي في رفع المناقضة بين بقائهما مع العلم بعدم بقاء أحدهما ، إذ العقل كما يرى المضادة بين طهارة أحدهما مع نجاستهما تعبدا بتقابل التضاد ، كذلك يرى المضادة بل المناقضة بين بقاء الشيئين مع عدم بقاء أحدهما تفصيلا.

٦٩٥

الواقعيين ، إلا أن يقوم دليل آخر من إجماع أو غيره على ثبوت التلازم واقعا وظاهرا ، كما في تتميم النجس كرا بطاهر ، على ما سيأتي بيانه.

فظهر : أن القول بعدم جريان الأصول المحرزة في أطراف العلم الاجمالي لا يلازم القول بعدم جريانها إذا استلزم منها التفكيك بين المتلازمين الشرعيين أو العقليين أو العاديين ، فتأمل.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أن الأقسام التي ذكرها الشيخ قدس‌سره لتعارض الاستصحابين ولو كانت تشترك في العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ، إلا أنه منها : مالا يجري فيه إلا أحد الاستصحابين. ومنها : ما يجري فيه كل من الاستصحابين. ومنها : مالا يجري فيه شيء من الاستصحابين (١).

والأولى في تحرير الأقسام هو أن يقال : إن الاستصحابين إما أن يلزم منهما المخالفة العملية وإما أن لا يلزم منهما ذلك. وعلى الثاني : فاما أن يؤديان جمعا إلى ما يخالف المعلوم بالتفصيل فيما بين الأطراف أو لا يؤديان إلى ذلك. وعلى الثاني : فاما أن لا يكون لأحدهما أثر شرعي في زمان الشك وإما أن يكون لكل منهما أثر شرعي. وعلى الثاني : فاما أن يلزم منهما التفكيك بين المتلازمين اللذين قام الدليل على عدم جواز التفكيك بينهما ولو ظاهرا وإما أن يلزم منهما التفكيك بين المتلازمين مع عدم قيام الدليل على عدم جواز التفكيك بينهما ، فالأقسام خمسة.

ولكن منها : مالا يجري فيه إلا أحد الاستصحابين ، وهو ما إذا لم يكن لاحد المستصحبين أثر شرعي في زمان الشك ، بداهة أن الاستصحاب إنما يجري باعتبار الأثر ، فإذا لم يكن لأحدهما أثر فلا مجال لجريانه. ومنها : ما يجري فيه الاستصحابان من دون أن يكون بينهما معارضة ، وهو ما إذا لزم من جريان

__________________

١ ـ أقول : ومن التأمل فيما ذكرنا ظهر ما في هذه النتيجة المأخوذة من مقدماته من النظر والاشكال ، بلا احتياج إلى الاستدلال ، فتدبر.

٦٩٦

الاستصحابين التفكيك بين المتلازمين مع عدم قيام الدليل على عدم جواز التفكيك بينهما ، كاستصحاب طهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوء بمايع مردد بين البول والماء. ومنها : مالا يجري فيه كل من الاستصحابين ، وهو القسم الأول والثاني والرابع. ولكن لا بمناط واحد ، بل في القسم الأول لا يجري الاستصحابان لأنه يلزم منهما المخالفة العملية ، كما في استصحاب طهارة الانائين مع العلم بنجاسة أحدهما. وفي القسم الثاني لا يجريان لمكان أنهما يؤديان إلى ما يخالف المعلوم بالاجمال ، كما في استصحاب نجاسة الانائين مع العلم بطهارة أحدهما. وفي القسم الرابع لا يجريان لمكان قيام الدليل من الخارج على عدم صحة الجمع بين الاستصحابين ، كما في تتميم الماء النجس كرا بماء طاهر ، فإنه لولا قيام الاجماع على اتحاد حكم المائين المختلطين لكانت القاعدة تقتضي بقاء الطاهر على طهارته والنجس على نجاسته ، ولكن قيام الاجماع على اتحاد حكم المائين المختلطين يوجب حصول الشك في بقاء الطاهر على طهارته وفي بقاء النجس على نجاسته ، فان الاجماع لم يقم إلا على اتحاد حكم المائين ، فيمكن أن يكون الماء الطاهر باقيا على طهارته والماء النجس صار طاهرا بالخلط ، ويمكن العكس ، فإن الاجماع لا يفيد أزيد من حصول الشك في بقاء الحالة السابقة لكل من المائين ، فموضوع الاستصحاب في كل منهما ثابت ، إلا أنه لا يجريان معا ، لأنه يلزم من جريانهما اختلاف حكم المائين المختلطين ، والمفروض : قيام الاجماع على الاتحاد. فالقسم الرابع يشارك القسم الأول والثاني في سقوط كل من الاستصحابين ، إلا أنه في القسم الأول كان السقوط لأجل عدم إمكان التعبد بهما ، وفي القسم الثاني يكون السقوط لأجل قيام الدليل من الخارج على عدم صحة الجمع بينهما ، فتأمل جيدا.

ثم لا يخفى عليك : أن الشيخ قدس‌سره لم يتعرض في تقسيمه للقسم الثاني ، وعلل سقوط الاستصحابين في القسم الأول بأنه يلزم منهما المخالفة

٦٩٧

العملية. والتعليل بذلك ينافي مسلكه : من أن أدلة الاستصحاب بل مطلق الأصول لا تعم أطراف العلم الاجمالي ، فإنه على هذا ينبغي أن لا يفرق بين ما إذا لزم من جريان الاستصحابين مخالفة عملية وبين ما لم يلزم منه ذلك ، كما صرح بذلك في ذيل العبارة ، حيث قال : « ولذا لا نفرق في حكم الشبهة المحصورة بين كون الحالة السابقة في المشتبهين هي الطهارة أو النجاسة » انتهى. فإنه لو كانت الحالة السابقة فيهما النجاسة لم يلزم من جريان الاستصحابين مخالفة عملية.

والانصاف : أن كلام الشيخ قدس‌سره في المقام وفي مبحث الاشتغال عند البحث عن الشبهة المحصورة وفي مبحث القطع عند البحث عن وجوب الموافقة الالتزامية ، لا يخلو عن اضطراب ، فإنه تارة : يحوم حول المخالفة العملية ، وأخرى : يحوم حول قصور الأدلة وعمد شمولها لأطراف العلم الاجمالي ، فراجع وتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في الاستصحاب.

وقد وقع الفراغ منه في ليلة الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول من شهور سنة ١٣٤٥.

* * *

٦٩٨

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأولين والآخرين محمد وآله الطيبين الطاهرين ، واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

خاتمة

في التعادل والترجيح

والأولى تبديل العنوان بالتعارض ، فان التعادل والترجيح من الأوصاف والحالات اللاحقة للدليلين المتعارضين ، فكان الأنسب جعل العنوان للقسم والجامع بينهما.

وعلى كل حال : لا إشكال في أن البحث عن التعادل والتراجيح من أهم مباحث الأصول ، وليست المسألة من المسائل الفقهية ولا من المبادي ، لأنها تقع كبرى لقياس الاستنباط ، بل عليها يدور رحى الاستنباط في معظم المسائل. وقد تقدم : أن ضابط المسألة الأصولية وقوعها في كبرى قياس الاستنباط ، فلا ينبغي التأمل في كون المسألة من المسائل الأصولية ، مع أن البحث عن كونها من المبادي أو من المسائل قليل الجدوى. فالأولى صرف عنان الكلام إلى ما هو أهم من ذلك ، وهو بيان ما يتحقق به التعارض والفرق

٦٩٩

بينه وبين التزاحم والحكومة وأقسام التعارض وأحكامها ، فالكلام يقع في مباحث.

المبحث الأول

في ضابط التعارض

إعلم أن تعارض الدليلين إنما يكون باعتبار عدم إمكان اجتماع المحكي والمنكشف بهما بحيث يؤل حكايتهما إلى اجتماع الضدين ويكشفان عن ثبوت النقيضين في نفس الامر وفي عالم الجعل والثبوت ، ضرورة أنه لو أمكن اجتماع المحكيين بهما في عالم الجعل والتشريع لم يتحقق التعارض بين الدليلين ، فان التعارض إنما يعرض الدليلين باعتبار كونهما يثبتان المتنافيين ويحكيان عن المتناقضين ، فلابد في تعارض الدليلين من تنافي مدلوليهما بحيث لا يمكن اجتماعهما في الوعاء المناسب لهما : من وعاء التكوين أو وعاء الاعتبار والتشريع ، سواء كان التنافي في تمام المدلول أو في جزئه ـ كالعامين من وجه ـ وسواء كان التنافي بينهما لأجل امتناع اجتماعهما ذاتا في حد أنفسهما ، أو كان التنافي بينهما لأجل ما يلزمهما من اللوازم التكوينية والشرعية ، أو كان التنافي بينهما باعتبار بعض العوارض والحالات اللاحقة للموضوع : من الانقسامات السابقة على الحكم أو اللاحقة له بعد الحكم ، فكما يتحقق التنافي بين الدليلين لو كان مفاد أحدهما حرمة شرب الخمر في زمان ومكان خاص وحالة مخصوصة وغير ذلك من الوحدات الثمانية التي يعتبر في التناقض وكان مفاد الآخر عدم الحرمة في تلك الوحدات ، كذلك يتحقق التنافي لو كان مفاد أحد الدليلين حرمة شرب الخمر في جميع حالاته وكان مفاد الآخر جواز شربه في بعض

٧٠٠