فوائد الأصول - ج ٤

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٢

التقديرين : فتارة يشك في حصول الشرط في أثناء المشروط ، وأخرى يشك فيه بعد الفراغ عنه.

فان كان الشك في الشرط في أثناء المشروط وكان للشرط محل مقرر شرعي : فلا إشكال في جران قاعدة التجاوز فيه ، ويترتب عليه جميع آثار وجود الشرط كما لو أحرز الشرط بأصل آخر ، وهذا في الشرائط التي لا تتعلق بها إرادة مستقلة بل تتعلق بها الإرادة بتبع تعلقها بالمشروط واضح ، ولكن الظاهر أن لا يكون له مثال. وأما الشرائط التي يمكن أن تتعلق بها إرادة مستقلة ـ كما إذا كان عمل من الأعمال المستقلة المستحبة أو الواجبة شرطا لعمل آخر ، كالطهارة الحدثية وكصلاة الظهر ، فان كلا منهما مما يمكن أن تتعلق به الإرادة لا بتبع إرادة المشروط بل بنفسه ، ومع ذلك يكون وجوده شرطا لصحة المأمور به ، فالطهارة شرط لمطلق الصلوات ، وصلاة الظهر شرط لصحة صلاة العصر حسب ما دلت عليه أدلة الترتيب ـ ففي جريان قاعدة التجاوز عند الشك في الشرط في أثناء المشروط وعدمه وجهان.

وعلى تقدير جريان القاعدة : ففي جواز ترتيب جميع آثار وجود الشرط مطلقا حتى بالنسبة إلى غير ما بيد المكلف من المشروط أو وجوب الاقتصار على ترتيب آثار وجود الشرط بالنسبة إلى خصوص ما بيده من المشروط ، وجهان.

والثمرة بين الوجوه الثلاثة مما لا تكاد تخفى.

فإنه لو قلنا بعدم جريان قاعدة التجاوز كان اللازم في مثال الطهارة قطع الصلاة واستينافها بعد تجديد الطهارة لو شك فيها في أثناء الصلاة ، وفي مثال صلاه الظهر والعصر العدول بالنية وإتمامها ظهرا لو شك في صلاة الظهر في أثناء صلاة العصر. وإن قلنا بجريان القاعدة فبناء على وجوب ترتيب جميع آثار وجود الشرط مطلقا حتى بالنسبة إلى غير ما بيد المكلف : كان اللازم جواز فعل كل مشروط بالطهارة بلا تجديد الوضوء في مثال الطهارة وعدم وجوب

٦٤١

الاتيان بصلاة الظهر بعد إتمام العصر ولو مع بقاء الوقت.

وأما بناء على وجوب الاقتصار على خصوص ما بيده : فغاية ما يلزم جواز إتمام ما بيده من الصلاة مع الشك في الطهارة وجواز إتمامها عصرا مع الشك في الظهر ، وأما بعد الاتمام : فيجب تجديد الطهارة للصلوات الاخر ويجب فعل الظهر مع بقاء الوقت.

هذا ، والانصاف : أن المسألة لا تخلو عن الاشكال ، فان مقتضى كون قاعدة التجاوز من الأصول المحرزة هو وجوب ترتيب جميع آثار وجود الشرط مطلقا ، ففي المثالين : لا يجب تجديد الطهارة للصلوات كما لو كان مستصحب الطهارة ، ولا يجب فعل الظهر بعد إتمام العصر كما لو فرض أنه قام أصل محرز على فعل صلاة الظهر. ولكن الالتزام بذلك في غاية الاشكال ، كما أن الالتزام بعدم جريان قاعدة التجاوز أصلا ـ بدعوى أن مورد القاعدة هو الاجزاء والشرائط التي لا تتعلق بها إرادة مستقلة ـ أشكل ، فان الشك في الطهارة الحدثية لا يقصر عن الشك في الأذان والإقامة مع أنهما من المستحبات الخارجة عن الصلاة. بل الذي يعتبر في القاعدة هو إمكان أن يتعلق بالمشكوك إرادة تبعية ، لا أنه لابد وأن يكون كذلك.

والذي يترجح في النظر هو جريان القاعدة بالنسبة إلى خصوص ما بيد المكلف من الصلاة ، ففي المثالين : يمضي على صلاته ولو مع الشك في الطهارة ويتم صلاته عصرا وبعد الصلاة يجب عليه تجديد الوضوء للصلوات الاخر ويجب عليه فعل الظهر مع بقاء الوقت ، والمسألة بعد تحتاج إلى مزيد تأمل. هذا إذا شك في الشرط في أثناء الصلاة.

وإن شك فيه بعد الفراغ : فلا إشكال في جريان قاعدة الفراغ فيه ، بل يمكن جريان قاعدة التجاوز ، فان الشك في الفراغ مسبب عن الشك في الشرط ، فتجري قاعدة التجاوز بالنسبة إلى نفس الشرط إذا كان للشرط محل

٦٤٢

مقرر شرعي ، كما هو مفروض الكلام.

ودعوى : اختصاص قاعدة التجاوز بما إذا كان الشك في أثناء العمل مما لا شاهد عليها ، بل الذي يعتبر في قاعدة التجاوز هو أن يكون الشك فيما قد جاوز المكلف محله ودخل في غيره ، وأما كون الغير متصلا بالمشكوك : فلا يعتبر ، فإنه لا إشكال في جريان قاعدة التجاوز لو شك المكلف في أول الصلاة وهو في آخرها.

فالأقوى : جريان قاعدة التجاوز في مفروض الكلام. وفي جواز ترتيب جميع آثار وجود الشرط حتى بالنسبة إلى غير الصلاة التي فرغ عنها المكلف أو وجوب الاقتصار على خصوص تلك الصلاة؟ إشكال ، تقدم الكلام فيه. هذا كله إذا كان للشرط محل مقرر شرعي.

وإن لم يكن للشرط محل شرعي ، كالستر والاستقبال :

فان كان الشك فيه في أثناء الصلاة : فالأقوى عدم جريان قاعدة التجاوز فيه ، لأنه ليس له محل شرعي لكي يصح إضافة التجاوز إليه ، فلا يندرج في قوله عليه‌السلام « كل شيء شك فيه مما قد جاوزه الخ » والمحل العادي قد عرفت ما فيه.

فما ينقل عن المدارك وغيره ـ من أن الشك في الشروط عند الدخول في المشروط أو الكون على هيئة الداخل حكمه حكم الشك في الاجزاء في عدم الالتفات فلا اعتبار بالشك في الوقت والقبلة واللباس والطهارة وأمثالها بعد الدخول في الغاية والمشروط ـ ضعيف غايته.

وإن كان الشك فيه بعد الفراغ : فلا إشكال في جريان قاعدة الفراغ.

هذا كله إذا شك في القسم الأول من الشروط ، وهو ما كان شرطا للصلاة في حال الاجزاء.

القسم الثاني : ما يكون شرطا عقليا لنفس الجزء ، كالموالاة بين حروف

٦٤٣

الكلمة. ولا إشكال أيضا في جريان قاعدة التجاوز عند الشك فيه ، لأن الشك في تحقق الموالاة بين حروف الكلمة يرجع إلى الشك في وجود الكلمة وقاعدة التجاوز تحرز الوجود ، وفرق واضح بين الموالاة في حروف الكلمة وبين الموالاة في كلمات الآية ، فان الموالاة بين حروف الكلمة مما يتوقف عليها وجود الكلمة عقلا ، بخلاف الموالاة بين كلمات الآية ، فإنه لا يتوقف عليها وجود الآية عقلا مطلقا ، من غير فرق في ذلك بين الموالاة بمعنى عدم الفصل الطويل الماحي لصورة الصلاة وبين الموالاة بمعنى التتابع العرفي بناء على اعتبارها زائدا على اعتبار عدم الفصل الطويل الماحي للصورة ـ كما هو قول جماعة ـ فإنه لا يكاد يشك في تحقق الآية عقلا ولو مع القصل الطويل بين كلماتها ، فالموالاة بين كلمات الآية بكلا وجهيها إنما تكون من الشروط الشرعية لا العقلية. هذا ، مضافا إلى أن الموالاة بين كلمات الآية إنما تكون من شرائط الصلاة كالستر والاستقبال ، وليست من شرائط الآية ، بخلاف الموالاة بين حروف الكلمة ، فإنها من شرائط نفس الكلمة.

فما يظهر من الشيخ قدس‌سره من اتحاد حكم الموالاة بين حروف الكلمة مع الموالاة بين كلمات الآية ، ليس على ما لا ينبغي ، بل الأقوى اختلاف حكمهما ، فإنه عند الشك في الموالاة بين حروف الكلمة تجري قاعدة التجاوز ، لما عرفت : من أن الشك فيها يرجع إلى الشك في وجود الكلمة.

وأما الشك في الموالاة بين كلمات الآية : فان كان الشك فيها بالمعنى المقابل لمحو الصورة فهو يرجع إلى الشك في عروض المبطل ، لان الفصل الطويل الماحي للصورة من المبطلات مطلقا ولو وقع عن نسيان ، فيكون حكمه حكم الشك في سائر المبطلات العمدية والسهوية ، وفي جريان استصحاب صحة الاجزاء السابقة وعدمه جريانه كلام تقدم تفصيله.

وإن كان الشك فيها بالمعنى المقابل للتتابع العرفي فالقطع بفواتها سهوا

٦٤٤

لا يوجب البطلان ، فضلا عن الشك فيه ، فان المفروض : أنها شرط للصلاة في حال القراءة والأذكار ، وبمجرد القراءة بفوت محلها ، فان العود إلى القراءة والذكر لتدارك الموالاة يوجب الزيادة العمدية ، فلا يجوز العود إلى القراءة لتدارك الموالاة.

وعلى كل حال : لا أثر لجريان قاعدة التجاوز عند الشك في فوات الموالاة بين الكلمات بكلا معنييها ، فما في كلام الشيخ قدس‌سره من عطف الموالاة بين الكلمات على الموالاة بين حروف الكلمة ، مما لا وجه له.

القسم الثالث من الشروط ما يكون شرطا شرعيا للجزء ، ولم نعثر له على مثال سوى الجهر والاخفات بالقراءة على أحد الوجهين فيهما والبحث عن الشك في الجهر والاخفات بالقراءة قليل الجدوى ، لورود النص على عدم وجود العود إلى القراءة عند نسيانهما ولو مع التذكر قبل الركوع ، فعدم وجود العود إليها مع الشك فيهما أولى. ولكن مع ذلك ينبغي بيان حكم الشك في هذا القسم من الشروط ، لعل المتتبع يعثر على مثال له غير الجهر والاخفات.

فنقول : لو شك في فوات ما يكون شرطا شرعيا للجزء ، فان كان الشك بعد الدخول في الركن فلا إشكال في الصحة ، لان العلم بفواته نسيانا بعد الدخول في الركن لا أثر له ، فضلا عن الشك في الفوات. وإن كان الشك قبل الدخول في الركن وبعد الدخول في الغير المترتب على الجزء المشروط بالمشكوك فيه فالأقوى : جريان قاعدة التجاوز فيه ، بل يصح جريان القاعدة في كل من الشرط والمشروط ، لأن الشك في وجود الشرط الشرعي يستتبع الشك في وجود المشروط بوصف كونه صحيحا ، والمفروض : أن المكلف قد دخل في الغير المترتب على المشكوك فيه ، فهو قد تجاوز محل الشرط والمشروط.

فتحصل : أنه لا فرق في جريان قاعدة التجاوز بين الشك في الشرط العقلي المقوم للحقيقة وبين الشك في الشرط الشرعي للجزء. ودعوى : أن

٦٤٥

قاعدة التجاوز لا تجري في الشرط الذي لا يستقل بالوجود ، مما لا شاهد عليها ، لصدق التجاوز على ما يكون من الكيفيات.

وبما ذكرنا : يظهر الاشكال فيما أفاده الشيخ قدس‌سره في الموضع السادس ، قال قدس‌سره « إن الشك في صحة الشيء المأتي به حكمه حكم الشك في الاتيان ، بل هو هو ، لان مرجعه إلى الشك في وجود الشيء الصحيح ، ومحل الكلام مالا يرجع فيه الشك إلى الشك في ترك بعض ما يعتبر في الحصة ، كما لو شك في تحقق الموالاة المعتبرة في حروف الكلمة أو كلمات الآية ، لكن الانصاف : أن الالحاق لا يخلو عن إشكال الخ ».

ولا يخفى : أن كلام الشيخ قدس‌سره في هذا المقام لا يخلو عن اضطراب ، بل لم يعلم المراد منه ، فان الشك في مطلق الشروط يرجع إلى الشك في ترك بعض ما يعتبر في الصحة ، فلا فرق من هذه الجهة بين ما ذكره في الموضع الخامس وما ذكره في الموضع السادس ، إلا أن يقال : إن البحث في الموضع الخامس كان مخصوصا بما يكون شرطا للصلاة في حال الاجزاء ـ كالطهارة والستر والاستقبال ـ وفي الموضع السادس يكون البحث عن الشك فيما يكون شرطا لنفس الاجزاء ، كالموالاة.

ولكن مع ذلك لا تخلو العبارة عن شيء ، فإنه لم يعلم أن محل كلامه في الموضع السادس الشروط التي يتوقف عليها وجود الجزء عقلا ـ كما يشهد له التمثيل بالموالاة بين حروف الكلمة ـ أو أن محل كلامه في الشروط الشرعية. ولكن سوق العبارة يقتضي أن يكون محل الكلام خصوص الشروط العقلية ، فراجع العبارة وتأمل فيها.

وعلى كل حال : لا وجه للاشكال في الالحاق ، فإنه لا مجال للتأمل في جريان قاعدة التجاوز في كل من الشروط العقلية والشرعية.

٦٤٦

المبحث السادس

يعتبر في قاعدة الفراغ والتجاوز أن يكون الشك في صحة العمل راجعا إلى كيفية صدوره وانطباقه على المأمور به بعد العلم بمتعلق التكليف بأجزائه وشرائطه وموانعه موضوعا وحكما ، فلو كان الشك في الصحة لأجل الشك في متعلق التكليف من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية لا تجري فيه قاعدة التجاوز والفراغ ، بل لابد من الرجوع إلى ما تقتضيه الأصول العملية حسب اختلاف المقامات ، فان قاعدة الفراغ والتجاوز إنما جعلت لعلاج الشك في صحة العمل المأتي به من حيث انطباقه على المأمور به ، فلابد وأن يكون الشك متمحضا في الانطباق ، فلا تجري القاعدة إذا كان الشك في الصحة من حيثية أخرى غير حيثية الانطباق وإن حصل منه الشك في الانطباق أيضا.

وضابط كون الشك متمحضا في الانطباق هو أن يكون الشك بعد العمل ، بمعنى أنه يتوقف حصول الشك على صدور العمل ، بحيث لولا العمل لم يحصل الشك في الصحة والفساد ، بخلاف ما إذا لم يكن الشك متمحضا في الانطباق ، فإنه يمكن فرض حصول الشك ولو مع عدم فرض صدور العمل. إذا عرفت ذلك فاعلم : أن الشك في صحة العمل المأتي به وعدمها يتصور على وجوه :

فتارة : يشك في الصحة والفساد مع كون المكلف ملتفتا حال الشروع في العمل إلى ما يعتبر فيه من الاجزاء والشرائط وما ينبغي أن يقع عليه العمل ، غايته أنه بعد العمل طرء الشك في وقوعه على ما كان ينبغي أن يقع عليه ، لاحتمال أنه حصل له الغفلة وترك جزء أو شرطا نسيانا.

وأخرى : يشك في صحة العمل وفساده مع عدم التفات المكلف حال

٦٤٧

الشروع إلى ما ينبغي وقوع العمل عليه ، بل عمل عملا واحتمل مصادفته للواقع عن غير اختيار ، بحيث لو كان حين العمل ملتفتا لكان أيضا شاكا في مطابقة ما يأتي به للمأمور به ، كما إذا لم يحرز جهة القبلة بل توجه إلى جهة وصلى نحوها غفلة وبعد الصلاة التفت إلى حاله واحتمل أن تكون تلك الجهة هي القبلة ، وكما في الجاهل المقصر إذا عمل عملا بلا تقليد واجتهاد وبعد ذلك احتمل مطابقة ما أتى به في حال الجهل لفتواه أو فتوى من يجب عليه تقليده في الحال ، وهذا الوجه يتصور على وجهين :

أحدهما : أنه حال الشك يعلم صورة العمل وكيفية وقوعه ، كما إذا علم أن الجهة التي صلى نحوها هي هذه الجهة الخاصة ويشك في كونها هي القبلة.

ثانيهما : أنه لا يعلم صورة وقوع العمل وأن الجهة التي صلى نحوها أي من الجهات الأربع.

وثالثة : يشك في صحة العمل وفساده بعد الفراغ عنه ، مع أن المكلف قبل العمل كان ملتفتا إلى أنه لا يجوز له الدخول في العمل لكونه شاكا في أنه واجد لشرط صحة العمل أو فاقد له وكان حكمه قبل العمل على خلاف ما تقتضيه قاعدة الفراغ والتجاوز ، كما إذا كان قبل الصلاة مستصحب الحدث ثم غفل وصلى ، وهذا الوجه أيضا يتصور على وجهين :

أحدهما : أنه بعد الصلاة يحتمل أن يكون قد توضأ قبل الصلاة بعدما شك في الطهارة.

ثانيهما : أنه لا يحتمل ذلك ، بل يعلم أنه لم يتوضأ قبل الصلاة بعدما شك في الطهارة.

ورابعة : يشك في صحة العمل وفساده بعد العمل مع كونه قبل العمل كان شاكا في أنه واجد لشرط الصحة ، ولكن كان يجوز له الدخول في العمل بحيث كان حكمه قبل العمل موافق لما تقتضيه قاعدة الفراغ ، كما إذا كان قبل

٦٤٨

الصلاة مستصحب الطهارة أو قامت عنده البينة عليها وبعد الصلاة زال السبب المجوز للدخول في العمل إما لعلمه بفسق الشاهدين وإما لشكه في عدالتهما.

فهذه جملة ما يتصور من الوجوه التي يمكن أن يقع عليها لا شك في صحة العمل المأتي به وفساده.

ولا إشكال في جريان قاعدة الفراغ والتجاوز في الوجه الأول ، بل هو المتيقن من مورد القاعدة.

وكذلك لا ينبغي الاشكال في جريان القاعدة في الوجه الأول من الوجه الثالث ، وهو ما إذا كان قبل الصلاة مستصحب الحدث ولكن احتمل أنه توضأ وصلى ، بداهة أن استصحاب الحدث لا يزيد حكمه على العلم بالحدث ، فكما أنه لو كان عالما بالحدث واحتمل بعد الفراغ من الصلاة أنه توضأ قبلها تجري في حقه قاعدة الفراغ ، كذلك لو كان مستصحب الحدث.

وأما الوجه الثاني من الوجه الثالث : وهو ما إذا لم يحتمل الوضوء بعد استصحاب الحدث ، فالأقوى عدم جريان القاعدة فيه (١) لان قاعدة الفراغ إنما تكون حاكمة على الاستصحاب الجاري بعد العمل لا على الاستصحاب

__________________

١ ـ أقول : لا يخفى ان موضوع قاعدة التجاوز أو الفراغ هو الشك الفعلي المتعلق بالعمل السابق ، والعلم السابق بصحة الفعل أو فساده لا يرفع هذا الشك ، وحينئذ يشمل إطلاقه هذه الصورة ، بل لو فرض علمه الوجداني بالفساد أو الصحة ثم طرء هذا الشك الساري على فرض عدم اخلاله بقربيته أو فرض توصليته ، لا بأس بجريان القاعدة أيضا. ثم إن في صورة وضوئه بعد استصحاب حدثه فهذا الشك وإن لم يرجع إلى الشك في حكمه الظاهري بل موكد له ، ولكن لما كان هذا الشك حادثا بعد العمل فاستصحابه أيضا محكوم بالقاعدة.

ولا يقال : إن هذا الشك لا يرفع الاستصحاب السابق ، فعلى فرض عدم الحكومة عليه يجري الاشكال السابق.

لأنه يقال : ان مرجع هذا الشك بالنسبة إلى السابق إلى الشك في انتقاض اليقين باليقين ، وفي مثله لا يجري الاستصحاب ، فاحتماله مساوق احتمال عدم جريان الاستصحاب في السابق.

٦٤٩

الجاري قبل العمل ، لأنه لا موضوع لها قبل العمل ، ولما كان المكلف قبل الصلاة مستصحب الحدث يكون في حكم من دخل في الصلاة عالما بالحدث ، فلا تجري في حقه قاعدة التجاوز.

ولا ينتقض ذلك بالوجه الأول ، فان جريانها فيه ليس لأجل حكومتها على استصحاب الحدث الجاري قبل الصلاة ، بل لأجل كون المكلف يحتمل الوضوء قبل الصلاة بعد استصحاب الحدث ، ولا دافع لهذا الاحتمال إلا استصحاب الحدث المستصحب ، وهذا الاستصحاب إنما يجري بعد الصلاة ، فتكون القاعدة حاكمة عليه ، وأين هذا مما إذا لم يحتمل الوضوء بعد استصحاب الحدث؟ فالفرق بين الوجهين مما لا يكاد يخفى.

بقي الكلام في حكم الوجه الثاني بكلا وجهيه والوجه الرابع.

أما الوجه الأول من الوجه الثاني : وهو ما إذا لم يعلم المكلف بعد الفراغ صورة العمل وكيفية وقوعه ـ كما إذا لم يعلم الجهة التي صلى نحوها ، أو لم يعلم أنه حرك الخاتم في يده أو لم يحركه ، أو لم يعلم مطابقة عمله لفتوى من يجب عليه تقليده ، ونحو ذلك من الأمثلة ـ فمقتضى إطلاق قوله عليه‌السلام « كلما مضى من صلاتك وطهورك فامضه كما هو » عدم الاعتناء بالشك. ولكن مقتضى التعليل الوارد في بعض أخبار الوضوء وهو قوله عليه‌السلام « هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » عدم شمول القاعدة لمفروض الكلام ، فان المفروض : أن المكلف دخل في العمل غفلة عن غير التفات ، فلم يكن هو حين العمل أذكر من حين الشك. ولكن هذا مبني على كون التعليل لإفادة الكبرى الكلية ليكون علة للحكم فيدور الحكم مداره ، وللمنع عن كونه علة للحكم مجال ، بل لا يبعد أن يكون لبيان حكمة التشريع ، لان الغالب كون المكلف حين العمل أذكر من حين الشك ، فالتعليل ورد مورد الغالب ، وفي مثله لا يستفاد منه الكبرى الكلية ، فتأمل جيدا.

٦٥٠

وأما الوجه الثاني من الوجه الثاني : وهو ما إذا علم المكلف صورة العمل وأنه صلى إلى هذه الجهة المعينة أو علم أنه لم يحرك الخاتم في يده ولكن يحتمل وصول الماء تحته ، فالأقوى : عدم جريان القاعدة فيه ، فان الشك فيه لا يتمحض في جهة انطباق المأتي به على المأمور به ، بل الشك في الصحة والفساد في مثله إنما يكون لأمر خارج عن حيثية الانطباق ، فان الشك في وصول الماء تحت الخاتم أو كون هذه الجهة المعينة هي القبلة لا ربط له بعمل المكلف ، بل الشك في ذلك حاصل ولو لم يصدر من المكلف عمل ، وهذا بخلاف الوجه الأول ، فان الشك فيه متمحض في الانطباق وعدمه ، لأن الشك في وصول الماء تحت الخاتم بعد تحريكه أو الشك في كون الجهة التي صلى نحوها هي القبلة لا يكون إلا بعد صدور العمل عن المكلف.

وحاصل الكلام : أنه فرق واضح بين ما إذا عمل الجاهل مدة ثم شك في كيفية عمله وأنه كانت صلاته مع السورة أو بلا سورة أو أنه صلى مع المشكوك أو لا ، وبين ما إذا علم المكلف أنه صلى بلا سورة أو صلى في الثوب المعين المشكوك كونه من المشكوك (١) فان الشك في الأول يتمحض في انطباقه على فتوى من يقول ببطلان الصلاة مع المشكوك أو بلا سورة ، وفي الثاني يكون لأمر خارج وإن حصل منه الشك في انطباق العمل على الواقع المأمور به ، وقد عرفت : أن موضوع قاعدة الفراغ هو الشك المتمحض في الانطباق وعدمه.

__________________

١ ـ أقول : لا إشكال في أن مصب القاعدة هو صورة الشك في انطباق المأمور به على المأتي به ، سواء كان الشك في الانطباق من جهة الشك في اتيان العمل مع شرطه المعلوم مصداقه أو مع الجزم باتيانه مع الشك في مصداقية الموجود شرطه. وتنظير المقام بفرض اتيان الصلاة بلا سورة غلط ، إذ الشك فيه ناش عن الشبهة الحكمية ، وأين هذا مع اتيان الصلاة إلى جهة الجنوب مع الشك في كونه مصداق القبلة؟ وحينئذ لا وجه لتخصيص القاعدة بالشك الأول بعد صدق كون المأمور به مما يشك انطباقه مع المأتي به في الفرضين. وبذلك تعرف حال سائر التضيقات في المقام ، لان ذلك كله خلاف إطلاق لفظ القاعدة ، كما لا يخفى.

٦٥١

وبما ذكرنا ظهر : عدم جريان قاعدة الفراغ في الوجه الرابع ، فان الشك فيه أيضا لا يتمحض في الانطباق ، لان قيام البينة مثلا قبل الصلاة على كون هذه الجهة هي القبلة إنما تجدي في صحة الصلاة إذا كانت محفوظة بعد الصلاة ، والمفروض : أنه بعد الصلاة ارتفعت البينة إما لعلم المكلف بفسق الشاهدين وإما لشكه في عدالتهما ، وعلى كلا التقديرين : يرجع شكه إلى الشك في كون هذه الجهة هي القبلة ، فيندرج في الوجه الثاني من الوجه الثاني.

وكذا الكلام فيما إذا كان المكلف عالما بجهة القبلة وبعد الصلاة شك في مطابقة عمله للواقع ، فإنه لا تجري في حقه قاعدة الفراغ أيضا ، لسراية شكه بعد الصلاة إلى ما قبل الصلاة ، ويرجع شكه بالآخرة إلى كون هذه الجهة هي القبلة ، سواء كانت في حال الشك متذكرا لمدرك علمه وأنه حصل من السبب الذي ينبغي حصول العلم منه أو لم يكن متذكرا لمدرك قطعه ويحتمل حصوله عن سبب لا ينبغي الاعتماد عليه ، فان التذكر لمدرك العلم وعدم التذكر لا دخل له بسراية الشك وكونه لجهة أخرى غير جهة الانطباق ، فما استجوده الشيخ قدس‌سره من التفصيل بين الصورتين ـ عند التعرض لمدرك قاعدة اليقين بعد بيان عدم شمول أخبار الاستصحاب لها ـ مما لا وجه له ، فراجع وتأمل جيدا.

المبحث السابع

لا تجري قاعدة الفراغ والتجاوز في حق من يحتمل الترك عمدا ، فان الظاهر من قوله عليه‌السلام « كل شيء شك فيه مما قد جاوزه الخ » وقوله عليه‌السلام « كلما مضى من صلاتك وطهورك الخ » هو اختصاص القاعدة بصورة احتمال الترك غفلة عن نسيان ، خصوصا قوله عليه‌السلام « هو حين

٦٥٢

يتوضأ أذكر منه حين يشك » فان مقابل الأذكرية هو النسيان لا العمد ، فاحتمال عموم القاعدة لصورة الشك في ترك الجزء أو الشرط عن عمد ضعيف غايته. نعم : يمكن أن يقال إنه تجري في حقه أصالة الصحة ، بناء على تعميم أصالة الصحة لعمل نفسه وعمل غيره. وهذا أيضا لا يخلو عن إشكال ، فان أصالة الصحة في عمل نفسه ترجع إلى قاعدة الفراغ ، للعلم بأنه لم يجعل الشارع للشك في عمل الشخص نفسه قاعدتين ، والمسألة بعد تحتاج إلى مزيد تأمل. هذا تمام الكلام فيما يتعلق بمباحث قاعدة الفراغ والتجاوز.

ومنها

« أصالة الصحة »

وتمام الكلام فيها يتم برسم أمور :

الأول :

لا إشكال في اعتبار أصالة الصحة في عمل الغير وحكومتها على الاستصحاب الجاري في موردها ، سواء قلنا : بأنها من الامارات أو من الأصول. وقد استدل على ذلك بالكتاب والسنة والاجماع وبناء العقلاء والسيرة المستمرة بين المسلمين وبلزوم العسر والحرج مع عدم البناء على الصحة بل اختلال النظام ، وغير ذلك مما يقف عليه المتتبع ، وإن كان أكثرها لا يخلو عن مناقشة بل منع ، حتى لزوم العسر والحرج الذي قيل : إنه عمدة الوجوه التي استدلوا بها على أصالة الصحة ، فان الحاجة إلى أصالة الصحة إنما هي في غير مقام اليد وهو ليس بمثابة يلزم منه العسر والحرج عند عدم البناء

٦٥٣

على الصحة (١) فتأمل.

وعلى كل حال : يكفينا الاجماع المحقق ، فإنه لا ينبغي التأمل في انعقاد الاجماع على اعتبار أصالة الصحة في الجملة (٢) والظاهر أن يكون نفس أصالة الصحة معقد الاجماع على نحو الكبرى الكلية ، فلا يضر بالتمسك بالاجماع وقوع الاختلاف في بعض الصغريات والموارد الجزئية.

والحاصل : أن الاجماع تارة : ينعقد على الحكم الشرعي في الموارد الجزئية ، وأخرى : ينعقد على عنوان كلي. فان كان الاجماع على الوجه الأول : فلابد من الاقتصار على الموارد التي انعقد فيها الاجماع ولا يجوز التعدي عنها ، وإن كان على الوجه الثاني : فاللازم هو الاخذ باطلاق معقد الاجماع ، كما إذا قام دليل لفظي على ذلك ، فللفقيه الفتوى بالحكم معتمدا على الاجماع ولو في مورد الاختلاف.

والظاهر : أن الاجماع في المقام قام على الوجه الثاني ، كما يظهر ذلك بالمراجعة في كلمات القوم. كما أن الظاهر أن يكون المراد من الصحة في معقد الاجماع الصحة الواقعية ، لا مجرد الصحة عند الفاعل. نعم لو كان المستند في اعتبار أصالة الصحة ظهور حال المسلم في عدم إقدامه على ما هو الفاسد ، كان المراد من الصحة هي الصحة عند الفاعل ، ولكن هذا إنما يتم مع علم الفاعل بما هو الصحيح والفاسد ، وأما مع جهله بذلك : فلا معنى لحمل فعله على الصحيح عنده ، كما لا يخفى.

الامر الثاني :

لا يبعد أن تكون أصالة الصحة في العقود بنفسها معقد الاجماع بالخصوص

__________________

١ ـ أقول : لعله نظر إلى خصوص العقود المالية ، وإلا فبالنظر إلى سائر العقود والايقاعات لا محيص من جريان مناط اليد في المقام ، فتدبر.

٢ ـ أقول : بل السيرة الشرعية على العمل بها التي ربما يكون هي مدرك إجماعهم.

٦٥٤

مع قطع النظر عن الاجماع على أصالة الصحة في مطلق عمل الغير (١) وحيث إن أصالة الصحة في العقود من المسائل المهمة التي تعم بها البلوى خصوصا في باب الترافع والتخاصم ـ فان قطع الخصومة وتشخيص المدعي والمنكر يتوقف على تعيين مقدار سعة أصالة الصحة ليكون المنكر من وافق قوله لها ـ فينبغي بسط الكلام فيها.

فنقول : قد اختلفت كلمات الاعلام في حكومة أصالة الصحة في العقود على جميع الأصول الموضوعية المقتضية لفساد العقد ، والمتحصل من الكلمات أقوال ثلاثة :

الأول : حكومتها على كل أصل يقتضي فساد العقد ، سواء كان الأصل جاريا في شرائط العقد أو في شرائط المتعاقدين أو في شرائط العوضين ، فلو اختلف المتعاقدان في كون العقد واجدا لشرائط الصحة ـ من العربية والماضوية أو في بلوغ العاقد أو في قابلية أحد العوضين للنقل والانتقال ـ قدم قول من يدعي الصحة ، ولا تجري أصالة عدم بلوغ العاقد أو عدم كون المال قابلا للنقل والانتقال لو فرض أن في البين أصل موضوعي يقتضي عدم قابلية المال للانتقال ، فتكون أصالة الصحة حاكمة على جميع الأصول السببية والمسببية المقتضية لفساد العقد.

الثاني : حكومتها على خصوص الأصل الذي يقتضي فساد العقد من حيث الشرائط الراجعة إلى تأثيره : من العربية والماضوية ونحو ذلك. فلو كان الشك متمحضا في تأثير السبب وكونه واجدا للشرائط المعتبرة فيه كان الأصل فيه الصحة. وأما لو كان الشك في الصحة والفساد مسببا عن الشك في شرائط المتعاقدين أو شرائط العوضين فلا تجري فيه أصالة الصحة.

__________________

١ ـ أقول : تكثير القواعد ليس من دأب الأساطين! بل الأستاذية في ارجاع الشتات تحت مسلك واحد!.

٦٥٥

والحاصل : أن أصالة الصحة إنما تكون حاكمة على خصوص أصالة عدم النقل والانتقال وبقاء المال على ملك مالكه ، فإذا لم يكن في مورد الشك إلا أصل عدم الانتقال كانت أصالة الصحة حاكمة عليه. وأما إذا كان في مورد الشك أصل موضوعي آخر يقتضي الفساد ـ كأصالة عدم بلوغ العاقد أو عدم قابلية المال للنقل والانتقال ـ فلا تجري فيه أصالة الصحة.

الثالث : حكومتها على كل أصل يقتضي فساد العقد ، إلا إذا كان الشك في الصحة والفساد مسببا عن الشك في الشرائط العرفية للعوضين أو المتعاقدين ، كمالية العوضين ورشد المتعاقدين في الجملة.

وقد يختلف بعض الشروط حسب اختلاف العقود ، فرب شرط يكون من الشرائط العرفية لعقد ومن الشرائط الشرعية لعقد آخر ، كالبلوغ ، فإنه في عقد الضمان يمكن أن يقال : إن البلوغ من الشرائط العرفية للضامن ، بخلاف عقد البيع. والسر في ذلك : هو أن حقيقة الضمان إنما هو تحويل ما في الذمم وانتقال المال من ذمة إلى ذمة ، والعرف لا يرى للصبي ذمة ، فكان البلوغ من الشرائط العرفية في عقد الضمان ، بخلاف البيع ، فان حقيقته هو المبادلة بين المالين ولو كان المبيع أو الثمن كليا ، نعم : لازم كون أحدهما كليا هو اشتغال الذمة به ، والبلوغ لا يكون من الشرائط العرفية للمبادلة بين المالين. ولعل هذا هو الوجه في تفرقه بعض الأصحاب بين دعوى البلوغ في عقد الضمان وبين دعوى البلوغ في عقد البيع ، حيث بنوا على تقديم قول من يدعي عدم البلوغ في الأول لأصالة عدمه ، وتقديم قوله من يدعي البلوغ في الثاني لأصالة الصحة ، فتأمل.

ثم إن قول المحقق الثاني قدس‌سره « إن الأصل في العقود الصحة بعد استكمال أركانها » إلى آخر ما نقله الشيخ قدس‌سره يحتمل فيه أحد الوجهين الأخيرين ، فان كان المراد من الأركان الأعم من الشرايط العرفية والشرعية ينطبق على الوجه الثاني ، وإن كان المراد من الأركان خصوص الشرائط

٦٥٦

العرفية ينطبق على الوجه الثالث ، ويحتمل الوجهان في كلام العلامة أيضا.

هذا ، والتحقيق : أن أصالة الصحة إنما تقدم على أصالة بقاء المال على ملك مالكه ولا تقدم على سائر الأصول الموضوعية الاخر (١) فإنه لا دليل على أصالة الصحة في العقود سوى الاجماع ، وليس لمعقد الاجماع إطلاق يعم جميع موارد الشك في الصحة والفساد ، بل القدر المتيقن منه هو ما إذا كان الشك في الصحة والفساد مسببا عن الشك في تأثير العقد للنقل والانتقال بعد الفراغ عن سلطنة العاقد لايجاد المعاملة من حيث نفسه ومن حيث المال المعقود عليه.

وبعبارة أوضح : أهلية العاقد لايجاد المعاملة وقابلية المعقود عليه للنقل

__________________

١ ـ أقول : الأولى ان يقال : انه بعدما كان مرجع الصحة والفساد إلى تمامية الشيء من حيث ترتب الأثر عليه وعدمه ، فلا محيص من أن يكون مركز هذا الأصل ما يتصور له الصحة والفساد ، ولازم ذلك : هو كون مجرى هذا الأصل تارة هو السبب وأخرى المسبب من حيث تماميته في قابليته للترتب على المسبب * وحيث إن مجرى هذا الأصل لابد وأن يكون محرزا بالوجدان ، فلا محيص في فرض الشك في قابلية المسبب للتأثر ان يرجع الشك إلى قابليته شرعا مع كون المسبب محرزا عرفا بالوجدان.

ثم إن الشك في تمامية المسبب أو السبب تارة من جهة قيد يكون محله العقد أو المتعاقدين أو العوضين ، أو محله نفس المسبب. وعلى أي حال : جميع هذه القيود راجعة إما إلى السبب أو المسبب ، لاستحالة تمامية السبب وقابلية المسبب وعدم الأثر. وحينئذ فكل مورد يكون الشك في قيد من ناحية العرف لا مجرى لأصالة الصحة ، لعدم إحراز العنوان. وكل مورد يكون الشك في قيد شرعي يجري فيه أصالة الصحة ، لعموم التعليل في رواية « اليد » بعد الجزم بعدم الفرق في الجريان من حيث المورد وبطلان الترجيح بلا مرجح ، كما لا يخفى.

وأما توهم : كفاية اجزاء العقد عرفا في إثبات تمامية السبب ، فهو كما ترى! إذ مهما شك في وجود قيد من قيود نفس العقد فأصالة الصحة في نفس العقد لا يقتضي أزيد من تمامية العقد في المؤثرية ، وليس شأنه إثبات قابلية المحل للتأثر ، فمع الشك فيه عرفا للشك في فقد قيد عرفي لا ينتج مثل هذا الأصل ترتب المسبب على السبب. نعم : لو أحرز قابليته العرفية وتحقق مثل هذا البيع فيحتاج في إثبات تماميته إلى إجراء أصالة الصحة في المسبب ، فتدبر.

* كذا في النسخة ، لكن يظهر بالتأمل أن الصحيح « للترتب على السبب » ( المصحح ).

٦٥٧

والانتقال إنما يكون مأخوذا في عقد وضع أصالة الصحة ، فلا محل لها إلا بعد إحراز أهلية العاقد وقابلية المعقود عليه ، فأصالة الصحاة إنما تجري إذا كان الشك راجعا إلى ناحية السبب من حيث كونه واجدا للشرائط المعتبرة فيه أو فاقدا له. وأما لو كان الشك راجعا إلى أهلية العاقد أو قابلية المعقود عليه للنقل والانتقال ، فالمرجع هو سائر الأصول العملية حسب ما يقتضيه المقام.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم : أن الشك في الصحة والفساد إن كان مسببا عن الشك فيما يعتبر في الايجاب والقبول ـ من العربية والماضوية والموالاة ونحو ذلك مما ذكره الفقهاء ( رضوان الله تعالى عليهم ) في شروط العقد ـ تجري فيه أصالة الصحة.

وإن كان الشك في الصحة والفساد مسببا عن الشك في فقدان شرط من شروط العوضين : فان كان للشرط دخل في مالية العوضين عرفا أو شرعا ـ كالخمر ـ أو كان للشرط دخل في قابليتهما للنقل والانتقال ـ كالوقف ـ فلا تجري فيه أصالة الصحة.

وإن لم يكن للشرط دخل في ذلك ـ كالعلم بهما أو التساوي بينهما إن كانا من جنس المكيل والموزون ـ فالظاهر : أنه تجري فيه أصالة الصحة ، لان الجهل بجنس العوض أو بمقداره أو زيادة أحد العوضين عن الآخر لا دخل له في المالية ، ولا يقتضي عدم القابلية لنقل والانتقال ، ولذلك صح هبة المجهول والمصالحة عليه ، وكذلك يصح التفاضل بين المالين في غير عقود المعاوضة ، بل حتى في عقود المعاوضة غير عقد البيع ( على قول ) فمثل هذه الشرائط لا دخل لها في مالية العوض وقبوله للانتقال ، بخلاف الوقف والخمر والحر ، فإنها لا تقبل النقل والانتقال ولا تصلح للمعاوضة عليها ، فلا تجري أصالة الصحة إذا كان الشك في صحة العقد وفساده مسببا عن الشك في كون المبيع خلا أو خمرا أو كونه حرا أو عبدا أو كونه وقفا أو ملكا ، بل لا تجري أصالة الصحة إذا شك في كون

٦٥٨

المبيع رهنا لم يأذن مالكه في بيعه أو غير رهن ، لأن الشك في جميع ذلك يرجع إلى الشك في قابلية المعقود عليه للنقل والانتقال ، وقد عرفت : أنه مع عدم إحراز القابلية لا تجري أصالة الصحة.

نعم : لو كان الشك في الصحة والفساد مسببا عن الشك في وقوع التفاضل بين العوضين وعدمه أو علم المتعاقدين بجنسهما ومقدارهما وعدمه فلا مانع من البناء على الصحة ، لما عرفت : من أن مثل هذه الشروط لا دخل لها بمالية العوضين وقبولهما للنقل والانتقال. هذا كله إذا كان الشك في شرط من شروط العوضين.

وإن كان الشك في شرط من شروط المتعاقدين : فان كان الشرط من الشروط التي تعتبر عرفا أو شرعا في أهلية المالك للنقل والانتقال فأصالة الصحة لا تجري فيه ، كالعقل والبلوغ والرشد ونحو ذلك. وإن كان من الشروط التي لا تضر بأهلية المالك ـ كالاختيار المقابل للاكراه ـ (١) فعند الشك فيه تجري أصالة الصحة. وقد يشك في بعض الشروط أنها من أي القبيل؟ كاشتراط كون العاقد غير محرم.

وبالجملة : كل ما يكون الشك في صحة العقد وفساده مسببا عن الشك في اختلال شرط من شروط سلطنة العاقد للنقل والانتقال ، فأصالة الصحة لا تجري فيه ، لان سلطنة العاقد تعتبر في عقد وضع أصالة الصحة. وكل ما يكون الشك في الصحة والفساد مسببا عن الشك في اختلال شرط من شروط العقد ، فأصالة الصحة تجري فيه.

__________________

١ ـ أقول : كونه من شروط المتعاقدين نظر ، لظهور « تجارة عن تراض » كونه قيد التجارة ، غاية الامر محله المتعاقدين ، بخلاف البلوغ والعقل ، إذ لسان حديث « رفع القلم » يقتضي قصورهما عن أهلية صدور المعاملة ، وذلك راجع إلى نفس المتعاقدين ، نظير اعتبار المالية في العوضين القائم بهما المعاملة ، وحينئذ لك أن تلاحظ لسان العقود وتجري الأصل في محله عند إحراز موضوعه.

٦٥٩

وقد يكون للشرط جهتان : جهة ترجع إلى سلطنة المالك للنقل والانتقال فيكون من شرائط المتعاقدين ، وجهة ترجع إلى نفس العقد فيكون من شرائط العقد كالبلوغ ، فان البلوغ كما يكون شرطا لتصرف المالك كذلك يكون شرطا لعقد العاقد ، فإنه لا يصح عقد غير البالغ ولو بالوكالة عن البالغ.

فان كان الشك في البلوغ من الجهة الأولى ـ كما إذا شك في بلوغ المالك العاقد ـ فأصالة الصحة لا تجري في العقد ، لأن الشك فيه يرجع إلى الشك في عقد وضع أصالة الصحة.

وإن كان الشك فيه من الجهة الثانية ـ كما إذا شك في بلوغ الوكيل العاقد ـ فأصالة الصحة تجري في عقده ، لأن الشك في ذلك متمحض في الشك في صحة العقد وفساده ، والمتيقن من مورد أصالة الصحة هو ما إذا كان الشك متمحضا في صحة العقد وفساده.

وتوهم : أن الشك في بلوغ الوكيل يستتبع الشك في صحة عقد الوكالة وأصالة الصحة لا تجري في عقد الوكالة ، فإنه ليس للموكل السلطنة على توكيل غير البالغ ، فالشك في صحة عقد الوكالة يرجع إلى الشك في اختلال شرط من شروط المتعاقدين

فاسد ، فان اشتراط أهلية الوكيل للوكالة أو سلطنة الموكل للتوكيل ليس شرطا زائدا على اشتراط بلوغ العاقد ، بل عدم سلطنة الموكل لتوكيل غير البالغ إنما يتولد من اشتراط بلوغ العاقد ، فيرجع الشك في صحة عقد الوكالة إلى الشك في صحة عقد الوكيل ، وبعد جريان أصالة الصحة في عقده لا يبقى مجال للشك في صحة عقد الوكالة وعدمها ، حتى يقال : إنه لا تجري في عقد الوكالة أصالة الصحة ، فتأمل جيدا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أنه لا تجري أصالة الصحة عند الشك في اختلال شرط من شروط قابلية العوضين للنقل والانتقال أو اختلال شرط من

٦٦٠