فوائد الأصول - ج ٤

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٢

ولكن مع ذلك لا يخلو عن مناقشة بل منع ، لان قيام الامارة والأصل المحرز مقام القطع الطريقي ليس مبنيا على جعل الموضوع عنوانا كليا يعم الاحراز التعبدي بتنقيح المناط ، وإن ذكرنا ذلك وجها لقيام الطرق والأصول مقام القطع الطريقي ، إلا أنه قد تقدم : أنه يمكن المناقشة فيه بمنع تنقيح المناط القطعي ، بل عمدة الوجه في قيامها مقامه : هو أن المجعول في الامارات لما كان الاحراز والوسطية في الاثبات ، فتكون حاكمة على الدليل الذي اخذ القطع في موضوعه ، بل قد تقدم : أن حكومتها على الأدلة المتكفلة للأحكام الواقعية التي لم يؤخذ القطع في موضوعها إنما تكون بتوسط كونها محرزة لها ، فحكومتها على نفس القطع والاحراز الذي اخذ في الموضوع أولى وأحرى : فراجع ما ذكرناه في مبحث القطع.

وبتقريب آخر : قيام الطرق والامارات والأصول المحرزة مقام القطع الطريقي إنما هو بعناية كونها متكفلة لاثبات مؤدياتها ، فتكون المؤديات محرزة ببركة التعبد بها ، ولذلك لم تقم الأصول الغير المحرزة مقام القطع الطريقي ، فإنها غير متكفلة لاثبات المؤدى ، وحينئذ لا يمكن أن يكون بين الامارات والأصول ورود ، لأنه يعتبر في الورود أن يكون أحد الدليلين رافعا لموضوع الآخر بنفس التعبد به لا بعناية ثبوت المتعبد به.

ولأجل ذلك كانت الأصول الغير المحرزة واردة على الأصول العقلية ، لأنه بنفس التعبد بها يرتفع موضوع حكم العقل ـ بالبيان المتقدم ـ والامارات إنما تكون رافعة لموضوع الأصول بعناية ثبوت المتعبد به فيها لا بنفس التعبد ، لاشتراك الأصول معها في التعبد ، فلا تصح دعوى : كون الامارات واردة على الأصول ، بل لابد من كونها حاكمة عليها.

نعم : نتيجة كل حكومة هي الورود بعناية رفع الموضوع ، كما أنه بعناية رفع الحكم تكون النتيجة هي التخصيص ، فتأمل جيدا.

٦٠١

ـ الامر الرابع ـ

قد تقدم في بعض المباحث السابقة الفرق بين الامارة والأصل ، وحاصله : أنه يعتبر في الامارة أمران :

أحدهما : أن تكون لها جهة كشف في حد ذاتها ، فان ما لايكون كاشفا بذاته لا يمكن أن يعطيه الشارع صفة الكاشفية.

ثانيهما : أن يكون اعتبارها من حيث كونها كاشفة ، أي كان اعتبارها تتميما لكشفها.

وأما الأصل : فهو إما أن لا يكون فيه جهة كشف كأصالة البراءة والحل ، وإما أن يكون له جهة كشف ولكن لم يكن اعتباره من تلك الجهة ، بل كانت جهة كشفه ملغاة في نظر الشارع واعتبره أصلا عمليا ، ولذلك قد يشتبه الشيء بين كونه أمارة أو أصلا عمليا ، لعدم العلم بجهة الاعتبار (١) وقد وقع البحث والخلاف في جملة من الأمور ، فقيل : إنها من الامارات ، وقيل : إنها من الأصول العملية.

فمنها

« اليد »

فإنه لا خلاف في اعتبارها في الجملة ويحكم لصاحبها بالملكية ، وقد

__________________

١ ـ فلو شك في كون الشيء أمارة أو أصلا ، يبنى على كونه أصلا ، بمعنى أن النتيجة العملية تقتضي أن يكون أصلا ، فإنه وإن لم يكن في البين ما يعين كونه أمارة أو أصلا ، إلا أن الامارة تشارك الأصل في إثبات المؤدى وتختص باثبات اللوازم والملزومات ، وحيث لم يعلم كونه أمارة لم يثبت إثباته للوازم والملزومات ، والأصل عدمها ، فتأمل ( منه )

٦٠٢

استقرت على ذلك طريقة العقلاء واستفاضت به النصوص عموما وخصوصا في الموارد الجزئية ، من غير فرق بين يد المسلم والكافر ، إلا في اللحوم وما يتعلق بها ، فإنه لا عبرة بيد الكافر فيها ولا يحكم له بالملكية ، إما لما قيل : من كون يده أمارة على كون اللحم من الميتة ، وإما لأصالة عدم التذكية ، وكل منهما غير قابل لان يملك. وهذا كله مما لا إشكال فيه ، إنما الاشكال في كون اليد من الامارات أو من الأصول العلمية.

والظاهر أن تكون من الامارات ، فان بناء العقلاء وعمل الناس كان على اعتبار اليد وترتيب آثار الملكية على ما في اليد لصاحبها ، وليس في طريقة العقلاء ما يقتضي التعبد بالملكية لصاحب اليد بلا ركون النفس ، بل لابد وأن يكون عمل العقلاء على ذلك لكشف اليد في نوعها عن الملكية ، لان الغالب في مواردها كون ذي اليد مالكا لما في يده ، فان استيلاء عير المالك على ملك الغير وتصرفه فيه تصرف الملاك في أملاكهم خلاف العادة ، وبناء العرف والعقلاء على عدم الالتفات إلى احتمال كون ذي اليد غاصبا ، بل يعاملون مع اليد معاملة الكاشف والطريق كسائر الكواشف العقلائية والطرق العرفية ، وما ورد من الشارع في اعتبار اليد إنما هو إمضاء لما عليه عمل الناس ، وليس مفاد أدلة اعتبارها تأسيس أصل عملي بحيث لم يلاحظ الشارع جهة كشفها ، فان ذلك بعيد غايته ، وقوله عليه‌السلام في بعض أدلة اعتبار اليد « وإلا لما قام للمسلمين سوق » (١) لا يدل على التعبد بها ، بل إنما هو لبيان حكمة إمضاء ما عليه العقلاء ، فإنه لولا اعتبار اليد لاختل النظام ولم يبق للمسلمين سوق.

وبالجملة : ملاحظة عمل العقلاء في باب اليد وأدلة اعتبارها يوجب القطع بكونها من الامارات ، لا من الأصول العملية ، وحينئذ لا إشكال في كونها حاكمة

__________________

١ ـ الوسائل : الباب ٢٥ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، الحديث ٢ ولفظ الحديث « لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق ».

٦٠٣

على الاستصحاب. مع أنه لو سلم كونها من الأصول العملية كانت مقدمة على الاستصحاب ، لورودها مورده غالبا ، فإنه قل مورد لم يكن الاستصحاب على خلاف اليد ، فلو قدم الاستصحاب عليها يلزم المحذور الذي علل به الحكم في الرواية ، وهو قوله عليه‌السلام « لما قام للمسلمين سوق » فلا محيص عن الاخذ بمقتضى اليد وطرح الاستصحاب.

وقد انعقد الاجماع على ذلك مع الجهل بحال اليد وكون المال من الأملاك القابلة للنقل والانتقال ، وأما مع العلم بحال اليد أو عدم كون المال مما يقبل النقل والانتقال ، فلا أثر لليد ، بل لابد من العمل بما يقتضيه الاستصحاب.

وتفصيل ذلك : هو أنه تارة : يعلم كيفية حدوث اليد على المال : من كونها عادية أو أمانة أو إجارة ونحو ذلك ، ثم احتمل انتقال المال إلى ذي اليد بناقل شرعي ، وأخرى : لا يعلم كيفية حدوث اليد على المال ، بل احتمل أن يكون قد انتقل إلى ذي اليد من تأول حدوث يده عليه. وعلى الثاني : فتارة تكون اليد على ما كان وقفا قبل وضع اليد عليه واحتمل انتقاله إليه بأحد مجوزات بيع الوقف ، وأخرى : تكون اليد على ما كان ملكا للغير قبل وضع اليد عليه واحتمل انتقاله إليه عن مالكه بناقل شرعي. فهذه أقسام ثلاثة ينبغي البحث عنها.

الأول : ما إذا علم حال اليد وأنها حدثت على وجه الغصب أو الأمانة أو الإجارة ، ثم احتمل انتقال المال إلى صاحب اليد ، ولا ينبغي الاشكال في سقوط اليد والعمل على ما يقتضيه استصحاب حال اليد (١) فان اليد إنما تكون

__________________

١ ـ أقول : لا يخفى : ان اليد المعلوم حدوثه على مال الغير غصبا أم أمانة بعد كون بقائه على المال محتمل الانقلاب إلى اليد المالكية ـ كما هو المفروض ـ بان كانت هذه اليد الباقية المحتملة مشمول دليل حجية اليد ، فلازم اماريته كون دليل اعتباره رافعا للجهل بعنوانه ، حيث إن مقتضى رفع الجهل عن ملكية ما في اليد تطبيق اليد الملكية عليه الملازم لعدم كونها غصبية ولا أمانة في الظاهر ، وحينئذ يرفع

٦٠٤

أمارة على الملك إذا كانت مجهولة الحال غير معنونة بعنوان الإجارة والغصب ونحوهما ، واستصحاب حال اليد يوجب تعنونها بعنوان الإجارة أو الغصب ، فلا تكون كاشفة عن الملكية.

ولا سبيل إلى دعوى حكومة اليد على الاستصحاب ، بتوهم : أن اليد أمارة على الملكية فيرتفع بها موضوع الاستصحاب لان موضوعه اليد العادية واليد تقتضي الملكية فلا يبقى موضوع الاستصحاب ، فان اليد إنما تكون أمارة على الملكية إذا لم يعلم حالها ، والاستصحاب يرفع موضوع اليد.

وبعبارة أخرى : أمارية اليد وإن كانت تقتضي عدم كونها عادية ، إلا أن إثباتها لذلك فرع إثباتها الملكية ، لان لازم الملكية كون اليد غير عادية ، والامارات وإن كانت تثبت اللوازم ، إلا أن إثباتها لها يتوقف على إثباتها

__________________

الشك في عنوان اليد فيرتفع به الاستصحاب ، نظرا إلى حكومة دليل الامارة على الأصل ، وبعد ذا لا يبقى مجال القول : بان دليل اعتبار اليد انما يشمل ما هو مجهول العنوان وبالاستصحاب يصير معلوم الغصبية أو الأمانية ، إذ الغرض من الجهل بالعنوان المأخوذ في دليل أمارية اليد ان كان بنحو الموردية ـ كما هو الشأن في كل أمارة ـ فهو لا يفيد بعد فرض كون دليل الامارة رافعا له وحاكما على استصحاب عنوانه ، وإن كان الغرض أخذ الجهل في موضوع دليل اعتبار اليد ، فحكومة الاستصحاب مسلم ، ولكن لازمه كون اليد أصلا عمليا ، لا أمارة ، وهو خلاف مختاره وفرضه.

وان لم تكن هذه اليد المعلوم حدوثه على مال الغير من الأول مشمول دليل الاعتبار ـ كما هو التحقيق ـ فوجود هذه اليد ولو لم يكن في البين استصحاب بمنزلة العدم ، بل المرجع حينئذ استصحاب بقاء المال على ملك الغير ، وحينئذ صح لنا دعوى : ان الاستصحاب لا يكون مانعا عن شمول دليل اعتبار اليد ، فإما أن لا يشمل لها ذاتا ولو لم يكن استصحاب ، أو يشمل بلا صلاحية الاستصحاب لمنعه ، وحينئذ استصحاب عنوان اليد أجنبي عن مرحلة امارية اليد للملكية. نعم : ربما يفيد في مقام آخر ، وهو ان مجرد استصحاب بقاء المال في ملكية الغير في فرض عدم شمول دليل اليد مثل اليد المعلوم حدوثه في ملك الغير لا يثبت عنوان الغصبية أو الأمانة ، فمع الشك في أحد العنوانين في اليد الباقية يستصحب الغصبية أو أمانيته للحكم بضمان صاحبها وعدمه ، وهذه الجهة غير مرتبط بعالم اعتبارها من حيث الملكية ، فترى في البين خلط مقام بمقام! فتدبر.

٦٠٥

للملزومات ، واستصحاب حال اليد يمنع عن إثباتها الملزوم ، فإنه بمدلوله المطابقي يثبت كون اليد عادية.

فلا ينبغي الاشكال في حكومة الاستصحاب على اليد إذا كان المستصحب حال اليد ، وعلى ذلك يبتني قبول السجلات وأوراق الإجارة (١) وينتزع المال عن يد مدعي الملكية إذا كان في يد الطرف ورقة الاستيجار المثبتة لكون يد المدعي كانت يد إجارة ، كما عليه عمل العلماء من سالف الزمان.

القسم الثاني : ما إذا كان المال وقفا قبل استيلاء ذي اليد عليه واحتمل طرو بعض مسوغات بيع الوقف فاشتراه ذو اليد ، ففي اعتبار اليد وعدمه وجهان : من أن العلم بكون المال وقفا قبل استيلاء ذي اليد عليه كالعلم بكونه ملكا للغير قبل ذلك لا أثر له في مقابل اليد ، فإنه ليس في البين إلا استصحاب بقاء الوقفية ، وهو كاستصحاب بقاء المال على ملك الغير يكون محكوما باليد. نعم : لو علم أن اليد حدثت على ما كان وقفا واحتمل طرو بعض مسوغات بيع الوقف بعد ذلك ، كان استصحاب حال اليد حاكما عليها ، وأما إذا لم يعلم ذلك بل احتمل أن تكون اليد حدثت بعد بطلان الوقف ، فلا يكون في البين ما يقتضي سقوط أمارية اليد ، وهذا الوجه هو الذي اختاره « السيد الطباطبائي » في كتاب القضاء من ملحقات العروة.

والأقوى : عدم اعتبار اليد ووجوب انتزاع المال عن يده وتسليمه إلى أرباب الوقف ، إلا أن يثبت الملكية الفعلية ، فان اليد إنما تكون أمارة على الملك في المال الذي يكون في طبعه قابلا للنقل والانتقال فعلا ولم يكن محبوسا

__________________

١ ـ أقول : بل يبتني على المختار : من عدم شمول دليل الاعتبار إلا ما كان مجهول العنوان من الأول ، إذ استصحاب بقاء ملكية الغير محكمة بلا احتياج إلى استصحاب عنوان اليد في رفع دليل اعتبار اليد على الملكية ، كما لا يخفى.

٦٠٦

عنه (١) ولا يكفي مجرد إمكان طرو ما يقبل معه النقل والانتقال.

وبعبارة أخرى : اليد إنما تكون أمارة على أن المال انتقال من مالكه الأول إلى ذي اليد بأحد أسباب النقل والانتقال على سبيل الاجمال بلا تعيين سبب خاص ، وذلك إنما يكون بعد الفراغ عن أن المال قابل للنقل والانتقال ، والوقف ليس كذلك ، فان الانتقال فيه إنما يكون بعد طرو ما يوجب قابلية النقل فيه : من عروض أحد مسوغات بيع الوقف ، ففي الوقف لابد من عروض المجوز للبيع أولا ثم ينقل إلى الغير ، وأمارية اليد إنما تتكفل الجهة الثانية وهي النقل إلى ذي اليد ، وأما الجهة الأولى : فلا تتكفل لاثباتها اليد ، بل لابد من إثباتها بطريق آخر ، بل الجهة الأولى تكون بمنزلة الموضوع للجهة الثانية ، فاستصحاب عدم طرو ما يجوز معه بيع الوقف يقتضي سقوط اليد ، فإنه بمدلوله المطابقي يرفع موضوع اليد ، فهو كاستصحاب حال اليد.

وتوهم : أن اليد وإن كانت أمارة على النقل إلى ذي اليد ، إلا أن لازم ذلك طرو ما يسوغ النقل إليه ، وشأن الامارة إثبات اللوازم والملزومات ، فاليد كما تثبت النقل تثبت طرو المجوز للنقل أيضا

فاسد ، لما عرفت : من أن قابلية المال للنقل والانتقال تكون بمنزلة الموضوع

__________________

١ ـ أقول : لا مجال لجعل حجية اليد منوطة بالقابلية الواقعية ، وإلا يلزم عدم الاعتناء باليد بمحض الشك في الجزئية أيضا إذا شك في قابلية المحل واقعا ، ومجرد عدم العلم بعدم القابلية فيه لا يجدي في حجية اليد على هذا المبنى ، إذ مجرد الشك في القابلية الواقعية يكفي في الشك في حجيته ، لأن الشك في الشرط شك في المشروط ، فلا محيص حينئذ من إناطة حجيتها على الشك في القابلية ، بل وعلى عدم العلم بها بإناطة شرعية ، إذ حينئذ صح حكومة الاستصحاب على دليل حجية اليد ، بناء على المختار : من إمكان أمارية الشيء بالنسبة إلى الملزوم دون اللازم أو العكس ، وإلا فعلى مسلك المقرر في باب حجية مثبتات الامارة لا محيص في المقام من المعارضة بين اليد والأصل المزبور ، لان كل واحد يرفع موضوع الآخر ، كما لا يخفى ، وهو كما ترى يكشف عن فساد المسلك في وجه حجية مثبتات الامارة ، فراجع وتدبر.

٦٠٧

للنقل والانتقال لا من اللوازم والملزومات ، ألا ترى؟ أنه لو شك في كون ما في اليد خلا أو خمرا مع كونه في السابق خمرا لا يمكن إثبات كونه خلا بمجرد كونه في اليد ، بدعوى : أن اليد تكون أمارة على الملك والخمر لا يملك فلابد وأن يكون خلا لان الامارة تثبت اللوازم ، وليس ذلك إلا من جهة كون المالية لا تكون من لوازم الملكية ، بل هي موضوع لها ، واليد لا تثبت الموضوع ، فلا تكون اليد أمارة على انقلاب الخمر خلا ، بل استصحاب بقاء الخمرية حاكم على اليد ، واليد على ما كان في السابق وقفا كاليد على ما كان في السابق خمرا من الجهة التي نحن فيها ، فلا تكون اليد على الوقف أمارة على طرو مسوغات بيع الوقف.

فان قلت : ما الفرق بين الوقف والأراضي المفتوحة عنوة؟ مع أنه لو كان ما في اليد من الأراضي المفتوحة عنوة وادعى الملكية تقر يده عليه ، ولا يجري استصحاب بقائها على الحالة السابقة.

قلت : الفرق بينهما هو أن الأراضي المفتوحة عنوة تكون ملكا للمسلمين وتقبل النقل والانتقال فعلا ، غايته أن المتصدي لنقلها هو الولي العام حسب ما اقتضته المصلحة النوعية ، وهذا بخلاف الوقف ، فإنه وإن قلنا بأنه ملك للموقوف عليه ، إلا أنه محبوس فعلا وغير قابل للنقل والانتقال إلا بعد طرو المسوغ.

فان قلت : عدم قابلية الوقف للنقل والانتقال ليس أشد وأعظم من عدم قابلية الحر له ، مع أنه قد ورد عدم سماع دعوى الحرية مع كون المدعى به تحت اليد ، بل تقر يده عليه إلى أن يثبت كونه حرا.

قلت : قياس الوقف على الحر مع الفارق ، فإنه في الوقف كان المال محبوسا قبل استيلاء ذي اليد عليه ، وأما الحر : فلم يعلم أنه كان حرا قبل استيلاء ذي اليد عليه. نعم : الأصل في الانسان أن يكون حرا ولكن إذا لم يكن تحت اليد ،

٦٠٨

وأما إذا كان تحت اليد : فلا تجري فيه أصالة الحرية ، بل تكون اليد أمارة على الرقية.

نعم : لو فرض أن ما في اليد كان حرا قبل استيلاء ذي اليد عليه وأمكن انقلاب الحر رقا فادعى ذو اليد الرقية والملكية ، كان قياس الوقف عليه في محله ، إلا أنه لا يمكن انقلاب الحر رقا ، وعلى فرض إمكان ذلك لا تكون اليد أمارة على الانقلاب والرقية ، كما في مثال الخل والخمر.

فظهر : أن اليد على الوقف لا تكون أمارة على الملكية ، بل ينتزع المال عن ذي اليد إلى أن يثبت عروض ما يجوز بيع الوقف ، فتأمل جيدا.

القسم الثالث : ما إذا لم يعلم حال اليد واحتمل أنها حدث في ملك صاحبها بانتقال المال عن مالكه إليه ، وهذا القسم هو المتيقن من موارد اعتبار اليد وحكومتها على استصحاب بقاء الملك في ملك مالكه وعدم انتقاله إلى ذي اليد ، لان استصحاب بقاء الملك لا يثبت كون اليد على ملك الغير إلا بلازمه العقلي (١) وليس ذلك مؤدى الاستصحاب بمدلوله المطابقي ، وأمارية اليد تقتضي عدم كون اليد في ملك الغير ، ولا يعتبر في أمارية اليد أزيد من الشك في كون المال مال الغير وهو ثابت بالوجدان ، فاليد بمدلولها المطابقي تقتضي رفع موضوع الاستصحاب ، وهو بمدلوله الالتزامي يرفع موضوع اليد ، فيكون وزان اليد وزان سائر الامارات الحاكمة على الاستصحاب. فلا ينبغي التأمل والاشكال في عدم جريان استصحاب في هذا القسم ، وإلا تبقى اليد بلا مورد ، كما لا يخفى.

__________________

١ ـ أقول : ليس المقام من اللوازم العقلية الغير الثابتة بالأصل ، بل من باب تطبيق العقل عنوان المقيد على ما يكون المقيد ثابتا بالوجدان والقيد بالأصل ، نظير استصحاب المائية لما في الكوز ، حيث يجدي لترتيب الأثر على ماء الكوز وأمثاله ، وحينئذ ليس وجه تقديم اليد عليه إلا من جهة اماريته لشمول دليله مثل هذا اليد دون ما كان معلوم العنوان من الأول ، كما أشرنا سابقا ، فتدبر.

٦٠٩

تتمة :

إن لم يكن في مقابل ذي اليد من يدعي ملكية المال ، فلا إشكال في وجوب ترتيب آثار كون المال ملكا لذي اليد والمعاملة معه معاملة المالك.

وإن كان في مقابله من يدعي الملكية وثبت كون المال كان ملكا للمدعي قبل استيلاء ذي اليد عليه ، ففي انتزاع المال عن يده وتسليمه إلى المدعي وعدمه تفصيل ، فإنه تارة : تثبت الملكية السابقة باقرار ذي اليد ، وأخرى تثبت بالبينة ، وثالثة : تثبت بعلم الحاكم.

فعلى الثالث : لا ينتزع المال عن ذي اليد قولا واحدا ، فإنه لا أثر لعلم الحاكم بأن المال كان للمدعي قبل استيلاء ذي اليد عليه ، لاحتمال أن يكون قد انتقل المال إليه بناقل شرعي ، فلا مستند لانتزاع المال عن يده إلا استصحاب بقاء المال في ملك المدعي ، وقد عرفت : أن اليد تكون حاكمة على الاستصحاب.

وعلى الثاني : فالمحكي عن بعض : أنه ينتزع المال عن ذي اليد إلا أن يقيم بينة على انتقال المال إليه. وحكي عن آخر : انتزاع المال عن يده إذا ضم الشاهدان إلى شهادتهما بالملكية السابقة عدم العلم بالانتقال أو شهدا بالملكية الفعلية للمدعي ، وكان مستند شهادتهما استصحاب بقاء الملكية السابقة.

والأقوى : عدم انتزاع المال عن ذي اليد مطلقا ، فان البينة لا يزيد حكمها عن علم الحاكم ، ولا أثر لضم عدم العلم بالمزيل ، كما لا أثر لاستصحاب الشاهدين بقاء المال على ملك المدعي ، فان استصحاب الشاهد لا يزيد على استصحاب الحاكم (١) بل لو شهدا بالملكية الفعلية بمقتضى الاستصحاب كان

__________________

١ ـ أقول : ذلك كذلك لو كان العلم بملكية المال فعلا للبينة غير نادر ، ولو بضم علمه بعنوان اليد

٦١٠

ذلك من التدليس في الشهادة ، فإنهما قد أعملا الاستصحاب في مورد لا يجوز إعماله فيه ، لكونه محكوما باليد ، فلا يجوز للشاهد الشهادة بالاستصحاب إلا في مورد لم يكن المال في يد أحد المتداعيين ، كما إذا كان المال في يد ثالث لا يدعيه وتداعيا عليه شخصان وكان المال ملكا لأحدهما سابقا ، ففي ذلك يجوز الشهادة بالاستصحاب. وأما إذا كان المال في يد من يدعيه فلا يجوز الشهادة عليه بالاستصحاب.

فالتحقيق : أن حكم البينة حكم علم الحاكم لا يجوز انتزاع المال عن ذي اليد وتسليمه إلى المدعي (١).

وأما على الأول : وهو ما إذا أقر ذو اليد بأن المال كان في السابق ملكا للمدعي أو لمورثة ، فالأقوى ـ وفاقا للمحكي عن المشهور ـ انتزاع المال عن ذي اليد وتسليمه إلى المدعي ، لان باقراره تنقلب الدعوى ويصير المدعي منكرا والمنكر مدعيا ، فإنه عند إقراره بأن المال كان للمدعي إما أن يضم إلى إقراره دعوى الانتقال إليه وإما أن لا يضم إلى إقراره ذلك بل يدعي الملكية الفعلية مع إقراره بان المال كان للمدعي.

فان لم يضم إلى إقراره دعوى الانتقال يكون إقراره مكذبا لدعواه الملكية الفعلية (٢) فإنه لا يمكن خروج المال عن ملك من كان المال ملكا له ودخوله في

__________________

على المال من الأول ، وإلا فمقتضى عدم تعطيل البينة على المدعي في الأملاك في الموارد الغالبة الالتزام بتقديم اليد السابقة على اللاحقة في موارد البينة على الملكية الفعلية دون غيرها. نعم مع عدم إقامته على الملكية الفعلية لا تفيد البينة لعدم حجية اليد ، لعدم كونه ميزانا للحكم كي يلزم تعطيل البينة في الدعاوي كثيرا كما لا يخفى.

١ ـ أقول : هذا أيضا في صورة لا يكون مستند الشاهد إلا استصحاب الملكية السابقة في قبال اليد التي هي حجة على الملكية حتى في حق الشاهد ، وإلا ففي صورة احتمال عدم حجية اليد عنده ـ لاحراز عنوان كونه يدا على ملك الغير حقيقة أم تعبدا ـ يتبع البينة وينتزع المال من يده.

٢ ـ أقول : أولا ـ مجرد عدم ضم دعوى الانتقال إلى اقراره لا يقتضي مكذبية إقراره ليده ، وإنما

٦١١

ملك ذي اليد بلا سبب ، فدعواه الملكية الفعلية تكون مناقضة لاقراره ، ومقتضى الاخذ باقراره بطلان يده وعدم سماع دعواه.

وإن ضم إلى إقراره دعوى الانتقال إليه تنقلب الدعوى ويصير ذو اليد مدعيا للانتقال إليه ، فإنه يخالف قوله الأصل المعول عليه في المسألة ـ وهو أصالة عدم الانتقال إليه ـ فينطبق على ما ذكرناه في محله في تشخيص المدعي والمنكر : من أن المدعي هو الذي إذا ترك دعواه وأعرض عنها ترك وارتفعت الخصومة

__________________

المكذب له دعوى عدم الانتقال ، لا عدم دعوى الانتقال ، إذ يكفي في صحة هذه مجرد احتمال الانتقال إليه واقعا ، وهو غير دعوى الانتقال ، وفي هذه الصورة أمكن دعوى عدم انتزاع المال ، لعدم منافاة إقراره مع اليد الكاشفة عن الملكية الفعلية ، كصورة عدم إقراره.

ثم في صورة دعواه الانتقال قد يجيء في البين شبهة العلامة الأستاذ : بان مجرد عدم امارية اليد على الانتقال لا يخرج اليد عن الامارة على الملكية الصرفة ، فيبقى ذو اليد على حجته ، فلم ينتزع المال من يده. وأصالة عدم الانتقال وإن كان مع الطرف ، إلا أنه يكفي لهذا الطرف في استمساك المال أيضا حجية اليد على الملكية ولا يرفع أحد الحجتين للآخر ، فلا مجال لانتزاع المال من يده. ومثل هذه الشبهة لا يكاد يرفع بدعوى الانقلاب ، إذ غايته أصالة عدم الانتقال يجعل مدعيه مدعيا على خلاف الحجة في دعواه ، ولكن ذلك المقدار لا يقتضي انتزاع المال من يد من بيده المال ، لعدم قصور اليد عن الحجية على صرف الملكية وإن لم يثبت الانتقال ، وحينئذ الانتزاع المزبور يحتاج إلى بيان مقدمة أخرى :

وهي أن بناء المشهور على الانقلاب يقتضي حجية أصالة عدم الانتقال ، إذ معلوم : انه بلا حجية هذا الأصل لا معنى لكون مخالفه مدعيا ، لعدم قيام حجة على خلافه ، كما هو الظاهر. وحينئذ نقول : ان حجية هذا الأصل إنما هو بلحاظ ترتيب اثر عدم الانتقال : من بقاء الملكية عليه ، ومع قيام الامارة على ملكية الغير لا يكاد يترتب عليه الأثر المزبور ، ومع عدمه لا معنى لحجية الأصل أصلا. وحينئذ قولهم بتقديم قول الآخر بأصله يكشف عن عدم حجية اليد المزبورة ، فبتلك الشهرة والاجماع يستكشف عدم حجية اليد ، فينتزع المال. وبمثل هذا البيان نجيب عن الشبهة الصادرة عن الأستاذ أيضا.

ومرجع ما ذكرنا إلى عدم الجمع بين حجية أصالة عدم الانتقال وحجية اليد ، فمع اقتران الأصل بدعوى الانتقال من الاجماع على الانقلاب يستكشف حجية الأصل الملازم لعدم حجية اليد ، ومع عدم اقتران الأصل بدعوى الانقلاب يبقى اليد على حجيتها المستتبع لعدم حجية الأصل ، لعدم الشك في أثره ، فتدبر.

٦١٢

من بينهما ، فان ارتفاع الخصومة من البين إنما هو لأجل كون المرجع هو الأصل الجاري في المسألة الموافق لقول أحدهما.

ومن ذلك يظهر : أن قول الأصحاب في تحديد المدعي والمنكر : من « أن المدعي من خالف قوله الأصل » يرجع إلى قولهم : « إن المدعي من إذا ترك ترك » ولا تختلف النتيجة بين الحدين ، بل هما متلازمان ويرجع مفاد كل منهما إلى الآخر ، فما يظهر من بعض الكلمات : من « أن النسبة بينهما العموم من وجه » ليس على ما ينبغي ، وتفصيله موكول إلى محله.

وفيما نحن فيه لا إشكال في أن ذي اليد لو ترك دعواه الانتقال إليه بعد إقراره بأن المال كان للمدعي ترتفع الخصومة من البين ، وكان المرجع بعد الاقرار أصالة عدم الانتقال ، ولا يجوز التعويل على اليد ، لسقوطها بالاقرار.

وتوهم : أن إقرار ذي اليد لا يزيد حكمه عن العلم بالواقع ، فكما أنه في صورة العلم بأن المال كان ملكا للمدعي قبل استيلاء ذي اليد عليه لا ينتزع المال عن ذي اليد ولا يصير المدعي منكرا ، كذلك في صورة إقرار ذي اليد بأن المال كان في السابق للمدعي

فاسد ، فان انقلاب الدعوى ليس من آثار الواقع ، بل من آثار نفس الاقرار ، حيث إن المرء مأخوذ باقراره ولو مع العلم بمخالفته للواقع ، كما إذا أقر بعين لاثنين على التعاقب ، فإنه تدفع العين للمقر له الأول ويغرم قيمة العين للثاني ، ففرق بين العلم بكون المال كان ملكا للمدعي سابقا وبين إقرار ذي اليد بذلك ، ففي الأول لا تنقلب الدعوى ولا يصير ذو اليد مدعيا ، وفي الثاني تنقلب الدعوى.

دفع دخل :

ربما يتوهم المنافاة بين ما ذكرنا : من انقلاب الدعوى في صورة إقرار ذي

٦١٣

اليد بأن المال كان للمدعي وبين ما ورد في محاجة أمير المؤمنين عليه‌السلام مع أبي بكر في قصة فدك على ما رواه في الاحتجاج مرسلا عن مولانا الصادق عليه‌السلام في حديث فدك : « إن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لأبي بكر : تحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال : لا ، قال عليه‌السلام فان كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادعيت أنا فيه من تسأل البينة؟ قال : إياك كنت أسأل على ما تدعيه ، قال عليه‌السلام فإذا كان في يدي شيء فادعى فيه المسلمون تسألني البينة على ما في يدي! وقد ملكته في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده! ولم تسأل المؤمنين على ما ادعوا علي! كما سئلتني البينة على ما ادعيت عليهم! » الخبر (١).

وجه المنافاة : هو أن الصديقة ـ سلام الله عليها ـ قد أقرت بأن فدكا كان ملكا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وادعت أنها نحلة ، فلو كان الاقرار موجبا لانقلاب الدعوى وصيرورة ذي اليد مدعيا ، لكان مطالبة أبي بكر البينة منها عليها‌السلام في محلها ، ولم يتوجه عليه اعتراض أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد البناء على أن ما تركه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينتقل إلى وارثه بل يكون صدقة للمسلمين لما رووه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث درهما ولا دينارا الخ » (٢). فيكون المسلمون بمنزلة الوارث له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحيث إن أبا بكر ولي المسلمين كان له حق مطالبة البينة من الصديقة عليها‌السلام على دعواها بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ملكها فدكا في أيام حياته ، لأنها صارت مدعية بإقرارها بأن فدكا كان ملكا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا ينفعها كونها ذي يد.

__________________

١ ـ الاحتجاج ، ج ١ ، ص ١٢٢

٢ ـ مسند أحمد بن حنبل : ج ١ ، ص ٤ ونقلها أيضا في موارد أخرى من كتابه وكلها بلفظ يغاير مع ما نقله المتن.

٦١٤

هذا ، ولكن التحقيق في الجواب عن الشبهة : هو أن يقال : إن إقرار الصديقة عليها‌السلام بأن فدكا كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يوجب انقلاب الدعوى ، فإنه على فرض صحة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « نحن معاشر الأنبياء لا نورث الخ » لا يكون إقرارها بأن فدكا كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاقرار ذي اليد بأن المال كان لمن يرثه المدعي ، فان انتقال الملك من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المسلمين ليس كانتقال الملك من المورث إلى الوارث ، لان انتقال الملك إلى الوارث إنما يكون بتبدل المالك الذي هو أحد طرفي الإضافة ، وأما انتقاله إلى المسلمين فإنما يكون بتبدل أصل الإضافة ، نظير انتقال الملك من الواهب إلى المتهب ومن الموصي إلى الموصى له.

وتوضيح ذلك : هو أن الملكية عبارة عن الإضافة الخاصة القائمة بين المالك والمملوك ، فللملكية طرفان : طرف المالك وطرف المملوك.

وتبدل الإضافة قد يكون من طرف المملوك ، كما في عقود المعاوضات ، فان التبدل في البيع إنما يكون من طرف المملوك فقط مع بقاء المالك على ما هو عليه ، غايته أنه قبل البيع كان طرف الإضافة المثمن وبعد البيع يقوم الثمن مقامه ويصير هو طرف الإضافة.

وقد يكون من طرف المالك ، كالإرث : فان التبدل فيه إنما يكون من طرف المالك مع بقاء المملوك على ما هو عليه ، غايته أنه قبل موت المورث كان طرف الإضافة نفس المورث وبعد موته يقوم الوارث مقامه ويصير هو طرف الإضافة.

وقد يكون بتبدل أصل الإضافة ، بمعنى أنه تنعدم الإضافة القائمة بين المالك والمملوك وتحدث إضافة أخرى لمالك آخر ، كما في الهبة ، فان انتقال المال إلى المتهب بالهبة ليس من قبيل انتقاله بالإرث ولا من قبيل انتقاله بالبيع ، بل انتقاله إليه إنما يكون باعدام الإضافة بين الواهب والموهوب وحدوث إضافة

٦١٥

أخرى بين المتهب والموهوب ، وكما في الوصية ، فان انتقال المال الموصى به إلى الموصى له في الوصية التمليكية إنما يكون أيضا باعدام الإضافة بين الموصي والموصى به وحدوث إضافة أخرى بين الموصى له والموصى به.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إن انتقال ما كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المسلمين بناء ـ على الخبر المجعول ـ ليس كانتقاله إلى الوارث ، بل هو أشبه بانتقال المال الموصى به إلى الموصى له ، ضرورة أن المسلمين لم يرثوا المال من النبي بحيث يكون سبيلهم سبيل الوارث ، بل غايته أن أموال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تصرف بعد موته في مصالحهم ، فانتقال المال إليهم يكون أسوأ حالا من انتقال المال إلى الموصى له ، ولا أقل من مساواته له ، ومن المعلوم : أن إقرار ذي اليد بأن المال كان ملكا لما يرثه المدعي إنما أوجب انقلاب الدعوى من حيث إن الاقرار للمورث إقرار للوارث (١) لما عرفت : من قيام الوارث مقام المورث في طرف الإضافة ، ولذا لو أقر ذو اليد بأن المال كان لثالث أجنبي عن المدعي ومورثه لا ينتزع المال عن يده ولا تنقلب الدعوى ، وإقرار ذي اليد بأن المال كان للوصي يكون كاقراره بأن المال كان للثالث الأجنبي (٢) ليس للموصى له انتزاع المال عن يده ، وبدعوى أنه أوصى به إليه ،

__________________

١ ـ أقول : إن مجرد كونه إقرارا للمورث في زمان لا يقتضي كونه إقرارا للوارث فعلا ، فلا مجال لاثبات المال للوارث إلا أصالة عدم الانتقال المبتنى على عدم حجية اليد من الخارج لا من جهة هذا الاقرار ، وحينئذ حال الوارث والوصي والولي السابق بالنسبة إلى اللاحق في حجية الأصل ـ لولا اليد وحكومة اليد على الأصل المزبور ـ في حد سواء ، ولا يجدي ما ذكر من الفرق يفارق من الجهة المقصودة في المقام ، فتدبر.

٢ ـ أقول : كيف يكون كذلك؟ والحال انه في صورة الاعتراف بكون المال للأجنبي لا يجدي أصالة عدم الانتقال منه إليه حجية للمدعي ، فلولا حجية اليد لا يكون المدعي منكرا ، بخلاف باب الاعتراف بالانتقال من الموصي أو من الولي السابق بالنسبة إلى الولي اللاحق ، فان أصالة عدم الانتقال حجة في حقهما لولا حجية اليد ، كما لا يخفى.

٦١٦

فان الموصي أجنبي عن الموصى له ولا يقوم مقامه ، فليس الاقرار للموصي إقرارا للموصى له ، كما كان الاقرار للمورث إقرارا للوارث ، بل تستقر يد ذي اليد على المال إلى أن يثبت الموصى له عدم انتقاله إلى ذي اليد في حياة الموصي.

فاقرار الصديقة عليها‌السلام بأن فدكا كان ملكا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يوجب انقلاب الدعوى (١) لأنه لا يرجع إقرارها بذلك إلى الاقرار بأنه ملك للمسلمين ، فان المسلمين لا يقومون مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل هم أسوأ حالا من الموصى له ، لما عرفت : من أن أقصى وما يدل عليه الخبر المجعول هو أن أموال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تصرف في مصالحهم إذا تركها ولم تنتقل عنه في أيام حياته ، فلم يبق في مقابل يد الصديقة عليها‌السلام إلا استصحاب عدم الانتقال وهو محكوم باليد ، فليس لأبي بكر مطالبة الصديقة عليها‌السلام بالبينة ، بل عليه إقامة البينة بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يملكها فدكا في أيام حياته ، فتأمل جيدا (٢).

__________________

١ ـ أقول : قد أشرنا سابقا : بأن كيفية الاختلاف بين الإرث والمقام لا يجدي شيئا ، إذ لولا حجية اليد ، أصالة عدم الانتقال من الولي السابق يجدي للولي اللاحق بزعمهم الفاسدة ولا يغنيهم ، كما هو الشأن في الوارث ، وحينئذ لا يرفع الشبهة في فرض تسليم الخبر المجعول إلا دعوى أن الأصل حجية اليد مطلقا وتقدمه على الأصل ، غاية الامر الاجماع قام على الانقلاب الملازم لعدم حجية اليد في خصوص دعوى الانتقال من الطرف أو مورثه ، دون غيره ، فتدبر.

٢ ـ وعن بعض الاعلام دفع الشبهة بوجه آخر بعدما سلم انقلاب الدعوى باقرارها عليها‌السلام بأن فدكا كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا أنه أجاب عن الشبهة : بأن أبا بكر لم يكن جازما بعدم انتقال فدك منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليها في أيام حياته ، ومع عدم الجزم بذلك ليس له حق الدعوى ومطالبة البينة منها ، فتأمل ( منه ).

٦١٧

ومنها :

« قاعدة الفراغ والتجاوز »

فقد قيل : بكونها من الامارات لما فيها من الكاشفية ، فان الغالب عند تعلق الإرادة بالفعل المركب من الاجزاء هو الجري على وفق الإرادة والآتيان بكل جزء في المحل المضروب له وإن لم يلتفت تفصيلا إلى الجزء في محله ولم يتعلق القصد به كذلك بل كان مغفولا عنه في محله (١) إلا أنه مع ذلك يأتي المكلف بالجزء في محله قهرا جريا على الإرادة السابقة في أول الشروع في العمل المركب ، فالإرادة المتعلقة بالكل عند الشروع فيه هي التي توجب الاتيان بكل جزء في محله ، ولا يحتاج غالبا إلى تعلق إرادة مستقلة بكل جزء جزء في محله ، فان الإرادة الأولية حيث كانت محفوظة في خزانة النفس كان الشخص مقهورا في الجري على وفقها ما لم تحدث إرادة أخرى مضادة للإرادة الأولية ، فالغالب عند تعلق الإرادة بالفعل المركب هو الاتيان بأجزائه في محالها ، والشارع قد اعتبر هذه الغلبة ، كما يومي إليه قوله عليه‌السلام في بعض أخبار الوضوء : « هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » (٢) فتكون القاعدة من الامارات الكاشفة عن وقوع الفعل المشكوك فيه ، وحينئذ تكون القاعدة حاكمة على استصحاب عدم وقوع الفعل المشكوك فيه ، كحكومة سائر الامارات الاخر عليه.

__________________

١ ـ أقول : على تقدير هذه الغلبة ظهور اخباره المأخوذ في موضوعها الشك ينادي بالغاء جهة كشفه ، وما في بعض الاخبار : من التعليل بالأذكرية ، محمول على بيان حكمة الجعل ، لا انه موضوع الجعل تتميم كشفه بقرينة الاخبار الاخر الظاهرة في كونها في مقام التعبد بوجود المشكوك في ظرف الشك ، كما لا يخفى.

٢ ـ الوسائل : الباب ٤٢ من أبواب الوضوء الحديث ٧.

٦١٨

مع أنه لو سلم كونها من الأصول العملية أمكن أن يقال : إنها حاكمة أيضا على الاستصحاب ، كما يظهر من الشيخ قدس‌سره حيث ذكر قبل التعرض لحكومة اليد على الاستصحاب بأسطر ما لفظه « وقد يعلم عدم كونه ناظرا إلى الواقع وكاشفا عنه وأنه من القواعد التعبدية لكن يختفي حكومته مع ذلك على الاستصحاب الخ » فراجع العبارة ، فان الذي يظهر من كلامه إمكان أن يكون أحد التنزيلين في الأصول التنزيلية رافعا لموضوع التنزيل الآخر. ولكن لم يبين وجهه ، ولعل الوجه في ذلك هو أن موضوع الاستصحاب إنما هو الشك في بقاء الحالة السابقة ، وهو إنما يكون مسببا عن الشك في حدوث ما يوجب رفع الحالة السابقة (١) ومثل قاعدة اليد ـ بناء على كونها من الأصول العملية ـ وأصالة الصحة في عمل الغير وقاعدة الفراغ والتجاوز إنما يكون مؤداها حدوث ما يوجب رفع الحالة السابقة ، فتكون رافعة لموضوع الاستصحاب ، فتأمل.

وإن أبيت عن ذلك كله ، فلا إشكال في أن قاعدة الفراغ والتجاوز وردت في مورد الاستصحاب ، فلو قدم الاستصحاب عليها تبقى القاعدة بلا مورد ، فلا ينبغي التأمل في تقدم القاعدة على الاستصحاب. والظاهر : أنه لا كلام فيه ، وإنما الكلام يقع في مباحث فقهية :

__________________

١ ـ أقول : بالله عليك! ان بقاء عدم الشيء مع حدوث وجوده الطارد لهذا البقاء هل هما من غير باب النقيضين المحفوظين في رتبة واحدة؟ فأين السببية والمسببية؟ فالأولى في وجه الحكومة ان يقال : إن الاستصحاب ناظر إلى اثبات اليقين في ظرف الشك ، بلا نظر منه إلى نفي الشك ـ كما توهم ـ وقاعدة التجاوز ناظرة إلى نفي الشك وانه ليس بشيء ولو بملاحظة الغاء احتمال الخلاف والجري على وفق احتمال الوجود ، بلا نظر فيه أيضا إلى كشفه كي يصير أمارة ، ومع الاغماض عن ذلك ، فلا محيص من التقريب الآخر ، كما لا يخفى ، فتدبر.

٦١٩

المبحث الأول

اختلفت كلمات الاعلام في أن الكبرى المجعولة الشرعية في قاعدة الفراغ هل هي عين الكبرى المجعولة في قاعدة التجاوز؟ فترجع القاعدتان إلى قاعدة واحدة ، أو أن الكبرى المجعولة الشرعية في قاعدة الفراغ غير الكبرى المجعولة في قاعدة التجاوز؟ بل كل منهما قاعدة مستقلة برأسها لا يجمعهما كبرى واحدة ، إحداهما مضروبة للشك في الاجزاء في أثناء العمل ، والأخرى مضروبة للشك في صحة مجموع العمل بعد الفراغ منه.

ويمكن أن يستظهر من كلام الشيخ قدس‌سره اتحاد القاعدتين ووحدة الكبرى المجعولة الشرعية ، حيث قال : « الموضع السادس ـ أن الشك في صحة الشيء المأتي به حكمه حكم الشك في الاتيان ، بل هو هو ، لان مرجعه إلى الشك في وجود الشيء الصحيح » انتهى. فتكون الكبرى المجعولة الشرعية هي عدم الالتفات إلى الشك في الشيء بعد التجاوز عنه ، سواء كان متعلق الشك وجود الشيء أو صحته ، لأن الشك في الصحة يرجع إلى الشك في وجود الصحيح ، فالجامع بين القاعدتين هو الشك في الوجود ، غايته أن الشك في قاعدة التجاوز يتعلق بوجود الشيء ، وفي قاعدة الفراغ يتعلق بوجود الصحيح ، وهذا المقدار من الاختلاف لا يقتضي اختلاف الكبرى ، بل هو من اختلاف الموارد والصغريات.

هذا ، ولكن يرد عليه :

أولا : أن متعلق الشك في قاعدة التجاوز إنما هو وجود الشيء بمفاد كان التامة ، وفي قاعدة الفراغ إنما هو صحة الموجود بمفاد كان الناقصة (١) ولا جامع

__________________

١ ـ أقول : لقد أجاد فيما أفاد ، فياليت! لم يرجع عن هذه الجهة ، على ما سيأتي مع ما فيه.

٦٢٠