فوائد الأصول - ج ٤

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٢

بينهما ، فلا يمكن اندراجهما في كبرى واحدة (١).

وأما ما أفاده قدس‌سره من أن الشك في قاعدة الفراغ يرجع إلى الشك في الوجود بمفاد كان التامة غايته أن متعلق الشك هو وجود الصحيح لا مطلق الوجود

ففيه : أن التعبد بقاعدة الفراغ إنما هو لاثبات صحة الموجود ، لا لاثبات وجود الصحيح ، وإثبات صحة الموجود بوجود الصحيح يكون من الأصل المثبت.

فان قلت : إن المهم في مقام الخروج عن عهدة التكليف إنما هو وجود الصلاة الصحيحة من المكلف ولا حاجة إلى إثبات صحة الصلاة المأتي بها ، فإنه لو فرض محالا وجود الصلاة الصحيحة من المكلف مع كون المأتي بها فاسدة ، لكان ذلك موجبا لفراغ الذمة والخروج عن عهدة التكليف.

قلت : نعم : وإن كان المهم في باب التكاليف هو إثبات وجود متعلق التكليف صحيحا ولو مع عدم إثبات صحة المأتي به (٢) إلا أن قاعدة الفراغ لا تختص بباب التكاليف ، بل تعم الوضعيات ، والمهم في باب الوضعيات هو إثبات صحة الموجود ، فان الأثر مترتب على صحة العقد الصادر عن المتعاقدين ، ولا أثر لوجود العقد الصحيح بمفاد كان التامة ، بل لابد من إثبات صحة العقد الموجود في مقام ترتب الأثر.

وثانيا : أن متعلق الشك في قاعدة التجاوز إنما هو أجزاء المركب ، وفي قاعدة الفراغ يكون المتعلق نفس المركب بما له من الوحدة الاعتبارية ، ولفظ

__________________

١ ـ أقول : ولا قصور في أخذ الجامع لولا دعوى انصراف عنوان « الشيء » عن النسبة التصديقية ، كانصرافه عن الترتيب والموالاة.

٢ ـ أقول : ربما يحتاج إلى صحة الموجود في قضاء سجدته في الصلاة أو السجود السهو فيها وأمثال ذا المأخوذ في موضوعها صحة الموجود ، ولا يكفي وجود الصحيح ، كما لا يخفى.

٦٢١

« الشيء » في قوله عليه‌السلام « إنما الشك في شيء لم تجزه » (١) لا يمكن أن يعم الكل والجزء في مرتبة واحدة بلحاظ واحد (٢) فان لحاظ الجزء شيئا بحيال ذاته إنما يكون في الرتبة السابقة على تأليف المركب ، لأنه في مرتبة التأليف لا يكون الجزء شيئا بحيال ذاته في مقابل الكل ، بل شيئية الجزء تندك في شيئية الكل ويكون لحاظه تبعيا ، ففي مرتبة لحاظ الكل شيئا لا يمكن لحاظ الجزء شيئا آخر مستقلا ، لان الكل ليس إلا الاجزاء ، فلا يمكن أن يراد من لفظ « الشيء » في الرواية ما يعم الجزء والكل ، بل إما أن يراد منه الجزء فتختص الرواية بقاعدة التجاوز ، وإما أن يراد منه الكل فتختص بقاعدة الفراغ

وثالثا : يلزم التناقض في مدلول قوله عليه‌السلام « إنما الشك في شيء لم تجزه » لو كان يعم الشك في الجزء والكل ، فإنه لو شك المصلي في الحمد وهو في الركوع ، فباعتبار الشك في الحمد قد جاوز محله فلا يجب عليه العود ، وباعتبار الشك في صحة الصلاة لم يتجاوز عنها ، لأنه بعد في الأثناء ، فيجب عليه العود ، فتأمل.

ورابعا : التجاوز في قاعدة التجاوز إنما يكون بالتجاوز عن محل الجزء

__________________

١ ـ الوسائل الباب ٤٢ من أبواب الوضوء الحديث ٢.

٢ ـ أقول : ما أفيد إنما يتم في فرض إرادة الكل من « الشيء » وإرادة جزئه ، إذ حينئذ يلزم اجتماع اللحاظين في الجزء استقلالا وتبعا ، وأما لو أريد من « الشيء » عنوانه الكلي ومن إطلاقه سرايته في اي مصداق منه بلا لحاظ كل ولا جزء ، فلا قصور في شمول الاطلاق كلا العنوانين : من الصلاة والركوع. نعم : قد يشكل من جهة آخر ، وهو ان الشك في الكل إن كان من جهة الشك في هذا الجزء المشكوك يصدق عليه ان الكل بوصف انه كل شيء مشكوك ، واما ان كان من جهة الشك في صحته لفقد موالاة مثلا لا يصدق على الكل انه شيء مشكوك ، لأنه بما هو شيء بملاحظة اجتماع أفعاله المقطوع الوجود ، وبملاحظة موالاته فلا يحسب عند العرف شيئا ، فما منه شيء لا يكون مشكوكا ، وما منه مشكوك لا يكون شيئا ، كما لا يخفى.

٦٢٢

المشكوك فيه ، وفي قاعدة الفراغ إنما يكون بالتجاوز عن نفس المركب لا عن محله (١).

وخامسا : متعلق الشك في قاعدة التجاوز إنما هو نفس الجزء ، وأما قاعدة الفراغ : فمتعلق الشك فيها ليس وجود الكل ، بل هي ظرف للشك ، فلا يمكن أن يجمعهما كبرى واحدة (٢).

ولأجل ذلك التزم بعض الاعلام بتعدد الكبرى المجعولة الشرعية وأن قاعدة التجاوز بنفسها قاعدة مستقلة لا ربط لها بقاعدة الفراغ ، ولذلك تختص قاعدة التجاوز بالشك في أجزاء الصلاة ، ولا تطرد في أجزاء سائر المركبات ، بخلاف قاعدة الفراغ ، فإنها لا تختص بباب دون باب ، بل تعم جميع الأبواب ـ كما عليه الفقهاء ـ ومع تعدد الكبرى المجعولة الشرعية ترتفع الاشكالات بحذافيرها.

هذا ، ولكن الانصاف : أن القول بتعدد الكبرى المجعولة الشرعية بعيد غايته (٣) فان ملاحظة مجموع الأخبار الواردة في الباب يوجب القطع بأن

__________________

١ ـ أقول : وفيه ما فيه ، ولا يحتاج فساده إلى البيان ، إذ يكفي في عناية مضي الشيء مضي محله ، فالتجاوز استعمل في معنى واحد بدالين ، أريد مصداقه الحقيقي بدال والتنزيلي بدال آخر ، ولا ضير فيه ، فتدبر.

٢ ـ أقول : لا قصور في الجامع في الشك بوجود الشيء بين وجود الركوع والصلاة بما هو كل ، كما تقدم. نعم : بناء على شمول الشيء للإضافات ـ لو كان الشك في الكل من جهة الموالاة مثلا ـ يبقى مجال إشكال ان في الصلاة ما صدق عليه شيء لا شك فيه ، وإنما الشك في الموالاة التي لا يصدق عليه شيء ، وحينئذ فلا محل لتعميم الشك في الشيء للشك في الكل الصحيح لفقد موالاته ، كما لا يخفى.

٣ ـ أقول : ولا يخفى على المتدرب ان اخبار الباب على لسانين ـ أحدهما : أن الشك في الوجود ليس بشيء ، وأخرى : بلسان أن كل شيء سلك فيه مما قد مضى فامضه كما هو ، إذ هو ظاهر في التعبد بجعله ، كما ينبغي من التمامية ، وهذا اللسان غير لسان التعبد بالغاء الشك في الوجود والبناء على وجوده كما في الطائفة الأولى. وبقي قوله : « إنما الشك في شيء لم تجزه » وهذا اللسان أيضا هو لسان قاعدة التجاوز ومختص بالشك في الوجود ، ولا يرتبط بالشك في صحة الموجود.

٦٢٣

الشارع في مقام بيان ضرب قاعدة كلية للشك في الشيء بعد التجاوز عنه ، خصوصا مع تقارب التعبيرات الواردة في الاخبار (١) فان من أعطاها حق التأمل لا يكاد يشك في وحدة الكبرى المجعولة الشرعية وهي عدم الاعتناء والالتفات إلى المشكوك فيه بعد التجاوز عن محله مطلقا أي شيء كان المشكوك فيه ، ففي مقام إعطاء القاعدة لم يلاحظ الشارع إلا ما صدق عليه عنوان « الشيء » من غير فرق بين الجزء والكل ، غايته أن الشك في الكل يكون بنفسه صغرى للكبرى المجعولة الشرعية بلا عناية ، وأما الشك في الجزء : فهو إنما يكون صغرى لها بعناية التعبد والتنزيل ، يعني أن الشارع نزل الشك في الجزء في باب الصلاة

__________________

نعم : يرد عليه إشكال لزوم تخصيص المورد ، فلا محيص من علاجه ، وسيجئ أيضا بيانه. وعلى اي حال : الاخبار بين الشك في ذات الوجود فهي مختصه بالاجزاء ، وبين الشك في صحة الموجود فهو مختص بماله جهة صحة وفساد بلحاظ فقد قيد أو شرط أو جزء ، وأما الشك في ذات الكل أو الشك في وجود الصحيح : فلا يستفاد من هذه الأخبار شيء وحينئذ لا مجال لاخذ الجامع بين الكل والجزء كي يحتاج إلى عناية ، مع أنه تصح بلا تكلف عناية ولا تنزيل ، كما أشرنا.

١ ـ منها : رواية زرارة ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل شك في الاذان وقد دخل في الإقامة؟ قال عليه‌السلام يمضي ، قلت : رجل شك في الأذان والإقامة وقد كبر؟ قال عليه‌السلام يمضي ، قلت : رجل شك في التكبير وقد قرأ؟ قال : يمضي ، قلت : شك في القراءة وقد ركع؟ قال : يمضي ، قلت : شك في الركوع وقد سجد؟ قال عليه‌السلام ـ يمضي في صلاته ، ثم قال عليه‌السلام يا زرارة! إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشئ.

ومنها : رواية إسماعيل بن جابر ، قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام إن شك في الركوع بعدما سجد فليمض ، وإن شك في السجود بعدما قام فليمض ، كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه.

ومنها : موثقة ابن بكير عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال عليه‌السلام كلما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو.

ومنها : موثقة ابن أبي يعفور : إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره ، فليس شكك بشيء ، إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه.

ومنها : غير ذلك ( منه ).

٦٢٤

منزلة الشك في الكل في الحكم بعدم الالتفات إليه ، فيكون إطلاق الشيء على الجزء باللحاظ السابق على التركيب وصار من مصاديق الشيء تعبدا وتنزيلا ، فالكبرى المجعولة الشرعية ليست هي إلا عدم الاعتناء بالشئ المشكوك فيه بعد التجاوز عنه. ولهذا الكبرى صغريان : وجدانية تكوينية وهي الشك في الكل بعد الفراغ عنه من غير فرق بين الصلاة وغيرها (١) وصغرى تعبدية تنزيلية وهي الشك في الجزء في خصوص باب الصلاة.

والذي يدل على هذا التنزيل رواية « زرارة » و « إسماعيل بن جابر » فيكون المراد من « الشيء » في قوله عليه‌السلام « إنما الشك في شيء لم تجزه » (٢) مطلق الشيء مركبا كان أو غير مركب ، ولا يشمل جزء المركب بما هو جزء في عرض شموله للكل ، بل إنما يشمله بعناية التعبد بعد تنزيل الجزء منزلة الكل في كونه شيئا بلحاظ المرتبة السابقة على التركيب ، فلم يستعمل الشيء في الجزء والكل في مرتبة واحدة حتى يقال : إنه لا يصح إطلاق الشيء على الجزء في مرتبة إطلاقه على الكل ، فيرتفع الاشكال الثاني الذي هو العمدة.

وأما بقية الاشكالات ـ فالانصاف : أنها ضعيفة يمكن الذب عنها بلا مؤنة.

أما الاشكال الأول : ففيه أن المراد من الشك في الشيء إنما هو الشك في وجود الشيء بمفاد كان التامة ، والمشكوك فيه في قاعدة الفراغ أيضا وجود الكل بمفاد كان التامة ، غايته أن الشك في وجود الكل يكون مسببا عن الشك

__________________

١ ـ أقول : لو علم بفوت سجدة في صلاته مع الشك في صحتها بعد الفراغ عنه من جهة الاخلال بالترتيب أو الموالاة ، لا مجال لاجراء « قاعدة التجاوز » بلحاظ انطباقه على الجزء ، فلا محيص من إجراء القاعدة بلحاظ الشك في وجود الصحيح ، ومن المعلوم : أن هذا البيان لا يثبت موضوع قضاء السجدة ، إذ هو من آثار صحة هذه الصلاة ، لا من آثار وجود الصحيح في العالم ، كما هو ظاهر.

٢ ـ الوسائل الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

٦٢٥

في وجود الجزء أو الشرط ، فلم يختلف متعلق الشك في قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ.

وأما الاشكال الثالث : ففيه أن التناقض في المدلول مبني على صدق الشك في الكل عند الشك في الجزء في الأثناء بعد التجاوز عن محل الجزء ، وهو ممنوع ، فان الشك في الكل إنما يصدق بعد الفراغ عنه ، فلا يصدق على الشك في الحمد عند الركوع الشك في الصلاة قبل التجاوز عنها ، بل إنما يصدق عليه الشك في الحمد بعد التجاوز عنه ، فلا يجب العود إليه ، وذلك واضح.

وأما الاشكال الرابع : ففيه أن المراد من التجاوز إنما هو التجاوز عن محل المشكوك فيه مطلقا ، فان الشك في قاعدة الفراغ أيضا يكون بعد التجاوز عن محل الجزء المشكوك فيه الذي كان سببا للشك في وجود الكل.

وأما الاشكال الخامس : ففيه أن متعلق الشك في قاعدة التجاوز والفراغ إنما هو وجود الجزء ، وليس الكل في قاعدة الفراغ ظرفا للشك ، لما عرفت : من أن الشك في الكل دائما يكون مسببا عن الشك في وجود الجزء أو الشرط. فلم يختلف متعلق الشك في القاعدتين.

فتحصل : أنه لا مانع من الالتزام بوحدة الكبرى المجعولة الشرعية (١) وربما تترتب على ذلك ثمرات مهمة ، يأتي الإشارة إليها ( إن شاء الله تعالى ).

وبما ذكرنا ظهر : اختصاص قاعدة التجاوز بأجزاء الصلاة ، ولا تجري في أجزاء سائر المركبات الاخر ، لاختصاص مورد التعبد والتنزيل بأجزاء الصلاة ، فلا خصوصية للطهارات الثلاث حتى قال : إنها خارجة عن عموم قاعدة التجاوز بالتخصيص للاخبار والاجماع ، فإنه لا عموم في القاعدة حتى يكون

__________________

١ ـ أقول : لعمري! ان استنباط القاعدتين من اختلاف لسان الاخبار في غاية الامكان ، فحمل الجميع على مساق واحد ثم منع الشمول للكل والجزء إلا بتوسيط تنزيل الجزء منزلة الكل مما يأبى عنه الطبع والذوق المستقم.

٦٢٦

خروجها بالتخصيص.

المبحث الثاني

التجاوز عن الجزء إنما يكون بالتجاوز عن محله ، لا عن نفسه ، للشك في وجوده ، فلا يتحقق التجاوز عن نفسه ، ولذلك قبل : إنه لابد من تقدير المحل الذي يضاف إليه التجاوز.

ولكن يمكن أن يقال : إنه لا حاجة إلى التقدير ، إذ بعدما نزل الشك في الجزء منزلة الشك في الكل كان نسبة التجاوز إلى الجزء على الحقيقة ، بتنزيل التجاوز عن المحل منزلة التجاوز عن نفسه (١) فأضيف التجاوز إلى الجزء حقيقة ، كما هو مسلك السكاكي في باب الاستعارة. وعلى كل حال : المراد من المحل المتجاوز عنه هو المحل الشرعي ، أي المحل الذي عينه الشارع للجزء حسب ما يدل عليه أدلة الترتيب بين الاجزاء ، ولا عبرة بالمحل العادي في شيء من الموارد.

وقد ذهب بعض الاعلام إلى اعتبار المحل العادي في بعض الموارد ، كالشك في التطهير والاستبراء بعد التجاوز عن محلهما العادي ، وكالشك في غسل الجانب الأيسر لمن اعتاد غسله عقيب غسل الجانب الأيمن بلا فصل.

وفيه مالا يخفى ، فان فتح باب المحل العادي يوجب تأسيس فقه جديد ، مع أنه لا عين له في الاخبار. نعم : قد تقتضي العادة صدق عنوان التجاوز والمضي ونحو ذلك من العناوين المأخوذة في الأدلة.

وتفصيل ذلك : هو أن الجزء المشكوك فيه ، تارة : يكون هو الجزء الأخير من

__________________

١ ـ أقول : مجرد التنزيل لا يكفي ، بل يحتاج إلى عناية تنزيل المشكوك منزلة الموجود ، وحينئذ يكفي هذه العناية لإضافة التجاوز إليه ، بلا احتياج إلى تنزيل الجزء منزلة الكل ، كما لا يخفى.

٦٢٧

العمل ، كالتسليم في الصلاة ، وغسل الجانب الأيسر في الغسل الترتيبي ، والمسح في الوضوء ، ونحو ذلك. وأخرى : يكون الجزء المشكوك فيه ما عدا الجزء الأخير.

فان كان ما عدا الجزء الأخير ، فلا إشكال في صدق التجاوز والمضي والفراغ عن العمل ، ولا يأتي فيه البحث عن اعتبار المحل العادي ، لان التجاوز عن ما عدا الجزء الأخير إنما يكون من التجاوز عن المحل الشرعي ، فان المفروض : اعتبار الترتيب بين الاجزاء.

وإن كان المشكوك فيه هو الجزء الأخير ، فقد يتوهم : عدم جريان قاعدة الفراغ في العمل الذي يشك في جزئه الأخير ، للشك في تحقق الفراغ ، فان الفراغ عن العمل لا يكاد يتحقق إلا بالجزء الأخير منه.

هذا ، ولكن التحقيق : أنه لا فرق في عدم الاعتناء بالشك بين أن يتعلق الشك بالجزء الأخير أو بغيره.

أما في باب الصلاة : فواضح ، فإنه عند الشك في التسليم تجري قاعدة التجاوز ، ولا نحتاج إلى قاعدة الفراغ.

وتوهم : أن التجاوز عن الجزء إنما يكون بالدخول في الغير المترتب عليه شرعا وليس ما وراء التسليم ما يكون مترتبا عليه شرعا فاسد ، فان الشك في التسليم ، إما أن يكون في حال الاشتغال بالتعقيب ، وإما أن يكون في حال السكوت. وعلى الثاني : فاما أن يكون الشك فيه بعد فعل ما ينافي الصلاة عمدا وسهوا كالحدث ، وإما أن يكون بعد فعل ما ينافيها عمدا لا سهوا كالتكلم ، وإما أن يكون قبل فعل المنافي.

فان كان الشك في التسليم في حال الاشتغال بالتعقيب : فلا ينبغي الاشكال في جريان قاعدة التجاوز فيه ، فان محل التعقيب شرعا بعد التسليم ، ولا يضر بذلك عدم كون التعقيب من أجزاء الصلاة ، فإنه يكفي كونه من توابع الصلاة وملحقاتها كالاذان والإقامة ، وقد صرح في رواية « زرارة » بجريان

٦٢٨

قاعدة التجاوز في الأذان والإقامة.

وإن كان الشك في التسليم بعد فعل ما ينافي الصلاة عمدا وسهوا : فلا يبعد جريان قاعدة التجاوز فيه أيضا ، فإنه وإن لم يجعل الشارع لما ينافي الصلاة محلا بل جعله من المبطلات ، إلا أنه لما كان تحليلها التسليم كان محل التسليم قبل فعل المنافي ، فان الحكم المجعول الشرعي ـ الأعم من الوضعي والتكليفي ـ وهو عدم وقوع المنافي قبل التسليم ، فيجري عليه حكم المحل الشرعي.

وبذلك يمكن أن يقال : إن حكم المنافي العمدي دون السهوي حكم المنافي العمدي والسهوي من هذه الجهة ، لأنه يعتبر أن يكون التسليم قبل الكلام ، ولا ينافي ذلك كون الكلام السهوي غير مبطل للصلاة ، فإنه على كل حال تحليلها إنما يكون بالتسليم ، فتأمل.

وإن كان الشك في التسليم في حال السكوت قبل فعل المنافي العمدي والسهوي : فالأقوى كونه من الشك في المحل ، ويجب فعل التسليم إذا لم يكن السكوت ماحيا للصورة بطوله ، وإلا دخل في القسم السابق. هذا كله إذا كان الشك في الجزء الأخير من الصلاة.

وإن كان الشك في الجزء الأخير من المركبات الاخر ـ كالغسل والوضوء ونحو ذلك ـ فقاعدة التجاوز لا تجري فيه ، لما عرفت : من أن قاعدة التجاوز إنما تجري في خصوص أجزاء الصلاة ولا تعم الشك في أجزاء المركبات الاخر. ولكن تكفينا قاعدة الفراغ ، فان دعوى اختصاصها بما إذا كان المشكوك فيه ما عدا الجزء الأخير ممنوعة ، خصوصا إذا لزم من الاعتناء والالتفات إلى الجزء إعادة المركب من أوله ، كما في المركبات التي يعتبر فيها الموالاة ، كالوضوء ، فان الشك في المسح بعد جفاف الأعضاء أو قبله مع تخلل الفصل الطويل المفوت للموالاة لو كان يقتضي الاعتناء والالتفات إليه كان اللازم إعادة الوضوء ، لفوات الموالاة بين الاجزاء. والظاهر : جريان قاعدة الفراغ ،

٦٢٩

لصدق الانصراف والمضي ، فيشمله قوله عليه‌السلام « كلما مضى من صلاتك وطهورك فامضه كما هو » (١) فان إعادة الوضوء في الفرض ينافي المضي عليه. نعم : لو كان الشك في المسح قبل جفاف الأعضاء ، فلا إشكال في أنه يجب المسح مع عدم تخلل الفصل الطويل ، لأنه يكون من الشك في المحل ، فلا يصدق عليه الانصراف والمضي ، هذا إذا كان الاعتناء بالشك يقتضي إعادة المركب.

وأما إذا كان الاعتناء به لا يقتضي إلا الاتيان بالجزء المشكوك فيه ، لعدم اعتبار الموالاة بين الاجزاء ـ كالتوصليات وكالغسل ـ ففي جريان قاعدة الفراغ وعدمه إشكال ، ولعل من اعتبر المحل العادي اعتبره في هذا القسم من المركبات ، وقد عرفت : أنه لا عبرة بالمحل العادي. ولكن مع ذلك يمكن أن يقال : إن صدق التجاوز والمضي لا يتوقف على العلم باتيان الجزء الأخير ، بل يكفي في صدق ذلك الاتيان بمعظم الاجزاء إذا كان من عادة المكلف عدم الفصل بين الاجزاء والآتيان بها متوالية (٢).

والحاصل : أنه لا يعتبر في صدق المضي والتجاوز عن الشيء عدم كون المشكوك فيه الجزء الأخير ، بل لو علم المكلف أنه أتى بالجزء الأخير وكانت بقية الاجزاء مشكوكة لم يصدق عليها التجاوز والمضي ، فصدق التجاوز والمضي يدور مدار فعل معظم الاجزاء ، لكن مع جريان العادة على التتابع والموالاة بين الاجزاء ، فإنه لا يصدق عرفا التجاوز عن جملة المركب إلا إذا جرت العادة على ذلك ، فاعتبار العادة إنما هو لأجل صدق المضي والتجاوز معها ، لا لكونها

__________________

١ ـ الوسائل الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٦ لفظ الحديث « كلما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فامضه ولا إعادة عليك فيه ».

٢ ـ أقول : في صدق المضي لمحض العادة المزبورة نظر ، والعمدة صدقه باتيان معظم أجزائه وعدمه ، كان في البين عادة أم لا ، فتدبر.

٦٣٠

معتبرة في حد نفسها ـ كما مال إليه بعض الاعلام ـ فإنه قد عرفت عدم قيام الدليل على اعتبارها ولا يمكن الالتزام بذلك كلية ، فهل ترى أنه يمكن القول بعدم وجوب أداء الدين إذا كان من عادة المديون أداء الدين في وقت خاص فشك في أدائه في وقته المعتاد تمسكا بقوله عليه‌السلام « كلما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو » (١) فتأمل جيدا.

المبحث الثالث

لا إشكال في اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز ، لعدم صدق التجاوز عن الجزء المشكوك فيه بدون الدخول في الجزء المترتب عليه. وفي اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ إشكال منشأه اختلاف الاخبار (٢) فظاهر جملة منها اعتبار ذلك ـ كموثقة ابن أبي يعفور وظاهر جملة

__________________

١ ـ الوسائل الباب ٢٣ من أبواب الخلل ، الحديث ٣.

٢ ـ أقول : هذا الاشكال ناش عن جعل مفاد قاعدة الفراغ الشك في الوجود ، وإرجاع موثقة « ابن يعفور » إلى بيان قاعدة الفراغ وجعل لسانه مع لسان موثقة « ابن بكير » واحدا ، وإلا لا يبقى مجال إشكال أصلا ، لأن الشك في الوجود مختص بالاجزاء المستلزم تجاوزه للدخول في الغير ، بخلاف الشك في صحة الموجود الذي هو مفاد موثقة « ابن بكير » فإنه لا يقتضي الدخول في الغير بعد صدق مضي العمل بفراغه عنه.

نعم : قد يشكل الامر في موثقة « ابن بكير » من جهتين : إحديهما ـ من حيث اقتضاء عمومه قاعدة التجاوز في غير الصلاة أيضا ، مع أن ظاهرهم تخصيصها بباب الصلاة. ثانيهما ـ عدم عملهم به في مورد القاعدة المستلزم لتخصيص المورد المستهجن.

وحل الاشكال : هو انه بعد شرح التجاوز والدخول في الغير في الوضوء بالدخول في غير الوضوء بقرينة الفقرة الأخرى من قوله عليه‌السلام « صرت في حالة أخرى من الصلاة » لا يبقى مجال تخصيص المورد ولا التعدي في قاعدة التجاوز المضروب في أثناء العمل إلى غير باب الصلاة. وحينئذ المستفاد من هذه الرواية نوعا من قاعدة التجاوز الجاري بعد العمل أيضا ، ولا بأس بالتعدي عنه إلى غير باب الصلاة. واما النوع الجاري في الأثناء : فهو مختص بباب الصلاة. وأما قاعدة الفراغ : فهو لا يحتاج

٦٣١

أخرى عدم اعتبار الدخول في الغير ـ كموثقة ابن بكير ـ فيدور الامر بين حمل المطلق على المقيد وبين الاخذ بالاطلاق وحمل التقييد على الغالب ، لان الغالب حصول الشك بعد الدخول في الغير ، فلا يكون للتقيد ظهور في كونه للاحتراز ، نظير قوله تعالى : « وربائبكم اللاتي في حجوركم ».

وقد يناقش في إطلاق المطلق بدعوى انصرافه إلى الغالب ، فإنه بعد تسليم كون الغالب حصول الشك بعد الدخول في الغير ينصرف المطلق إلى ما هو الغالب ، فيدور الامر بين الوجهين : حمل التقييد على الغالب فيخرج عن كونه للاحتراز ، أو حمل المطلق على الغالب فيلغو الاطلاق. هذا ، ويمكن الخدشة في كلام الوجهين.

أما في الوجه الأول : فبأن مجرد غلبة القيد لا يوجب رفع اليد عن ظهوره في كونه للتقييد ، فان الأصل في التقييد أن يكون للاحتراز ، إلا إذا علم من الدليل أو من الخارج ورود القيد مورد الغالب ، بحيث كان ذكره لمجرد الغلبة لا للاحتراز به ، كما في الآية المباركة.

وأما في الوجه الثاني : فبأن مجرد كون الغالب حصول الشك بعد الدخول في الغير لا يوجب انصراف المطلق إلى الغالب ، فإنه لا عبرة بغلبة الوجود ما لم تقتض صرف ظهور اللفظ ـ كما بيناه في محله ـ فالانصاف : أن الذي يقتضيه الجمع بين الأدلة هو حمل المطلق على المقيد.

فالأولى بل الأقوى اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ أيضا ، ولكن يكفي في الغير المعتبر فيها مطلق الغير ، بحيث يكون الشخص في حالة أخرى مغايرة لحال الاشتغال بالمركب ، كما يدل عليه قوله عليه‌السلام في ذيل صحيحة زرارة : « فإذا قمت من الوضوء وفرغت عنه وقد صرت في حالة أخرى

__________________

إلى الدخول في الغير ، بل جارية حتى مع الشك في الصحة من جهة الترتيب والموالاة ، ولا مجال لجريان القاعدة الأولى بنوعيه ، كما لا يخفى : فتدبر تعرف.

٦٣٢

في الصلاة أو غيره فشككت في بعض ما سمى الله مما أوجب الله عليك لا شيء عليك » (١) نعم : لا يبعد عدم كفاية السكوت المجرد ، فان الظاهر من قوله عليه‌السلام « وقد صرت في حالة أخرى » أو قوله : « دخلت في غيره » ونحو ذلك مما ورد في الاخبار ، هو الاشتغال بأمر وجودي مغير لحال الاشتغال بالمركب.

ومن ذلك يظهر : أن اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ إنما يكون شرطا خارجيا اعتبره الشارع تعبدا ، لا لكونه يتوقف عليه صدق الفراغ ، فإنه لا يبعد صدق الفراغ بمجرد الاتمام ولو مع عدم الاشتغال بأمر وجودي. نعم : اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز انما هو لأجل أنه يتوقف صدق التجاوز عليه ، لا لمحض التعبد ، فتأمل.

المبحث الرابع

قد اختلفت كلمات الاعلام في « الغير » الذي يعتبر الدخول فيه في قاعدة التجاوز ، فقيل : إنه مطلق الغير ، سواء كان من الاجزاء أو من المقدمات ، كالهوي والنهوض ، سواء كان جزء مستقلا أو كان جزء الجزء كآخر السورة بل الآية عند الشك في أولها.

وحيث إن الاخذ بعموم الغير بهذه المثابة ينافي قوله عليه‌السلام في رواية إسماعيل « وإن شك في السجود بعدما قام فليمض كل شيء شك فيه مما قد جاوزه الخ » (٢) فإنه لو كان يكفي مطلق الدخول في الغير لم يكن وجه للتحديد في القيام عند الشك في السجود لان النهوض إلى القيام أقرب من

__________________

١ ـ الوسائل الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ١ مع اختلاف في بعض الألفاظ.

٢ ـ الوسائل الباب ١٥ من أبواب السجود ، الحديث ٤.

٦٣٣

السجود إلى القيام ويصدق على النهوض أنه غير السجود فالتحديد بالقيام ينافي عموم « الغير » التزم صاحب هذا القول بأن رواية إسماعيل تكون مخصصة لعموم « الغير » فيكون النهوض إلى القيام خارجا عن العموم.

ولما كان الالتزام بالتخصيص في غاية الوهن والسقوط ـ بداهة أن قوله عليه‌السلام في الرواية « كل شيء شك فيه مما قد جاوزه » إنما سيق لبيان الكبرى الكلية فلابد وأن يكون قوله عليه‌السلام « شك في السجود بعد ما قام » من صغريات تلك الكبرى ولا يمكن إخراجه عنها ـ قال بعض الاعلام بخروج المقدمات عن عموم « الغير » مع الالتزام بالعموم بالنسبة إلى الاجزاء المستقلة وأجزاء الاجزاء.

وقيل : بخروج أجزاء الاجزاء عن العموم أيضا ويختص بالاجزاء المستقلة بالتبويب التي رسم لكل منها باب على حدة عند تدوين كتاب الصلاة كتكبيرة الاحرام والقراءة والركوع والسجود والتشهد ونحو ذلك ـ فلا يعم المقدمات ولا أجزاء الاجزاء ، فلو شك المصلي في أول السورة وهو في آخرها يلزمه الرجوع إليها وإعادة السورة من أولها (١).

وهذا هو الأقوى ، لان شمول قوله عليه‌السلام « كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » للشك في الاجزاء إنما كان بعناية التبعد والتنزيل ولحاظ الاجزاء في المرتبة السابقة على التركيب ، فإنه في تلك المرتبة يكون كل جزء من أجزاء الصلاة وأجزاء أجزائها من الآيات والكلمات

__________________

١ ـ أقول : لا يحتاج تخصيص « الغير » بما اعتبر جزء للصلاة بل ولا إلى هذه العناية والتنزيل [ بل ] المنصرف من « الغير » بقرينة الأمثلة ما كان له وجود مستقل ولو بمثل الشك في وجود آية مع الدخول في آية أخرى ، فضلا عن الشك في الحمد مع الدخول في السورة ، مع أنهما لم تكونا مستقلان بالثبوت ، بل ولا في اعتبار الجزئية بناء على كون الجزء مطلق القراءة ، ولذا اعتنى بالدخول في القيام مع أنه ما لم يشتغل بالقراءة أو التسبيح لا يكون قيامه جزء للصلاة ، كما لا يخفى.

٦٣٤

بل الحروف شيئا مستقلا في مقابل الكل. وأما في مرتبة التأليف والتركب : لا يكون الجزء شيئا مستقلا في مقابل الكل ، بل شيئية الجزء تندك في شيئية الكل ، كما تقدم. فدخول الاجزاء في عموم « الشيء » في عرض دخول الكل لا يمكن إلا بعناية التعبد والتنزيل. وحينئذ لابد من الاقتصار على مورد التنزيل ، والمقدار الذي قام الدليل فيه على التنزيل هو الاجزاء المستقلة بالتبويب ، فان عمدة ما ورد في عدم الاعتناء عند الشك في أجزاء الصلاة هو صحيحة « زرارة » ورواية « إسماعيل بن جابر » والمذكور فيهما هو الاجزاء المستقلة بالتبويب ، ففي صحيحة زرارة ، قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل شك في الاذان وقد دخل في الإقامة » إلى أن قال : « قلت : رجل شك في الركوع وقد سجد؟ قال عليه‌السلام يمضي في صلاته ، ثم قال : يا زرارة إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء » (١).

وفي رواية إسماعيل بن جابر ، قال : « قال أبو جعفر : إن شك في الركوع بعدما سجد فليمض ، وإن شك في السجود بعدما قام فليمض ، كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (٢).

وبعدما كان الظاهر من صدر الروايتين هو الاجزاء المستقلة ـ كالتكبيرة والقراءة والركوع والسجود فلا سبيل إلى دعوى عموم « الشيء » المذكور في الذيل للمقدمات وأجزاء الاجزاء ، فان الصدر يقتضي تضييق دائرة مصب عموم « الشيء » وإطلاق « الغير » المذكور في الذيل ، فلا يعم أول السورة وآخرها أو أول الآية وأخرها ، وإلا كان ينبغي تعميمه لأول الكلمة وآخرها ، مع أن الظاهر أنه لا قائل به.

__________________

١ ـ الوسائل : الباب ٢٣ من أبواب الواقع في الصلاة ، الحديث ١.

٢ ـ الوسائل : الباب ١٣ من أبواب الركوع الحديث ٤.

٦٣٥

فالقدر الثابت من الدليل هو جريان قاعدة التجاوز في خصوص الاجزاء المستقلة بالتبويب ، ولا تجري قاعدة التجاوز عند الشك في أول السورة مع كون المكلف في آخرها ، فضلا عن الشك في أول الآية وهو في آخرها ، أو أول الذكر وهو في آخره ، فتأمل جيدا.

بقي التنبيه على أمور :

الأول : قد عرفت : أن مقتضى رواية « زرارة » و « إسماعيل بن جابر » خروج المقدمات من الهوي والنهوض عن عموم قاعدة التجاوز ، إلا أنه قد ورد في بعض الروايات عدم الالتفات إلى الشك في الركوع بعد الهوي إلى السجود.

ففي رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قال عليه‌السلام قد ركع » (١) وهذا بظاهره ينافي ما ذكرناه من خروج المقدمات عن عموم القاعدة.

وحكي عن بعض : أنه حمل قوله عليه‌السلام في رواية زرارة وإسماعيل بن جابر : « شك في الركوع وقد سجد ـ أو ـ بعدما سجد » على الهوي إلى السجود ، ولا يخفى بعده.

فالأولى أن يقال : إن للهوي إلى السجود مراتب ، فإنه من مبدء التقوس إلى وضع الجبهة على الأرض يكون كله هويا ، فيحمل الهوي في رواية « عبد الرحمن » على آخر مراتبه الذي يتحقق به السجود ، فيرتفع التعارض بين الأدلة (٢) ولا يخفى : أن حمل رواية « عبد الرحمن » على ذلك أقرب من حمل

__________________

١ ـ الوسائل : الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٦.

٢ ـ أقول : هذا المعنى ينافي مع جعل السجود بدخول الغاية ، فان ظاهره خروج ما بعده عن المغيا ،

٦٣٦

السجود على الهوي ، فإنه لا يلزم من ذلك سوى تقييد إطلاق الهوي وحمله على المرتبة الأخيرة ، فلا عبرة بالهوي قبل وضع الجبهة على الأرض.

الامر الثاني : مقتضى ما ذكرناه من أن المراد من « الغير » الذي يعتبر الدخول فيه هو الجزء المترتب على المشكوك فيه بحسب ما قرره الشارع ، هو جريان قاعدة التجاوز لو شك في الحمد عند الاشتغال بالسورة ، أو شك في السجود في حال التشهد ، لان كلا من السورة والتشهد مترتب على الحمد والسجود. ولكن الذي يظهر من روايتي « زرارة » و « إسماعيل بن جابر » عدم جريان قاعدة التجاوز في الفرضين ، فان المذكور في رواية زرارة هو الشك في القراءة بعد الركوع ، والمذكور في رواية إسماعيل بن جابر هو الشك في السجود بعد القيام ، ولم يذكر فيهما التشهد والسورة.

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إن عدم ذكر التشهد في رواية « إسماعيل » لمكان أن الامام عليه‌السلام في مقام بيان الشك في الركوع والسجود من الركعة الأولى التي لا تشهد فيها ، فيكون الشك في السجود من الركعة الثانية في حال التشهد داخلا في الكبرى الكلية المذكورة في ذيل الرواية ، وهي قوله : « كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه ». وأما عدم ذكر السورة في رواية زرارة : فيمكن أن يقال : إن المراد من الشك في القراءة الشك في مجموع الحمد والسورة ، وأما الشك في الحمد وحدها بعد الاشتغال بالسورة : فلم يتعرض السائل لفرضه ، بل ذكره الامام عليه‌السلام في الكبرى الكلية المذكورة في الذيل وهي قوله عليه‌السلام « إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء » فتأمل جيدا.

__________________

فلا يشمله الاطلاق ما يتحقق به السجود كي يقيد إطلاقه بخصوصه ، بل التصرف في قوله : « بعدما قام » على النهوض المشرف للقيام أولى من هذا التصرف. وحينئذ لولا إعراضهم عن هذه الرواية لا محيص من إدخال المقدمات مثل الهوي والنهوض في الغير ، كما لا يخفى.

٦٣٧

الامر الثالث : لا فرق في « الغير » المترتب على الجزء المشكوك فيه بين أن يكون من الاجزاء الواجبة أو المستحبة ، بل لا فرق بين أن يكون جزء مستحبا أو كان مستحبا في حال الصلاة وإن كان خارجا عن حقيقتها ـ كالقنوت على أحد الوجهين فيه ـ ويدل على ذلك قوله في صحيحة زرارة « رجل شك في الاذان وقد دخل في الإقامة؟ قال عليه‌السلام يمضي » (١) فان الأذان والإقامة من المستحبات الخارجة عن الصلاة المتقدمة عنها ، فالمستحبات الداخلية أولى بذلك.

الامر الرابع : الشك في التشهد بعد القيام يندرج في الكبرى الكلية المذكورة في الروايات وإن لم يصرح به.

الامر الخامس : لو شك في القراءة في حال الهوي إلى الركوع قبل الوصل إلى حده ، فان قلنا : إن الهوي من القيام إلى الركوع من المقدمات كالهوي إلى السجود ، فلا إشكال في وجوب العود إلى القراءة ، وإن قلنا : إن الهوي ليس من المقدمات بل هو من واجبات الركوع كما هو المختار ـ لان لازم كون القيام المتصل بالركوع من الأركان هو وجوب الهوي من مبدء التقوس إلى حد الركوع ـ فالظاهر عدم وجوب العود إلى القراءة ، لصدق الدخول في الغير ، والمسألة لا تخلو عن إشكال.

* * *

__________________

١ ـ أقول : لا أرى دلالته على مدعاه : من أن « الغير » الكافي الشك في جزء الصلاة ولو كان مستحبا نفسيا فيها ، إذ غاية دلالته جريان قاعدة التجاوز فيما هو من تبعات الصلاة بملاحظة الترتيب المأخوذ فيها ، لا في نفس أجزائه بملاحظة الترتيب المأخوذ بينه وبين ما هو مستحب نفسي في الصلاة. نعم : غاية الامر يتعدى من المستحبات الخارجية إلى المستحبات الداخلية بملاحظة الترتيب المأخوذ في نفسها ، لوحدة السنخية ، لا بينها وبين ما هو جزء للصلاة الذي هو من غير سنخها ، فتدبر.

٦٣٨

المبحث الخامس

في جريان قاعدة التجاوز والفراغ في الشرائط

اعلم : أن الشرائط المعتبرة في الصلاة على أقسام ثلاثة :

الأول : ما كان شرطا للصلاة في حال الاجزاء ، كالطهور والستر والاستقبال.

الثاني : ما كان شرطا عقليا لنفس الاجزاء ، بمعنى أنه مما يتوقف عليه تحقق الجزء عقلا ، كالموالاة بين حروف الكلمة ، فإنه لا يكاد يصدق على الحروف المنفصلة عنوان الكلمة.

الثالث : ما كان شرطا شرعيا للاجزاء ، كالجهر والاخفات بالقراءة ، بناء على كونها شرطا للقراءة لا للصلاة في حال القراءة ، كما لا يبعد دلالة قوله تعالى : « ولا تجهر بصلاتك » (١) على كونهما شرطا للصلاة.

وقبل التعرض لحكم الأقسام ينبغي التنبيه على أمر :

وهو أن المجعول في قاعدة التجاوز والفراغ إنما هو البناء على وقوع الجزء المشكوك فيه ، فإنها لو لم تكن من الامارات فلا أقل من كونها من الأصول المحرزة ، كما يدل عليه رواية حماد بن عثمان قال : « قلت : لأبي عبد الله عليه‌السلام أشك وأنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا ، فقال عليه‌السلام قد ركعت » (٢) وكقوله عليه‌السلام في بعض أخبار الوضوء : « هو حين يتوضأ

__________________

١ ـ سورة بني إسرائيل الآية : ١١٠.

٢ ـ الوسائل : الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٢.

٦٣٩

أذكر » (١) إلى غير ذلك من الاخبار الظاهرة في كون القاعدة محرزة لوقوع المشكوك فيه ، كالاستصحاب.

ولا ينافي ذلك قوله عليه‌السلام في بعض الاخبار : « كلما مضى من صلاتك وطهورك فامضه كما هو » (٢) فان عدم دلالة ذلك على التنزيل والاحراز لا يضر بدلالة الاخبار الاخر عليه.

وبالجملة : ملاحظة الاخبار توجب القطع بكون الحكم المجعول في الباب هو البناء على وقوع المشكوك فيه ، من غير فرق في ذلك بين قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ. وكان شيخنا الأستاذ ـ مد ظله ـ قبل هذا يميل إلى عدم كون قاعدة الفراغ من الأصول المحرزة ، إلا أنه لما كان ذلك ينافي وحدة الكبرى المجعولة الشرعية التزم بأن قاعدة الفراغ كقاعدة التجاوز من الأصول المحرزة ، وهو الحق الذي لا محيص عنه.

إذا تبين ذلك ، فنقول : قد عرفت أن الشروط على أقسام ثلاثة :

الأول : ما يكون شرطا للصلاة في حال الاجزاء ، وهو أيضا على قسمين : فإنه تارة : يكون للشرط محل مقرر شرعي ، كما لا يبعد أن تكون الطهارة الحدثية كذلك ، فان قوله تعالى : « إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم » الخ (٣) يدل على أن محل الطهارة قبل الصلاة. وأخرى : لا يكون للشرط محل شرعي كالاستقبال والستر ، فان المعتبر شرعا وقوع الاجزاء في حال الاستقبال والستر من دون أن يكون لهما محل شرعي ، غايته أنه يتوقف عقلا تحقق الاستقبال والستر قبل الصلاة مقدمة ليقع التكبير في حال الاستقبال والستر. وعلى كلا

__________________

١ ـ الوسائل : الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

٢ ـ الوسائل : الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٦ ولفظ الحديث « كلما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فامضه ولا إعادة عليك فيه ».

٣ ـ المائدة : ٦

٦٤٠