فوائد الأصول - ج ٤

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


المحقق: الشيخ رحمة الله رحمتي الأراكي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٣٢

ما عداه ، فينبغي أن يستصحب وجوبه ، مع أن ظاهر الاعلام : التسالم على اعتبار أن يكون الباقي معظم الاجزاء.

قلت : نعم وإن كان وجوب الباقي هو عين الوجوب السابق الذي كان متعلقا بالكل حقيقة ، إلا أن القضية المشكوكة لو لم يكن الباقي معظم الاجزاء تباين القضية المتيقنة عرفا ، فان وجوب التشهد مثلا يكون مندكا عرفا في ضمن وجوب البقية ويكون الطلب المتعلق به طلبا تبعيا ضمنيا ، فيكون وجوبه قبل تعذر بقية الاجزاء نحوا يغاير وجوبه بعد تعذرها عرفا وإن كان هو هو حقيقة ، وهذا بخلاف ما إذا كان الباقي معظم الاجزاء ، فان وجوبه في حال تعذر الجزء عين وجوبه السابق عقلا وعرفا ، فيجري الاستصحاب إذا كان الباقي معظم الاجزاء ، ولا يجري إذا كان بعض الاجزاء ، فتأمل جيدا.

تتمة :

يظهر من كلام الشيخ قدس‌سره عدم الفرق في جريان الاستصحاب بين تعذر الجزء بعد دخول الوقت وتنجز التكليف أو قبله ، لان المستصحب هو الوجوب الكلي المنجز على تقدير اجتماع الشرائط ، لا الوجوب الشخصي المتوقف على تحقق الشرائط فعلا.

أقول : المراد من استصحاب الحكم الشخصي هو استصحاب الحكم الجزئي الفعلي الذي يجري في الموارد الجزئية ويشترك في إعماله المقلد والمجتهد ، فيكون اليقين والشك من كل مكلف موضوعا له (١) ولا إشكال في أنه يعتبر في جريانه فعلية الخاطب وتحقق الشرائط خارجا.

وأما استصحاب الحكم الكلي : فهو الذي يكون من وظيفة المجتهد إعماله ولاحظ

__________________

١ ـ أقول : هذه الكلمات أيضا مبنية على البناء على عدم جريان الاستصحاب التعليقي ، وإلا فلا يصل النوبة إلى تشكيل هذا التنبيه والتتمة.

٥٦١

للمقلد فيه ، وهو وإن لم يتوقف على فعلية الخطاب وتحقق الشرائط خارجا ، إلا أنه لابد من فرض تحقق الشرائط خارجا واختلال بعضها ليمكن فرض حصول الشك في بقاء الحكم الكلي ، بداهة أنه لولا فرض تحقق الشرائط واختلال بعضها لا يمكن حصول الشك في بقائه ، كما في استصحاب بقاء نجاسة الماء المتغير الزائل عنه التغير ، فإنه وإن كان لا يتوقف على وجود الماء المتغير خارجا ، إلا أنه لابد من فرض وجوده في مقام الاستصحاب ـ وقد تقدم توضيح ذلك في الاستصحاب التعليقي ـ فاستصحاب بقاء التكليف بالمركب عند تعذر بعض أجزائه وإن كان وظيفة المجتهد ولا يتوقف إعماله على تنجز التكليف وتحقق الشرائط خارجا ، إلا أنه لابد من فرض فعلية التكليف بتقدير وجود الموضوع بما له من الشرائط خارجا ليجري استصحاب بقاء التكليف على هذ التقدير ، ولكن فرض وجود الموضوع لا يتوقف على فرض تمكن المكلف من الجزء في أول الوقت وطرو العجز بعد انقضاء مقدار من الوقت ، فان المفروض : أن التمكن من الجزء المتعذر ليس من مقومات الموضوع وإلا لم يجر الاستصحاب رأسا ، فالذي يحتاج إليه في المقام هو فرض دخول الوقت مع كون المكلف واجدا لشرائط التكليف ، فيستصحب وجوب بقية الاجزاء عند تعذر البعض ولو في أول الوقت.

ولا يتوهم : أنه مع عدم فرض طرو التعذر بعد الوقت يرجع إلى الاستصحاب التعليقي ، فإنه إنما يرجع إليه إذا كان وجود الجزء المتعذر من مقومات المتعلق وأركانه ، لا من خصوصياته وحالاته. نعم : بالنسبة إلى فرض دخول الوقت لابد منه ، وإلا يرجع إلى الاستصحاب التعليقي ، فتأمل.

ثم لا يخفى عليك : أن التمسك بالاستصحاب أو ب‍ « قاعدة الميسور » إنما ينفع في غير باب الصلاة ، وأما في الصلاة فلا أثر للاستصحاب أو « قاعدة الميسور » لقيام الدليل على أن « الصلاة لا تسقط بحال » إلا في صورة فقدان الطهورين.

٥٦٢

ـ التنبيه الرابع عشر ـ

المراد من « الشك » الذي اخذ موضوعا في باب الأصول العملية وموردا في باب الامارات ليس خصوص ما تساوى طرفاه ، بل يشمل الظن بالخلاف فضلا عن الظن بالوفاق ، فالمراد من « الشك » في قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » هو خلاف اليقين ، لأنه من أحد معانيه ـ كما هو المحكي عن الصحاح ـ مضافا إلى ما تقدم في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي : من أن الشك إنما اخذ موضوعا في الأصول العملية من جهة كونه موجبا للحيرة وعدم كونه محرزا وموصلا للواقع ، لا من جهة كونه صفة قائمة في النفس في مقابل الظن والعلم ، فكل ما لايكون موصلا ومحرزا للواقع ملحق بالشك حكما وإن لم يكن ملحقا به موضوعا ، كما أن كل ما يكون موصلا للواقع ومحرزا له ملحق بالعلم حكما وإن لم يكن ملحقا به موضوعا ، فالظن الذي لم يقم دليل على اعتباره حكمه حكم الشك ، لاشتراكهما في عدم إحراز الواقع وعدم إيصالهما إليه.

وحينئذ لا حاجة إلى دعوى : كون رفع اليد عن اليقين السابق بسبب الظن الذي لم يقم دليل على اعتباره يرجع إلى نقض اليقين بالشك للشك في اعتبار الظن ، فيندرج في قوله : « لا تنقض اليقين بالشك ». مع أن في هذه الدعوى مالا يخفى ، فان متعلق الشك هو حجية الظن ومتعلق الظن هو الواقع ، فلا يمكن أن يكون رفع اليد عن اليقين عند الظن بالواقع نقضا لليقين بالشك ، بل هو نقض لليقين بالظن ، فنحتاج إلى إثبات كون الظن ملحقا بالشك حكما أو موضوعا. هذا تمام الكلام في تنبيهات الاستصحاب.

* * *

٥٦٣

خاتمة

ينبغي ختم الكلام في الاستصحاب بذكر أمور :

ـ الأول ـ

يعتبر في الاستصحاب اتحاد متعلق الشك مع متعلق اليقين ، فان الحكم المجعول في الاستصحاب ـ من البناء العملي على بقاء المتيقن وجر المستصحب في الزمان ـ يقتضي اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة موضوعا ومحمولا ، سواء قلنا : باعتبار الاستصحاب من باب التعبد أو من باب إفادته الظن أو من باب بناء العقلاء ، فإنه على جميع التقادير يتوقف حقيقة الاستصحاب على اتحاد متعلق الشك مع متعلق اليقين ، فلو اختلف المتعلقان خرج عن الاستصحاب.

ولعمري! إن ذلك بمكان من الوضوح ، فإنه من القضايا التي قياساتها معها ، فلا يحتاج إلى الاستدلال عليه بما ذكره الشيخ قدس‌سره من أنه « لولا اتحاد المتعلقين يلزم بقاء العرض بلا موضوع أو انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر ، وكل منهما بمكان من الاستحالة » فان الاستدلال بذلك تبعيد للمسافة بلا موجب (١) لما عرفت : من أن حقيقة الاستصحاب والحكم المجعول

__________________

١ ـ أقول لو بنينا على إمكان انتقال العرض أو بقائه بلا معروض لا يكفي مجرد عدم اتحاد الموضوع في حال الشك مع الموضوع في حال اليقين لمنع جريان الاستصحاب ، لان المعتبر فيه الشك في بقاء المستصحب بما له من الخصوصية الثابتة له حال حدوثه ، ومنها خصوصية معروضه ، ومن المعلوم : ان هذا المعنى على ما ذكر من المبنى محفوظ حتى مع احتمال تبدل الموضوع حين الشك ، إذ حينئذ لا قصور في صدق الشك في بقاء شخص العرض القائم بالمحل السابق ، فيشمله حينئذ دليل التعبد ، بخلاف ما لو

٥٦٤

فيه لا يعقل تحققه إلا باتحاد القضيتين ولابد من إحراز الاتحاد ، فلا يجري الاستصحاب مع الشك فيه ، لأنه يكون من التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، كما لا يخفى.

ولا فرق في ذلك بين الاستصحابات الحكمية وبين الاستصحابات الموضوعية ، كما لا فرق بين المحمولات الأولية وبين المحمولات المترتبة ، غايته أنه في المحمولات الأولية يكون الموضوع نفس الماهية المعراة عن الوجود والعدم ، وفي المحمولات المترتبة يكون الموضوع الماهية المقيدة بالوجود أو العدم.

وتوضيح ذلك : هو أن الشك تارة : يكون في المحمولات الأولية من الوجود والعدم. وأخرى : يكون في المحمولات المترتبة من القيام والقعود والكتابة والعدالة ونحو ذلك من المحمولات التي لا يصح حملها على الماهية إلا بعد وجودها ، سواء كان بلا واسطة كالقيام والقعود ، أو كان مع الواسطة كحركة الأصابع ، فان الشخص إنما يكون متحرك الأصابع بتوسط الكتابة.

فان كان الشك في المحمول الأولي : فالموضوع في القضية المشكوكة والقضية المتيقنة نفس الماهية المجردة عن الوجود والعدم ، فإنه لا يمكن الشك في وجود الشيء بقيد كونه موجودا ، بل لابد من فرض الشيء ، بما له من التقرر الذهني معرى عن الوجود والعدم ، ليستصحب وجوده إن كان مسبوقا بالوجود ، أو عدمه إن كان مسبوقا بالعدم ، ولا إشكال في بقاء الموضوع واتحاد القضية المتيقنة مع القضية المشكوكة في استصحاب الوجود والعدم ، فان الشيء الذي يشك في بقاء

__________________

بنينا على الاستحالة ، فإنه بملاحظة احتمال تبدل الموضوع وإن يشك في العرض ، ولكن هذا الشك يلازم مع الشك في استعداد المستصحب للبقاء ، فبناء على اعتباره ـ على مختاره ـ فلا مجال لاستصحابه. وإلى ذلك نظر شيخنا العلامة في إقامة البرهان ، فلا مجال لرده بأنه من باب تبعيد المسافة ، إذ الكلام في البقاء التعبدي لا الحقيقي ، وان البرهان يناسب الأول لا الثاني ، فلا يكون في المقام محل لهذا البرهان ، كما تخيل بعض من الأساطين.

٥٦٥

وجوده أو عدمه هو عين الشيء الذي كان متيقن الوجود أو العدم ، وذلك واضح.

وإن كان الشك في المحمول المترتب ـ كالشك في بقاء عدالة زيد ـ فالمحمول الأولي يكون جزء للموضوع ولابد من إحرازه في مقام استصحاب المحمول المترتب.

فان كان الموضوع محرزا بالوجدان وكان الشك متمحضا في بقاء المحمول المترتب ـ كما إذا علم بوجود زيد وشك في بقاء عدالته ـ فلا إشكال في جريان الاستصحاب ، لبقاء الموضوع واتحاد القضيتين (١) فان الشك إنما هو في عدالة من كان متيقن العدالة ، فيتحد متعلق الشك واليقين.

وإن لم يكن الموضوع محرزا بالوجدان بل تعلق الشك بكل من الموضوع والمحمول الثانوي ـ كما إذا شك في وجود زيد وعدالته ـ فتارة : يكون الشك في المحمول المترتب مسببا عن الشك في الموضوع بحيث لو أحرز الموضوع كان المحمول المترتب محرزا أيضا ، كما إذا شك في مطهرية الماء لأجل الشك في بقاء إطلاقه أو شك في نجاسة الماء لأجل الشك في بقاء تغيره. وأخرى : لا يكون الشك في المحمول المترتب مسببا عن الشك في الموضوع ، بل كان كل منهما متعلقا للشك مستقلا عن منشأ يخصه ، كما إذا شك في حياة زيد لاحتمال موته وعدالته لاحتمال فسقه ، بحيث لو كانت الحياة محرزة كانت عدالته مشكوكة أيضا.

__________________

١ ـ أقول : لولا البرهان السابق : من امتناع بقاء العرض بلا موضوع ، أو قلنا : بعدم لزوم إحراز الاستعداد في المستصحب وقلنا : بحجية الاستصحاب حتى مع الشك في المقتضي ، لا نحتاج في استصحاب المحمولات الثانوية بنحو مفاد كان التامة إلى إحراز وجود الموضوع ، بل الاستصحاب جار حتى مع الشك في الموضوع. نعم : بنحو مفاد كان الناقصة يحتاج إلى وجوده ، لان إثبات شيء لشيء ولو تعبدا فرع ثبوت المثبت له. ثم في هذا الفرض لا يكفي استصحاب الموضوع لاثبات المحمول ، لعدم كون الترتب شرعيا ، فينبغي له حينئذ ان يتعرض هذا الشق أيضا.

٥٦٦

فان كان الشك في المحمول المترتب مسببا عن الشك في الموضوع فلا إشكال في أن جريان الأصل في الموضوع يغني عن جريانه في المحمول المترتب ، لأنه رافع لموضوعه إذا كان الشك في المحمول المترتب مسببا عن الشك في بقاء الموضوع بعد العلم بحقيقته بحدوده وقيوده بحيث كان الشك متمحضا في بقاء الموضوع.

وأما لو كان الشك في المحمول مسببا عن الشك في حقيقة الموضوع ـ لتردده بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع ، كما إذا شك في أن موضوع النجاسة ومعروضها هو ذات الكلب بما له من المادة الهيولائية المحفوظة في جميع التبدلات والانقلابات حتى في حال انقلابه ملحا ، أو أن موضوع النجاسة هو الكلب بصورته النوعية الزائلة عند انقلابه ملحا ـ فلا يجري الاستصحاب ، لا في ناحية الموضوع ، ولا في ناحية المحمول إذا صار الكلب ملحا (١).

أما في ناحية المحمول : فللشك في موضوعه ، لاحتمال أن يكون موضوع النجاسة هو الكلب بصورته النوعية.

وأما في ناحية الموضوع : فلان الموجود في الحال يباين الموجود سابقا ، لان تمايز الأشياء إنما يكون بالصور النوعية ، والملح يباين الكلب بما له من الصورة النوعية ، فالمتيقن السابق انعدم قطعا بانقلاب الكلب ملحا ، والموجود في الحال لم يكن موجودا سابقا ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، بل الاستصحاب في المقام يكون أسوء حالا من استصحاب بقاء المعلوم بالاجمال عند خروج بعض أطرافه عن مورد الابتلاء بتلف أو امتثال أو نحو ذلك ، وقد تقدم في بعض مباحث الأقل والأكثر عدم جريان الاستصحاب فيه. هذا إذا أريد استصحاب ذات الموضوع.

__________________

١ ـ أقول : والأولى ان يقال : إنه بناء عليه يرجع استصحاب الموضوع إلى استصحاب الشخص المردد بنحو الاجمال بين الباقي والزائل.

٥٦٧

وإن أريد استصحاب الموضوع بوصف كونه موضوعا للنجاسة فهو يرجع إلى استصحاب النجاسة ، وقد عرفت : أنه لا يجري ، للشك في موضوعها.

فتحصل : أن الشك في المحمول المترتب إن كان مسببا عن الشك في بقاء الموضوع بعد العلم به فجريان الأصل في ناحية الموضوع يغني عن جريانه في ناحية المحمول إذا كان الأصل السببي واجدا للشرائط المعتبرة في الشك السببي والمسببي ، على ما تقدمت الإشارة إليه.

وإن كان الشك في المحمول المترتب مسببا عن الشك فيما هو الموضوع فالاستصحاب لا يجري ، لا في ناحية الموضوع ولا في ناحية المحمول. هذا كله إذا كان الشك في المحمول مسببا عن الشك في الموضوع. وإن كان كل من الموضوع والمحمول متعلقا للشك في عرض واحد ، فتارة : يكون الموضوع مما يتوقف عليه وجود المحمول عقلا ، كتوقف العدالة على الحياة. وأخرى : مما يتوقف عليه شرعا ، كتوقف الكرية العاصمة على إطلاق الماء ، فان الكرية لا تتوقف على كون الماء مطلقا ، لتحقق الكرية مع إضافة الماء ، إلا أن الشارع اعتبر في الكرية إطلاق الماء ، فيكون دخل الاطلاق في الكرية شرعيا (١) بخلاف دخل الحياة في العدالة فإنه عقلي.

فان كان التوقف شرعيا : يجري الاستصحاب في كل من الموقوف والموقوف عليه ، ويثبت بالاستصحابين الأحكام الشرعية المترتبة على وجود المستصحبين ،

__________________

١ ـ أقول : في المثال عصمة الماء يتوقف على القيدين شرعا بلا قيام أحد القيدين بالآخر. نعم : في المثال الثاني يكون العدالة متقوما بالحياة وقائما بالوجود ، فمع الشك في الحياة لا مجال لاستصحاب العدالة ، لما تقدم من البرهان ، والعدالة على تقدير الحياة الحقيقي أيضا غير مثمر في ترتيب الأثر ، لعدم ترتب الأثر إلا على العدالة الفعلية ، واستصحاب الحياة أيضا لا يفي لاثبات التقدير كما لا يفي لاثبات اثر العدالة الفعلية ، لكونه مثبتا ، كما لا يخفى ، فتدبر. وحينئذ فما أفيد في مثله : من إحراز القيدين بالاستصحاب غير صحيح ، خصوصا بملاحظة ما أفيد : من أن القيدين عرضان لمحل واحد ، فتدبر.

٥٦٨

ففي المثال يجري استصحاب كل من إطلاق الماء وكريته ويثبت به كون الماء عاصما لا يحمل خبثا ، فان استصحاب إطلاق الماء كما يجدي في الآثار المترتبة على إطلاق الماء : من كونه رافعا للحدث والخبث ، كذلك يجدي في دخله في الكرية ، لكونه شرعيا ، وهذا المقدار من الدخل الشرعي يكفي في صحة الاستصحاب. ولا إشكال في بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة في كل من استصحاب الكرية والاطلاق.

وإن لم يكن التوقف شرعيا : كالحياة والعدالة ، فقد يستشكل في استصحاب الحياة والعدالة. أما في العدالة : فللشك في موضوعها. وأما في الحياة : فلعدم كون دخله في العدالة شرعيا ، فمن حيثية دخله في العدالة لا يجري فيه الاستصحاب وإن كان يجري فيه الاستصحاب من حيث الآثار الشرعية المترتبة على نفس الحياة ، كحرمة تزويج زوجته وعدم تقسيم أمواله ونحو ذلك ، وليس الكلام فيه ، وإنما الكلام في استصحاب الحياة من حيث ترتب العدالة عليه ، مع أن ترتب العدالة على الحياة عقلي.

هذا ، ولكن الانصاف : أنه لا وقع لهذا الاشكال ، فان استصحاب الحياة إنما يجري من حيث إن للحياة دخلا في الحكم الشرعي المترتب على الحي العادل ، كجواز تقليده والاقتداء خلفه ونحو ذلك من الأحكام الشرعية المترتبة على حياة الشخص وعدالته ، ولا حاجة إلى استصحاب الحياة من حيث دخله في العدالة حتى يقال : إن دخله في العدالة عقلي ، فإنه لا ملزم إلى استصحاب الحياة من هذه الحيثية.

وبالجملة : بعدما كان الموضوع لجواز التقليد مركبا من الحياة والعدالة وهما عرضان لمحل واحد ، فلابد من إحراز كلا جزئي المركب ، إما بالوجدان وإما بالأصل.

فإذا كانت الحياة محرزة بالوجدان : فالاستصحاب إنما يجري في العدالة ،

٥٦٩

ويلتئم الموضوع المركب من ضم الوجدان بالأصل. وإن كانت الحياة مشكوكة : فالاستصحاب يجري في كل من الحياة والعدالة ، ويلتئم الموضوع المركب من ضم أحد الأصلين بالآخر ، لان كلا منهما جزء الموضوع ، فلكل منهما دخل في الحكم الشرعي.

وإن كان دخل أحدهما في الآخر عقليا : فلا مانع من استصحاب الحياة واستصحاب العدالة. نعم : لا يجري استصحاب عدالة الحي ، لعدم إحراز الحياة ، وإنما يجري استصحاب العدالة على تقدير الحياة ، وهذا التقدير يحرز باستصحاب الحياة.

وليس المقصود إثبات الحياة من استصحاب العدالة على تقدير الحياة ، بل في نفس الحياة أيضا يجري الاستصحاب ، لبقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة في كل من استصحاب الحياة واستصحاب العدالة ، لان الموضوع في كل منهما هو الشخص ، فيثبت كلا جزئي الموضوع لجواز التقليد.

وإلى ذلك يرجع ما أفاده الشيخ قدس‌سره في المقام بقوله : « لكن استصحاب الحكم كالعدالة مثلا لا يحتاج إلى إبقاء حياة زيد ، لان موضوع العدالة زيد على تقدير الحياة الخ ».

فتحصل : أن في جميع أقسام الشك في المحمولات الأولية وفي المحمولات المترتبة يجري الاستصحاب بعد بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، فتأمل جيدا.

إذا عرفت ذلك

فاعلم : أن الشك في المحمول الأولي أو المحمول المترتب لا يحصل غالبا ـ بل دائما ـ مع بقاء القضية المتيقنة على ما كانت عليها من الخصوصيات المحتفة بها ،

٥٧٠

بل لابد وأن يحصل فيها تغير واختلاف يوجب الشك في بقائها ، وعلى هذا يشكل إحراز اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة في كثير من الموارد (١) ولذلك اشتهر بين المتأخرين : « ان الموضوع في باب الاستصحاب إنما يؤخذ من العرف لا من العقل ولا من دليل الحكم » وتوضيح البحث في ذلك يستدعي تقديم أمور :

الأول : محل الكلام والاشكال إنما هو في الاستصحابات الحكمية ، وأما الاستصحابات الموضوعية : فالغالب فيها اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة موضوعا ومحمولا ، ولا يتفاوت الحال فيها بين أخذ الموضوع من العرف أو العقل أو الدليل ، ففي مثل استصحاب حياة زيد أو قيام عمرو تكون القضية المشكوكة عين القضية المتيقنة عقلا وعرفا ودليلا ، فلا يختلف العرف والعقل فيها.

نعم : قد يتفق في بعض الاستصحابات الموضوعية اختلاف العرف والعقل في اتحاد القضيتين ، كما في استصحاب كرية الماء إذا نقص منه مقدار يشك في بقائه على الكرية ، وكما في استصحاب الزمان والزماني المبني على التقضي والتصرم ، فان القضية المشكوكة تباين القضية المتيقنة عقلا ولا تباينها عرفا ، بالبيان المتقدم في استصحاب الليل والنهار.

وهذا بخلاف الاستصحابات الحكمية ، فان الغالب فيها اختلاف القضيتين (٢) لأن الشك في بقاء الحكم مع بقاء الموضوع على ما كان عليه من الخصوصيات

__________________

١ ـ أقول : في كل مورد يكون الشك في بقاء المحمول من جهة الشك في علته الخارجة عن موضوعه ومعروضه لا يضر ذلك بالشك في بقاء ما تيقن حقيقته موضوعا ومحمولا ، بل القضية المشكوكة حينئذ عين القضية المتيقنة ، فتدبر.

٢ ـ أقول : تنقيح المقام وتوضيح المرام يقتضي ان يقال أولا : انه لا اشكال في أن كل عنوان إذا أحرز مفهومه ومعناه بالرجوع إلى العرف في شرح لفظه ، فلا شبهة في أنه يحكي عن حقيقته ، من دون

٥٧١

__________________

فرق بين عنوان بقاء الشيء أو الاتحاد بين الشيئين وغيرهما ، فإنهما أيضا كالماء والكلاء من المفاهيم المحرزة من العرف في مقام شرح لفظها ، وفي هذا المقام لا مجال للاختلاف بين العقل والشرع أصلا ، إذ لا طريق للعقل في كشف المفاهيم الحاكية عن حقيقة الشيء إلا العرف خاصا أم عاما. نعم : ربما يقع الاختلاف بينهما ، تارة : فيما قام به عنوان البقاء والاتحاد ، وأخرى : فيما ينتزع منه هذين العنوانين. وتوضيحه بان يقال : إنه تارة : يكون مثل هذين العنوانين في حيز الخطاب ، فلا شبهة في حكايتهما عن واقعهما وحقيقتهما دقة وعقلا ، وحينئذ لا يكون اختلاف العرف والعقل في نفس هذا العنوان ، وانما اختلافهما يتمحض فيما تقوم به هذا العنوان وهو موضوع الحكم في القضية المتيقنة ، إذ فيه ربما يرى العقل شيئا لا يصدق حقيقة في الزمان الثاني بقائه حتى لو التفت العرف إليه لا يرى بقائه ، ويرى العرف شيئا يصدق عليه البقاء حقيقة حتى بنظر العقل. فحينئذ اختلاف العرف والعقل ليس إلا فيما قام عليه عنوان البقاء حقيقة ، لا في نفسه ، ففي هذا الفرض لابد وان يرجع النزاع في الباب إلى ما سيق لسان التعبد ببقاء الشيء بلحاظ اي موضوع من العقلي أو العرفي؟ بملاحظة ما يفهمون من دليل الكبرى ، أو ما يفهمون من نظائره من سنخ هذا الحكم من سائر أحكامهم.

وتارة : لا يكون عنوان البقاء والاتحاد في حيز الخطاب ، بل انما ينتزع مثل هذه العناوين من ارجاع الشك إلى اليقين بتوسيط لحاظ اليقين بشيء في متعلق الشك ، إذ مثل هذا اللحاظ يقتضي نحوا من الاتحاد بينهما الموجب لانتزاع البقاء عنه أيضا. وحينئذ نقول : إن اتحاد هذا اللحاظ مختلفة ، فتارة : يكون اللحاظ متعلقا بالشئ بتمام خصوصياته المحفوظة فيه دقة ، وأخرى : يكون اللحاظ بالمتيقن لا بهذه الخصوصية ، ويعبر عنه بالنظر المسامحي. ثم الملحوظ تارة : نفس ذات الشيء ، وأخرى : ذاته بما هو مدلول الدليل. وذلك أيضا تارة : بما هو مدلوله بدوا ، وأخرى : مستقرا ، ولو بتوسيط القرائن متصلة أو منفصلة. ومن المعلوم : أنه من أي نحو من النظر ينتزع نحو من البقاء ، وفي هذه الصورة ليس مدار اختلاف العرف والعقل في صدق البقاء من جهة الاختلاف في حقيقة البقاء ولا من جهة اختلافهما في حقيقة الموضوع ، بل ربما يفهم حقيقة الموضوع الحكم في دليل الكبرى بنحو يراه العقل موضوعا بحيث لا يصدق عليه البقاء حقيقة حتى بنظر العرف ، ولكن مع ذلك في إرجاع الشك إلى اليقين ربما يكون بلحاظ ونظر مسامحي موجب لانتزاع عنوان البقاء والاتحاد المسامحي ، ولازم ذلك كفاية هذا المقدار في تطبيق عموم « لا تنقض » دقة عقلا ، ولكن لا يكفي في تطبيق عنوان « تعبد بالبقاء » على المورد دقة. ومن هنا ظهر : انه على هذا المسلك لا يحتاج إلى تنقيح موضوع كبرى الدليل كي يفرق بين الاحكام العقلية والنقلية ثم في العقلية يتشبث إلى فهم العرف موضوعا آخر بمناسبات ارتكازية عندهم ،

٥٧٢

لا يمكن إلا في باب النسخ ، وأما في غير باب النسخ : فالشك في بقاء الحكم غالبا أو دائما يستند إلى انتفاء بعض خصوصيات الموضوع ، فيحصل الاختلاف بين القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، من غير فرق في ذلك بين الأحكام الشرعية المستكشفة من المستقلات العقلية بقاعدة الملازمة وبين الأحكام الشرعية المستكشفة من الأدلة السمعية التي لا سبيل للعقل إلى إدراكها ، لاشتراك الكل في توقف حصول الشك على انتفاء بعض خصوصيات الموضوع ، ولذلك مست الحاجة إلى أخذ الموضوع من العرف والرجوع إليه في

__________________

بل الموضوع أيما كان حتى مع فرض معرفة العرف إياه دقة ، ولكن بعدما كان نظره في ارجاع الشك إلى المتيقن نظرا مسامحيا يكتفى بهذا المقدار في تطبيق عموم « لا تنقض » دقة ، ففي هذا المسلك أيضا لا يحتاج إلى جعل فهم العرف قرينة على كشف المراد من الدليل في الكبرى وجعل ظهوره على الخلاف بدويا ، بل يكفي في تطبيق عموم « لا تنقض » حينئذ دقة مجرد المسامحة في النظر في ارجاع الشك إلى اليقين ، وان كان الموضوع واقعا وحقيقة هو الذي اقتضاه ظهور دليله بلا قيام قرينة على خلافه ، وحينئذ نتيجة هذا المسلك جواز الاكتفاء ببقاء الموضوع مسامحة عرفية ، ولا يحتاج إلى المسامحة في موضوع الكبرى في فهم العرف من كبرى الدليل ولو بنظرهم دقة ، بخلاف المسلك الأول من تنقيح موضوع الدليل ، كي يصدق عنوان البقاء المأخوذ في حيز الخطاب على المورد دقة ، ولعمري! ان المقرر نظر إلى المسلك الأول وقال ما قال.

والتحقيق اختيار المسلك الثاني ، إذ ليس في البين عنوان « بقاء » وعنوان « اتحاد » في لسان الدليل أصلا ، وإنما ينتزع مثل هذه العناوين من ارجاع الشك إلى اليقين بالنظر الشخصي ، وحينئذ فلابد من تنقيح هذا النظر ، بلا احتياج إلى تنقيح موضوع الحكم في دليل الكبرى ، وعليه نقول :

انه يكفي لاثبات كون النظر في ارجاع الشك إلى اليقين مسامحيا نفس مورد النصوص ، إذ من المعلوم بحسب المورد اليقين دقة متعلق بالحدوث والشك دقة متعلق بالبقاء ، فيستحيل ان يكون الشك راجعا إلى متعلق اليقين دقة ، بل لابد وأن يكون النظر في ارجاع الشك إلى اليقين مسامحيا ، وحينئذ يكفي في تطبيق هذا العام دقة مجرد اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة مسامحة ، ولا يحتاج إلى الاتحاد الحقيقي كي يحتاج إلى استفادة كون الموضوع في الكبرى شيئا قابلا للبقاء الحقيقي كي يصدق عليه الاتحاد دقة ، ومن التأمل فيما ذكرنا ظهر مواقع النظر في كلمات المقرر الناشي عن اعوجاج المسلك ، فتدبر في المقام فإنه من مزال الاقدام!.

٥٧٣

اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، لاختلاف العقل والعرف والدليل في ذلك ، على ما سيأتي بيانه ( إن شاء الله تعالى ).

الامر الثاني : لا إشكال في أن المرجع في مفاهيم الألفاظ ومداليلها إنما هو العرف العام (١) سواء وافق عرف اللغة أو خالفه ، ولا عبرة باللغة إذا كان العرف العام على خلافها ، فان الألفاظ تنصرف إلى مفاهيمها العرفية بحسب ما ارتكز في أذهان أهل المحاورات ، فعند تعارض العرف واللغة في مفهوم اللفظ يحمل على المفهوم العرفي ، سواء كان أعم من المفهوم اللغوي أو أخص منه ، بل ولو كان مباينا معه لو اتفق ذلك ، فلابد من الرجوع إلى العرف في تشخيص مفهوم الحنطة والزبيب والعنب والحطب وغير ذلك من الموضوعات الخارجية.

الامر الثالث : لا عبرة بالمسامحات العرفية في شيء من الموارد ، ولا يرجع إلى العرف في تشخيص المصاديق بعد تشخيص المفهوم ، فقد يتسامح العرف في استعمال الألفاظ وإطلاقها على ما لايكون مصداقا لمعانيها الواقعية ، فإنه كثيرا ما يطلق لفظ « الكر » و « الفرسخ » و « الحقة » وغير ذلك من ألفاظ المقادير والأوزان على ما ينقص عن المقدار والوزن أو يزيد عنه بقليل.

فالتعويل على العرف إنما يكون في باب المفاهيم ، ولا أثر لنظر العرف في باب المصاديق ، بل نظره إنما يكون متبعا في مفهوم « الكر » و « الفرسخ » و « الحقة » ونحو ذلك ، وأما تطبيق المفهوم على المصداق : فليس بيد العرف ، بل هو يدور مدار الواقع ، فان كان الشيء مصداقا للمفهوم ينطبق عليه قهرا ، وإن لم يكن مصداقا له فلا يمكن أن ينطبق عليه ، ولو فرض أن العرف يتسامح أو يخطئ في التطبيق ، فلا يجوز التعويل على العرف في تطبيق المفهوم على المصداق مع العلم بخطائه أو مسامحته أو مع الشك فيه ، بل لابد من العلم بكون

__________________

١ ـ أقول : بعد التأمل فيما ذكرنا في المقام ترى بأن هذه المقدمات أجنبية عن المطلب.

٥٧٤

الشئ مصداقا للمفهوم في مقام ترتيب الآثار.

إذا تمهد ذلك فنقول : قد يستشكل فيما أفاده الشيخ قدس‌سره من الترديد بين أخذ الموضوع من العقل أو العرف أو الدليل.

أما أولا : فبأن الرجوع إلى العقل إنما يستقيم في المستقلات العقلية ، وأما الموضوعات الشرعية : فليس للعقل إليها سبيل (١) فان مناطات الأحكام الشرعية ليست بيد العقل ، فلا معنى للرجوع إلى العقل في موضوعات الأحكام الشرعية المستكشفة من الطرق السمعية.

وأما ثانيا : فبأنه لا وجه للمقابلة بين ما اخذ في الدليل موضوعا وبين ما يراه العرف موضوعا ، فان العرف ليس مشرعا يجعل موضوعا في مقابل موضوع الدليل. وإن أريد من الرجوع إلى العرف الرجوع إليه في معرفة معنى موضوع الدليل وتشخيص مفهومه ، فهو صحيح ، إلا أنه لا يختص بالمقام ، بل تشخيص معنى اللفظ ومفهومه إنما يرجع فيه إلى العرف مطلقا ، فلا معنى لجعل الموضوع العرفي مقابلا لموضوع الدليل في خصوص باب الاستصحاب. وإن أريد من الموضوع العرفي ما يتسامح فيه العرف ويراه من مصاديق موضوع الدليل مع أنه ليس منها حقيقة ، فقد عرفت : أنه لا عبرة بالمسامحات العرفية.

هذا ، ولكن الانصاف : أنه لا وقع لهذا الاشكال ، فان الترديد بين العقل والدليل والعرف إنما يكون بلحاظ مقام بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، لا بلحاظ مقام تعيين أصل الموضوع ، حتى يقال : إن تعيين الموضوع إنما يكون بيد الشرع وليس للعقل والعرف إلى ذلك سبيل ، فان ذلك مما لا ينبغي توهمه في المقام ، بل المقصود هو أنه هل يعتبر في اتحاد القضيتين أن يكون المشكوك فيه عين المتيقن عقلا مطلقا؟ أو أنه يكفي في الاتحاد العينية

__________________

١ ـ أقول : هذا الكلام أيضا أجنبي عن المقصود بعد التأمل فيما ذكرناه مفصلا.

٥٧٥

العرفية مطلقا؟ أو أنه لا هذا ولا ذلك بل تختلف الموارد حسب اختلاف ما يقتضيه ظاهر الدليل؟.

وتوضيح ذلك : هو أن الشك في بقاء الحكم الشرعي من غير جهة النسخ لا يمكن إلا بأحد وجهين : إما لاحتمال وجود الرافع أو الغاية للحكم فيشك في بقائه ، وإما لانتفاء بعض الخصوصيات التي كان الموضوع واجدا له أو وجود بعض ما كان فاقدا له ، فيحصل الشك في بقاء الحكم الشرعي.

فلو اعتبرنا في اتحاد القضيتين بقاء الموضوع عقلا يختص الاستصحاب بما إذا كان الشك في بقاء الحكم الشرعي على الوجه الأول ، ولا يجري الاستصحاب إذا كان الشك على الوجه الثاني ، بداهة أن كل خصوصية كان الموضوع واجدا أو عادما لها يحتمل عقلا أن يكون لها دخل في الموضوع ، فلا يمكن إحراز بقاء الموضوع بل يشك في بقائه ، فلا يجري استصحاب الحكم ، لما عرفت : من أنه لابد من الاستصحاب من إحراز بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة.

فان كان منشأ الشك في بقاء الحكم انتفاء بعض الخصوصيات ينسد باب الاستصحاب إذا كان المعتبر فيه بقاء الموضوع عقلا ، لان انتفاء الخصوصية عن الموضوع وإن لم يلازم العلم بارتفاع الموضوع عقلا ، إلا أنه يلازم الشك في بقائه. ولا سبيل إلى دعوى العلم بارتفاع موضوعات الأحكام الشرعية عند انتفاء بعض الخصوصيات ، بل لا يمكن دعوى العلم بارتفاع الموضوع عند انتفاء بعض الخصوصيات في موضوعات الاحكام العقلية ، كما تقدم بيان ذلك.

فما يظهر من كلام الشيخ قدس‌سره من أن انتفاء بعض الخصوصيات يوجب العلم بارتفاع الموضوع عقلا ، مما لا يمكن المساعدة عليه بل أقصى ما يقتضيه هو الشك في بقاء الموضوع ، لاحتمال أن تكون لتلك الخصوصية دخل في الموضوع ، ويحتمل أيضا أن لا تكون لها دخل فيه ، بل تكون علة

٥٧٦

لحدوث الحكم فقط ، وقد عرفت : أن الشك في بقاء الموضوع كالعلم بعدمه يمنع عن جريان الاستصحاب ، فبناء على اعتبار بقاء الموضوع عقلا لا يجري الاستصحاب إذا كان الشك في بقاء الحكم لأجل انتفاء بعض خصوصيات الموضوع ، وينحصر الاستصحاب بما إذا كان الشك في بقائه لأجل احتمال وجود الرافع أو الغاية ، لبقاء الموضوع فيهما حقيقة واتحاد القضية المتيقنة مع القضية المشكوكة عقلا ، فان عدم الرافع والغاية ليس من قيود الموضوع وحدوده ليرجع الشك في وجودها إلى الشك في بقاء الموضوع ، بل ينعدم الموضوع بوجود الرافع والغاية قهرا ، فالرافع ما يكون وجوده معدما للموضوع ، لا أن عدمه قيد فيه ، وكيف يمكن أن يكون الموضوع مقيدا بما يوجب إعدامه؟ (١).

وبالجملة : الرافع هو الذي لا يمكن أن يجتمع مع الموضوع في الزمان ، وهذا لا يقتضي أن يكون عدمه قيدا في الموضوع ، بل لا يمكن ذلك. وكذا الغاية ، فإنها ـ على ما عرفت في أوائل الاستصحاب ـ عبارة عن الزمان الذي ينتهي إليه أمد الموضوع وعمره ، فلا تكون عدم الغاية قيدا في الموضوع ، فالشك في بقاء الحكم لأجل الشك في وجود الرافع أو الغاية لا يرجع إلى الشك في الموضوع ، بل يشك في الحكم مع بقاء الموضوع على ما كان عليه عقلا ، فتتحد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة حقيقة بالمداقة العقلية ، فتأمل جيدا.

ثم لا يخفى عليك : أن المراد من « الرافع » في المقام ما يقابل المانع ،

__________________

١ ـ أقول : بعد بطلان علية الوجود ومؤثريته في عدم شيء لاستحالة السنخية بين الوجود والعدم ، فامر المانع لا يتصور إلا بأحد الأمرين : إما بفرض المضادة بين الوجودين أو بتقيد الوجود بعدم غيره واخذ هذا التقيد في موضوع الحكم ، ولا مجال للمصير إلى الأول ، وإلا يخرج عدم المانع عن المقدمية ، وهو غير ملتزم به في جملة من كلماته ، فتعين الأخير ، ولازمه انتفاء الموضوع بنقيض قيده ، كما هو الشأن في جميع القيود. ومن العجب! برهانه بأنه كيف يمكن ان يكون الموضوع مقيدا بما يوجب اعدامه؟ إذ ما يوجب اعدامه هو وجوده ، وهو نقيض القيد ، لا نفسه.

٥٧٧

لا ما يقابل المقتضي ، فان الرافع يستعمل في معنيين :

أحدهما : الامر الوجودي الذي يوجب رفع الشيء وإعدامه عن صفحة الوجود بعد حدوثه ووجوده ، ويقابله المانع ، وهو الذي يمنع عن حدوث الشيء ويزاحم رشح المقتضي وتأثيره في وجود المقتضى ( بالفتح ).

ثانيهما : الامر الزماني الذي يمنع عن تأثير المقتضي في اقتضائه لبقاء المقتضى ( بالفتح ) بعد تأثيره في الحدوث ، سواء كان الرافع وجوديا أو عدميا ، فالرافع المقابل للمقتضي أعم من الرافع المقابل للمانع ، لان الأول يعم الامر الوجودي والعدمي ، والثاني يختصن بالامر الوجودي ، فمثل زوال التغير عن الماء المتغير يكون رافعا بالمعنى الثاني (١) وهو الذي يقابل المقتضي ولا يكون رافعا بالمعنى الأول ، لان زوال التغير أمر عدمي لا يقابل المانع.

وبذلك يندفع ما ربما يتوهم : من أنه بعد البناء على عدم جريان الاستصحاب في الشك في المقتضي لم يبق فرق بين أخذ الموضوع من العقل أو العرف أو الدليل ، فان المفروض : جريان الاستصحاب عند الشك في الرافع والغاية ولو مع اعتبار بقاء الموضوع عقلا ، فمهما رجع الشك في بقاء الحكم إلى الشك في وجود الرافع والغاية يجري الاستصحاب مطلقا ، سواء اخذ الموضوع من العقل أو العرف أو الدليل ، وإن كان الشك في بقاء الحكم لا لأجل الشك في وجود الرافع والغاية لا يجري الاستصحاب مطلقا ، سواء اخذ الموضوع من العقل أو العرف أو الدليل ، لأن الشك في بقاء الحكم من غير جهة الشك في وجود الرافع والغاية يرجع لا محالة إلى الشك في المقتضي ، والمفروض : عدم جريان الاستصحاب فيه ، فلم تظهر ثمرة بين أخذ الموضوع من العقل أو من العرف أو

__________________

١ ـ أقول : الظاهر أن مثل زوال التغير ما كان من الأمور العدمية الموجبة لعدم تأثير المقتضى كون وجوده شرطا لتأثير المقتضى ، فبانتفائه ينتفى تأثيره ، فادخالها في عنوان « الرافع » لا يخلو عن تمحل. نعم : لا بأس به بمعناه اللغوي ، كما لا يخفى.

٥٧٨

من الدليل.

وجه الدفع ، هو ما عرفت : من أن المراد من الرافع في محل البحث هو ما يقابل المانع ، لا ما يقابل المقتضي (١) وحينئذ تظهر الثمرة بين أخذ الموضوع من العقل أو من العرف أو من الدليل ، فإنه لو شك في بقاء النجاسة في الماء المتغير الزائل عنه التغير لا يجري الاستصحاب لو بنينا على اعتبار بقاء الموضوع عقلا ، لاحتمال أن يكون لوصف التغير دخل في موضوع النجاسة. وأما لو بنينا على اعتبار بقاء الموضوع عرفا فالاستصحاب يجري ، لبقاء الموضوع عرفا ، فان موضوع النجاسة ذات الماء وليس لوصف التغير دخل في الموضوع عرفا. وكذا لو بنينا على اعتبار بقاء الموضوع بحسب ما يقتضيه ظاهر الدليل ، فإنه يجري فيه الاستصحاب على بعض الوجوه ـ كما سيأتي بيانه ـ مع أن الشك في بقاء النجاسة في لا يرجع إلى الشك في وجود الرافع المقابل للمانع ، ولا إلى الشك في المقتضي ، وذلك واضح.

هذا كله إذا كان المعتبر في اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة بقاء الموضوع عقلا.

وإذا كان المعتبر في الاتحاد بقاء الموضوع بحسب ما يقتضيه ظاهر الدليل : فجريان الاستصحاب وعدمه يدور مدار ما يستفاد من ظاهر الدليل. فان استفيد منه كون الخصوصية التي كان الموضوع واجدا لها من قيود الموضوع ، فالاستصحاب لا يجري عند زوال تلك الخصوصية. وإن استفيد منه كون الخصوصية علة لثبوت الحكم وكان منشأ الشك في بقاء الحكم احتمال كونها علة له حدوثا وبقاء ، فالاستصحاب يجري.

__________________

١ ـ أقول : قد تقدم ان مرجع الرافع بالمعنى المزبور أيضا إلى كون عدمه قيدا ، وحينئذ لا فرق بين القيود من تلك الجهة في كون الشك فيها راجعا دقة إلى الشك في الموضوع. نعم : لو كان عدمه مأخوذا قيدا في ناحية الحكم لا بأس ببقائه دقة.

٥٧٩

وعلى هذا ينبغي أن يفرق بين قوله عليه‌السلام « الماء المغير نجس » وبين قوله : « الماء ينجس إذا تغير » (١) فان المعنى وإن كان لا يختلف ، إلا أن الأول ظاهر في كون التغير قيدا للماء فيكون موضوع الحكم مجموع الماء المتغير ، والثاني ظاهر في كون التغير علة لعروض النجاسة على الماء فيكون الموضوع ذات الماء. فان كان الدليل من قبيل الأول لا يجري الاستصحاب إذا زال التغير ، للشك في بقاء الموضوع. وإن كان الدليل من قبيل الثاني يجري الاستصحاب ، لبقاء الموضوع.

وهذا بخلاف ما إذا كان المعتبر بقاء الموضوع عقلا ، فإنه لا يجري الاستصحاب مطلقا ، لاحتمال أن يكون للتغير دخل في الموضوع وإن كان ظاهر الدليل لا يقتضي ذلك ، فلم يحرز بقاء الموضوع عقلا.

وإن كان المعتبر في اتحاد القضيتين بقاء الموضوع عرفا : فينبغي أن لا يفرق في جريان الاستصحاب في المثال بين الوجهين ، لبقاء الموضوع عرفا ، فان العرف بحسب ما هو المرتكز في ذهنه ـ من مناسبة الحكم والموضوع ـ يرى موضوع النجاسة نفس الماء والتغير علة لعروضها عليه. فتتحد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، ويكون عدم ترتيب آثار النجاسة على الماء الذي زال عنه التغير من نقض اليقين بالشك بنظر العرف.

وليس المراد من أخذ الموضوع من العرف الرجوع إليه في مفهوم الموضوع أو في مصداقه ، حتى يقال : إن الرجوع إلى العرف في المفهوم لا يختص بباب الاستصحاب بل تشخيص المفاهيم إنما يكون بيد العرف مطلقا في جميع المقامات ، أو يقال : إنه لا عبرة بنظر العرف في المصداق. بل المراد من أخذ الموضوع من العرف الرجوع إليه في تشخيص الموارد التي

__________________

١ ـ لم نجد حديثا بهذين التعبيرين ، فالظاهر أنه رحمه‌الله أراد النقل بالمعنى ( المصحح ).

٥٨٠